الأحد، 18 يونيو 2023

قراءة في رواية "ألبيريتا يكسب دائما" لكمال الريّاحي بقلم الناقدة نعيمة الحمامي التوايتي/ اديبة من تونس

 قراءة في رواية "ألبيريتا يكسب دائما" لكمال الريّاحي

بقلم: نعيمة الحمّامي التوايتي
لفت الروائي التونسي كمال الرياحي الانتباه, إليه منذ رواياته الأولى: "المشرط",
"عشيقات النذل" و" الغوريلا, بانسيابه اللافت في السرد الطويل. وباهتمامه بالتجريب الفني فاقتحم سوق الكتاب العربي عبر دور نشر مشرقية معروفة كدار السّاقي ودار المتوسط وغيرهما ...
" وتتأكّد هذه القدرة الروائية مع روايته الأخيرة "ألبيريتا يكسب دائما" الصادرة في طبعتين الأولى عن دار المتوسط والثانية" عن دار الكتاب بتونس سنة2019 في 237 صفة من الحجم المتوسط. رواية متشعبة تعالج مواضيع عديدة منها الفنّي والأدبي (كتابة الرواية) وعالم الصّحافة والأدب والثقافة في تونس والعالم. وأخرى حارقة كالاغتيالات السياسية في تونس ما بعد الثورة . رواية تيمتها العنف: القتل والجريمة
للكاتب، تجارب قصصية، شعرية، نقدية وفي أدب اليوميات وأيضاً فنية تشكيلية. وهو ما حصد له عدة جوائز على الصعيد المحلي الوطني والعربي، أولها جائزة الكومار الذهبي عن روايته المشرط، وآخرها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة عن روايته "واحد صفر للقتيل
" ألبيريتا يكسب دائما" هي سيرةُ مسدَّسٍ ملعونٌ ملطّخ بالدم والقتل والتصفيات السياسية والعاطفية. مشبوهٍ يظهر ويختفي, يتنقَّل بين المهرّبين ورجال الشرطة, بين المخبرين واللصوص, بين العشيقات والإعلاميين والكتّاب. تدور أحداث الرّواية حول جريمة قتل ليجد القارئ نفسه أمام متاهة ..
سلسلة من الجرائم والأحداث المتتالية والعديد من شخصيات تعاني في أغلبها من اضطرابات نفسيّة وسلوكية يجمع بينها انتماءها لعالم المهمّشين حيث الجريمة والعنف والدّعارة. لم يعتد القارئ العربي ولوج عوالمها الغامضة
هي رواية نتبيّن فيها قلب القيم منذ الافتتاحيّة التي نقف فيها على مَشهَدية باعثة على التهديد والخوف: حضور مخبرين والبحث عن جثّة كلب على نحو مريب.
يتّحد هذا الموت التراجيديّ والعبثيّ للحيوان مع الحدث الرئيسيّ: اختفاء الأبطال والمسدّس ثمّ الوصول عن طريق الصّدفة إلى الخيط الأول للرواية من خلال: اكتشاف يوميّات صّحفي يحقق في قضية انتحار كاتب أميركي بكاليفورنيا.,
وحشّاش فلسطيني يتنقل بين عواصم العالم,
- و"سيستام" قديم يستعيد نفسه بمُخبريه وضُبَّاطه
تشعر بالرعب وأنت تتوغّل في الرواية, صور الجثث والجيف والدماء والكلاب والذئاب والخنازير والأفاعي والقذارة والنتونة. تحاصرك من كلّ جانب ين الصّفحات. جثّة خنزير مذبوح تؤثّث يوميّات يوسف غربال, في رمزية على استباحة المحرّم والمسكوت عنه. يهرب كلبٌ بخصيتيْ علي كلاب, ويقطع كلابُ المحقّق إصبع قدم الصحفيّ وتملأ جثث الكلاب التي قتلها السوق المركزيّة,.
يسود قانون الغاب في عالم السرد, نحن في غابة يتباين سكّانها "أصبحنا نسمع عن كلاب راقية وأخرى منحطّة"
البيريتا, علي كلاب, بيّة, يوسف, مريم, ملاك, ستيلا, الحشّاش, عائدة, جبّار, ولاس, الأسترالي... شخصيّات لا تنتهي وحكايات متشابكة في مغامرة سرديّة بين الحوار والسّرد وصخب الأصوات والمونولوج والكلام المسجّل على الهاتف الجوّال.. واليوميّات المكتوبة والصحف المتناثرة... كلّ هذا يجعل من الكتابة حالة من الجنون الإبداعي بعيداً عن النّمطيّة. تمرّد حقيقيّ ونقد لاذع للبنية الرّوائية المألوفة وخاصة لمفهوم البطل والحبكة.
الخيط النّابض بين كلّ هذه الأحداث والشخصيات, هو البيريتا الذي حسب العنوان المخاتل "يكسب دائماً".
هو في حدّ ذاته دلالة فيضعنا الكاتب أمام كم من الأسئلة الجوهرية ويحفزنا على الغوص في متاهات العتبات و المتن
***قراءة في العتبات وفي متن و شخصيات الرواية.
/ قراءة في العتبات النصيّة:
***أ*** قراءة في عنوان رواية " ألبيريتا يكسب دائما"
العنوان هو أولى العتبات تأخذ بالقارئ للإبحار به في عالم النص وتكشف مدى وعي الكاتب بقضاياه, وهو من عوامل الإثارة والحيرة والتحفيز على خوض مغامرة النصّ فيكون مربكا ومحيّرا كما ذهب إليه " باختين " لذلك لا يوضع اعتباطا لأنّه من الدلالات الفنية, قيمتها تُتّخذُ من خلال علاقتها بالنصّ. لذلك اهتم النّقاد بالعتبات ودلالاتها على غرار الناقد الفرنسي" جرار جنيت ".
العنوان إذا هو بمثابة الهوية للنص وهو أيضا قصْد... واستدلال".
على ضوء ما تقدّم نقراُ عنوان رواية كمال الرياحي "ألبيريتا يكسب دائما" لنقف على ما في هذه العتبة من دلالات صادمة وإغراء مُلفت.
" ألبيريتا يكسب دائما" عنوان هذه الرواية المثيرة عتبة نصيّة أولى مربكة, مُخاتلة, تُغري بفتح شهيّة المتلقي لسبر أغوار المتن واقتحام مجاهله و تدغدغ نوازع الشرّ فيه ومن هنا يطرح المتلقي عدّة تساؤلات وهو إزاء هذا العنوان أيّ دلالات يحملها البيريتا؟ وما هي وظيفته الإغرائية بالنظر إلى المتن.
العنوان ورد جملة اسميّة مركّبة تكوّنت من:
* نواة إسناد أصلية “البيريتا” مبتدأ وهو اسم مشتق من الكلمة الإيطالية (Beretta) وهو نوع من الأسلحة الناريّة نسبة لمُصنّعها بييترو بيريتا وقد ورد تعريف هذا السلاح في الصفحتين 130-131 من الروايةِ، تعريفا مُفصّلا ودقيقا
* ومسند: ورد تركيبا إسناديًّا فعليّا تكون من فعل (يكسبُ)
*ونواة إسنادية فرعيّة = (دائما) : مفعول مطلق.
عنوان أحال دلاليًّا على منطق القوّة والبطش والظلم, البقاء للأقوى وغياب العدل وهو المنطق السائد في تونس بعد الثورة. وهو ما دلّ عليه التركيب “يكسبُ دائما”. للعنوان دلالة سيميائية تحيل لدى المتلقّي مفهوما للكسب والثراء الذي لا يكون إلٌا بالعنف. كسب يكون عن طريق استعمال القوّة, قوة السلاح ومجهولون يكتسحون الأمكنة, يسطون ويسيطرون. وفي " يكسب دائما " معنى الانتصار و أيضا النشوة والمرح. صياغة صارخة مقصودة تعلن أنّنا أمام بيان نستشرف من خلاله انتصار منطق الجريمة.
والعنوان أيضا هو البيان الذي نستشرفُ من خلاله النهاية. ففي هذه الرواية علاوة عن كونه يُشكّلُ العتبة النصيّة الأولى التي تُغري باقتحام مجاهل النصِّ فإنّهُ كذلك يُشكّلُ منتهاه في المشهد الأخير من الرواية
كتب العنوان أسفل رقبة الصورة باللونين الأسود( لون العتمة) والأحمر( لون الدم والجريمة) بعد اسم المؤلف الذي كُتب بلون البياض الناصع مشعّا على محمل أسود أعلى رأس صورة الغلاف تحقيقا لبعض التباين الضوئي يُمكن أن يكون استشرافا لدور المثقف في زراعة الحلم والأمل في أفق عالم مهمّش.
فمنذ العتبة النصية الأولى يضعنا الكاتب في عوالم الجريمة والقتل والرصاص في تونس مابعد الثورة.
"البيريتا" عنوان الرواية, هو أيضا بطل رئيس من أبطال الرواية .
*** ب ***قراءة في صورة الغلاف
هي صورة ثلاثية الأبعاد تغطّي غلاف الرواية تنتمي إلى الفن التشخيصي الحر
تزاوج بين اللونين الأسود والبرتقالي على محمل أحمر وهو اللون الطاغي..
اعتمد الرّسام فيها على تقنية " التذكير " لاضفاء وحدة فنية على اللوحة
* تجسّدُ الصورة:
*رأسا شعره على هيئة مسدس أسود اللون بارز يقترن أساسا بفكرة القتل.
وجهُهُ غير واضح السّمات, فَمُهُ في شكل ندبة مُخاطة باللون الأحمر أحكم بها الرسام غلقها( في رمزية لإغلاق باب الحوار / هيمنة لغة العنف وإذا تبيّنا أن الرسّام اعتمد اللون الأحمر لرسم زناد المسدّس(موقع الأذن في الرأس) نصير إزاء علاقة سببيّة إذا فتحت فمك ضغطتُ على زناد مسدّس. فألبيريتا" تحتلّ موضع الدماغ رمز العقل وسمة التفكير وتتحكم في وظائف التعبير وتحيلها إلى عنف وقتل, اغتيال, انتحار... هي فكرة لازمت كل الشخصيات التي تناوبت الحضور داخل النص. شخصيات مبرمجة على الجريمة والعنف والقذارة (علي كلاب، ستيلا، دجو/يوسف غربال، دايفيد).
بعين واحدة, إمعانا في السوداوية على شكل رسم لولبي خطوطه دائرية سوداء, تتوسطها حدقة مفتوحة ببياض مشع دلالة على وضوح الرؤية أمام فوهة المسدّس (للقنص), تحدّد بدقة وجهة الطّلق الناري للمسدس المنتصب مباشرة فوق الرأس ويحتل أيضا الجبهة, تترصد المحيط الخارجي الأحمر. تمسحه بجرأة وتوثب. في إحالة إلى الدّماء والقتل وما يجعل من هذا الشخص عدائيا لا يرى إلا دوامة القتل والدماء ويستبطنها ويعيش على وقعها.
