الخميس، 14 نوفمبر 2024

القراءة بعنوان: احترافية الحوار في القصة القصيرة جدا (خط أحمر) للكاتب بسام الأشرم -غزة-فلسطين بقلم الناقدة التونسية سهيلة حماد

 القراءة بعنوان: احترافية الحوار في القصة القصيرة جدا (خط أحمر)  للكاتب بسام الأشرم -غزة-فلسطين 

===========================

النص:

النص:  خط أحمر:


يرن جوالي:


- بسام؟


- نعم أنا بسام يَمّا.


- اسمعت إنك استش.. هد

ت..


- تشابه أسماء.. أنا بخير.. حي أُرزق يَمّا.


- يا حبيبي يَمّا.. الحمد لله رب العالمين.


تُعاود الإتصال:


- متأكد إنك بسام؟


- أنا اللي وضأتك الصبِح و بُسِت إيدِك وافطَرِت مَعِك فول يَمّا.


- صَح والله.. يِرضى عنَّك وِ يّفرِّج كربك.. حبيبي يَمّا.


و مازالت تُعاوِد الإتصال و مازلت أُعاوِد طمأنتَها خوفا على صِحتها.


عند كل إتصال كان الملَكان يَتَنَحَّيان جانباً لِأُجيبَها ثم يعاودان مُساءلتي.

.==========================

 

العنوان:

 خط أحمر عنوان مربك  يحتضن لون الدّم نعتا لخط منعوت غير معرف، وباعتبار كثرة الخطوط فمن الصعب أن نتكهن الخيط المقصود بالقصة، ولكن بالرغم من ذلك يمكننا الاستعانة بالمعنى كمصطلح متداول في زماننا،  لاستحضار احتمالات في نطاق صور دلالية ذهنية تكون مؤشرا، لأيقونة دلالية قد تلعب دور القادح والمحفز لنرفع بها التحدّي لفضّ بكارة النص حتى نلج بسهولة إلى المعنى المقصود للكاتب، وباعتبار أنّ اللغة هي أداة ووسيلة تحفّز الذّهن لإيجاد الصورة في نسق لغوي متفق عليه، وفق مخطوطة سيميائية يفرضها وينتجها  السّياق،  وبوصف أن العنوان هو نص مجاور مواز لكل نص عادة ما يلخص رؤية الكاتب برمّتها، وبناء عليه اشتعلت بالذّهن أيقونتان: الأولى تتعلّق بالخطّ الهاتفي الأحمر الذي يربط الرئيس الرّوسي بنظيره الأمريكي، والثاني  مصطلح له بعد سلطاوي قرين بمفهوم عدم التّجاوز لعلامة أو لحدّ جغرافي مادي أو معنوي وهمي تضعه سلطة ما.. وعليه يصبح كلّ مخترق لتلك الحدود المحددة  بدون جواز مسبق عرضة لعقوبة تُسلط عليه من قبل الجهة المعنية الواضعة لهذا القانون.

 للسائل أن يتساءل إلى أيّ حدّ نكون قد وُفقنا أو ابتعدنا عن المعنى المقصود لدى الكاتب؟ وإلى أي حدّ نجح الكاتب في إثارة المتلقي وشده ومشاغبته بعد انتهاء هذا الأخير من القراءة؟ وهل فلح بالفعل في إيصال وجهة نظره؟ هذا ما سنحاول معرفته انطلاقا من استنطاقنا لبقية العتبات. 

 الإستهلال:

"يَرِنُّ جوّالي:

- بسام ؟

- نعم أنا بسام يَمّا"

ما يلفت الانتباه سرعة الكاتب وحسمه في رفع الالتباس عن الخط، لنعلم أنه خط هاتف جوال مفعّلا الحوار بميزان، لمزيد إتقان الحبكة والتشويق مخاتلا بذلك القارئ لجعله يلهث وراءه باحثا عن سر اللون الأحمر طارحا سؤالا أيكون بالأمر  تحذير من عقوق؟ 

الموضوع: 

أم تطلب ابنها عن طريق الجوال إذن هي قصة قصيرة جدا معاصرة  بدليل حضور الجوال برنينه وروحه التي تصل أم بابنها  ليصبح صوتا من الأصوات الحديثة وبطل له اعتباره. أصر الكاتب أن يجعله  يسجل حضوره بصوته الآن  في الحاضر عبر ملفوظ "يرن" ليبث في النص روحا مطعِّما حكيه بملفوظ "يمّة" بالعامية الشامية المتفق عليه في كل اللهجات العربية البدوية أو القروية من المحيط إلى الخليج مرورا بالصعيد وكل بلاد الشام، لتأخذ الأم بعدا كونيا ذا معنى شمولي عربي ديني قدسي، وعليه حسب المعروض بات الهاتف الجوال أيضا بطلا لا يقل أهمية عن أم البطل تلك الأيقونة  (يمّة) الأم المذكورة في القرآن التي عظّمها الرحمان بجعل الجنة تحت أقدامها حسب الحديث القدسي المتفق عليه، علما أن الجوال كان في حسبان العنوان تلميحا لا تصريحا..

السؤال الذي يفرض نفسه، ما الذي يجعل الكاتب يلجأ للحوار وكان بإمكانه أن يخبرنا عن ذلك في جملة بسيطة واحدة تلخص الحدث؟ كاتصلت أم بابنها عن طريق الجوال تستفسر صحة خبر استشهاده، الذي  بلغها أو تم تداوله، لماذا هذه المراوغة والإصرار على تقديمها في صيغة حوار؟ لا بد أن الأديب كان  يرمز من وراء ذلك إلى أمر مهم يخدم دفع حكائيته إمعانا في الحبكة المُلقية بنا في رحاب التشويق. 

