الأربعاء، 25 أغسطس 2021

نقد تحكيمي: لنص كهف أفلاطون للكاتب د خالد عجماوي بقلم الناقدة سهيلة جماد

 نقد تحكيمي:

كهف أفلاطون
مرهق أنا.
مشتت..و متعب.
و السبب هو ذلك السجين على يساري.
ذلك السجين الغريب، و الذي يزعم أننا السجناء، و أنه وحده الحر الطليق!
سأبدأ الحكاية من بدايتها، كي تستطيعوا فهم معاناتي إذن. أنا أعيش في كهف صغير، رطب و مظلم.
كهف صغير؟!
كلا! بل أنا أعيش في أحلى البقاع، و ألطف الأجواء و أحسنها!
هل أبالغ؟ ربما..حسنا سأحاول أن أتجرد من مشاعري الفياضة تجاه هذا المكان الذي أعيش فيه منذ ولدت؛ فأصفه وصف الرائي من بعيد، لا وصف المنتمي المحب.
في الحقيقة هو كهف، تحوطه الظلمة في جميع أجزائه، إلا من تلك الكوة التي ينبثق منها بعض من النور في بعض اليوم. في الحقيقة نحن لا نرى الكوة، و إنما نتجه بوجوهنا وأبصارنا نحو حائط رطب يقابل فتحة الكهف هذه..هذا الذي أدعوه "حائط" هو كل حياتنا، و جميع دنيانا. إن أردت أن أترك وصف العين الآن فأتبع وصف الفؤاد لقلت إن ذلك الذي دعوته كهفا، إنما هو العالم بأسره. و ما ظلمته لدي إلا كظلمة الرحم الدفئ يحوطنا وقت أن كنا جنينا، وما رطبته إلا رطبة الدم يغذي فيه لحمه و عظمه.
هل أبالغ؟ أنت إذن لم تعش في ذلك الكهف و لذلك لا ألومك.
لا تسلني لماذا لا نتجه بوجوهنا إلا تجاه ذلك الحائط.
هذا السؤال محرم و مجرّم معا.
بل و لضمان عدم الاتفات بعيدا عن الحائط، و الالتفات إلى الوراء مثلا تجاه الكوة التي ينبثق منها ذلك النور، فقد وُضعت حول رقابنا سلاسل، و حول خواصرنا، و معاصمنا، و سيقاننا كذلك. نحن مكبلون. نحن لا نستطيع النظر إلا إلى الحائط. الحائط الرطب. الحائط الرطب الجميل.
أراك متشوقا لتعرف ما سر ذلك الحائط إذن؟ سأقول لك سر حبنا له. على هذا الحائط يا سيدي نرى ما يبهر فينا الحواس و يلهب الأفكار. أذكر وقت أن كنت صغيرا كيف وجدت ذلك الشئ الذي يزقزق. وجدته على الحائط بلونه الرمادي، و هو يرفرف كمن يصفق للحياة. كان صوته كالغناء. كما أذكر أول مرة أرى ذلك الشئ الذي و كأنّه يسير على أربع، و كأنّ لديه رأس عليها قرنان. كان جميلا و رشيقا في آن. كما أذكر ذلك الشئ الرمادي و الذي يسير على قدمين مثلنا! كان يشبهنا كثيرا، غير أنه رمادي..كله رمادي..كان يظهر لحظات على حائطنا الجميل، ثم سرعان ما يختفي..كانت لحظات من المتعة، والسعادة و نحن ناظرون إلي حائطنا و تلك الأشياء تتحرك عليه، محدثة تلك الأصوات العجيبة، كالشدو و الغناء تارة، و كالحركة على الأرض أخرى. لست أعرف تحديدا، غير أن لحظاتنا مع ذلك الحائط هي ما علمتنا معنى الحياة.
و ظللت هكذا سعيدا، و راضيا بما ألفت في حياتي، إلى أن ظهر ذلك السجين على يساري!
لست أعرف له اسما، حتى هيئته و شكله لست متأكدا تماما منهما، غير أني أدعوه في نفسي بالمتمرد، أو الغريب، أو الثائر، غير أن "المتثبت" صديقي على اليمين يدعو ذلك السجين شيطانا!
يقول الشيطان ذاك -حسب وصف صديقي- إنه قد تجرأ و أفلت من سلاسله، بل و تجرأ و نظر إلى الكوة التي أتى منها النور، بل و قام على ساقيه، فخرج من الكهف، و رأى عالما من ورائه، ثم عاد إلينا ليحكي ما وجده خلف تلك الكوة.
يا للشيطان!!
يزعم ذلك المتمرد أن ثمة أرض أخرى وراء تلك الكوة. أرض بلا سلاسل، و لا حوائط!
يا إلهي!
و هل يعقل أن ثمة عالم بلا حائط!
يقول ذلك الشيطان أن السلاسل تلك إنما هي الأغلال التي تكبح فينا الحياة، فتحبطنا عن الخروج من كهفنا، لمعرفة ما يدور هناك. في الخارج!
أغلال..إحباط..الخروج من الكهف.
يبدو لي أن المتمرد ذاك شيطان بالفعل. إنه لا يقوم بانتقاء ألفاظه. يبدو لي أنّه حتى لا يحب حائطنا. إنه حتما متمرد شيطان، و غير شريف.
ورغم ما أدركته عن ذلك المتمرد، إلا أنه يظل بداخلي شيئا يحب أن يسمعه..جزء ما في نفسي يريد أن يحاوره. بل و يصدقه.
يقول ذلك المتمرد أن ما نراه على حائطنا ليس حقيقة! تصور!
يقول إنه مجرد ظلال، و أن الحقيقة خلف تلك الكوة.
يقول أن الرمادي الذي نراه ليس لونا حقيقيا، و أن ما نراه يزقزق و يصفق إنما هو مخلوق لطيف، له جناحان، و له ألوان. ألوان؟! يقول الشيطان أن ثمة ألوان عدة..أحمر و أصفر و أخضر..يا للإغواء!
يقول إن ذلك الذي يمشي على أربع و له قرنان إنما هو مخلوق لطيف كذلك، لطيف و رشيق، يجول في المراعي، مبتهجا سعيدا بحريته. يقول إن ثمة شئ اسمه زهور..لها ألوان و رائحة..كما يزعم أن أولئك الذين نراهم على حائطنا يسيرون على قدمين هم في الحقيقة كيانات مثلنا، تعيش خلف تلك الكوة و تحت ذلك النور، غير أنهم يمرحون في الحياة دونما سلاسل أو قيود أو حوائط !
الحياة دون حائط؟!
تصور!
الحياة دونما سلاسل أو قيود؟
تخيل؟!
العجيب أن ذلك المتمرد قد عاد إلينا. إن كنت صادقا أيها المتمرد فلم عدت إلينا إذن؟ يزعم أنه قد عاد ليسرد إلينا الحقيقة، فينتشلنا من غيابة الكهف إلى نور الشمس.
يا للإغواء..بل يا للشيطان!
في رأسي صداع ثقيل، مرهق و متعب. أركن إلى صديقي المتثبت ليزيد في إيماني بالكهف. ينصحني صديقي المتثبت ألا أسمع لحديث المتمرد ذاك..يقول لي إن المتمرد مجنون.
لا حياة خارج تلك الكوة.
لا حياة بلا حوائط.
لا حياة بلا سلاسل أو قيود.
الأشياء كلها رمادي.
أستمع إليه فأشعر ببعض الراحة.
يزيد في إيماني بكهفي، و حبي لحائطي و قيودي.
نعم أحب ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه.
أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي.
أقبّل تلك السلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي.
و ألعن ذلك المتمرد ألف مرة!
د خالد عجماوي
========================================
القراءة:
العتبات : - العنوان : (كهف أفلاطون)، سمعنا و قرأنا عن المدينة الفاضلة! لأفلاطون . و عن أهل الكهف في القرآن، كما رواه الرّحمان، و نقله الحكيم، بعد أن نقله إلى التّخييل. أمّا عن كهف أفلاطون!!.. فهذا جديد.. أيعقل أن يتحوّل كهف و معقل إلى مدينة فاضلة؟! للذّوات هذا ما سنكتشفه بعد أن نكمل قراءة المتن .. لنذهب إلى بقيّة العتبات الاستهلال و الخاتمة . الاستهلال: (مرهق أنا. مشتّت..و متعب. و السّبب هو ذلك السّجين على يساري. ذلك السّجين الغريب، و الذي يزعم أنّنا السّجناء، و أنّه وحده الحرّ الطّليق!) من الاستهلال و من خلال الملفوظ، نشتمّ قلقا.. توتّرا..إرباكا.. شتات.. فوضى.. ذاتا ممزّقة.. بين الواقع و المعرفة المكتسبة، الحاصلة الحقيقة لدى( الأنا) الذّات المتكلّمة، المسلمّ بها ، و التي لا يوجد حقيقة خارجها عنده ، في عالمه، و حدود تصوّره، و بين ما يزعم به آخر، سجين معه (هو )، على أنّه الواقع حقيقة في عينيه( هو)، و ما يشعر به (هو)، و التي لا بدّ أن يسلّم بها الآخر و نقصد ((الأنا) السّارد) ضرورة لأنّها الحقيقة الفعليّة، و المطلقة و لا شيء دونها .. إذا كما نلاحظ فحيرة السّارد، صوت( الأنا ) يحوم حول هذا التّعريف: ( ذلك السّجين الغريب، و الذي يزعم أنّنا السّجناء، و أنّه وحده الحرّ الطّليق!).. فمن وجهة نظر كليهما ال(أنا) و الآخر ال(هو) ... من السّجين و من يقصد بالسّجناء؟ ومن الطّليق ؟ في حقيقة الأمر ؟ يبدو أنّ الاستهلال، زاد العنوان تعقيدا، لنمرّ إلى الخاتمة، علّنا نجد، خبرا يفيدنا و يقودنا إلى مفتاح النّص، ليفكّ هذا الغموض، الذي خيّم على المتوفّر لدينا إلى حدّ الآن .. القفلة : (لا حياة خارج تلك الكوّة. لا حياة بلا حوائط. لا حياة بلا سلاسل أو قيود. الأشياء كلّها رمادي. أستمع إليه فأشعر ببعض الرّاحة.يزيد في إيماني بكهفي، و حبّي لحائطي و قيودي. نعم أحبّ ذلك الكهف الجميل. هو الذي ولدت فيه. أعشق ذلك الحائط فهو كل حياتي. أقبّل تلك السّلاسل حول خاصرتي، و معصمي، و ساقاي. و ألعن ذلك المتمرّد ألف مرة!) نفي لوجود حياة خارج الكوّة، خارج الحوائط، خارج السّلاسل، و القيود وتسليم بأن لا حقيقة خارج معارفه ..و لا لون خارج اللّون الرّمادي. هذا النّفي، زادنا حيرة و قدح فضولنا، للغوص في بحر هذا النّص الوجودي، الذي يذكّرني بالجدار لجون بول سارتر، رغم أنّ السّارد ازداد إيمانا و راحة بال، أمّا نحن فأربكنا، ذلك أنّ ما اعتقدناه حقيقة، توصّل إليها السّارد بنفسه، بدت من خلال الجملة التّالية، أنّها هي أيضا إملاء ..أي أنّه عجز عن البحث بمفرده في ماهيّة الأشياء ..ذات سلبيّة مستهلكة لكلّ إملاء ..شريطة أن تتّفق مع خموله .. (أستمع إليه فأشعر ببعض الرّاحة. يزيد في إيماني بكهفي، و حبّي لحائطي و قيودي.). فمن هذا الصّوت ياترى ؟ .. تنتهي الخاتمة بأن يزداد عشق (الأنا) للحائط، للسّلاسل المحيطة، بخاصرته، بمعصمه وبساقيه ، و بلعنة المارد.. و لكن هل فعلا النّهاية هي رفض للتّغيير للحرّية؟ أم هي رؤية القاصّ، اعتمدها للإثارة، بقصد الإنارة، لقدح عقل المتلقّي، بغرض خلخلة الثّوابت، التي أغلّتنا و شلّت تفكيرنا، بقصد زعزعتها، من أجل بعث جديد، و انبلاج صبح، فمن خلال النّهاية الكاريكاتوريّة، الحزينة،ا الانهزاميّة المستسلمة، التي ختم بها متنه جعلنا ننظر إلى أنفسنا بطريقة مقزّزة، و نأسف لوضعنا، بعد أن اكتفشنا أنفسنا، من خلال الظّلّ المعكوس على( المرآة)، (الجدار)، (القصة)، المعكوسة عليها أنفسنا المغلولة.. قيودنا التي عشقناها ..لأنّنا ألفناها.. و لم نعد نقدر و نتصوّر حدودنا و أبعادنا إلّا من خلالها .. أغلال أفقدتنا خيالنا و تفكيرنا.. طموحنا .. فالفتحة في جدار جون بول سارتر في روايته( الجدار ) كانت تبيّن لبطله زرقة السّماء، فتجعله يتيه و يتجوّل في بقاع الأرض كما يشاء ..حرّا.. طليقا... تعكس الظّلال بعد منتصف النّهار ..أمّا في هذه القصّة القصيرة التي بين أيدينا، نرى السّارد وحّد الألوان في اللّون الرّمادي ..الذي أضاع رونق الألوان و أعدم الاختلاف و حجب زرقة السّماء.. هي رؤية للاستبصار، و دعوة لحلحلة الأوضاع المزريّة لسجن الحياة الذي تقبع فيها ذواتنا السّجينة، التي عمّقتها ثورات "الرّبيع الرّمادي " التي سجنتنا، و كرهنا من خلالها، كلّ تغيير، لأنّ التّغيير الذي حصل كان صادما، ذلك أنّه زاد الأوضاع سوءًا، و عمّق الأزمة و هوّة غربتنا ، لأنّه تغيير غير مسبوق بفكر، و بفلسفة حياة، تتقن قراءة الألوان، كما هي في الحقيقة في الصّباح و في المساء منارة بالشمس، و بالقمر، و بمصابيح الحياة، لتكون كما يجب أن تكون حياتنا ملوّنة زاهيّة مشرقة متفائلة تسعى من أجل تأصيل كيان الإنسان في كلّ مكان ..كما نستطيع أن نحرّك رؤوسنا في كلّ الاتجاهات..
قادرون أن نفكر بعقولنا و نُعمل العقل في كلّ ما بلغنا و قرأناه ..
نمضغ و نبلع بمفردنا من دون رقيب يختار لنا أكلنا و مشربنا و شاشاتنا .. ===
الأسلوب: رشيق، ممتع، مميّز، جاء في لغة بسيطة، بليغة، عميقة، فصيحة، رصينة. أثار صاحبه عدّة تساؤلات، كشفت عن ذات مستبصرة، مفكّرة لها رؤية. السّارد تكلّم بلغة ال(أنا )السّجين الإنسان المهجّن المستنسخ الببّغاء المستسلم للسّائد الرّافض لكلّ تغيير، القابل لحقيقة لم يعرف غيرها، منذ ولادته يرفض التّفكير في كل شيئ لا يشبه حقيقته ...(أنا) حائرة من المفروض "منسّقة " بدت في حقيقة الأمر خاضعة، واقعة بين (أنا مثالي) مستبدّ، يمثّل السّلطة المتسلّطة النّمطيّة، السّائدة و النّظام الذي لا نظام خارج دائرته(في صورة الضّمير يتحدّث إليه، يصادقه و يستشيره، و يجيبه، هو شيء في كيانه، له صوت يحتمي به يناجيه ) وال(هو) المتمرّد الشّيطان، المتنطّع، المخالف لشريعة الأنظمة، الرّافض للنّمطي مكسّر الأغلال، و القيود مهدّم الجدران الثّائر، الذي لا يعترف بالحدود، الحرّ الطّليق، المتحرّر، في الفكر، القابع على اليسار، يشبه اليسار، في ثورته و تحرّره...
===
السّرد: عرضت الأحداث في سلاسة، و إسهاب، و تمطيط موظّف، رصين، انتقى القاصّ بعناية ألفاظه، و تدرّج بأسئلته، مستعملا الإيحاء، من أجل تحفيزنا، و إيقاظ الذّاكرة، فتعالقت مع دويستوفسكي، في تكراره لكلمة في الحقيقة و تأكيده على الفكرة، بمزيد التّوضيح في كلّ مرّة تدرّج بالفكرة .. فحاك لنا قصّة شغبتنا، و شغلتنا، و عمّقت حيرتنا الوجوديّة، أمتعتنا حملتنا، على التّفكير، كالسّابح فوق ماء البحر مستلقيا على ظهره، ينظر إلى السّماء يبحث عن سرّ الوجود، و حقيقة الأمر المعلّق، بين السّماء، بين ما خفي، و ما يرى، و بين قاع الأرض، و الماء الذي يستلقي فوقه، المحكوم بقانون الجاذيّة. فلا يسعه إلّا أن يسبّح بحمد الخالق و عظمته ... نصّ يماهي النّصوص العالمية، حرفيّة رشاقة، أناقة، تشويقا، حبكة مع خاتمة مربكة صادمة، قادحة، مع المحافظة على الحكي، و الحكائيّة بطريقة ساخرة تذكّرنا بالمدارس الوجوديّة، و التّحليل النّفسي و غيرها ..التي تنتمي لها مدارس الحداثة ... نصّ سكب القاصّ على نفسه الطّويل، من روحه، فبثّ فيه الحياة، و أنار، درب الحكائيّة بالأدب العالمي، و جعلنا نتفاعل معه بطريقة ممتعة ...
سهيلة بن حسين حرم حمّاد
سوسة في 06/12/2019
-----------------------------------------------------
==
---------------
نقد تحكيمي، في مسابقة القصّة القصيرة دورة 11 للسّنة الثّالثة لاختيار قصّة العام لسنة 2019 بإدارة الأستاذ عبدالعال الشربيني مدير فن القصّة القصيرة (مصر )
Peut être une image de 1 personne

المدرسة السريالية وفلسفة المتن النصي رؤية تنويرية بقلم الأديبة السورية / كنانة عيسى نص* لقاء مؤجل* كأنموذج لمحمد البنا

 المدرسة السريالية وفلسفة المتن النصي

رؤية تنويرية بقلم الأديبة السورية المتألقة
درة النقد العربي/ كنانة عيسى
نص* لقاء مؤجل* كأنموذج
....................... ..............
النص
.......
لقاء مؤجل
...............
قبيل خروجها تواصلت معه، أكد لها أنه سينتظرها لحظة غروب الشمس، تحت شجرة الجميز على الضفة الأخرى من النهر، والمواجهة لقصر الملك فؤاد، أكدت له أنها ستوافيه في الموعد المحدد.
انتظرته طويلًا ولم يظهر طيفه في الأفق، خلا الشارع من المارة، وأسدل الليل ستائره وأرتفعت أبواق السيارات، وعلى الضفة الأخرى أضيئت أنوار السياج المحيط بمجلس قيادة الثورة، وعلى مقربة منها يجلس شيخٌ كبير يتلفت بين هنيهة وأخرى يمنةً ويسرى..أدهشها بريق عينيه المتلهفتين الباحثتين عن شيءٍ ما، وذكّرها بما أسرّت به جدتها لها عن حبيبٍ أحبته، وعارضت عائلتها زواجها منه..ما إن ارتفع صوت المؤذن داعيًا لصلاة العشاء ..اتصلت به مستفسرة، أجابها النداء الآلى " الرقم خاطئ".
محمد البنا أغسطس ٢٠٢١
..........
الرؤية
.........
المدرسة السريالية في الأدب ولا سيما في المسرح والفن تتناول رمزية الأحلام والتداعي الذهني الحر و تقنية الفلاش باك واللاوعي والحركة الذاتية والتلقائية في التعبيرو الفوضى الخلاقة ومواضيع الجنون وتشتت الصور و هلامية الزمن والتخلي عن الخاتمة في الصراع الدرامي والتركيز على النفس البشرية ومعاناتها الذاتية بكل تناقضاتها وأضدادها وأعلامها في المسرح والفن والأدب كثيرون.
فالنص السيريالي عموما
يعبر عن التأزم الذاتي واسترجاع الذاكرة المحمومة وكشف الصراع النفسي الداخلي والتمزق الذهني. ومن مظاهر الاضطراب والغموض في هذا المذهب ان الكتاب السرياليين كانوا يتركون مسرحياتهم وآمالهم الأدبية والفنية بدون خاتمة تاركين للقارىء فرصة التخييل والتأمل لتخيل النهاية المغلقة التي تنفتح على عوالم لا منتهية.
وفي هذا النص انطلقت من تبئير فكرة خطوط الزمن الهلامي المتوازية، حين تتقاطع حيوات غرباء ما حين يقعون في( الحب الغير عادي،اللامتكافئ،المحرم ربما أو الناقص) أو في خيبة ساحقة، أو في وعي جمعي مشترك كما في الحروب والأزمات، فتتغير أقدراهم ،وتنحرف مساراتهم ويتخلخل الزمكان مستدعيا التغيير الرمزي لكل ما يحيط بالنفس البشرية في رحلةارتقائها الروحي. ومن هنا استوحيت فكرة(فلسفة النص) ففي متن متميز كهذا، نتواجه مع لغة خطاب سردي غير اعتيادية (فلسفية، ومن هنا استخدمت مفهوم نص مجرد بفلسفته) ، فهي انسيابية و سلسة ومبهمة وبألفاظ شديدة الوضوح ومنتقاة بحرص وإدراك تتوهج في نص إشكالي يتكلم نيابة عن نفسه، (الحب والعبث بالزمن) ويبرهن على موقفه، فيشد قارئه للبحث عن دلالاتها وربطها ومحاولة فهمها وإسقاطها.
فالكاتب الأستاذ محمد البنا تكلم في نصه عن إشكالية محددة. ثم تقدم بالحجج والبراهين بإبداع لافت لدعمها ومنها مفارقات التاريخ، ومفهوم نسبية الزمن ، التضاد في رسم الملامح الخاصة للشخصيات القابعة في انتظار من يحبون(رجل، امرأة-عجوز،شابة)، دون الخروج عن روح القص القصير الحديث ومعاييره، تاركًا نهاية مغلقة يفتحها كل قارئ حسب تجربته الداخلية أثناء قراءة المتن.
رأيت في النص حباً معلّقًا غير متكافئٍ، يخلخل موازين الأكوان وأبعادها، ورأى سواي من المبدعين والنقاد، إسقاطات سياسية استثنائية بأن اللقاء المؤجل هو انتظار المحروسة للحاكم الذي لم يأت بعد، ورأى بعضهم الحب كمكون يكتمل الزمن المشوش فيه ، ورأى آخرون، أن النص هو نكبة امرأة شرقية في الحب في زمن التغييرات التكنولوجية وغياب الثوابت الأخلاقية.
كنانة عيسى ١٩ أغسطس ٢٠٢١
...................
المقالة فقرة من فقرات الكتاب النقدي
( نظرية القوة الناعمة في الفن السردي)
تأليف/ محمد البنا، كنانة عيسى

لزوجة الزمن وتقاطع المتوازيات قراءة بقلم الأديبة السورية كنانة عيسى لنص* لقاء مؤجل* للأديب المصري/ محمد البنا

 لزوجة الزمن وتقاطع المتوازيات

قراءة بقلم الأديبة السورية
Kinana Eissa كنانة عيسى
لنص* لقاء مؤجل*
للأديب المصري/ محمد البنا
.......................
النص
.......
لقاء مؤجل
...............
قبيل خروجها تواصلت معه، أكد لها أنه سينتظرها لحظة غروب الشمس، تحت شجرة الجميز على الضفة الأخرى من النهر، والمواجهة لقصر الملك فؤاد، أكدت له أنها ستوافيه في الموعد المحدد.
انتظرته طويلًا ولم يظهر طيفه في الأفق، خلا الشارع من المارة، وأسدل الليل ستائره وأرتفعت أبواق السيارات، وعلى الضفة الأخرى أضيئت أنوار السياج المحيط بمجلس قيادة الثورة، وعلى مقربة منها يجلس شيخٌ كبير يتلفت بين هنيهة وأخرى يمنةً ويسرى..أدهشها بريق عينيه المتلهفتين الباحثتين عن شيءٍ ما، وذكّرها بما أسرّت به جدتها لها عن حبيبٍ أحبته، وعارضت عائلتها زواجها منه..ما إن ارتفع صوت المؤذن داعيًا لصلاة العشاء ..اتصلت به مستفسرة، أجابها النداء الآلى " الرقم خاطئ".
محمد البنا ١١ أغسطس ٢٠٢١
...............
القراءة
لزوجة الزمن وتقاطع المتوازيات
عودنا الأستاذ محمد البنا، على نصوص مغلقة، مقروءة، تتداخل فيها الانطباعات ، وتتواجه فيها الشخصيات مع واقع بديل، يخترق العوالم المرئية، وينثني داخل فوضى حسية تجبر القارئ على إعادة ترتيب عناصر السرد وحدثه المتماهي فيه، فنخن كقراء لا نملك إلا الانغماس في فلسفة ما وراء النص،من خلال إعادة القراءة والانتماء للحد الفاصل بين الوهم والحقيقة والثوابت و الهواجس والحب العاجز عن الاكتمال حاضرًا وماضيًا، سببه تغير هوية المكان
ولزوجة الزمن واضطراب ملامحه وتقاطعها بدل توازيها.
يبدو النص بلغته الدقيقة المتمكنة عادي الاستهلال، حين تتفق المرأة على لقاء من تحب في مكان محدد (تحت شجرة الجميز على الضفة الثانية من النهر والمواجهة لقصر الملك فؤاد) وزمان محدد
(لحظة غروب الشمس)
وستنتظر المرأة بينما يتباطأ مرور الزمن أمام القارئ ويتمدد ببطء أمامها، فتتغير ملامح البيئة المحيطة(يحل الليل) لترى رجلًا عجوزاً في حالة توق يستذكر لوعته واشتياقه لمحبوبته،يذكرها بحكاية جدتها العشقية،. يتغير المشهد،يحل الليل (صلاة العشاء) وهي ما زالت في انتظار مضنٍ ولكن على الضفة الأخرى من النهر ،لتفاجئ لحظة اتصالهاأن الرقم خاطئ.
قصتان حالمتان تحدثان في خطين متوازين ضبابيين يتقطاعان فجأة بسبب خذلان الطرف الآخر، في زمنين مختلفين
فتتقاطعان ويحدث ما يشبه العبور من ضفة لأخرى، قصر الملك محمد فؤاد هو ثابت زمني يشير للملك فؤاد الأول ( ١٩١٧،١٩٣٧) الذي تحول ل مبنى مجلس قيادة الثورة الذي يوائم زمنيا سنة تأسيس جمهورية مصر العربية في عام ١٩٥٤. وهذا الفارق الزمني لا يتطابق بين الفترة الزمنية الفاصلة بين المغرب والعشاء لكنه فجوة زمنية مثلت اختلال الحب ونقصانه؛ حين يحب أحدهم الآخر أكثر، ويتعلق به دون التفكير بالعواقب ،طاقة كونية عابثة، تزامنية،تجمع المنبوذين على ضفة واحدة وفي فضاء مؤلم واحد.
نص سريالي، نسبي المذاق ،مجرد بفلسفته، وتناغمه ورفضه. يثير الحيرة والتساؤل والرغبة في الفهم، كم يمكن للحب الناقص أن يغير الزمكان ويلغي وجود الآخر فيجيب المجيب الآلي... ألا وجود ولا كينونة ولا حقيقة ان لم يكن الحب كاملا.
اذهال
Kinana Eissa August 13/ 2021

نقد تحكيمي: في قصة نيروز سيراكوزا للقاصة زينب بوخريص بقلم الناقدة سهيلة حماد

 نقد تحكيمي: في قصة نيروز سيراكوزا


للقاصة زينب بوخريص
القصة فازت بالمرتبة الثانية في الموقع الإلكتروني زمرة الأدب العربي. في مسابقة القصة القصيرة
قصة رائعة استوفت كلّ شروط القصّة القصيرة، أسسا و قواعد، جاءت في أسلوب شيّق، ممتع، بليغ اللّغة، فصيح المعنى مخمليّ النّسيج، جذّاب سحريّ التّطريز، تأخذك القصّة على جناح الطّير في رحلة أدبيّة شيّقة إلى عالم الدّهشة والتّخييل، بفعل تدفّق الرّوح و شدّة الإحساس في كلّ مشهد من المشاهد لحسن التّأثيث، و براع الإخرج، و روح التّجديد في حداثة الموضوع ، و إيقاع تكثيف كلّ من الموضوع و الحدث و المكان، و الزّمان إلى جانب استعمال تقنية التّبطيء عند سبر أغوار النّفس و الإعتناء بالوصف و القفز لتجنّب الإطالة والحشو و الاسترجاع لتوضيح أصل الخلاف بين العائلتين الذي يرجع إلى اختلاف العقيدة ،كذلك السّرد، كان منسجما متّسقا جسدا و روحا، مضمرا و معلنا ، محكم البناء ، مع المحافظة على وحدة النصّ و الحدث الرّئيسي المطعّم بالفرعي، الذي جمّله و حلّى قصّه المرير، و رفعه التّخييل و زوّقه رونق الحبكة و التّشويق. عدسة السّارد النّشيط زادت الموضوع دلالا لجودة الصّور المنتقاة، و لسلاسة اللغة المطوّعة لاقتناص اللّقطة، و لبهاء التّوظيف و سرعة البداهة. فمن براع التّحكّم في استعمال عدسة كامراته و التّركيز على زاوية بعينها دون غيرها، قد تصاب بالالتباس بين الواقع و الخيال، فتحسب المعروض حقيقة، لا تفتئء حتى تصدّقه لفرط إنسانيّته، فتنسجم مع الحدث، و تودّ أن تنزل الميدان لتساعد. فدقّة التّفصيل، و التّدقيق لم تربك، إيقاع تواتر العرض، ولا وحدة النّص و تناغمه، فمن فرط انسجامك لا يمكنك الفصل بين الجسد و الرّوح، رغم رائحة الموت الكريهة المنتشرة و المنبعثة من النّص. بفضل تغنّج اللّفظ و سلاسته و فيض المعنى ، و قوّة الفكرة، و حرفيّة التّخطيط المسبق الواضح الذي لمسناه، من خلال الامتلاء بالفكرة وحسن اختيار الموضوع وجنس النّص المختار للحمل، و منهجيّة العرض، و التّقسيم و التّقطيع، و التّدرّج بالتّقديم للحدث برصانة. لذلك استطاع(ت) الكاتب(ة) أن يستولي ، على حواس المتلقّي و لبّه، و مداركه بمشاغبته من حين لآخر بالتّفضية، واهتمامه بببيئة القصّ كاختيار المكان، و الإبهار بالإمتلاء و بحسن اختيار الشّخصيّات و دراستها و اتقان الآداء و براع تقمّص الأدوار التي يقف وراءها قاصّ أو قاصّة متمكّن (ة) من أدواته(ا) ، بحيث ساهم(ت) بشكل قويّ في دفع الحدث المحوريّ، و نموّه حتى لحظة التّنوير و الدّهشة..
ممّا مكّن من إبراز رؤية الكاتب( ة) الإنسانيّة التي دعّمها بالفعل لنجدة المرضى، من دون خوف من العدوى و كذلك الأهالي التي تظهر من خلال: "كانت فيرنزا كخليّة نحل نشيطة و كان النّاس يتسابقون في تقديم المساعدات لغيرهم .و منضبطين للتّعليمات الطّبّيّة الصّارمة. "
و كذلك المونولوج و الحوار التي لخّصها في قوله "ففي هذه الفترة العصيبة أدركا أن الخلافات العقائدية بين العائلتين تافهة "و كذالك في قول باولو:"ما من شيء أهمّ من الحياة ذاتها ومن الإنسان نفسه ما عدا ذلك كلّه تفاصيل غير مهمّة ...للأسف أدركت ذلك متأخرا جدّا "
و في نفس السّياق، نراه(ا) اعتمد(ت) التّضمين لربطه بالزّمن مستنجدا بالمثل الفرنسي القائل " أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا "
انبنى النّص على مفارقات.
المفارقة :
*بين "حفل زواج" و"مراسم دفن بالأكداس"
* كما تبدو القسوة و البشاعة في المفارقة
بين نجدة المرضى من ناحية، و حرق الموتى من ناحية أخرى :
"بينما كانت سيراكوزا تحرق جثث الموتى أو تلقي بها في حفر بعيدة غائرة كما تلقي جثث كلاب جرباء "
كما تبدو المفارقة
في تغيّر موقف باولو .
في التّباعد و التّقارب في المواقف
و في تغيّر الأحوال من حال إلى حال.
كذالك يظهر في وصف المدينة قبل و أثناء الجائحة
"مدينة الأحياء" / "مدينة برائحة الموت .... "
تقودك الفكرة و الموضوع، إلى كلّ النّصوص التي كتبت في زمن الكورونا، التي صادفتك و التي ما زالت فكرة تختمر لدى أصحابها من دون شكّ، في هذا الزّمن المتفرّد، زمن أربكته جائحة "الكوفيد 19" يؤرخ لتاريخ جديد للبشريّة يصف بشاعة و فضاعة هاته الجائحة فكلّ من منظوره يكتب و يصف ، هذا الدّاء الذي أصاب العالم و اكتسحه و أوقعه في حالة من الذّعر و الفزع و الهلع الذي جعل العالم يتأمّل ضآلة خبراته و قدراته و زعاماته و بطولاته و ضخامته ليكتشف قلّة حيلته رغم حِيَله أمام مخلوق فيروسي، مجهري غير مرحّب به، ثقيل الوزن و الظلّ رغم أنّه لا ظلّ له اتخذ من الأسطح مقرّا ، فما كان من العالم إلّا أن تدارك وحسم أمره قبل أن يفوته الأوان، فوحّدت الدّول لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة موقفها على تطبيق قرار الحجر، للمحافظة على العنصر البشري خوفا من الانقراض مع اتخاذ جملة من الإجراءات والتّدابير ..و في انتظار كتابة لتأريخ هذه الجائحة من طرف المنتصرين كما يريدون ويشتهون انكبّ الأدباء على تجميل الواقع بطرح الرؤى و الأسئلة من أجل واقع أجمل لمستقبل أفضل...
نأمل أن تكون خطوة و مشروعا للتّواضع والتّحابب في المستقبل والابتعاد عن العنجهيّة و النّوازع السّلبية التي فرّقت البشريّة بدافع الأنانيّة و النّرجسية ...
يذكّرنا براع التّأثيث ب"الطّاعون" ل"ألبار كامو" الذي أصاب الجزائر ...
وكذلك لوباء السيمولانسك " الذي كتب عنه الأديب الدكتور أحمد خالد توفيق في روايته "العرّاف" و الذي اكتشفه "ميخائيل سيلانوف" حسب الرّواية في زمن المستقبل لسنة 2015 ..في فصلها الأخير قبل أن يموت "خالد" في الماضي
في رواية لواقع "عجائبي فانتازي استشرافي"، ينبئ و ينذر و يحذر من "وباء جائحة" لم تعرف البشريّة لها شبيه سيغيّر العالم و كأنّ الرّوائي يهيئ عقولنا الباطنية للوعي بواقع مستحدث ومستجدّ في المستقبل بما مدّ به عقولنا الظاهرة بواقع تخييلي أوهمنا بأنه حقيقة و قد بدا واقعنا أكثر غرابة فكأنّ الكاتب يعيش معنا في هذا الزّمن زمن الكورونا ... بالرّغم من أنّه كان قد غادرنا منذ أفريل 2018. للتذكير فإن الأديب المذكور معروف بكتاباته الماوراء الطبيعة.
العنوان : ذو إيقاع منسجم مع بيئة النّص و روحه الإيطالية اتساقا وانسجاما مع الحدث و الحداثة والتّجديد في الموضوع من دون تلاعب في عناصر القصّة التي قد تمسخ الجنس و تطمسه و تفقده بريقه رونقه و خصوصيّته الفريدة ..الذي أثبته القاصّ في النّص و مقدرته الإتصاليّة وإيصال الأنّاة و الآهاة للأصوات و تقريب المواقف بعد التّباين ..و حنكة حركة الانتقال و حرفيّة نظم الدّوائر السّرديّة الضّوئيّة الومضيّة الإيحائيّة المحفّزة الدّاعمة ...مع مراعاة الهضم للمتلقّي ..
سهيلة بن حسين حرم حماد
الزهراء تونس في 15 أفريل 2020
======
========
القصّة
▪︎نيروز سيراكوزا
على طوال شارع "ميرابالا" المؤدّي إلى كاتدرائيّة "سانتا ماريا" في قلب مدينة "سيراكوزا" الساحرة، الرابضة على رأس جزيرة "أورتيجيا" الفاتنة، سارت جحافل المدعوّين تظلّلها أشجار السرو المتطاولة تعانق سماء فيروزيّة صافية، لحضور حفل زفاف "فاليريا" و "ادواردو" وسط تصفيق حار من عائلتي "آل أورتيسي" و "دي سيموني" المتصاهرتين في احتفاليّة مبهجة... ناثرين الأرز والحلوى والسكر على العروسين وورود الأوركيد والبيلسان على المدعوين... صوّبت عينيّ في كلّ الاتّجاهات، ظلّت حدقتاي تفتشان عنها طويلا... جابتا صفوف الفتيات باحثتين... لم تستقرّا إلاّ حينما عثرتا على ضالتيْهما: "إيماكولاتا" رفيقة الصبا وحب المراهقة.
كنّا نمضي الساعاتِ الطوال نجوب معا شوارع المدينة الآهلة بالسكان ونذرع الحواري الضيقة في البلدة القديمة حيث كانت تسكن.
بدت رائعة وهي ترفل في ثوبها المخمليّ بإطلالة ناعمة وتسريحة شعر تناسب وجهها الطفوليّ.
كانت في السابق تميل إلى إرسال شعرها الذهبيّ على كتفيها الرقيقين ممّا يضفي عليها مسحة من البراءة. بينما بدت اليوم أكثر نضجا بمظهرها الرسمي ذاك.
تحيّنت فرصة انشغال المدعووين بمراسم الحفل ومباركة أبينا بطرس للعروسين واقتربت منها هامسا:
تزدادين جمالا كلّ يوم عزيزتي "إيمي"
كنت الوحيد الذي أناديها بذلك الاسم وكانت تحبّه كثيرا.
ردّت بنبرة تقطر تقريعا في شبه همس:
-هذا أنت "جيوفاني" خفت أن لا تتمكّن من حضور زواج صديقيْ طفولتنا "فاليريا" و "إدواردو" الرائعين فقد تأخّرت كثيرا حتّى تسلّل اليأس إليّ، أما كنت قادرا على المجيء مبكّرا؟
أجبتها ممازحا:
-ما أجملك حين تغضبين، أعذريني عزيزتي لم أستطع الوصول باكرا بسبب أزمة السير الخانقة. لكن هل سنمضي الوقت في العتاب واللّوم.
يتبع
وبينما كان العريس يضع خاتم الألماس في يد عروسته كما جرت العادة في جنوب ايطاليا، فالألماس – في نظرهم- بريق صنع من لهيب الحبّ وتوهّج المشاعر... تبادلت أنا وايمي نظرة خاطفة بعدها وجدنا أنفسنا خارج أسوار الكنيسة نلوي من عيون الرقباء كما كنّا نفعل في الماضي.
ما إن خرجنا حتّى ارتمينا في أحضان بعضنا لعلّنا نطفئ لهيب أشواق لطالما تلّظينا بها.
قلت لها وأنا أطبع قبلة على رقبتها كما كنت أفعل دائما:
-اشتقت إليك عزيزتي، جئت إلى هنا من أجلك فقط، لا من أجل أحد.
أجابت بغنج:
-أيّها المحتال، تجيد امتصاص غضبي في لمح البصر، كنت أنوي أن أخاصمك إلى الأبد...
ضحكنا سويّا لأنّني حفظت تلك الجملة عن ظهر قلب...
كنّا نجيد لعبة التخفّي عن أنظار أسرتينا وقد كانتا صديقتين حميمتين أو حتّى بعد أن غدتا عدوّتين لدودتين...
فوالدها رفض أن نرتبط رسميّا مبرّرا ذلك باختلاف أسرتينا عقائديّا: فوالدي في نظره لا يقدّس الشعائر الدينيّة الكاثوليكيّة الأصيلة ولا يحضر القدّاس أيّام الآحاد.
في حين كان منكبّا على بحوثه واكتشافاته العلميّة في المجال البيولوجي، بينما كان والدها محافظا إلى أبعد الحدود...
انجرّ عن ذلك قطيعة تامّة بين أسرتينا وقد تعمّقت أواصرها، بعد التحاقي بكليّة الطب بمدينة "فيرنزا" في شمال ايطاليا واستقرار أسرتي فيها بشكل نهائي...
يتبع.....
مضت الأعوام عصيبة عليّ، حيث لم يمرّ يوم واحد دون أن يزورني طيفها، رغم انشغالي بالدراسة أو حتّى بعد تخرّجي وتعييني طبيبا بإحدى المستشفيات الحكوميّة في مدينة "فيرينزا"...
ظننت أنّها لابدّ أن تكون قد تزوجت وطمرت قصّتنا في ركن قصيّ من الذاكرة...
غير أنّ تفشّي وباء كوفيد التاسع عشر الخطير في جنوب ايطاليا جعلني متلهّفا على معرفة أخبار مدينتي الحبيبة، كانت تصلني أنباء ينفطر لها قلبي عن المدينة الموبوءة وعن استهتار الناس بالوباء والاكتفاء بالتضرّع ليسوع ليكفّ عنهم البلاء القاتل.
رائحة الموت الأسود انبعثت من ثنايا المنازل وفاحت في ردهات مدينة الأشباح. كانت المدينة تستسلم شيئا فشيئا لقدر لعين وبات الناس عاجزين عن التصدّي لموت وشيك يتسلّل من تحت الأبواب أو من فوق الأسطح...
جاءني صوتها عبر الهاتف ذات ليلة كأنّه من قاع بئر سحيقة:
- جيوفاني سنهلك كلّنا، سيموت سكّان المدينة تباعا، إمّا بهذا الفيروس المعتوه، أو من فرط جوعنا، فقد كادت المؤن تنتهي من جميع المنازل، وأغلب المتاجر أقفلت أبوابها بعد معارك دامية بين الناس من أجل بعض الخبز المحمّص والأرز، أو حتّى حفنة من السكر...
الوضع في المدينة كارثي "جيوفاني" فوالداي لم يعودا يقويان على التحمّل جرّاء أمراضهما المزمنة ونقص مناعتهما أو بسبب خوفهما الشديد...
أجبتها مهدّئا من روعها
-لا تخافي سنتوصّل قريبا لدواء مناسب، لن يعجز العلم عن إيجاد الحلول، كوني قويّة كما عهدتك دائما عزيزتي. اعتن بنفسك أرجوك، فحبيبتي إيمي لا يمكن أن يهزمها مجرّد فيروس لعين لا يرى بالعين المجردة...
كنت في الطريق بشاحنة مليئة بالأدوية والمواد الغذائيّة، وقبل أن أصل إلى حاضنة طفولتي مدينة "سيراكوزا" الحبيبة بعشر دقائق فقط، استوقفتني الشرطة في الطريق، توجّه إليّ الشرطيّ قائلا:
-توقّف قليلا حتّى تمرّ قافلة عسكريّة مليئة بالجثث.
وحين أذن لي بالمغادرة، رافعا يده بتحيّة عسكريّة، لاحظ أنّني لم أتحرّك من مكاني فأردف قائلا:
-يمكنك الذهاب الآن، فالمرضى ينتظرون الدواء. لا يجب أن نتوقّف. يجب أن نكون أقوياء رغم الألم...
لم أتمالك نفسي وبكيت كثيرا... كانت الشوارع مقفرة، بدت المنازل شبيهة بمقابر جماعيّة.
صرخات ألم دوّت داخلي:
أين مدينتي المحتفية بالحياة؟ أصبحت شاحبة، كئيبة يطغى عليها السواد وتطفح منها رائحة الموت العطنة... وغدا السكان أشباحا...
ما إن دلفت منزل "إيمي" حتّى اصطحبتني إلى غرفة والديها المريضين، استقبلاني بترحاب شديد رغم ما بدا عنهما من مظاهر المرض والإعياء. ففي هذه الفترة العصيبة أدركا أنّ كلّ الخلافات بيننا تافهة... قال والدها بنبرة تنضح ندما:
ما من شيء أهمّ من الحياة ذاتها، ومن الإنسان نفسه ما عدا ذلك كلّه تفاصيل غير مهمّة... للأسف أدركت ذلك متأخّرا جدّا لكن المثل الفرنسي يقول: "أن تأتي متأخّرا خير من أن لا تأتي أبدا".
أجبته مقاطعا:
-لا ترهق نفسك، سينيور باولو أنا هنا للاطمئنان عليكم، ما مضى قد ولّى وأصبح من الماضي...
كانت أيّاما عصيبة ، إذ رغم محاولاتي العديدة لإنقاذ حياتهما فقد لفظا أمامي أنفاسهما الأخيرة...
لم أستطع أن أمكث طويلا في سيراكوزا بسبب التزاماتي المهنيّة.. لكنّ أوصالي كانت تتمزّق ألما وأنا أترك إيمي في تلك الظروف بسبب عنادها وتمسّكها بالبقاء في منزلها وحرصها على مساعدة الآخرين... طيلة الفترة السابقة كان السكان في مدينة فيرنزا يستعدّون لمجاهبة عدوّ شرس، وفرّوا المعدّات الطبيّة وتعاونوا لنجدة الأسر الفقيرة بمدّهم بالمستلزمات الغذائيّة...
كانت "فيرنزا" كخليّة نحل نشيطة وكان النّاس يتسابقون في تقديم المساعدات لغيرهم. ومنضبطين للتعليمات الطبيّة الصارمة.
بينما كانت سيراكوزا تحرق جثث الموتى أو تُلْقي بها في حفر بعيدة غائرة كما تُلقى جثثُ كلابٍ جرباءَ...
كنت مرعوبا على مصير إيمي بعد الحظر الصحّي الذي عاشته المدينة والعزل التامّ عن بقيّة المدن، كدت أجنّ وقد انقطعت عنّي أخبارها تماما... ولم أجد سبيلا للتواصل معها والاطمئنان عليها...
كانت تصلني أنباء كلّ يوم عن أعداد مهولة لضحايا الفيروس اللعين. غدت الأرقام مرعبة... بتّ متأكّدا أنّني لن أرى إيمي مجدّدا.
لم أستطع أن أصبر أكثر، رغم محاولات والديّ لثني عن عزمي، فقد قصدت المدينة الثكلى، مصحوبا بفريق طبّي...
كاد قلبي ينفطر و"إيمي" تحتضر أمامي وأنا أقف عاجزا لا أقوى على إنقاذها...
لم أجد سوى الانكباب ليلا نهارا في مخبر والدي وقد استعنت بخبراته الطويلة في مجال البحوث العلميّة البيولوجيّة والجرثوميّة لعلّني أجد دواء مناسبا لها.
كانت سعادتي لا توصف وأنا أراها تفتح عينيها شيئا فشيئا وتتماثل للشفاء تدريجيّا بفضل مناعتها القويّة وتمسّكها بالحياة من أجلي...
تأمّلت عينيها الصافيتين الهادئتين، هدوء الطبيعة بعد صخب.
فكّرت في أنّ كلّ ذلك أصبح ماضيا ثقيلا أمّا الآن فأنا لا أفكّر إلاّ في الحياة وفي شفتيها الورديتين.
وتُهنا في قبلة طويلة... لم يقطعها سوى هتافات الحاضرين و "فاليريا" تلقي بباقة الورود التي التقطتها إيمي بكلّ براعة...
تمت.
Peut être une image de Souheyla Hammed