أنفه دقيق يتوسط الوجه. بروزه ملفت. دوره محوري في الكتابة الروائية في وقت عطّل فيه المسدّس وظائف الدماغ وتوقفت حركة التفكير على الجريمة. فكان الاعتماد على حاسة الشمّ لتأسيس" سرد روائي يُكْتب بالروائح المتعدّدة التي تعبق بها الرواية فهل يّحطّم الرياحي أوثان الرواية المكتوبة بالأصابع والدماغ " كما ذهبت إليه الكاتبة والشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم في مقال لها صدر في"رمان زمان"بتاريخ 17مارس 2020 , عنوانه: الكتابة بالأنف..." ألبريتا يكسب دائما" لكمال الرياحي بين السوقية والمخيال الشّمي", والتأسيس لكتابة روائيّة، هي كتابة بالأنف فيفتح عالم عريض من الأسئلة حول مفهوم الكتابة؟ وعبر هذا المخيال الروائحيّ تُثار جدليّة الغواية والهلاك".
* في الصورة أيضا نجد النصف العلوي من جذع رجل, غير واضح التفاصيل والسمات ميزه اللون البرتقالي لا تبرز منه سوى آثار جروح مرتوقةٍ، في مستوى الفم والرقبة والجذع.
رتوق قديمة يرمز لها اللون الأسود وأخرى جديدة خضراء وحمراء تتجدّد بتواتر العنف.
تمّ اعتماد اللون البرتقالي في رسم البَشَرَةِ في دلالة لاغتيال العاطفة الهادئة واستنابت العنف والجريمة مكانها.
وردت الألوان هنا في سيميائيّة تهيّئنا لدخول عالم الرواية الذي تحكمه تيمة القتل وهو ما يحملُ إيحاءً بما أشار إليه العنوان وبما قد يجده القارئ طيَّ النصِّ.
نتبيّن فمنذ البداية أنّ الرواية نصٌّ شرِّير, حرفه متوحش عن الفوضى, عن الشر, عن الغضب، عن العنف عن الرصاص و، عن الجسد, عن الجنس عن الروائح والفجاجة, عن الثورة ، عن الاغتيالات السياسية، وعن الأدب و عن حياةٍ سائبة كحياة الكلاب التي يطاردها "علي كلاب" أحد أبطال الرواية الرئيس. هذه الحياة السائبة هي التي يُطاردُها البيريتا’ المسدس المحرّك الأساسي لأحداث الرواية.
رواية تسعى, في لعبة سردية سوداوية’إلى إعادة كتابة تاريخ تونس ما بعد الثورة،"
تونس المتوحشة"
عالم الجريمة من العوالم الأكثر حضورا في مشروع الرياحي الروائي
/قراءة في المتن
الرواية هي متاهة يدخلها القارئ بمحض إرادته دون أن يملك القدرة على الخروج منها
تدور أحداثها حول جريمة قتل, فيجد القارئ نفسه مورطا في البحث عن المجرم, يقحمه الرياحي في شبكة من العلاقات المشبوهة مع شخصيّات تعاني من اضطرابات نفسيّة وسلوكيّة. عالم من المجرمين والمشبوهين ويخيل إلينا في كلّ مرة أنّ أركان الجريمة قد اكتملت, لكننا نصطدم بجديد يقلب الحسابات. لأنّ خيوط اللعبة بيد الكاتب يحركها كما يريد ليزيد في تعقد الأحداث فنكتشف أنّ الجريمة جرائم. وكلّ حكاية هي جزء من قطعة "بيزل"
جديدة تنضاف إلى اللعبة التي تحمل صورة جريمة كبرى, هي في الحقيقة جرائم مبعثرة ومتناثرة في الرواية يرشدنا إليها صوت البيريتا وبقايا بقع دم متخثر."
تحقيق يقوده علي كلاب في قضية غامضة، ويسعى طوال الرواية إلى ربط أجزائها عبر البحث في شواهد جمعها من الشقة المشبوهة، تسجيلات ومذكرات. فالمحقّق علي كلاب يبحث في جريمة قتل.
عمد الكاتب أثناء التحقيق التعرّض إلى سيرة مسدس يتنقل و يبثّ الرّعب عندما يقوم بقتل الكلاب والتنكيل بجثثها وتركها تتعفّن أمام الجميع بل يستمتع أيضاً بالتقاط الصور معها.
تنمو شخصيات مختلفة أثناء التحقيق
ملازمون يحققون في قضية وهم أيضاً متهمون بجريمة سرقة البيريتا وتدور حولهم الشبهات.
بيّة شخصيّة غامضة شاهدة على جريمة قتل ومتورّطة أيضاً في جريمة الافتراء على الملاكم أو رجل الحمام. ثم حاضرة في جريمة اغتيال شكري بالعيد.
تحضر الحيوانات كشخصيات حية عبر الكلب فوكس، والذي يجمعه حوار في الشرفة مع الصحفي يوسف, الذي يحرّضه على الانتحار بواسطة "ألبيريتا".نجد أيضا حماماً، ثعباناً عصى سوداء... جنساً بطعم الموت، خيانات، و اقتل وعنف".
يتنقّل "البيريتا" بين عوالم الرّواية حيث اللّصوص والشّرطة وكذلك العشيقات والإعلاميّين والكتّاب... ويتحوّل إلى شخصيّة تراجيديّة يجعل منها الكاتب كائن حيي ينسج عوالم جديدة مزعجة بين الواقع والمتّخيل بسببت تواتر الاحداث بنسق سريع
البيريتا الذي استخدمه علي كلاب لقتل الكلاب وفي واحدة من غزواته فقده. غير أنّ البحث يتواصل وكأنه يعلن عن عودة السيستام الضال بعد الإطاحة به.
العودة ستكون بأكثر الرموز شراسة من خلال شخصيّة علي كلاب ضابط من النظام القديم الذي"أصبح لا يطاق" كما جاء على لسان أحد الملازمين الذين يعملون معه. عودة مشوّهة لأنّ الزمن تغيّر بعد 14 جانفي 2011. السيستام عاد مثقلًا بالجراح ومعطوبًا.وأصبحت أكثر الشخصيّات تهميشًا تتقاسم البطولة مع علي كلاب في"أبيريتا يكسب دائما": رجل الحمام ذلك الملاكم الذي حوّله السيستام إلى رجل مقعد لأنّه حاول فضح خفايهالقذرة.
رغم أنّ علي كلاب, بدأت اهميته تتر مع تلاشي جسده نفسه(مثل بطل رواية دونكيخوط لسارفونتاز), يثقبه دائما لقيْس مستوى السكر لديه.جرح نفسه حتى تسيل الدماء، يتضرر لكنٌه يعودى بسرعة بنفس العادات لكن جنونه لاينتهي.
علي كلاب يتسبب في بتر جزء من تونس عندما تسبّب في بتر رجْل رجِل الحمام بالتعذيب والكذب. "رجل الحمام داخل الرواية، يتمكٌن من مسك بخيوط اللعبة ويتموقع من جديد".
من ضحايا علي كلاب أيضا الصُحفي التونسي “يوسف غربال” /”دجو” تسبّبَ علي كلاب في بتْرِ إبهام ساقهِ اليُمنى عندما نشرَ مقالا بجريدة “الواشنطوني العربي” يتحدّثُ فيه عن السّلاح المُستخدم في جريمةِ قتلِ الشّهيد شُكري بالعيد فتمّ اِتّهامه بالتّخابر مع جهات أجنبيّة وكان علي كلاب هو من حقّق معهُ لنفْهم بذلك سرّ الجوارب الكثيرةِ المنشورة فوق حبل الغسيلِ رغبةً من “يوسف” في إخفاء إبهام ساقه المبتور.
يوسف غربال من الشخصيات التي تواجه سلسلة من الصّدمات والأحداث المؤلمة, يريد قتل خليلته ماري بنفس السلاح "البيريتا الملعون. ليظهر في نهاية الرّواية شبح الانتحار وأجزاء من حياة الكاتب الأمريكي ديفيد فوستر ولاس الذي يتناولها يوسف غربال, ليحرر حوله مقالات للجريدة التي يعمل بها.
تختلطُ الحقيقة بالخيال وتغرق الرواية في عالم من الفوضى. وتتقاطع الشخصيّات وتتوالى في سينمائية مشهدية نرى فيها انعكاسا لصورة الكاتب الأمريكي وامتدادا له.ِ
بتناقضاتها وجنونها وإبداعها مثّلت شخصيّة يوسف غربال مثالًا لاغتيال الصحافة وحريّة التعبير والحلم والحياة وتُصوّر حجم الجرائم البشرية التي تُرتكب في حقّ المواطن والوطن تحت شعار تطبيق القانون
لذلك العملية السردية في الرواية أشبه بعملية غوص في الجسد السردي من مستوى إلى الآخر، بطريقة ذكية صاغها الكاتب لكنّها تتطلب كثيرا من الخبرة والفطنة للوصول إليها
*** الخيال وجه آخر من الرواية
الخيال وجه آخر من الرواية: مع سيرة حياة هذا الروائي الأمريكي الذي انتحر سنة 2008 وهو في قمة العطاء والشهرة فانطلق كمال الرياح من سؤال صديقه "جونثان الذي رثاه سائلا": مابك يا رجل" ليبحث في القضية، هل هي موت أمانتحار؟ يحاول يوسف غربال, بطله المهوٌس بدايف، عبر يومياته التي يكتبها بآلة الكاتبة الرخيصة, أن يكتشف سبب انتحاره. قرأ كل شيء عنه دون جدوى, بل أنه دمّر حياته, وطلقته زوجته التي خانها مع صديقتها, ووصل إلى حد الجنون, لكنه لم يتمكن من تخيّل سيناريو لانتحار الكاتب الشهير, في ذات الوقت لم يجرؤ على الانتحار بالرغم من أن ألبيرتا أمامه على الطاولة يحدّق به.
فوالس وغربال كلاهما يعاني من كابوس الخيانة، التي تؤرقه فتنعكس على استقراره النفسي واليومي. هوس بالانتحار لحياة أخرى بدون هواجس.
تتقاطع الصّراعات وتنمو كل الشخصيّات داخل الرواية فيتسارع النسق السردي وتتوسّع شبكة العلاقات بين الشّخصيّات. فلا يقدم لنا كمال الرياحي صورة جريمة عادية كما نشاهدها في أفلام الجريمة, وإنّما نحن إزاء جريمة من نوع خاصّ يلعب فيها الخيال دورًا بارزًا,
فالنص السردي يوهمك أنّ الأحداث قد حصلت فعلًا, فيصبح القارئ طرفًا في هذا العالم المليء بالقتل والدماء وبتصاعد وتيرة العنف, وتتوفر كلّ القرائن ولكن لا أحد يقوى على محاسبة المجرم هو أشبه بهذا الواقع الذي نعيشه اليوم عالم من الفوضى " الخلاقة"
كل شيء حقيقي في هذه الرواية ومزوّر في آن. إنّها القدرة على بث الشك في كل شيء
يظهر االتّخيّل في الرواية كأداة لمحاكمة الأحداث المعاصرة والمحكي وكتابة الروائية فنتساءل هل هناك اختلاف بين "حكايات المخيلة" وتلك التي تدعي الواقعية؟
حضور والس في نص الرياحي يحيلنا إلى رؤيته للرواية التي ، فهو ينزع عن النصوص جديتها وخصوصيتها التي تصنف إثرها كـ"واقع"، وكأن عمل المخيلة يعني إعادة كتابة حكايات العالم، فلا أحد يحتكر الحكاية أو شكلها الذي تسرد ضمنه.
ويبقى الخيط الناظم بين مفاصل العمل السردي هو "ألبيريتا",هذا المسدّس الملعون الذي جعل منه السيّد الرياحي شخصية من الشخصيات المحورية في الرواية يجوبها من كلّ الجهات تماشيا مع اتجاه السرد الذي " يولي أهمية للشخصية مهما كانت طبيعتها طالما أنّ الشخصيات ليست إلّا كائنات ورقية يحدّد الكاتب موقعها. وقد يعيد بعثها من أعمال سابقة:
" علي كلاب" شخصية يعيد الكاتب بعثها من رواية " الغوريلا"وهو المتهم بقتل غوريلا الساعة. شخصيات أخرى يعيدها أيضا كستيلا من " عشيقات النذل"و يوسف غربال", شبيه كمال اليحياوي في رواية "عشيقات النذل" أيضا
رواية "البيريتا يكسب دائمًا" هي قراءة للمشهد العام في تونس ما بعد الثورة:
هي تونس الاغتيالات والجرائم التي ما زال البحث فيها جاريًا لمعرفة الجناة الحقيقيين على الرغم من أن أداة الجريمة معروف مصدره مسبقًا، فهو ذاته ألبيريتا, المسدّس الذي أُسقط
به الزعيم اليساري شكري بالعيد والقومي محمد البراهمي وقد تضاربت الأخبار حول هذا السلاح وحول تقرير تحليله البالستي.
لا تزال حقائق الاغتيال مبهمة إلى الآن، ولا تزال وزارة الداخليّة التونسيّة تنكر امتلاك عناصرها لهذا السلاح.
اغتيال غيّر مجرى أحداث الثورة وتاريخ تونس المعاصر لتبدأ بعده حرب شرسة على مستويات عدّة إيديولوجيا واجتماعيا وسياسيا. أمام مُماطلة الجهات المعنيّة والقضاء. غموض استند عليه الكاتب لسرد أحداث الرواية وحبكها جاعلًا منها puzzle من أجزاء متقطّعة، وحثّ القرّاء على جمعها وترتيبها لفكّ طلاسمها
يعيد السيّد الرّياحي كتابة منعرجا هاما من منعرجات الثورة . ويمسك بمسألة حساسة جدا يطلقها كما سبق وأطلق المشرط قبل سنوات, فرواياته الثلاث السابقة ويومياته كلها أعمال في نقد الواقع السياسي التونسي تأتي, متمّمة لمسار إبداعي كان انطلق فيه منذ سنوات موسوما بالجرأة والثورة على المضامين والأشكال ولغة السرد والحبكات التقليدية للرواية ، وهو مشروع روائي يكتب تونس الحديثة والمعاصرة بأسلوب موغل في التمرّد والخروج عن المألوف.
لذلك لا تُقرأ رواياته كنصوص منفردة معزولة عن بعضها البعض وإنّما في سياق قرائي متشابك ومتواصل مستمد من أحداث مفصلية في تاريخ تونس التقطها في لحظة فارقة بكلّ تفاصيلها, لوّنها بالخياله الذي يوهم هو ذاته بالواقعية. "الخيال يمشي معنا وينام معنا ويقلّب معنا صفحات الجرائد" كما يقول الكاتب في سياق آخر فكلّ ما في الرواية ينبئ بواقعيتها: في الامكنة والازمنة والشخوص والأحداث.
*** كمال الرياحي يبني ضمن مشروعه السردي مفهوماً جديداً للرّواية بعيداً عن النمط السّائد للرّواية العربية.
كمال الرياحي يبني ضمن مشروعه السردي مفهوماً جديداً للرّواية بعيداً عن النمط السّائد للرّواية العربية.
رواية الرياحي "ألبيريتا يكسب دائما هي رواية ما بعد الحداثة التي تتناول مواضيع شتى منها:
"فنّ الرواية ذاته, الذي يصبح موضوعا رئيسيا, فطوال صفحات الرواية يسائل الراوي الكاتب فنّ الرواية ويناوره بشتى الطرق, محاولا التّعرّف عليه واكتشافه كفعل جديد ملتبس مع الواقع إلتباسا كبيرا, لكنّه ليس سوى تخيّل" كما بينه الكاتب نفسه في مقال صدر له حديثا حول رواية" احجية ادمون عمران المالح" للروائي المغربي محمد سعيد أحجيوج عنوانه" ما بعد الحداثة والمسألة الفلسطينية" الصادر في آخر نوفمبر 2020 ب "اولترا صوت"و يظيف ان من علامات ما بعد الحداثة "أن الحدث في الرواية حدث متحرّك بين الوقوع الفعلي وعدم الوقوع أو الوقوع بشكل مختلف", ف لأنٌ "الراوي يكذّب نفسه كلّ مرة بعد أن يقنعك بالحدث. يشقى في نحته وتركيب عناصره وبجرّة قلم يطيح به ليبني فرضية جديدة هي الأخرى مهدّدة بالتفكيك... في حركة دائرية"
تندرج رواية "ألبيريتا يكسب دائما" في سياق هذا المشروع. وتعبٍّر هذه الرواية عن
رؤية كمال الرياحي لفعل الكتابة. هي كتابة متمردة ثائرة على الفساد بمختلف وجوهه في السياسة والاجتماع والثقافّة... تسبر أغوار الذات لتكشف منابع الشر فيها.
يكتب الرٌياحي منتصرا للمهمشين ولضحايا منظومة سلوكية نمطية ليخرج انا جمالا مختلف هو جمال القبح الساكن فيها.
الرّياحي يتجاوز مفهوم الرواية الواحدة في"ألبريتا يكسب دائما" نجد أشكال سرد مختلفة في النٌص: الرسائل، اليوميات،تحقيقات بوليسية، الهلوسات، رسائل الانتحار، والمقالات الصحفية، يدخلها الكاتب في مختبره السردي ليلوكها شخوصه ثم يتجشٌؤونها معجونة برائحة الرّصاص وسيرة مسدّس الاغتيالات في تونس...
فألبيريتا هو اللغز والمفتاح في الرواية منذ 2013. أين يتنقل تتأجّج نار العنف والجريمة, بالسلاح والرصاص. وبقتل الحيوان والإنسان, ويعبق المكان برائحة بالجنس الرّخيص, بمحاولات الانتحار وبتر الأعضاء والخيانات. في هذه الرّواية . فالكل يواجه خطر الموت ،الفاعل والمفعون به الجلاٌد والضحية.
في" ألبيريتا يكسب دائما" تتعدد الأصوات. فالراوي لا يُحكم قبضتهُ على السرد بل يُفسحُ المجال أمام عديد الشخصيات لسرد أجزاء متفرّقة من قصّة المسدس الضائع، حتى اكتملت قصّة فكّ اللغز. هذه القصص الفرعية كشفت لنا عن شبكة من العلاقات المعقدة أحكم الكاتب رسمهاوبناءها وفق نسق مُربكٍ وطريف وممتع. " فيُمكنك قراءة صفحات تختارها بطريقة عشوائية وبدون نظام أو ترتيب يُيدّل ترتيب الصفحات داخل النص. وهو ما يُحيل إلى تكسير الحبكة والموضوع والمكان ويتعدّد الأبطال. و يجعل الحبكة مثلا لا تتطوّر بشكل واقعي ومتسلسل وإنّما بشكل " وحدات من أحداث وظروف" ويجعل الحدود التي تفصل العالم الحقيقي عن عالم النصّ تنهار. وذلك إمّا بدمج الكاتب مع النص, أو بضمّ شخصيات تاريخية للنصّ المتخيّل.
و"هي تقنية سردية تقوم على "فكرة التداخل النصوصي بين حكايات تفضي إلى معمارية سردية واحدة وهي في عمليتها السردية هذه لا تعني تشويش ذهن القارئ، إنما تعمل على خلخلة التسلسل المنطقي للمروي عن طريق الانتقالات السردية أي التنقل بين القصص الفرعية التي يجري الربط بينها عن طريق تناظر مجموعة من الأحداث المتشابهة ويتم في هذه الانتقالات تناول أحداث معينة في حياة الراوي وباقي الشخصيات وهو أسلوب السرد الما بعد حداثي أوما يُسمي "أسلوب الميتاسرد"" كما ذكره رنا صباح الخليل في مقال له عنوانه الاشتغال على الميتا سرد في رواية " الساحر العظيم" لامجد توفيق الصادرة نشرية إلكترونية " وكالة الصٌحافة المستقلة
فالرياحي أقحمنا في عالم من الفوضى المربكة الخلاقة للعنف والجريمة أقرب ما تكون من واقعنا المعاش لتونس ما بعد الثورة لكن بأسلوب إبداعيّ يغلب عليه الحوار. الذي مثّل عمود الرواية ويحلّ محلّ السّرد, منذ الأسطر الأولى يكتسح الحوار المتن، فتنطلق الشخصيات في الكلام بلغة تتناسب والشخصيات المختلفة داخل المتن, والتي تنبع من بيئات متباينة بين مثقفين ومهمّشين. تسكن الحيّز الزمنيّ والمكانيّ للرّواية, تعبّر عن مشاغلها وهواجسها, تثور وأحياناً تنهار بلغتها الخاصة بعيداً عن النّفاق الاجتماعي والاحكام الأخلاقوية . فالشخصيات وليدة واقعها تنتمي إليه وتعبّر عنه بكلّ تلقائيّة عن ذاتها وتناقضاتها في مربع العنف كأنّك تشاهد عملاً سينمائياً.
فعبر الحوار الباطني يغوص الروائي في أغوار الشخصية
وهو أسلوب خاص تميز به الكاتب عبر مسيرته السردية, إذْ يجعل اعماله تتماهى مع المشهدية السنمائية في تفاصيلها ودقتها وتقنيتهاً فقطع مع البنية التقليدية للرواية العربية.
في الرواية نرى تمرّد الشخصيات على المجتمع يتناغم معها تمرّد الكاتب على الأسلوب الرّوائي التقليديّ. تتابع الأحداث وتتشابك, يزجّ بك الكاتب في بحرٍ من التفاصيل وتأخذك الحوارات ويغيب السرد.
هذه الرّواية جملية متفرّدة في الرؤية والأسلوب الماتع تتداخل فيها الأجناس وغابت فيها الرّتابة شكلاً ومضموناً
في حركة
دائرية فنلتمس في"ألبيريتا...", أسلوب الميتاسرد المشحون بالتشويق وبالحكاية رغم لعبة التجريب والهدم والبناء فالراوي هنا قادر على رواية الأحداث بطرق شتى ومتناقضة
لا تقدّم حقيقة واحدة ولا خطا سرديا واحدا يمكنه أن يفضي إلى نتائج, إنّما هي "فوضى التداعيات الحرّة التي تصنع ذاكرة مخترقة بذاكرة أناس آخرين وتصوّراتهم عن الذات ومسارها, ولكن كل ذلك يتبناه الكاتب, فالراوي نفسه لا يسرد شخصا غيره كجزء من ذاكرته كما ذكره الرياحي في مقال ذكر سابقا.
"ألبيريتا يكسب دائما" رواية منخرطة بقوة في رواية ما بعد الحداثة في موجتها الثانية. هي وورشة لمقولاتها وأسلوبها المبني علي التشظي والفوضى الزمانية" للأحداث, اوما سمى بالماضوية, وبحثها واستثمارها للماضي الشخصي والجمعي و"البارانويا لشخصيات تعيش عدم الثقة وتعارض السكون والثبات وهو ما يعمٌق ارباكها لأنّه لا يقين شامل،
وإقحام الكاتب فيما يسمى بالتخيّل الذاتي وأساسا لعبة التزوير والتحريف للامكنة و الأزمنة والشخصيات باستعمال تقنية ما يُسمى ا"لدوائر العدائية" وهذه الدوائر تعبر عن "انهيار الحدود التي تفصل العالم الحقيقي عن عالم النص كما بينا سابقا. وذلك إما بدمج الكاتب مع النص، أو بضم شخصيات تاريخية للنص المتخيل , إقحام" التجزيء " والذي يحيل إلى تكسير الحبكة والشخصيات والموضوع والمكان, فالحبكة على سبيل المثال، لا تتطور بطراز واقعي أو متسلسل, وإنما بشكل «وحدات من أحداث وظروف)
ترتبط أيضا بالصدفة في قراءة النص (مثلاً قراءة صفحات تنتقيها عشوائيًا وبدون ترتيب أو نظام, أو برنامج يبدل ترتيب الصفحات داخل النص)أو ما يُسمى بالارتباط الضعيف" وهي اساليب وردت في مقال بعنوان" ادب ما بعد الحداثة ( مجلٌة فكر الثقافية الايلكترونية اكتوبر 2020)
كما تؤكّد الرواية انخراطها في تيار ما بعد الحداثة بعملية ادماج الأدب الشعي بالأدب العالي فاستفاد اسلوبها من منجز الرواية العالمية. ومن افكار الحداثة والتجريب في السرد الطويل.
"البيريتا يكسب دائما" نص سردي يكتب بشكّ كبير في كل شيء تماما مثل رواية " احجية إدمون عمران المالح التي كتب عنها الرياحي، انٌها تعتمد تقنية "انقلاب العين" " لقراءة السائد من القيم والأفكار و"الحقائق" باعتباره أنّ الأدب غير بريء ومذنب. فهل تجوز محاكمة الأدب والأفكار؟
كمال الرياحي جعل من منجزه الروائي نصاً ملغماً بعلامات الاستفهام المستقاة من المتخيل السردي الماضي بأفكاره وأحداثه وعلاقته بما يحدث في الحاضر مستثمراً مدوّنة ضخمة من خلفيته المعرفية ليرسم لنا بصيغ سردية"خلطة اعجيبة ولذيذة فيها الماضي بمختلف تمثٌلاته وواقع اجتماعي وسياسي حاضر متازم عصيب.
شكرا بحجم المتعة المشتهاة كمال الرياحي الذي جعل الكتابة في "أليريتا...." معول للحفر في واقع تونس ما بعد الثورة": فهي شهادة هامّة من مثقّفٍ شخٌص الواقع و حلٌله ونقده في مرحلة تتنازعها التجاذبات من كل صوب.
نعيمة الحمامي التوايتي/ اديبة من تونس

قراءة نقدية في قصيدة الشاعر "محمد وهبة" "وفاء، الحزن" تحت عنوان " احتفال بالحزن" بقلم الناقدة الدكتورة مفيدة الجلاصي

كتبت الشاعرة التونسية الدكتورة مفيدة الجلاصي

قراءة نقدية في قصيدة الشاعر "محمد وهبة" "وفاء، الحزن" تحت عنوان " احتفال بالحزن"
1 _التقديم :
"وفاء، الحزن" قصيدة نثرية للشاعر
اللبناني "محمد وهبة" ويمكن ان نصنفها في في اطار الشعر الرومانسي بطابعها الوجداني الذي غلب عليها ان شكلا او مضمونا
في تركيب العنوان ودلالته :
"وفاء الحزن"
ورد العنوان في تركيب إضافي تكون من :
_ مضاف وهو" وفاء،: مصدر من فعل" وفى" وهو أصل الصدق وكل صدق فيه وفاء، وهو أيضا الإخلاص والاعتراف بالجميل والمحافظة على العهد والوعد وهو نقيض" الغدر، "
_ مضاف إليه : الحزن وهو مصدر من فعل حزن نقيض، فرح
والحزن ألم نفسي او ما يعتري النفس من شعور بالبؤس والعجز والأسى والكابة والياس والغم
وهي مشاعر سلبية لما لها من تأثيرات على نفسية الفرد إذ تجعله قليل النشاط منفعلا عاطفيا وانطوائيا ولذلك قد يصاحب الحزن أحيانا بالبكاء
ان هذا العنوان "وفاء الحزن" الذي تخيره الشاعر وهو عتبتنا للقصيدة يشي بعدة دلالات اهمها ما تضمنه من طرافة في المعنى من حيث ما يحمله من أبعاد فنية ومضمونية بكل ما يستبطنه من رمزية موحية بمعان يقصدها الشاعر مرتبطة بعملية التلقي للقصيدة في عملية التفاعل القرائي والفهم التأويلي الذي يدفعنا للتأمل العلاقة بين مادة العنوان وخبايا النص في مستوى الدال والمدلول بكل ما يوحي به سيميائيا في وظيفته الايحائية والتأثيرية ومن رمنا البحث في القصيدة محاولين تقديم قراءة نقدية بالتأمل في مرامي الشاعر والولوج إلى عوالمه وفضاءاته واستجلاء،معالمها علنا نظفر بالعض مما تنطوي، عليه من سمات مخصوصة متصلة بذات الشاعر نفسه ومن هنا اطلقنا على مقاربتنا النقدية عنوانا هو " احتفال بالحزن"
2 الشاعر " محمد وهبة" والاحتفال بالحزن في قصيدته
"وفاء الحزن"
ينخرط الشاعر منذ بداية القصيدة في نوع من الخطاب المباشر لمخاطب بدا غريبا وعحيبا أشار اليه بنوع من المخاتلة التلميحية في قوله : كم انت / صديقي
وسرعان ما يتحول التلميح إلى تصريح تمثل في تحديد هذا الصديق.. إنه ليس،بذلك الإنسان او الشخص الذي، نعتبره صديقا وإنما هو كما يشير اليه قائلا :
أيها الحزن الوفي / تسكن ضلوعي
انه الصديق او الخل الصادق الوفي وقد استوطن الضلوع والجسد بل انه ذلك الذي تغلغل فيه ليصبح ملازما له في الحل والترحال وهو القائل : تعرفني جيدا / أكثر من نفسي / وأكثر من ذلك كما يقول :
تسلك دربي / بثقة وحرفة /
وكان بالشاعر يمجد الحزن الذي تمكن منه برغم ما يسببه له من معاناة وهو الذي كما يقول :
تخنق قلبي / بأنفاسك السوداء
وكأن بالشاعر ينخرط في بكائية حولها إلى احتفاء بالحزن الذي يمتلك من المقدرة على أن يستوطن داخله وينفث فيها من من أنفاسه السوداء التي كما قال : تجرح مزاجي / ينكد خنجرك بحقد نبرتك
تلك هي مشاعر الرومانسي التي يبوح بها شاعرنا بطابعها الوجداني وهو،يطلق العنان لعواطفه الجياشة في طبيعتها الخاصة به ليرسم لنا صورة من ذاته في عالمه النفسي وهو عالم يفوق العالم الطبيعي المألوف في تجرده وماديته فيه تتبدى الأشياء على غير المعهود لانه عالم يضبطه وفق ادراكه وفهمه المخصوصين به وقد عبر عن ذلك الكاتب الرومانسي الألماني "، نوفاليس، في قوله" إن الشعر تمثيل للشعور ولعالم النفس في مجموعه وكلما كان الشعر، فرديا وذا طابع محلي وصبغة حاضرة ذاتية كان أقرب إلى صميم الشعر "( انظر :" p. Van Tieghem "Mouvement Romantique)
وإنا هنا نتساءل هل يمكننا القول ان الشاعر يستعذبب الحزن وعو الذي، يستقبل أفكاره :عند كل مفترق / على مدار الساعة /
هذا الحزن الذي صار كما قال مخاطبا اياه :" خاويتني كظلي / حتى صفوة التعب / حتى عجز الحيلة / ومرض القدوة
ومن منطلق نفساني علمي يتبادر إلينا تساؤل اخر وهو لماذا الشاعر يستعذب هذا الحزن؟ اهو نوع من السادية التي سيطرت عليه لفترة ام تراها حالة عرضية تنتهي بانتهاء أسبابها؟ كل هذا يدعمه بقوله :
كم انت حنون الوصال / أصبحت فردا /من أفراد العائلة /
إن هذه الحالة نفسية التي وقع فيها الشاعر في نظرنا لا تعكس إلا ما يعيشه من عدم توازن القوى العاطفية لذلك نراه يعبر عن ذاته الحزينة بطريقة يتجاوز فيها المعلوم إلى المجهول لأنه ينفذ إلى تمثيل ما لا يستطاع تمثيله او تقبله في الواقع المنطقي والى رؤية الأشياء، من منظوره الخاص بواسطة خياله الخلاق الذي يصور له الأشياء على غير المألوف بكل ما يمتلكه من رعافة الحس وشبوب العواطف وهذا ما عبر عنه الدكتور الناقد محمد غنيمي هلال في كتابه "الرومانتيكية" حين قال :"لم يكن الرومانتيكي عادة بالمرح ولا بابمتفائل وإنما كان فريسة ألم مرير، بسبب الجفوة بينه وبين مجتمع لا يقدر ما فيه من نيل الإحساس ونتيجة انهيار اماله الواسعة"
ومن هنا كان الحزن طابع الرومانسيين ولعله هو السبب في عزلتهم الروحية والنفور من المجموعة او المجتمع كما نستشف، رهافة الحس التي جعلت الشاعر" محمد وهبة " يجعل من الحزن صديقا له يبثه لواعج نفسه وهو الذي كما يقول" قتلتني من شدة وفائك / وإصرار اهتمامك "
إنه الحزن الذي احترف مرافقته
وهنا يتغير الخطاب وكأننا بالشاعر يستفيق من غفوته ويراجع نفسه في لحظة من الوعي عندما يستدرك قائلا :" لكن يا صديقي / الوفاء في الحزن / جريمة وفناء / تلويث عمر /بل ظلام قلتم
ويستمر، في تعداد مساوئ الحزن الذي " يقتل رغبة الحياة" كما قال
بل انه استسلام كلي /وأكثر من ذلك فالحزن" صلاة الموت
انه إذا الفناء والنهاية
هكذا تظل نفس الشاعر وقد نالها الاضطراب فمن تمجيد للحزن إلى مقت وكره ليصرح بقرار نهائي وهو ان هذا الحزن إنما هو ظلام يضيع الدروب لينتهي إلى نوع من الطمأنينة حين يصلي متضرعا فيقول : أدعو، فيها واتضرع /
ويصبح أقصى حلمه الذي يتمنى تحقيقه :" كي يعم الهدوء / الروح والجسد/
وهكذا تنغلق القصيدة بشعور يكتنف الشاعر من الأمل في عالم يستعيد فيه توازنه الروحي والجسدي
الخاتمة :
ان دراستنا لقصيدة "وفاء الحزن" للشاعر المبدع "محمد وهبة" جعلتنا نقف على مفارقة بدت لنا جلية منذ، العنوان الذي،كما أشرنا انفا تضمن نوعا من المخاتلة المعتمدة، في الإيهام بأن الحزن وفي،للشاعر،وهذا ما أكد عليه في كل ثنايا القصيدة وهو الذي لازمه ملازمة الصديق الوفي وكل هذا كان انطلاقا من تجربته الذاتية القاسية في الحياة والتي جعلته يرى في الحزن لذة برغم ما فيه من ألم لذلك كان الرومانسي كما بين "شاتوبريان Chateaubriand له من القدرة على أن يقاسي شؤون وشجون الحياة ما لا يقدر عليه الإنسان العادي ولذلك ينعته بالعبقري لأن نفسه الكبيرة تحوي، من الآلام اكثر، من النفس الصغيرة بل إن حزنه في طبيعته العجيبة يحمل فيه بعض الأدواء ولذلك فهو يتفرد عن سائر الناس بهذا الشقاء، بإحساسه وهو حزين بنوع من الرضا كما أنه يدرك ان الالم ليس عاطفة عابرة مالها إلى الفناء كالسرور "
وهنا وجدنا شاعرنا بكل هذا التوهج الذاتي والوعي بقيمة منزلته في الوجود مهما كانت القطيعة مع العالم الخارجي،وكأنه يوجه دعوة بما لديه من بصيرة وتبصر إلى ضرورة تحمل هذا الوجود بآلامه في تسام عن الشكوى والشعور بالضعف بل في اعتداد برغم مما يعانيه من أحزان وعذابات وهنا نستحضر ما قاله :"بيرون" " قد يمكن تحمل الوجود وقد تتخذ الجذور العميقة للحياة والآلام مقاما وطيدا في القلوب المحزونة المتجردة" ،
هكذا كان الخطاب الشعري في قصيدة شاعرنا "محمد وهبة" الذي اتسم بالطابع الرومانسي الجلي وقد جعلنا نجوب مناطقها البعيدة لنستكشف المعاني والدلالات التي تاخذ بعدها الذاتي، والإنساني حيث يظل فيها الإنسان قطب الرحى ومحور الاهتمام بل هو جوهر الوجود حيث يظل الوعي بالذات في، شتى تقلباتها العقلية والفكرية والحسية المادية هو الأساس لادراك الكنه الوجودي يجوب فيه بملكة الخيال الخلاق الذي اطلق له العنان اشباعا لآماله غير المحدودة بعد أن ضاق ذرعا بعالم المادة والحقيقة والواقع المحدود
وفاءُ الحزنِ
كم أنتَ
صديقي
أيُّها الحزنُ الوفيُّ
تسكنُ ضلوعي
تعرفُني جيداً
أكثرَ من نفسي
تسلكُ دربي
بثقةٍ وحرفةٍ
تخنقُ قلبي
بأنفاسِكَ السوداءِ
تجرحُ مزاجي
بنكدِ خنجركَ
بحقدِ نبرتِكَ
تستقبلُ أفكاري
عندَ كلِّ مفترقٍ
على مدارِ الساعةِ
تلوّنُها بلونِك
خاويتني كظلّي
حتى صفوةِ التعبِ
حتى عجزِ الحيلةِ
ومرضِ القدرةِ
كم أنتَ
حنونُ الوصالِ
أصبحتَ فرداً
من أفرادِ العائلةِ
حافظتَ على صلةِ الرحمِ
قتلتني
من شدةِ وفائِكَ
وإصرارِ اهتمامِكَ
لازمتَ صداقتي
واحترفتَ مرافقتي
لكن يا صديقي
الوفاءُ في الحزنِ
جريمةٌ وفناءٌ
تلويثُ عمرٍ
بل ظلامٌ قاتمٌ
يضيّعُ الدروبَ
يقتلُ رغبةَ الحياةِ
استسلامٌ كلّيٌّ
صلاةُ الموتِ
أدعو فيها وأتضرّعُ
كي يحصلَ
كي يعمَّ الهدوءُ
الروحَ والجسدَ
محمد وهبه

نسبية الزمن ورمزية الوجود رؤية متعمقة لماهية الرموز بقلم الفيلسوف اللبناني/ سليمان جمعة لنص* شيءٌ آخر * للقاص الفلسطيني/ جمال الخطيب

 نسبية الزمن ورمزية الوجود

رؤية متعمقة لماهية الرموز
بقلم الفيلسوف اللبناني/ سليمان جمعة
لنص* شيءٌ آخر *
للقاص الفلسطيني/ جمال الخطيب
............
النص
شيء آخر ....(قصة قصيرة)
بقلم : جمال الخطيب
هي انحناءات الطريق الضيق نفسها إلى أعلى، الدرجات الحجرية، آثار مسيل المياه الرفيع في الإسفلت، حفرته الأمطار على الجوانب .
لم يتغير شيء، الحشائش الشوكية الجافة، صبغة الطحالب الداكنة على جدران البيوت العتيقة.
- أتعتقدين أننا أيضا جزء من هذا، لمجرد أن خطواتنا دقت هذا الإسفلت سنوات ؟
- سأفترض ذلك ..الزمن لم يغير المكان، فلماذا يغيرنا ؟ ..هل نحاول ..ربما كان كل ما حدث حلما مشوشا، عندما نصل المنتصف يتلاشى، نكمل إلى أعلى كما كنا ..ألا يستحق الأمر ؟؟
- هو الهدوء، وسيل الهواء الرطب، عبق العفن المنبعث من الشجيرات ..ذلك الصدأ على الأبواب الحديدية الصارمة المتجهمة.
تقطع قطة الى الجهة الأخرى .
- لنبطيء قليلا كما كنا نفعل، نلتقط أنفاسنا عند انبساط ذلك الجزء في المنحنى مجرى الهواء عاصف..كانت الريح شديدة في الشتاء، تدفعنا الى الخلف، تلتف بمعطفك، حبات العرق تقطر خلف أذنك في الصيف.
- عشر خطوات أخرى، في النقطة عند المنتصف، هناك اختفت القطة دوما، كانت تظهر في الأعلى، تنظر الينا وتغادر ..عندي يقين بذلك الآن.
- هناك شيء آخر غير كل هذا، ألا ترين !!
شيء يتعلق بنا ..
توقفت القطة في الأعلى، تنظر اليهما.
عند المنتصف تلاشى الاثنان .
جمال الخطيب اكتوبر ٢٠٢١
...........
الرؤية
السفر عبر الزمن
تصور مباح..
الزمن نسبي
اثره على المادة الجامدة بطيئا ..اما الاعمار البشرية فمسماة ..الجسد له عمر مسمى يظهر عليه التغيير فبالمقارنة يكون الطريق التي حفرت فيه الامطار والبيوت العتيقة التي علاها الطحلب قد رأها الطفل وسيصبح عجوزا وهي كما هي دون ان يشعر بعتاقتها ..
لا شيء قد تغير حيث كنا ندرج ونعيش ..فلماذا تغيرنا نحن ..؟
هل نحاول ان نجري في المكان تغييرا او في كياننا ...
حتى القطة في حركتها في المكان ما زالت هي هي لم تتغيير .
الحوار يطرح الفكرة ان الزمن ليس واحدا على كل كائنات الوجود .. قد نؤثر بحركتنا في الاشياء كما المطر ولكن ببطء ..كخطواتهم على الاسفلت...
ما الذي سمح لهم بقول هذه المقولة ..هو الجسد ..والذهاب صعودا . .هذه صعوبة حاصرت فكرتهم عن الزمن فغيرتها...
اذن
هو حلم مشوش يزورهم
اي يسافرون في الزمن الى الامام...وهم شباب وقد بلغوا سن الشيخوخة ..
هذا هو التصور فالدرجات التي تؤدي بهم حيث كانوا هناك في الاعلى ..فهل يستطيعون ان يبقوا كما كانوا ؟
طبعا لا.
الانحناءات كالتجاعيد وحفر المطر كالسنين والخطى .. العتيقة ..
ولكن ما دور القطة التي تنظر اليهم في الاعلى وتختفي ..ويقولون ان هناك شيء آخر..
هنا الذاكرة بعد السفر ..هل الشعور بالشيخوخة يضرب الذاكرة ..؟
نعم...
كيف يعودون ؟
انا اتصور هذه الرؤية للولوج في نص بني على التصور .
اذ كل نص يقرأ بالطريقة التي كتب بها الشعري بالشعري والفانتزي والغرائبي بالسيميائية وقراءة العلامات ..
عندما اطلت القطة من اعلى اعطتهم علامة التلاشي ..فعادوا من رحلتهم .. فدور القطة هو الرئي/الجني الذي يعتقدون به انه يتجسد بشكل اليف ليساعد او يؤذي ..اي ليقدم رسالة.
....
هذا القلق الوجودي يعيشه كل كائن واذا ما دخل فيه فوجد التفسير له ولو كان افتراضيا او متخييلا ..لعادت الى ذاته الثقة وهدأ واطمئن ريثما يجد تفسرا آخر..
وقد استشعر ا ذلك باثر الفصول عليهما شتاء وصيفا وكيف يتأقلمان مع التحولات ..ذلكم كان تبريرا انهما يخضعان للزمن ويتصارعان معه اذا ظهر ..وكذلك الاعمار واثرها..على الجسد وما نحاول ستر ذلك ..بالمساحيق والتجميل والازياء ..ونكران العمر وعدد سنينه..
اذن نحن في فلك زمني قد لا يشعر بنا ..ولا نشعر بالمتغيرات الا بما يخصنا.
هل نستطيع التغيير في المكان كالزمن الذي يغير فينا ..هل نستطيع ان نجعل الحلم غير مشوش؟
سليمان جمعة ٢٠أكتوبر ٢٠٢١

الناقد الأدبي / معروف صلاح أحمد يكتب: دراسة نقدية لقصيدة : ( شوارع الليل ) لسحر القوافي خولة محمد فاضل

 الناقد الأدبي / معروف صلاح أحمد

يكتب: دراسة نقدية
لقصيدة : ( شوارع الليل )
....................................................
مقدمة :
هذه دراسة نقدية لقصيدة. ( شوارع الليل ) للشاعرة لجزائرية / سحر القوافي الأستاذة / خولة محمد فاضل من ديوان ( ظلال من ريح ) ، وقد وجدت هذه ( الطلقة ) - أقصد القصيدة - منشورة في جريدة (عاجل أخبار مصر) بتاريخ الخميس 16-5 -2019
1- نص الأشتغال
شوارعُ الليلِ
أمتطِي صَهْوَةَ الشَّجَن..
أتِيهُ فِي أرْصِفَةِ الليْل..
وفي شوَارِعِ مِنْ قتادٍ ولهَب..
أخطُو على بقايَا الزُّجاجِ المسنَّنَةِ والجَمْر
أتبِعُ وجْهَكَ المُتَوَارِي خَلْفَ الحُجُب
وجْهَكَ الخرِيفي الوَسن..
وجهَكَ الوَجِيفَ في غيَاهِبِ الزَّمَن
أتِيهُ خلْفَ السَّرَاب..
أقفُ عَلى العتبَاتِ والأبْوَاب
أسْأَلُ عِنْ الخِلَّانِ والأحْبَاب..
وأسْألُ عَنْ وَطَن..
يَرْجِعُ نَشِيجُ صَوْتِي كَالنَّحِيب
أنْظُرْ حَوْلِي.. أَتفرَّسُ فِي المَدَى
فِي مَرَايَا الصَّدَى
شَوَارِعُ الليْلِ رهِيبَة..
ترتجفُ مِنْ قُرِّهَا الأجْسَادُ السَّلِيبَة
وَتلكَ الوجُوهُ المَكدُودَةُ الكئِيبَة
تلكَ الوجُوهُ العطْشَى لِقطرَةِ مُزْن
وَتلكَ البُطونُ الخَاويَةُ تَئِن..
تستَجْدِي الخُبْزَ والكرَامَة..
وتسألُ رَحْمَةَ قلوبٍ غلَّفَهَا الجَفَافُ والجَفَاءُ والعَفَن
تستعْطِفُ أصْنَامًا مِنْ صَقيعٍ ورُخَام
وعُيُونُها كَالجَمَرَاتِ تبْرقُ فِي الظَّلام
فيتصَاعدُ مِنْ أنفاسِهَا الشَّرَرُ والدُّخَان
لكنَّهَا تَتُوقُ للابتِسَامَةِ.. للمَوَدةِ والسَّلام
غريبَةٌ شَوَارِعُ الليْل..
مقيتةٌ هيَ شَوَارعُ الليْل..
يُبَاعُ فِيهَا الحُبُّ على الأرصفةِ كالطَّعَام
وتُبْتَاعُ فيهَا الشُّهْرَةُ والأحْلَام
وتُعَرْبِدُ على مَشَارِفِهَا أيَادِي الإجرَام
وتلكَ الصبيَّةُ تَبَرَّجَتْ في شَوارِع الليْل
تبِيعُ الهَوَى والعِفَّة...
لِتقتَاتَ الفُتَاتَ مِنْ فَحِيحِ الأَجْسَام
وهناك.. بَقَايَا رَمِيمٍ.. وَجِلْدٍ وَعِظَام..
تتكَدَّسُ في ركنِ الشارِعِ المُعْتِم
قد هدَّهَا الذُّلُ والوَهَن..
تخْشَى المَخْفَرَ والأَصْفَادِ والسِّيَاط..
وَتَخْشَى تُجَّارِ النِّخَاسَةِ اللئَام..
خَنَاجِرُهُمْ لا تَرْحَم..
يَبِيعُون إِربَهَا بِالدِّينَارِ والدِّرْهَم..
وفي رُكْنِ الشَّارِعِ المَهْجُور..
الغَائِصِ في البُؤسِ والدَّيْجُور..
تُوأَدُ آلافُ الأَحْلَام..
يُنْفَى منْهَا العِزُّ وَالغَرَام..
وَتَغْرِسُ فِي خَوَاطِرَهَا آلافَ الأوْهَام
فالحَاكِمُ الأعْظمُ.. جَلالةُ السُّلْطَان..
سَيُعِيدُ السَّكِينَةَ.. سَيُرَمِّمُ الأرْحَام
ويُعِيدُ رَسْمَ الوَطَن..
سحر القوافي
خولة محمد فاضل
.........................................
**2- تصنيف العمل الأدبي : **
هذه الأبيات الجريئة من كتابات الأدب النسائي لشاعرة جزائرية مرموقة لا يمكن تصنيفها بأى حال إلا قصيدة نثرية من العيار الثقيل فهى أرقى بكثير جدًّا من الخاطرة وإن جاءت بعض أبياتها أو كلماتها على وزن الرجز فالشاعرة قصدت النثرية قصدًا وذلك منهج متبع عندها ؛ لأن الوزن (البحر) والتقفية يضيِّعَان منها المعانى الساحرية التى تقصدها فهى تلجأ للنثر قصدًا وتستند على الإيقاع والموسيقى الداخلية الخفيفة، فالشاعرة تعتمد على انسجام الحروف وإيقاعاتها الرنانة أو العكس إيقاع الحروف وانسجاماتها الهادئة، فعند الشاعرة ربما قصيدة النثرأجمل من قصيدة الشعر الموزون وهذه مرحلة من المراحل الكتابية فى عمر الشاعرة
وهنا يطرح السؤال نفسه متى تكون قصيدة النثر إذا تخلت عن الوزن بمستوى قصيدة الشعر الخليلي المقفى والموزون ؟؟ وتتجلى الإجابة على هذا السؤال إذا توافر فى قصيدة النثر أربعة عناصر رئيسة أساسية وهي : ( الإيقاع والمجاز والخيال والعاطفة) ، فهذه العناصر الأربعة مجتمعة معًا فيها تعويض كافٍ وشافٍ عند الشاعرة ، وفى نفس الوقت لم تفقد الشاعرة في قصيدتها أهم عنصر فى الشعر ( الوزن ) فبديله لديها الإيقاع والانسجام والتناغم الهارموني ، فموسيقى الشعر لم تفقد بالكلية عند الشاعرة ، وكذلك يعمل كل من المجاز والخيال والصور والتراكيب سواء الجزئية أو الكلية الممتدة أو المرصعة في وجود وحدة عضوية كاملة تتوائم مع وحدة الجو النفسي ، فالقصيدة مثل الكائن الحي كل عنصر من عناصرها أو كل عضومن أعضائها منسجم في مكانه ومتناغم مع غيره من الأعضاء والأشلاء الأخرى الكل يؤدي وظيفته على أجمل وأكمل وأروع وجه في إيجاز وتكثيف ولغة انزياحية معاصرة متفهمة للواقع المرئي المعاش.
** 3- عنوان القصيدة : ( شوارع الليل ) **
تلك الصورة الجزئية سواء كانت استعارة أو كناية أو تشبيه فهى تومِيء منذ الوهلة الأولى بالظلام وعوالم الخفاء المجهولة بما يحدث فيها .. فمن يمتلك ذلك العالم الخفي الذى يوحِي بالتشتت والحِيرة والضيَاع ؟ هل الكلاب الضالة والقطط والقوارض؟ أم تجار الهوى والنخاسة والصنف وأصحاب العمليات المشبوهة ؟ أم اللحم المتعري لمن يدفع الثمن ؟ كلها أسئلة تصدمك بمجرد قراءة العنوان ، وللإجابة على هذه الأسئلة نحتاج للكاميرا التى ترصد وترقب الصورة .. نحتاج للعين اللاقطة الثاقبة التى سترى وتترجم لنا ماتراه بانسيابية.. ، ولا شك إنها عين الشاعرة الفاحصة وقلمها الألمعى الذكى وذاكرتها الحديدية ، فالشاعرة ستقتحم ذلك العالم الخفِي بشجاعة وتنبئنا بما فيه بشجاعة نادرة، وتخبرنا عنه بصدق وأمانة ،وهذه جرأة تحسب لتجربة الشاعرة ، وخطوة للأمام فى الأدب النسائي أن يقتحم مثل هذه الموضوعات الغضة بشراسة .. فمن المؤكد أن الشاعرة وقعت تحت مؤثر ما وشاهدت ذلك فِي السينما أو وهيَ فى سيارتها تعبر إحدى الطرق في أي مدينة جزائرية غير مسماه شعبية أو حضارية راقية ، ويكأنِي أسمع الشاعرة تقول : ( والله مشاهد دامية درامية ترسبت فى نفسي أو كردة فعل لمشاهد مؤلمة موجعة تزلزلت بذاكرتي وآلمتني، وتكررت في أحياء كثيرة من عالمنا العربي، وتكدست في صدري ،فلله درك يا وطنِي).. وهذا ما يسمى أسباب مقولة القصيدة أو الجو النفسي العام للقصيدة .
**4- ألفاظ القصيدة وعباراتها : **
من المستحسن عند دراسة هذه القصيدة أن نقسمها لخمسة (٥) مقاطع أو محاور رئيسة ؛ حتى تكون كرحلة سهلة أو بالغة الصعوبة بيانها كالتالي :
* المقطع الأول مقطع الاستعداد ( أمتطي صهوة الشجن.
أتيه في أرصفة الليل..
وفي شوارع من قتاد ولهب..
أخطو على بقايا الزجاج المسننة والجمر .. أتبع وجهك المتواري خلف الحجب .. وجهك الخريفي الوسن..
وجهك الوجيف في غياهب الزمن )
يستوقفنى فى هذا المقطع سؤال هام وملحوظة وعدة كلمات أما السؤال فهو كيف تصل الشاعرة لشوارع الليل ؟ وما وسيلتها ؟ وما الذى تركبه لتصل لرحلتها المنشودة ؟ تجيب الشاعرة بنفسها عن هذا السؤال الحيوي وتقول : أمتطي صهوة الشجن باستخدام الفعل المضارع ( امتطي ) الذى يوحي فى طياته بالتتابع والتجدد والاستمرار واستحضار الصورة فى الذهن، ومثله مثل بقية الأفعال المضارعة الخمسة والثلاثين (35) فى القصيدة مما يوحى بأن الشاعرة قررت وكررت الذهاب لهذه الرحلة بحزن وشجن وتيه وتشتت وضياع وتفرق بوجع الطفلة التي تسكن روح الشاعرة .. تلك الروح المواجهة لكل الصفقات والخلايا المشبوهة التى تعقد فى الليل ، ولذلك لم تستخدم الشاعرة لفظ ( أتوه أو آتي في أرصفة الليل) فى البيت الثاني ، ولكنها وظفت لفظًا آخر يدل على الحيرة والضياع والفقدان والضلال وهو ( أتيه فى أرصفة الليل .. وفي شوارعَ من قتادٍ ولهب ) فيخطىء من يظن أن اللفظ (أتيه ) من الفخر وللعودة لمعاجم اللغة العربية تبين لنا صدق ذلك، وظهرالفرق بين ( توه.. وتاه وتيه ) على هذا النحو: فى القرأن الكريم نجد: ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) سورة المائدة۞ ). وفى معاجم اللغة نجد :
تَيَّهَ: (فعل)
تيَّهَ يُتيِّه ، تَتْييهًا ، فهو مُتَيِّه ، والمفعول مُتَيَّه
تَيَّهَهُ عَنْ عَمْدٍ : أَضَلَّهُ ، ضَيَّعَهُ
تَيَّهَ نَفْسَهُ : حَيَّرَها ، أوْ أَهْلَكَها
تاه: (فعل)
تاه تَيْهاً ، وتِيهاً ، وتَيَهانًا تَوْهًا وتَوَهَانًا ، فهو تائهٌ ، وتَيَاهٌ ، وتَيْهانٌ ، وتَيَّهانٌ ، وتَيِّهانٌ
تاه : تكبَّر
تاه في الأَرض : ضلَّ وذهب متحيِّرًا ، المائدة آية
يَتِيهُ مِنْ حِينٍ لآخَرَ : يَشْرُدُ خَيالُهُ ، يَضْطَرِبُ عَقْلُهُ
تَاهَ فِي مَشْيِهِ : تَكَبَّرَ....وهُوَ في تيهٍ : في ضَلالٍ
توه
" التَّوْهُ : لغة في التِّيهِ ، وهو الهَلاكُ ، وقيل : الذهاب ، وقد تاهَ يتُوهُ ويَتِيهُ تَوْهًا هَلَك .
قال ابن سيده : وإِنما ذكرت هنا يتِيهُ وإِن كانت يائية اللفظ لأَن ياءها واو ، بدليل قولهم ما أَتْوَهَهُ في ما أَتْيَهه ، والقول فيه كالقول في طاحَ يَطِيحُ .
قال أَبو زيد :، قال لي رجل من بني كلاب أَلْقَيْتَنِي في التُّوهِ : يريد التِّيهَ، وتَوّهَ نفسَه: أَهلكها،وما أَتْوَهَه .
قال ابن سيده : ( فتاهُ يتيهُ ، على هذا ، فَعِلَ يَفْعِلُ عند سيبويه) .. نقلًا من (المعجم : لسان العرب).. .
الملحوظة الهامة : ولقد لجأت للمعجم اللغوي ؛ لأن هذا اللفظ فى القصيدة كما يقولون : (مربط الفرس ..الركن الركين .. جملة المفتاح في القصيدة )، وسوف يتكرر هذا اللفظ ( يتيه ) برمته كما هو، ويبدأ به المقطع الثاني فهو لفظ مهم للغاية تبنى القصيدة كلها عليه، ويفصل بين المقطع الأول والثاني وله دلا لته وله أهميته..
بالتالي سنجد الشاعرة ،وإن تاهت وتحيرت وذهلت مما رأته فى شوارع الليل وعلى أرصفته سنجدها تثبت بعد ذلك وتتريث وتشغل كاميراتها وعينها اللاقطة خصوصًا بعدما خبت نار القتاد والشوك والهشيم وصفا اللهب.. سنجد الشاعرة ستخطو على زجاجٍ متكسرله شظايا وأسنة كالرماح تمزق الأرجل الحافية ،وجمر أحمر ملتهب متقد متأجج يحرق الأقدام القادمة .. فنسمعها تقول : ( أخطو على بقايا الزجاج المسنن ) لماذا كل هذا ؟؟ إنها تبحث عن وجه حبيب مجهول هو فى حد ذاته (وطن) نسق قريب دافىء لمشاعرها المتحيرة، وإذا وجدت هذا الحبيب المجهول الخائف المترقب الذى هو في طي اسرار الكتمان ولا نعرف عنه إلا ما أخبرتنا بها الشاعرة في القصيدة.. سوف تسأله عن نسق أكبر مختلف وهو (الوطن الكبير) لماذا أصبح الوطن كشوارع الليل ؟؟ وأكدت على هذا المعنى، وكررت لفظ الوجه ثلاث مرات (وجهك المتواري) خلف الحجب ،(وجهك الخريفي) الوسن ،(وجهك الوجيف) في غياهب الزمن ..مرة يتوراى ربما خجلًا .. ومرة أخذته سنة من النوم ربما من السهر والتعب، وعلينا أن نلاحظ الزمن في الخريف حيث تساقط أوراق الشجر ،وصارت الشوارع ذاتها عارية من الظلال وكأننا أمام حقيقة عارية لا جدال فيها ولا شك ولا لبس .. وثالثة وجهه وهو خائف وجيف يترقب ماذا سيحدث من غياهب الزمن ؟ وهذا يذكرني بقصة سيدنا موسى حينما وكز سيدنا موسى المصري الفرعوني فقضى عليه وخرج من المدينة خائفًا يترقب وهرب إلى مدين ( أنظر آيات سورة القصص من 15 الى 21 ) ،والشاعرة موفقة في صور الوجه الثلاثة وبالذات في كلمة (غياهب) التى تؤكد المجهول والمصير المحتوم .. ثم أخيرًا تصل الشاعرة لمبتغاها في المقطع الثاني من القصيدة ..
* المقطع الثاني من القصيدة مقطع السراب :
أتيه خلف السراب..)
أقف على العتبات والأبواب
أسأل عن الخلان والأحباب..
وأسأل عن وطن..
يرجع نشيج صوتي كالنحيب...)
فالشاعرة وجدت نفسها الآن بعدما تاهت وتحيرت وضاعت وضلت خلف الوهم والسراب هي خلف السراب وحدها تبكي كمُغَنِّي يتحشرج صوته وتتقطع أنفاسه.. هى تقف الآن على الأبواب والعتبات فهل سيجيبها أحد ؟ ومن سيرد عليها سؤلها ؟؟ نسمعها تقول : (أقف على العتبات والأبواب أسأل عن الخلان والأحباب وأسأل عن وطن ) لن تجد إجابة من أحد غير صوتها المتهدج وأنفاسها المتقطعة التى ترجع صوتها مثل الصدى فى حزن وحسرة وألم تقول : ( يرجع نشيج صوتي كالنحيب )..وليتها قالت : ( يتحشرج نشيج صوتي كالنحيب ) لكان اهون وأيسر ؛ ولكنها أرادت (يرجع) ليتوافق مع الصدى والمدى... وجدير هنا أن نستفسرُ عن شيئين أولهما لفظ الشاعرة (أقف على العتبات والأبواب) من المعلوم أن الإنسان يمكنه الوقوف على العتبات لا ضير في ذلك ؛ لكن كيف يمكنه الوقوف على الأبواب ؟ هل سيكسر الباب ويقف عليه ؟ أم يتسلقه كالسلم ويصعد عليه ثم يقف عليه ؟ سنجد أنفسنا أمام محذوف من الكلمات وهو لفظ (أمام) كالتالي : (أقف على العتبات وأمام الأبواب) وهذه الظاهرة تسمى (المجاز العقلي) أو ما يسمى (مجاز لغوي بالحذف) فالمجاز العقلي طريق من طرق التوسع في اللغة، وفن من فنون البلاغة، له شأن رفيع ومنزلة عظيمة، ولذلك اهتم به البلاغيون وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر الجرجاني .. ، وكذلك مثل قول أحمد شوقي فى منفاه بالأندلس في قصيدة (غربة وحنين) فى معارضته ل سينية البحتري) فى خطابه للمثنى : (سلا مصر) والمقصود (سلا أهل مصر) بغض النظر عن الاستعارة، وكذلك مثل قول الله تعالي فى سورة يوسف الأية82 : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( اسأل القرية ) أي ( اسأل أهل القرية ) وبغض النظر عن المجاز المرسل الذى علاقته المحلية أو المكانية فقد ذكر القرية وأراد أهلها القاعدة تقول : ( كل ما يعلم يجوز ويمكن حذفه.. )، هنا الشاعرةهنا يائشة تبحث عن الحبيب تبحث عن الوطن الذي لم تنعم بلقائه وتراه ولا تجده (كما البلاد المحجوبة) ، فالشاعرة إن وجدته ستسأله عن الوطن وطنها المُغَيَّب ُ عنها الذي لاتجد فيه وجه حبيبها المشرق لتسأله عن أشياء تخصها. وثانيهما : مالفرق بين النشيج والنحيب حتى يكونا طرفي للتشبيه ؟ وأيهما أقوى ليكون مشبهًا وأيهما أبرز ليكون مشبهًا به ؟ الشبه في المشبه به أبرز وأعرف، وأقوى منه في المشبه .
النشيج : (اسم صوت الإنسان المرتفع المتردد عند الدمع والبكاء من غيرانتحاب ويصدرمن الصدر).
النَّحْبُ والنَّحِـيبُ : رَفْعُ الصَّوتِ بالبكاءِ، وهوصوت السعال المعلن المتكرر .. (وفي المحكم لابن سيدة : أَشدُّ البكاءِ هو النحيب)، فهما غير متسويين ، وعليه تكون الشاعرة موفقة فى صورتها الجزئية (التشبيه ) النشيج بالنحيب وتشبيه ليدل على مرارة وقسوة الألم وهنا استخدمت الشاعرة ..( Phonetics(علم الصوتيات أوالأصوات،وهذا يحسب للشاعرة ويدل على مدى اتساع ثقافتها، وتركيزها في تشكيل وبناء، مقطع القصيدة فالمكسب أن صوت الألم لم يعد مكتومًا في الصدر بل صار نحيبًا يسمع ويتردد بعنف أشد فهو مبلغ الألم ومنتهاه.. ،وجدير بالذكر أن الشاعرة استخدمت (العتبات والأبواب) و(الخلان والأحباب) و(النشيج والنحيب) لدلالة التوكيد والتنويع والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل ستظل الشاعرة واقفة تستجدي على العتبات والأبواب ؟ أم ماذا ستفعل ؟ هذا ما يجيبنا عنه المقطع الأتي
المقطع الثالث من القصيدة مقطع الوصف :
( أنظر حولي.. أتفرس في المدى
في مرايا الصدى
شوارع الليل رهيبة..
ترتجف من قرها الأجساد السليبة
وتلك الوجوه المكدودة الكئيبة
تلك الوجوه العطشى لقطرة مزن
وتلك البطون الخاوية تئن..
تستجدي الخبز والكرامة..
وتسأل رحمة قلوب غلفها الجفاف والجفاء والعفن
تستعطف أصناما من صقيع ورخام
وعيونها كالجمرات تبرق في الظلام
فيتصاعد من أنفاسها الشرر والذخان
لكنها تتوق للإبتسامة.. للمودة والسلام
غريبة شوارع الليل..
مقيتة هي شوارع الليل..