الرؤيا: 

 لا بد إذن أن نمر إلى عتبة الخاتمة علها تسعفنا بدليل مدلل يدعم العنوان: "عند كل إتصال كان الملكان يتنحيان جانبا لِأُجيبها ثم يعاودان مساءلتي." تبدو الخاتمة صادمة مخيبة لآمال القارئ مدهشة مبهرة عجائبية تُلقينا عند  أقدام الأم نلتمس رضاها بحثا عن الجنة التي تحت أقدامها مثل  تلك الأم التي قطع الناسك صلاته ليجيبها، والتي استحييا منها الملكان اللذان يستنطقان ابنها كما ورد على لسان السارد الشهيد معتبرين اتصالها به عبر الهاتف إشارة حمراء لا يمكن تجاوزها فاسحين لها المجال والأولوية المطلقة للحديث معه، ذلك الابن الذي ظهر لنا نموذجا في البر والإحسان من خلال الحوار، حيث أبى أن يخبرها بحقيقة نبإ استشهاده، مؤكدا أن الأمر ما هو إلا تشابه في الأسماء، كما أخبرنا بأنه اعتنى بشؤونها، ذلك أنه كان خائفا على صحتها: "و مازالت تُعاوِد الإتصال و مازلت أعاود طمأنتها خوفا على صحتها"

ما ورد في الحوار على لسان البطل الراوي  على أثر تلعثمها وهي تسأله عن صحة ما بلغها حول نبإ استشهاده؛ فتقول بلهجتها الشامية وكأن العُبرة تخنقها غير قادرة أن تجمع أنفاسها، ولم تتمكن من التلفظ بكلمة (استشهدت) كاملة مرة واحدة، ذلك أن عقلها الباطن لم يستوعبها بعد ويرفض تصديقها: "اسمعت إنك استش.. هدت" رغم أن بداخلها يقين باستشهاده ذلك ما يفسر تكرار محاولتها الاتصال به أكثر من مرة وسؤالها له بلهجتها العامية، أن شيئا ما بداخلها جعلها لا تطمئن رغم سماعها لصوته، لذلك تسأله مرة أخرى قائلة: "مُتأكد إنك بسام؟" بدا الحدث المنقول من خلال توظيف الحوار  عجائبيا ذا رمزية عالية كذلك المشهدية التي وظّفها الحوار، وإن لم يتعدّ الإخبار إلا أن العنوان خدمهما بشكل مدهش، من حيث الرمز "الشهيد" الذي تحمله الذاكرة الشعبية ووضعية الشهيد بعد استشهاده.. حيث يتجلّى البعد القدسي الذي يجعل من العجائبي وإن كان غريبا   ممكنا يسهل استيعابه وبالتالي تصديقه عند الجمع بين حدس الأم التي ترى بنور الله من ناحية وصورة الشهيد الذي لا يموت ولا يفنى تصديقا لقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون} سورة آل عمران الأية 167، مستبشرين فرحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

الخاتمة:

كما لاحظنا فإن القفلة كانت مربكة تهز الكيان وتقشعر منها الأبدان، ولكنها أتت لتؤازر العنوان وتتناغم معه، كذلك تقنية  السرد كانت عالية الجودة..

بدا الكاتب بسام الأشرم, متمكنا  من أدواته، كما لعب الحوار دور البطولة  إلى جانب الجوال، أما عن الزمان والمكان فكانا غير محددين لكي يكون النص عربيا يخص كل أم عاشت  نكبة استشهاد ابنها،  ولكن إذا ما اعتبرنا النص ابن بيئته فالقصة حدثت وتحدث في فلسطين وتنسحب على سوريا والعراق، -ومايحدث اليوم زمن القراءة في غزة اليوم منذ أكتور 2023- ،إذا ما تغاضينا عن اللهجة العامية التي طبعت النص ببلاغة حسية، فاللغة العربية ثرية قادرة على أن تعبر عن ذاتها بذاتها بكل اللهجات ولادة للمعاني فما يغيب عن اللفظ تعوضه اللهجة العامية بروحها الشعبية التي تخترق القلوب والأحاسيس بدون استئذان، فالحوار مزج بعضا من العامية التي قربت المشهدية إلى القارئ جاعلة من  الصورة أكثر إنسانية وواقعية  وارتقت بالنّص إبداعيا.

الأسلوب:

 جاء الأسلوب مشوقا كما أشرنا إليه سابقا.. سلس، أتى في لغة بسيطة اعتمد التناص والحوار، فكان من السهل الممتنع، 

فالكل يكتب على رأي الدكتور ‏مختار أمين‏   ولكن الكريزما لا يمتلكها سوى قلة من الأدباء الموهوبين وهنا  يبرز براع القاص  خاصة في تمكنه من إرباك قارئه وزعزعة كيانه،  بجعل النص يشغله لبعض الوقت بغية قدح شرارة التنوير لديه وفتنته للبحث والتمحيص في المغزى الظاهر، وكذلك  عن المضمر   في البحث فيما لم يُقل عن القيمة الأدبية.

نص يسلط الضوء على قيمة الأمومة والاستشهاد والفقد  والأم المكلومة التي تأبى التصديق، كذلك يبحث في الرحمة، وحياة النخوة والعزة الملطخة بالدم.


إحدى القراءات الواردة بكتابي النقدي نون والقلم وما يسطرون (الجزء الأول) نقد ونصوص تطبيقية في القصة القصيرة والقصيرة جدا. الصادر عن دار المختار للنشر والتوزيع سنة 2022 بالقسم الثاني- قراءات في القصة القصيرة جدا-








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق