قراءة في رواية "ألبيريتا يكسب دائما" لكمال الريّاحي
بقلم: نعيمة الحمّامي التوايتي
لفت الروائي التونسي كمال الرياحي الانتباه, إليه منذ رواياته الأولى: "المشرط",
"عشيقات النذل" و" الغوريلا, بانسيابه اللافت في السرد الطويل. وباهتمامه بالتجريب الفني فاقتحم سوق الكتاب العربي عبر دور نشر مشرقية معروفة كدار السّاقي ودار المتوسط وغيرهما ...
" وتتأكّد هذه القدرة الروائية مع روايته الأخيرة "ألبيريتا يكسب دائما" الصادرة في طبعتين الأولى عن دار المتوسط والثانية" عن دار الكتاب بتونس سنة2019 في 237 صفة من الحجم المتوسط. رواية متشعبة تعالج مواضيع عديدة منها الفنّي والأدبي (كتابة الرواية) وعالم الصّحافة والأدب والثقافة في تونس والعالم. وأخرى حارقة كالاغتيالات السياسية في تونس ما بعد الثورة . رواية تيمتها العنف: القتل والجريمة
للكاتب، تجارب قصصية، شعرية، نقدية وفي أدب اليوميات وأيضاً فنية تشكيلية. وهو ما حصد له عدة جوائز على الصعيد المحلي الوطني والعربي، أولها جائزة الكومار الذهبي عن روايته المشرط، وآخرها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة عن روايته "واحد صفر للقتيل
" ألبيريتا يكسب دائما" هي سيرةُ مسدَّسٍ ملعونٌ ملطّخ بالدم والقتل والتصفيات السياسية والعاطفية. مشبوهٍ يظهر ويختفي, يتنقَّل بين المهرّبين ورجال الشرطة, بين المخبرين واللصوص, بين العشيقات والإعلاميين والكتّاب. تدور أحداث الرّواية حول جريمة قتل ليجد القارئ نفسه أمام متاهة ..
سلسلة من الجرائم والأحداث المتتالية والعديد من شخصيات تعاني في أغلبها من اضطرابات نفسيّة وسلوكية يجمع بينها انتماءها لعالم المهمّشين حيث الجريمة والعنف والدّعارة. لم يعتد القارئ العربي ولوج عوالمها الغامضة
هي رواية نتبيّن فيها قلب القيم منذ الافتتاحيّة التي نقف فيها على مَشهَدية باعثة على التهديد والخوف: حضور مخبرين والبحث عن جثّة كلب على نحو مريب.
يتّحد هذا الموت التراجيديّ والعبثيّ للحيوان مع الحدث الرئيسيّ: اختفاء الأبطال والمسدّس ثمّ الوصول عن طريق الصّدفة إلى الخيط الأول للرواية من خلال: اكتشاف يوميّات صّحفي يحقق في قضية انتحار كاتب أميركي بكاليفورنيا.,
وحشّاش فلسطيني يتنقل بين عواصم العالم,
- و"سيستام" قديم يستعيد نفسه بمُخبريه وضُبَّاطه
تشعر بالرعب وأنت تتوغّل في الرواية, صور الجثث والجيف والدماء والكلاب والذئاب والخنازير والأفاعي والقذارة والنتونة. تحاصرك من كلّ جانب ين الصّفحات. جثّة خنزير مذبوح تؤثّث يوميّات يوسف غربال, في رمزية على استباحة المحرّم والمسكوت عنه. يهرب كلبٌ بخصيتيْ علي كلاب, ويقطع كلابُ المحقّق إصبع قدم الصحفيّ وتملأ جثث الكلاب التي قتلها السوق المركزيّة,.
يسود قانون الغاب في عالم السرد, نحن في غابة يتباين سكّانها "أصبحنا نسمع عن كلاب راقية وأخرى منحطّة"
البيريتا, علي كلاب, بيّة, يوسف, مريم, ملاك, ستيلا, الحشّاش, عائدة, جبّار, ولاس, الأسترالي... شخصيّات لا تنتهي وحكايات متشابكة في مغامرة سرديّة بين الحوار والسّرد وصخب الأصوات والمونولوج والكلام المسجّل على الهاتف الجوّال.. واليوميّات المكتوبة والصحف المتناثرة... كلّ هذا يجعل من الكتابة حالة من الجنون الإبداعي بعيداً عن النّمطيّة. تمرّد حقيقيّ ونقد لاذع للبنية الرّوائية المألوفة وخاصة لمفهوم البطل والحبكة.
الخيط النّابض بين كلّ هذه الأحداث والشخصيات, هو البيريتا الذي حسب العنوان المخاتل "يكسب دائماً".
هو في حدّ ذاته دلالة فيضعنا الكاتب أمام كم من الأسئلة الجوهرية ويحفزنا على الغوص في متاهات العتبات و المتن
***قراءة في العتبات وفي متن و شخصيات الرواية.
/ قراءة في العتبات النصيّة:
***أ*** قراءة في عنوان رواية " ألبيريتا يكسب دائما"
العنوان هو أولى العتبات تأخذ بالقارئ للإبحار به في عالم النص وتكشف مدى وعي الكاتب بقضاياه, وهو من عوامل الإثارة والحيرة والتحفيز على خوض مغامرة النصّ فيكون مربكا ومحيّرا كما ذهب إليه " باختين " لذلك لا يوضع اعتباطا لأنّه من الدلالات الفنية, قيمتها تُتّخذُ من خلال علاقتها بالنصّ. لذلك اهتم النّقاد بالعتبات ودلالاتها على غرار الناقد الفرنسي" جرار جنيت ".
العنوان إذا هو بمثابة الهوية للنص وهو أيضا قصْد... واستدلال".
على ضوء ما تقدّم نقراُ عنوان رواية كمال الرياحي "ألبيريتا يكسب دائما" لنقف على ما في هذه العتبة من دلالات صادمة وإغراء مُلفت.
" ألبيريتا يكسب دائما" عنوان هذه الرواية المثيرة عتبة نصيّة أولى مربكة, مُخاتلة, تُغري بفتح شهيّة المتلقي لسبر أغوار المتن واقتحام مجاهله و تدغدغ نوازع الشرّ فيه ومن هنا يطرح المتلقي عدّة تساؤلات وهو إزاء هذا العنوان أيّ دلالات يحملها البيريتا؟ وما هي وظيفته الإغرائية بالنظر إلى المتن.
العنوان ورد جملة اسميّة مركّبة تكوّنت من:
* نواة إسناد أصلية “البيريتا” مبتدأ وهو اسم مشتق من الكلمة الإيطالية (Beretta) وهو نوع من الأسلحة الناريّة نسبة لمُصنّعها بييترو بيريتا وقد ورد تعريف هذا السلاح في الصفحتين 130-131 من الروايةِ، تعريفا مُفصّلا ودقيقا
* ومسند: ورد تركيبا إسناديًّا فعليّا تكون من فعل (يكسبُ)
*ونواة إسنادية فرعيّة = (دائما) : مفعول مطلق.
عنوان أحال دلاليًّا على منطق القوّة والبطش والظلم, البقاء للأقوى وغياب العدل وهو المنطق السائد في تونس بعد الثورة. وهو ما دلّ عليه التركيب “يكسبُ دائما”. للعنوان دلالة سيميائية تحيل لدى المتلقّي مفهوما للكسب والثراء الذي لا يكون إلٌا بالعنف. كسب يكون عن طريق استعمال القوّة, قوة السلاح ومجهولون يكتسحون الأمكنة, يسطون ويسيطرون. وفي " يكسب دائما " معنى الانتصار و أيضا النشوة والمرح. صياغة صارخة مقصودة تعلن أنّنا أمام بيان نستشرف من خلاله انتصار منطق الجريمة.
والعنوان أيضا هو البيان الذي نستشرفُ من خلاله النهاية. ففي هذه الرواية علاوة عن كونه يُشكّلُ العتبة النصيّة الأولى التي تُغري باقتحام مجاهل النصِّ فإنّهُ كذلك يُشكّلُ منتهاه في المشهد الأخير من الرواية
كتب العنوان أسفل رقبة الصورة باللونين الأسود( لون العتمة) والأحمر( لون الدم والجريمة) بعد اسم المؤلف الذي كُتب بلون البياض الناصع مشعّا على محمل أسود أعلى رأس صورة الغلاف تحقيقا لبعض التباين الضوئي يُمكن أن يكون استشرافا لدور المثقف في زراعة الحلم والأمل في أفق عالم مهمّش.
فمنذ العتبة النصية الأولى يضعنا الكاتب في عوالم الجريمة والقتل والرصاص في تونس مابعد الثورة.
"البيريتا" عنوان الرواية, هو أيضا بطل رئيس من أبطال الرواية .
*** ب ***قراءة في صورة الغلاف
هي صورة ثلاثية الأبعاد تغطّي غلاف الرواية تنتمي إلى الفن التشخيصي الحر
تزاوج بين اللونين الأسود والبرتقالي على محمل أحمر وهو اللون الطاغي..
اعتمد الرّسام فيها على تقنية " التذكير " لاضفاء وحدة فنية على اللوحة
* تجسّدُ الصورة:
*رأسا شعره على هيئة مسدس أسود اللون بارز يقترن أساسا بفكرة القتل.
وجهُهُ غير واضح السّمات, فَمُهُ في شكل ندبة مُخاطة باللون الأحمر أحكم بها الرسام غلقها( في رمزية لإغلاق باب الحوار / هيمنة لغة العنف وإذا تبيّنا أن الرسّام اعتمد اللون الأحمر لرسم زناد المسدّس(موقع الأذن في الرأس) نصير إزاء علاقة سببيّة إذا فتحت فمك ضغطتُ على زناد مسدّس. فألبيريتا" تحتلّ موضع الدماغ رمز العقل وسمة التفكير وتتحكم في وظائف التعبير وتحيلها إلى عنف وقتل, اغتيال, انتحار... هي فكرة لازمت كل الشخصيات التي تناوبت الحضور داخل النص. شخصيات مبرمجة على الجريمة والعنف والقذارة (علي كلاب، ستيلا، دجو/يوسف غربال، دايفيد).
بعين واحدة, إمعانا في السوداوية على شكل رسم لولبي خطوطه دائرية سوداء, تتوسطها حدقة مفتوحة ببياض مشع دلالة على وضوح الرؤية أمام فوهة المسدّس (للقنص), تحدّد بدقة وجهة الطّلق الناري للمسدس المنتصب مباشرة فوق الرأس ويحتل أيضا الجبهة, تترصد المحيط الخارجي الأحمر. تمسحه بجرأة وتوثب. في إحالة إلى الدّماء والقتل وما يجعل من هذا الشخص عدائيا لا يرى إلا دوامة القتل والدماء ويستبطنها ويعيش على وقعها.
أنفه دقيق يتوسط الوجه. بروزه ملفت. دوره محوري في الكتابة الروائية في وقت عطّل فيه المسدّس وظائف الدماغ وتوقفت حركة التفكير على الجريمة. فكان الاعتماد على حاسة الشمّ لتأسيس" سرد روائي يُكْتب بالروائح المتعدّدة التي تعبق بها الرواية فهل يّحطّم الرياحي أوثان الرواية المكتوبة بالأصابع والدماغ " كما ذهبت إليه الكاتبة والشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم في مقال لها صدر في"رمان زمان"بتاريخ 17مارس 2020 , عنوانه: الكتابة بالأنف..." ألبريتا يكسب دائما" لكمال الرياحي بين السوقية والمخيال الشّمي", والتأسيس لكتابة روائيّة، هي كتابة بالأنف فيفتح عالم عريض من الأسئلة حول مفهوم الكتابة؟ وعبر هذا المخيال الروائحيّ تُثار جدليّة الغواية والهلاك".
* في الصورة أيضا نجد النصف العلوي من جذع رجل, غير واضح التفاصيل والسمات ميزه اللون البرتقالي لا تبرز منه سوى آثار جروح مرتوقةٍ، في مستوى الفم والرقبة والجذع.
رتوق قديمة يرمز لها اللون الأسود وأخرى جديدة خضراء وحمراء تتجدّد بتواتر العنف.
تمّ اعتماد اللون البرتقالي في رسم البَشَرَةِ في دلالة لاغتيال العاطفة الهادئة واستنابت العنف والجريمة مكانها.
وردت الألوان هنا في سيميائيّة تهيّئنا لدخول عالم الرواية الذي تحكمه تيمة القتل وهو ما يحملُ إيحاءً بما أشار إليه العنوان وبما قد يجده القارئ طيَّ النصِّ.
نتبيّن فمنذ البداية أنّ الرواية نصٌّ شرِّير, حرفه متوحش عن الفوضى, عن الشر, عن الغضب، عن العنف عن الرصاص و، عن الجسد, عن الجنس عن الروائح والفجاجة, عن الثورة ، عن الاغتيالات السياسية، وعن الأدب و عن حياةٍ سائبة كحياة الكلاب التي يطاردها "علي كلاب" أحد أبطال الرواية الرئيس. هذه الحياة السائبة هي التي يُطاردُها البيريتا’ المسدس المحرّك الأساسي لأحداث الرواية.
رواية تسعى, في لعبة سردية سوداوية’إلى إعادة كتابة تاريخ تونس ما بعد الثورة،"
تونس المتوحشة"
عالم الجريمة من العوالم الأكثر حضورا في مشروع الرياحي الروائي
/قراءة في المتن
الرواية هي متاهة يدخلها القارئ بمحض إرادته دون أن يملك القدرة على الخروج منها
تدور أحداثها حول جريمة قتل, فيجد القارئ نفسه مورطا في البحث عن المجرم, يقحمه الرياحي في شبكة من العلاقات المشبوهة مع شخصيّات تعاني من اضطرابات نفسيّة وسلوكيّة. عالم من المجرمين والمشبوهين ويخيل إلينا في كلّ مرة أنّ أركان الجريمة قد اكتملت, لكننا نصطدم بجديد يقلب الحسابات. لأنّ خيوط اللعبة بيد الكاتب يحركها كما يريد ليزيد في تعقد الأحداث فنكتشف أنّ الجريمة جرائم. وكلّ حكاية هي جزء من قطعة "بيزل"
جديدة تنضاف إلى اللعبة التي تحمل صورة جريمة كبرى, هي في الحقيقة جرائم مبعثرة ومتناثرة في الرواية يرشدنا إليها صوت البيريتا وبقايا بقع دم متخثر."
تحقيق يقوده علي كلاب في قضية غامضة، ويسعى طوال الرواية إلى ربط أجزائها عبر البحث في شواهد جمعها من الشقة المشبوهة، تسجيلات ومذكرات. فالمحقّق علي كلاب يبحث في جريمة قتل.
عمد الكاتب أثناء التحقيق التعرّض إلى سيرة مسدس يتنقل و يبثّ الرّعب عندما يقوم بقتل الكلاب والتنكيل بجثثها وتركها تتعفّن أمام الجميع بل يستمتع أيضاً بالتقاط الصور معها.
تنمو شخصيات مختلفة أثناء التحقيق
ملازمون يحققون في قضية وهم أيضاً متهمون بجريمة سرقة البيريتا وتدور حولهم الشبهات.
بيّة شخصيّة غامضة شاهدة على جريمة قتل ومتورّطة أيضاً في جريمة الافتراء على الملاكم أو رجل الحمام. ثم حاضرة في جريمة اغتيال شكري بالعيد.
تحضر الحيوانات كشخصيات حية عبر الكلب فوكس، والذي يجمعه حوار في الشرفة مع الصحفي يوسف, الذي يحرّضه على الانتحار بواسطة "ألبيريتا".نجد أيضا حماماً، ثعباناً عصى سوداء... جنساً بطعم الموت، خيانات، و اقتل وعنف".
يتنقّل "البيريتا" بين عوالم الرّواية حيث اللّصوص والشّرطة وكذلك العشيقات والإعلاميّين والكتّاب... ويتحوّل إلى شخصيّة تراجيديّة يجعل منها الكاتب كائن حيي ينسج عوالم جديدة مزعجة بين الواقع والمتّخيل بسببت تواتر الاحداث بنسق سريع
البيريتا الذي استخدمه علي كلاب لقتل الكلاب وفي واحدة من غزواته فقده. غير أنّ البحث يتواصل وكأنه يعلن عن عودة السيستام الضال بعد الإطاحة به.
العودة ستكون بأكثر الرموز شراسة من خلال شخصيّة علي كلاب ضابط من النظام القديم الذي"أصبح لا يطاق" كما جاء على لسان أحد الملازمين الذين يعملون معه. عودة مشوّهة لأنّ الزمن تغيّر بعد 14 جانفي 2011. السيستام عاد مثقلًا بالجراح ومعطوبًا.وأصبحت أكثر الشخصيّات تهميشًا تتقاسم البطولة مع علي كلاب في"أبيريتا يكسب دائما": رجل الحمام ذلك الملاكم الذي حوّله السيستام إلى رجل مقعد لأنّه حاول فضح خفايهالقذرة.
رغم أنّ علي كلاب, بدأت اهميته تتر مع تلاشي جسده نفسه(مثل بطل رواية دونكيخوط لسارفونتاز), يثقبه دائما لقيْس مستوى السكر لديه.جرح نفسه حتى تسيل الدماء، يتضرر لكنٌه يعودى بسرعة بنفس العادات لكن جنونه لاينتهي.
علي كلاب يتسبب في بتر جزء من تونس عندما تسبّب في بتر رجْل رجِل الحمام بالتعذيب والكذب. "رجل الحمام داخل الرواية، يتمكٌن من مسك بخيوط اللعبة ويتموقع من جديد".
من ضحايا علي كلاب أيضا الصُحفي التونسي “يوسف غربال” /”دجو” تسبّبَ علي كلاب في بتْرِ إبهام ساقهِ اليُمنى عندما نشرَ مقالا بجريدة “الواشنطوني العربي” يتحدّثُ فيه عن السّلاح المُستخدم في جريمةِ قتلِ الشّهيد شُكري بالعيد فتمّ اِتّهامه بالتّخابر مع جهات أجنبيّة وكان علي كلاب هو من حقّق معهُ لنفْهم بذلك سرّ الجوارب الكثيرةِ المنشورة فوق حبل الغسيلِ رغبةً من “يوسف” في إخفاء إبهام ساقه المبتور.
يوسف غربال من الشخصيات التي تواجه سلسلة من الصّدمات والأحداث المؤلمة, يريد قتل خليلته ماري بنفس السلاح "البيريتا الملعون. ليظهر في نهاية الرّواية شبح الانتحار وأجزاء من حياة الكاتب الأمريكي ديفيد فوستر ولاس الذي يتناولها يوسف غربال, ليحرر حوله مقالات للجريدة التي يعمل بها.
تختلطُ الحقيقة بالخيال وتغرق الرواية في عالم من الفوضى. وتتقاطع الشخصيّات وتتوالى في سينمائية مشهدية نرى فيها انعكاسا لصورة الكاتب الأمريكي وامتدادا له.ِ
بتناقضاتها وجنونها وإبداعها مثّلت شخصيّة يوسف غربال مثالًا لاغتيال الصحافة وحريّة التعبير والحلم والحياة وتُصوّر حجم الجرائم البشرية التي تُرتكب في حقّ المواطن والوطن تحت شعار تطبيق القانون
لذلك العملية السردية في الرواية أشبه بعملية غوص في الجسد السردي من مستوى إلى الآخر، بطريقة ذكية صاغها الكاتب لكنّها تتطلب كثيرا من الخبرة والفطنة للوصول إليها
*** الخيال وجه آخر من الرواية
الخيال وجه آخر من الرواية: مع سيرة حياة هذا الروائي الأمريكي الذي انتحر سنة 2008 وهو في قمة العطاء والشهرة فانطلق كمال الرياح من سؤال صديقه "جونثان الذي رثاه سائلا": مابك يا رجل" ليبحث في القضية، هل هي موت أمانتحار؟ يحاول يوسف غربال, بطله المهوٌس بدايف، عبر يومياته التي يكتبها بآلة الكاتبة الرخيصة, أن يكتشف سبب انتحاره. قرأ كل شيء عنه دون جدوى, بل أنه دمّر حياته, وطلقته زوجته التي خانها مع صديقتها, ووصل إلى حد الجنون, لكنه لم يتمكن من تخيّل سيناريو لانتحار الكاتب الشهير, في ذات الوقت لم يجرؤ على الانتحار بالرغم من أن ألبيرتا أمامه على الطاولة يحدّق به.
فوالس وغربال كلاهما يعاني من كابوس الخيانة، التي تؤرقه فتنعكس على استقراره النفسي واليومي. هوس بالانتحار لحياة أخرى بدون هواجس.
تتقاطع الصّراعات وتنمو كل الشخصيّات داخل الرواية فيتسارع النسق السردي وتتوسّع شبكة العلاقات بين الشّخصيّات. فلا يقدم لنا كمال الرياحي صورة جريمة عادية كما نشاهدها في أفلام الجريمة, وإنّما نحن إزاء جريمة من نوع خاصّ يلعب فيها الخيال دورًا بارزًا,
فالنص السردي يوهمك أنّ الأحداث قد حصلت فعلًا, فيصبح القارئ طرفًا في هذا العالم المليء بالقتل والدماء وبتصاعد وتيرة العنف, وتتوفر كلّ القرائن ولكن لا أحد يقوى على محاسبة المجرم هو أشبه بهذا الواقع الذي نعيشه اليوم عالم من الفوضى " الخلاقة"
كل شيء حقيقي في هذه الرواية ومزوّر في آن. إنّها القدرة على بث الشك في كل شيء
يظهر االتّخيّل في الرواية كأداة لمحاكمة الأحداث المعاصرة والمحكي وكتابة الروائية فنتساءل هل هناك اختلاف بين "حكايات المخيلة" وتلك التي تدعي الواقعية؟
حضور والس في نص الرياحي يحيلنا إلى رؤيته للرواية التي ، فهو ينزع عن النصوص جديتها وخصوصيتها التي تصنف إثرها كـ"واقع"، وكأن عمل المخيلة يعني إعادة كتابة حكايات العالم، فلا أحد يحتكر الحكاية أو شكلها الذي تسرد ضمنه.
ويبقى الخيط الناظم بين مفاصل العمل السردي هو "ألبيريتا",هذا المسدّس الملعون الذي جعل منه السيّد الرياحي شخصية من الشخصيات المحورية في الرواية يجوبها من كلّ الجهات تماشيا مع اتجاه السرد الذي " يولي أهمية للشخصية مهما كانت طبيعتها طالما أنّ الشخصيات ليست إلّا كائنات ورقية يحدّد الكاتب موقعها. وقد يعيد بعثها من أعمال سابقة:
" علي كلاب" شخصية يعيد الكاتب بعثها من رواية " الغوريلا"وهو المتهم بقتل غوريلا الساعة. شخصيات أخرى يعيدها أيضا كستيلا من " عشيقات النذل"و يوسف غربال", شبيه كمال اليحياوي في رواية "عشيقات النذل" أيضا
رواية "البيريتا يكسب دائمًا" هي قراءة للمشهد العام في تونس ما بعد الثورة:
هي تونس الاغتيالات والجرائم التي ما زال البحث فيها جاريًا لمعرفة الجناة الحقيقيين على الرغم من أن أداة الجريمة معروف مصدره مسبقًا، فهو ذاته ألبيريتا, المسدّس الذي أُسقط
به الزعيم اليساري شكري بالعيد والقومي محمد البراهمي وقد تضاربت الأخبار حول هذا السلاح وحول تقرير تحليله البالستي.
لا تزال حقائق الاغتيال مبهمة إلى الآن، ولا تزال وزارة الداخليّة التونسيّة تنكر امتلاك عناصرها لهذا السلاح.
اغتيال غيّر مجرى أحداث الثورة وتاريخ تونس المعاصر لتبدأ بعده حرب شرسة على مستويات عدّة إيديولوجيا واجتماعيا وسياسيا. أمام مُماطلة الجهات المعنيّة والقضاء. غموض استند عليه الكاتب لسرد أحداث الرواية وحبكها جاعلًا منها puzzle من أجزاء متقطّعة، وحثّ القرّاء على جمعها وترتيبها لفكّ طلاسمها
يعيد السيّد الرّياحي كتابة منعرجا هاما من منعرجات الثورة . ويمسك بمسألة حساسة جدا يطلقها كما سبق وأطلق المشرط قبل سنوات, فرواياته الثلاث السابقة ويومياته كلها أعمال في نقد الواقع السياسي التونسي تأتي, متمّمة لمسار إبداعي كان انطلق فيه منذ سنوات موسوما بالجرأة والثورة على المضامين والأشكال ولغة السرد والحبكات التقليدية للرواية ، وهو مشروع روائي يكتب تونس الحديثة والمعاصرة بأسلوب موغل في التمرّد والخروج عن المألوف.
لذلك لا تُقرأ رواياته كنصوص منفردة معزولة عن بعضها البعض وإنّما في سياق قرائي متشابك ومتواصل مستمد من أحداث مفصلية في تاريخ تونس التقطها في لحظة فارقة بكلّ تفاصيلها, لوّنها بالخياله الذي يوهم هو ذاته بالواقعية. "الخيال يمشي معنا وينام معنا ويقلّب معنا صفحات الجرائد" كما يقول الكاتب في سياق آخر فكلّ ما في الرواية ينبئ بواقعيتها: في الامكنة والازمنة والشخوص والأحداث.
*** كمال الرياحي يبني ضمن مشروعه السردي مفهوماً جديداً للرّواية بعيداً عن النمط السّائد للرّواية العربية.
كمال الرياحي يبني ضمن مشروعه السردي مفهوماً جديداً للرّواية بعيداً عن النمط السّائد للرّواية العربية.
رواية الرياحي "ألبيريتا يكسب دائما هي رواية ما بعد الحداثة التي تتناول مواضيع شتى منها:
"فنّ الرواية ذاته, الذي يصبح موضوعا رئيسيا, فطوال صفحات الرواية يسائل الراوي الكاتب فنّ الرواية ويناوره بشتى الطرق, محاولا التّعرّف عليه واكتشافه كفعل جديد ملتبس مع الواقع إلتباسا كبيرا, لكنّه ليس سوى تخيّل" كما بينه الكاتب نفسه في مقال صدر له حديثا حول رواية" احجية ادمون عمران المالح" للروائي المغربي محمد سعيد أحجيوج عنوانه" ما بعد الحداثة والمسألة الفلسطينية" الصادر في آخر نوفمبر 2020 ب "اولترا صوت"و يظيف ان من علامات ما بعد الحداثة "أن الحدث في الرواية حدث متحرّك بين الوقوع الفعلي وعدم الوقوع أو الوقوع بشكل مختلف", ف لأنٌ "الراوي يكذّب نفسه كلّ مرة بعد أن يقنعك بالحدث. يشقى في نحته وتركيب عناصره وبجرّة قلم يطيح به ليبني فرضية جديدة هي الأخرى مهدّدة بالتفكيك... في حركة دائرية"
تندرج رواية "ألبيريتا يكسب دائما" في سياق هذا المشروع. وتعبٍّر هذه الرواية عن
رؤية كمال الرياحي لفعل الكتابة. هي كتابة متمردة ثائرة على الفساد بمختلف وجوهه في السياسة والاجتماع والثقافّة... تسبر أغوار الذات لتكشف منابع الشر فيها.
يكتب الرٌياحي منتصرا للمهمشين ولضحايا منظومة سلوكية نمطية ليخرج انا جمالا مختلف هو جمال القبح الساكن فيها.
الرّياحي يتجاوز مفهوم الرواية الواحدة في"ألبريتا يكسب دائما" نجد أشكال سرد مختلفة في النٌص: الرسائل، اليوميات،تحقيقات بوليسية، الهلوسات، رسائل الانتحار، والمقالات الصحفية، يدخلها الكاتب في مختبره السردي ليلوكها شخوصه ثم يتجشٌؤونها معجونة برائحة الرّصاص وسيرة مسدّس الاغتيالات في تونس...
فألبيريتا هو اللغز والمفتاح في الرواية منذ 2013. أين يتنقل تتأجّج نار العنف والجريمة, بالسلاح والرصاص. وبقتل الحيوان والإنسان, ويعبق المكان برائحة بالجنس الرّخيص, بمحاولات الانتحار وبتر الأعضاء والخيانات. في هذه الرّواية . فالكل يواجه خطر الموت ،الفاعل والمفعون به الجلاٌد والضحية.
في" ألبيريتا يكسب دائما" تتعدد الأصوات. فالراوي لا يُحكم قبضتهُ على السرد بل يُفسحُ المجال أمام عديد الشخصيات لسرد أجزاء متفرّقة من قصّة المسدس الضائع، حتى اكتملت قصّة فكّ اللغز. هذه القصص الفرعية كشفت لنا عن شبكة من العلاقات المعقدة أحكم الكاتب رسمهاوبناءها وفق نسق مُربكٍ وطريف وممتع. " فيُمكنك قراءة صفحات تختارها بطريقة عشوائية وبدون نظام أو ترتيب يُيدّل ترتيب الصفحات داخل النص. وهو ما يُحيل إلى تكسير الحبكة والموضوع والمكان ويتعدّد الأبطال. و يجعل الحبكة مثلا لا تتطوّر بشكل واقعي ومتسلسل وإنّما بشكل " وحدات من أحداث وظروف" ويجعل الحدود التي تفصل العالم الحقيقي عن عالم النصّ تنهار. وذلك إمّا بدمج الكاتب مع النص, أو بضمّ شخصيات تاريخية للنصّ المتخيّل.
و"هي تقنية سردية تقوم على "فكرة التداخل النصوصي بين حكايات تفضي إلى معمارية سردية واحدة وهي في عمليتها السردية هذه لا تعني تشويش ذهن القارئ، إنما تعمل على خلخلة التسلسل المنطقي للمروي عن طريق الانتقالات السردية أي التنقل بين القصص الفرعية التي يجري الربط بينها عن طريق تناظر مجموعة من الأحداث المتشابهة ويتم في هذه الانتقالات تناول أحداث معينة في حياة الراوي وباقي الشخصيات وهو أسلوب السرد الما بعد حداثي أوما يُسمي "أسلوب الميتاسرد"" كما ذكره رنا صباح الخليل في مقال له عنوانه الاشتغال على الميتا سرد في رواية " الساحر العظيم" لامجد توفيق الصادرة نشرية إلكترونية " وكالة الصٌحافة المستقلة
فالرياحي أقحمنا في عالم من الفوضى المربكة الخلاقة للعنف والجريمة أقرب ما تكون من واقعنا المعاش لتونس ما بعد الثورة لكن بأسلوب إبداعيّ يغلب عليه الحوار. الذي مثّل عمود الرواية ويحلّ محلّ السّرد, منذ الأسطر الأولى يكتسح الحوار المتن، فتنطلق الشخصيات في الكلام بلغة تتناسب والشخصيات المختلفة داخل المتن, والتي تنبع من بيئات متباينة بين مثقفين ومهمّشين. تسكن الحيّز الزمنيّ والمكانيّ للرّواية, تعبّر عن مشاغلها وهواجسها, تثور وأحياناً تنهار بلغتها الخاصة بعيداً عن النّفاق الاجتماعي والاحكام الأخلاقوية . فالشخصيات وليدة واقعها تنتمي إليه وتعبّر عنه بكلّ تلقائيّة عن ذاتها وتناقضاتها في مربع العنف كأنّك تشاهد عملاً سينمائياً.
فعبر الحوار الباطني يغوص الروائي في أغوار الشخصية
وهو أسلوب خاص تميز به الكاتب عبر مسيرته السردية, إذْ يجعل اعماله تتماهى مع المشهدية السنمائية في تفاصيلها ودقتها وتقنيتهاً فقطع مع البنية التقليدية للرواية العربية.