الأحد، 8 أغسطس 2021

مصافحة الأديب المصري الأديب شعبان البنا لديوان جوهرة القلوب للشاعر طاهر مشي

الشاعر التونسى الدكتور طاهر مشى
يهدى (جوهرة القلوب) الى أولاده
وأفراد عائلته وأصدقاؤه.
فى طبعة أنيقة من طبعات دار الأتحاد
بدولة تونس الشقيقة أرسل لى عبر البريد
الأديب والشاعر التونسى الدكتور طاهر مشى
هذا الديوان عربونا لأخوتنا وعنوانا لأخلاصه
وصفاء طويته.
عرفته منذ أعوام أديبا نشيطا جمع حوله نفر
كثير من الأدباء التونسيين والعرب من كل
الأقطار فكان بحق همزة وصل حقيقية جمعت
أطراف الأقطار العربية شعرا حول المهجر التونسى
الجديد فى الشعر العربى الحديث حيث تعد تونس
قولا واحدا أنشط الدول العربية فى انتاج الشعر
ومن ثم تسويقه على نحو جاد وحقيقى حيث تتعدد
بهذا القطر الشقيق منابر المعرفة.
جوهرة القلوب ديوان يحمل الطابع التجديدى
ضم مايربو على مأة وتمانين قصيدة.عالجت قضايا
متعلقة بالوجع العربى لا سيما فى تونس يقول من قصيدة (مدينة تحتضر):
ناشدت ربانى
متى ترسو السفينة
متى تستريح
أمواج البحر وترمينا
متى يصرخ الحوت؟
كفانا رذيلة.كفانا هوانا
وموت السكينة
متى تهدأ وحوش المدينة
ويغفو الصراخ
ويمحى أنينه
متى نلتقى بأمان الحياة
وشمس الوجود
تميت الضغينة
وتمرح أكبادنا فى انتشاء
وتبرق خلجات المدينة
الشاعر فى قصيدته يستشرف فجرا جديدا
يطل على مدينته...ولكنه هذه المرة يفوض
الأكباد على غير العادة لتمرح وتنتشى بساعة
الخلاص..
ربما تأثر الشاعر بالشاعر الأنجليزى ( س.ت.اليوت)
يبدو فى بعض التراكيب والجمل حيث التمرد على
الموسيقى الداخلية لتلك التراكيب والجمل. ولكن
عندما نتعرض للديوان كاملا سوف تكون صورة ما
أشرت اليه أكثر جلاءا..
يقول الشاعر:
من قصيدة تحت عنوان ( ويلى):
يا ليلى الحزين
تمهل.....
فقد شب عهد الصبا
فى خفاك.
تنوح
ونبضى بماض تكحل
وبات الجوى
ساريا
فى هواك
ألا قد حسبت الشباب
ترهل
فقد باد عودى
وزاد عزاك..
أقول:
لايستطيع شاعر أن يخلق من عدم. فاللغة التى يأتى على صورتها شعره. والألفاظ التى تنتظم أبياته. الخيال. التصوير
التعبير كلها حصاد لقراءات متعددة. ونتاج لتأملات وأفكار
أناس أخرين عرضوا للشاعر على مسرح حياته.. كل هذا يضيف اليه الشاعر من نفخ روحه وجذوة معاناته وتجربته
فى الحياه. فيأتى عمله فسيفسائيا لامعا.. أو باهتا لاروح فيه
والأسد كما يقال ماهو الا مجموعة من الخراف المهضومة.
يقول الشاعر الدكتور طاهر مشى.
أيا وطنى
لماذا البلاد حزينة
شهيد
وراء
شهيد
الى أن يقول:
نضال. نضال
كتبت تاريخنا والجلاء
فبتنا صمودا على عهدنا
بذكراك
نحي نعيم الحياة
لقد جاءت المرأة فى شعر مشى تلك القديسة الملهمة حيث
تعرض لها الشاعر فى غير موضع من ديوانه اختلطت مع تراب تونس الخضراء فشكلت جزءا مهما من واقعه..
أحسب أن الشاعر فى هذا الديوان وعلى نحو ما المحت فى تلك العجالة قد قدم نفسه شاعرا لقافلة الشعر الحديث.. حيث أنه أصدر مجموعة من الدواوين تشكل جذوة الشاعر وعنفوان الشعر.
اتماما لما بدأت اكتفى بتلك اللمحة عن الشاعر موقنا أن لديه
لما يزل مايستطيع تقديمه للشعر ما يعد تشريفا لأرفف المكتبات فى تونس ومصر وغيرها.
صافى الود
للأستاذ الدكتور الشاعر التونسى
طاهر مشى.
...............
الأديب شعبان البنا
مصر
Peut être une image de 1 personne et texte