في الرواية نرى تمرّد الشخصيات على المجتمع يتناغم معها تمرّد الكاتب على الأسلوب الرّوائي التقليديّ. تتابع الأحداث وتتشابك, يزجّ بك الكاتب في بحرٍ من التفاصيل وتأخذك الحوارات ويغيب السرد.
هذه الرّواية جملية متفرّدة في الرؤية والأسلوب الماتع تتداخل فيها الأجناس وغابت فيها الرّتابة شكلاً ومضموناً
في حركة
دائرية فنلتمس في"ألبيريتا...", أسلوب الميتاسرد المشحون بالتشويق وبالحكاية رغم لعبة التجريب والهدم والبناء فالراوي هنا قادر على رواية الأحداث بطرق شتى ومتناقضة
لا تقدّم حقيقة واحدة ولا خطا سرديا واحدا يمكنه أن يفضي إلى نتائج, إنّما هي "فوضى التداعيات الحرّة التي تصنع ذاكرة مخترقة بذاكرة أناس آخرين وتصوّراتهم عن الذات ومسارها, ولكن كل ذلك يتبناه الكاتب, فالراوي نفسه لا يسرد شخصا غيره كجزء من ذاكرته كما ذكره الرياحي في مقال ذكر سابقا.
"ألبيريتا يكسب دائما" رواية منخرطة بقوة في رواية ما بعد الحداثة في موجتها الثانية. هي وورشة لمقولاتها وأسلوبها المبني علي التشظي والفوضى الزمانية" للأحداث, اوما سمى بالماضوية, وبحثها واستثمارها للماضي الشخصي والجمعي و"البارانويا لشخصيات تعيش عدم الثقة وتعارض السكون والثبات وهو ما يعمٌق ارباكها لأنّه لا يقين شامل،
وإقحام الكاتب فيما يسمى بالتخيّل الذاتي وأساسا لعبة التزوير والتحريف للامكنة و الأزمنة والشخصيات باستعمال تقنية ما يُسمى ا"لدوائر العدائية" وهذه الدوائر تعبر عن "انهيار الحدود التي تفصل العالم الحقيقي عن عالم النص كما بينا سابقا. وذلك إما بدمج الكاتب مع النص، أو بضم شخصيات تاريخية للنص المتخيل , إقحام" التجزيء " والذي يحيل إلى تكسير الحبكة والشخصيات والموضوع والمكان, فالحبكة على سبيل المثال، لا تتطور بطراز واقعي أو متسلسل, وإنما بشكل «وحدات من أحداث وظروف)
ترتبط أيضا بالصدفة في قراءة النص (مثلاً قراءة صفحات تنتقيها عشوائيًا وبدون ترتيب أو نظام, أو برنامج يبدل ترتيب الصفحات داخل النص)أو ما يُسمى بالارتباط الضعيف" وهي اساليب وردت في مقال بعنوان" ادب ما بعد الحداثة ( مجلٌة فكر الثقافية الايلكترونية اكتوبر 2020)
كما تؤكّد الرواية انخراطها في تيار ما بعد الحداثة بعملية ادماج الأدب الشعي بالأدب العالي فاستفاد اسلوبها من منجز الرواية العالمية. ومن افكار الحداثة والتجريب في السرد الطويل.
"البيريتا يكسب دائما" نص سردي يكتب بشكّ كبير في كل شيء تماما مثل رواية " احجية إدمون عمران المالح التي كتب عنها الرياحي، انٌها تعتمد تقنية "انقلاب العين" " لقراءة السائد من القيم والأفكار و"الحقائق" باعتباره أنّ الأدب غير بريء ومذنب. فهل تجوز محاكمة الأدب والأفكار؟
كمال الرياحي جعل من منجزه الروائي نصاً ملغماً بعلامات الاستفهام المستقاة من المتخيل السردي الماضي بأفكاره وأحداثه وعلاقته بما يحدث في الحاضر مستثمراً مدوّنة ضخمة من خلفيته المعرفية ليرسم لنا بصيغ سردية"خلطة اعجيبة ولذيذة فيها الماضي بمختلف تمثٌلاته وواقع اجتماعي وسياسي حاضر متازم عصيب.
شكرا بحجم المتعة المشتهاة كمال الرياحي الذي جعل الكتابة في "أليريتا...." معول للحفر في واقع تونس ما بعد الثورة": فهي شهادة هامّة من مثقّفٍ شخٌص الواقع و حلٌله ونقده في مرحلة تتنازعها التجاذبات من كل صوب.
نعيمة الحمامي التوايتي/ اديبة من تونس