يباع فيها الحب على الأرصفة كالطعام وتبتاع فيها الشهرة والأحلام
وتعربد على مشارفها أيادي الإجرام )
ولنا عدة ملاحظات على هذا المقطع منها : التضاد بين ( يباع وتبتاع )
و(يبرق والظلام) و(الخبز والكرامة) و(الجوع أو البطون الخاوية والطعام ) ، (العطشى) و(قطرة مزن) لتوضيح وتوكيد الفكرة وترسيخها في الذهن، ومنها استخدام اسم الجنس (الجمر) فى المقطع الأول الذى يفيد نفس النوع، وجمع المؤنث السالم ( الجمرات ) الذي يفيد القلة وذلك للتوكيد على شدة وقلة اللهب، وكذلك الترادف بين ( الظلام والديجور والمعتم )، و(تستعطف وتستجدي وتسأل ) الرحمة ، وكذلك (الذل والهوان ) ، (الحاكم الأعظم وجلالة السلطان ) ، (الأجساد والأجسام ) ، وكذلك الجناس الناقص بين (الإجرام والأحلام) و(المدى والصدى) ،و(تبرق وتتوق ) ، و( السليبة والكئيبة )، و(الأرحام و الأحلام) ، ( الجفاء والجفاف) ، وباستخدام المصدر والفعل في (الرميم وسيرمم) ،و(فُتَات و تَقتات). وغيرها لتعطي جرسًا موسيقيا تستريح له الأذن ، وتشد انتباه القاريء أوالسامع ،وكذلك الترتيب المنطقي والتسلسل العللي السبب والنتيجة والتوضيح في ذكر الشاعرة لكلمات مثل (الشرر وما ينتج عنه من اللهب والدخان) وكذلك العطف الذي يفيد التوضيح في (أنظر وأتفرس) و (المودة والسلام) وكذلك لجات الشاعرة لظاهرة (التكرار) وما ينتج عنها من توكيد فِقد ذكرت (شوارع الليل) أربع مرات غير العنوان واحدة فى المقطع الأول وثلاثة بعد ذلك فى المقطع الرابع ؛ لأنه عنوان القصيدة وموضوعها مع صيغة (فعيلة) المكررة ثلاثة مرات فى قول الشاعرة (مقيتة وغريبة ورهيبة) ثم كررت لفظ (آلاف) مرتين،وكررت لفظ (الشارع) مرتين ،والفعل المعتل الناقص (تخشى) مرتين لتأكيد الخوف في مقابل الفعل الصحيح المهموز (أسألُ) مرتين ،والفعل المضارع (يعيد) مرتين أحدهما بسين الاستقبال ،ولفظ (الأحلام) مكررة مرتين ،وظرف المكان (خلف) مكررة مرتين ، وعبارة( في ركن الشارع ) مكررة مرتين.. مرة مع المهجور ومرة مع المعتم، ولفظ (تلك) ثلاث مرات ،وكذلك كررت كلمة (الوجوه) مرتين مرة (الوجوه العطشى) ومرة (الوجوه المكدودة) بلفظ الجمع وقبلها ذكرت (وجهك) المعرفة بالضمير كاف الخطاب وهى تخاطب حبيبها مفردًا ثلاث مرات فى المقطع الأول، وكذلك كررت الشاعرة لفظ (يُباع -تُبتاع - تبيع - يبيعون) لتوكيد تجارة النخاسة، وبيع الأعضاء سواء بالمتعة او بالشهوة وذلك منافٍ للفطرة العربية (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) يعنى لا تؤجر ثدييها في الرضاعة فذلك مسبة وعار.. ،وقصة المثل معروفة بين الزباء والحارث (انظر مجمع الامثال للميداني).
المقطع الرابع من القصيدة : (مقطع الصبيَّة) نسمع الشاعرة تقول :
(وتلك الصبيَّة تبرجت في شوارع الليل تبيع الهوى والعفة...
لتقتات الفتاة من فحيح الأجسام
وهناك.. بقايا رميم.. وجلد وعظام..
تتكدس في ركن الشارع المعتم
قد هدها الذل والوهن..
تخشى المخفر والأصفاد والسياط..
وتخشى تجار النخاسة اللئام..
خناجرهم لا ترحم..
يبيعون إربها بالدينار والدرهم..
وفي ركن الشارع المهجور..
الغائص في البؤس والديجور..
توأد آلاف الأحلام..
ينفى منها العز والغرام ..
وتغرس في خواطرها آلاف الأوهام
وهذا المقطع ظهر فيه مايسمى (اللزوميات) فإذا ذكرت الشاعرة لفظ لزم عنه لفظ آخر أوجاءت بلفظ آخر ينعته أويعطفه ويوضحه أو يؤكده وطهر مايسمى علاقات الألفاظ ببعضها هل هى علاقات حضور أم علاقات غياب ؟ أم علاقات أفقية أم رأسية شاقولية ؟ فى ثنائيات وتراكيب عجيبة تحسب للشاعرة حتى فى الأفعال (ترسم وتعيد).. فنذكرعلى سبيل المثال لا الحصر أن الشاعرة ذكرت كلمة (الخواطر) فلزم عنها (الأوهام) ذكرت (الع) فنتج منه (الغرام) وأتت بالمضاد (الذل) وذكرت (الذل) وعطفت (الهوان)،وأتت بكلمة (الشارع) فنتج عنه أو نعتته أنه (المهجور) وأنه (المعتم) ،ذكرت (تجار النخاسة) فوصفتهم (اللئام)، وذكرت (الدينار) فعطفت ب(الدرهم) ذكرت (الأصفاد) فعطفت ب(السياط) ذكرت خناجرهم فأخبرت أو أسندت ( لا ترحم ) ذكرت ( الأجسام ) بالإجمال وفصلت ب( الرميم ) و( الجلد ) و(العظام) ،ذكرت الشاعرة (العفة) فأتت بالمضاد ( الهوى )، وذكرت لفظ (تقتات)، وسبقته قبل ذلك (بعطشى) ، و(المدى) و(الصدى)، وكذلك ذكرت (الخلان) وعطفت وأردفت ب(الأحباب)، وكذلك ( النشيج) وشابهت ب( النحيب ) و(البؤس والديجور) ، و(الخبز والكرامة ) ، و(مودة وسلام) ، و(الشهرة ) و(الأحلام ) ،و(شرر) جمعًا (ودخان) مفردًا ، و(شوارع) جمعًا و(الليل) مفردًا ..و(سيعيد السكينة ) و(سيرمم الأرحام ).. ، وكلها ثنائيات عجيبة ... ،وهكذا صنعت الشاعرة معجمًا خاصًا بها من الألفاظ المكررة والمعطوفة والمضادة والموصوفة والمشابهة والمتقاربة والمكررة والمفردة والمجموعة ووالمجملة والمفصلة والمتجانسة وغيرها .. وهذا إن دل على شىء فإن علاقات هذه الألفاظ المتشاكلة تدل على غياب (العدالة الاجتماعية)، وعدم توزيع ثروات الوطن ومقدراته وثماراته بالتساوى والإنصاف على أفراده كل منهم حسب قدراته وعمله ومكانته ، وغياب (العدل السياسي) ووغياب قاعدة (أصول الحكم) ومايسمى ب(قاعدة العدل اللإلهي) ... ،ولذلك ذكرت لنا الشاعرة في قصيدتها حقائق واضحة للعيان مثل غياب مبدأ العدل والحرية والمساواة ، وما يتبعه بالضرورة من يأس وذل وهوان ونقص، وفقدان أمل واضطراب فى المجتمع وحيرة وضياع وتمزق وتشتت وفوضى وعدم نظام وظلم ، وخوف يعشش و يسكن قلوب معظم الناس بمختلف طوائفهم من ( بائعى الهوى وتجار النخاسة والفقراء ومرتادي شوارع الليل فى الصقيع البهيم لعقد الصفقات المشبوهة وغيرهم من ضحايا وخلايا تقبع فى ظلام الليل في عالم الخفاء .. ) ،ومن ضياع مستقبل وصف أنه معتم، وما فيه من قتل ووئد الأحلام، وظهر ذلك جليًّا فى كلمة (الصبيَّة) وما تعانيه من قسوة وآلام البغاء من تجار النخاسة ربما دون البلوغ ودون سن التكليف، ودون سن العمل ،وخرق للقوانين التي تجرم عمل الاطفال ،وعدم قتل البراءة فيهم (انظر إعلان مبادىء حقوق الطفل التابع للأمم المتحدة) ،وهذا هو لُب وجوهر القصيدة ماذا يحدث في شوارع الليل ؟ والشاعرة موفقة جدًّا في تعبيرها (ترتجف من قرِّها الأجساد)، فالقرُّ هو البرد القارس، فالقَرُّ : البردُ ، القَرُّ : البارد من كل شيء، ق ر ر : فعل مبنٍ للمجهول ، قرُ الرجل أصابه القرُّ أي البرد الشديد، ولم تستخدم (قرتِها) فالقُرَّة الاستقرار والسرور، فقد ورد على لسان آسية بنت مزاحم امراة فرعون قولها لفرعون عن سيدنا موسى : (قُرَّة عين لي ولك..) آية 8 من سورة القصص.. وورد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله فى الحديث الشريف: (قُرَّة عيني في الصلاة ) .. ومنه تنفذ الشاعرة وتصل إلى المقطع الخامس والأخير من القصيدة وهو مقطع ( الحاكم ) الذي ستلجأ إليه ليخلصها من آلامها النفسية الذى سيعيد رسم الوطن من جديد بعدما استجدت الجميع ولم يصغِ إليها أحد ، وبعدما طالت يد الإجرام ، وبه تنهى رحلتها فنسمعها تقول : ( فالحاكم الأعظم .. جلالة السلطان
سيعيد السكينة.. سيرمم الأرحام
ويعيد رسم الوطن ) ،ويتجلى هنا الموقف السياسي موقف الحاكم من وطنه (البنية السياسية الكبرى في حكام دول الوطن العربي) والذي بيدهم مقاليد الأمور.. وهنا تضعنا الشاعرة بين أمرين لا ثالث لهما 1- أولهما : أن يكون الحاكم عادلًا ويلبي مطلبها كما طلبته فى نهاية القصيدة أنه سيعيد السكينة وسيرمم الأرحام..2- وإما الموقف الثاني موقف المفارقة موقف الضد وهو أن يكون الحاكم ظالمًا ، ولن ينفذ شيئًا مما طلبته الشاعرة ،وفي هذه الحالة سيكون كل ما طالبت به الشاعرة فى نهاية القصيدة من مطالب سيكون من باب السخرية ..
**5- إحصاء الأفعال والأدوات : **
أ- إحصاء الأفعال :
من المعروف أن الأفعال ثلاثة أنواع: 1- ماضٍ يفيد الثبوت والتوكيد والاستقرار..2- مضارع يفيد التجدد والتتابع والاستمرار واستحضار الصورة فى الذهن ..3- وأمر للحث والطلب والحضور والوجوب والنصح والأرشاد ، والقد استلهمت شاعرتنا في هذا النص الأفعال المضارعة(34) فعلا مثبتًا وواحدًا منفيًّا (لا ترحم) لدوام صيرورة شوارع الليلفى مجتماعتنا العربية والشرقية، وبيان هذه الأفعال كالتالي : أولًا بنسبة (14:1) هكذا(14) مضارعًا مقابل فعل واحد ماضٍ وهو (غلفها) هكذا (( امتطى - أتيه (مكرر مرتين ) - أخطو - أتبع - أقف -أسأل (مكرر مرتين ) - يرجع - أنظر - أتفرس - ترتجف - تئن- تستجدي تسأل )) وهي مسلسلة ومرتبة ترتيبًا منطقيًّاعجيبًا يتوافق مع الحالة النفسية لرحلة الشاعرة في شوارع الليل في مقابل الفعل الماضي (غلفها) ،ثانيًا: وبنفس الطريقة نجد الشاعرة حافظت على روح هذه النسبة فنجدها(7:1) هكذا (7) أفعال مضارعة في مقابل فعل ماضٍ واحد وهو (تبرجت) كالتالي : (( تستعطف :الذى هو من مترادفات (تسأل وتستجدى) فى المقطع الفائت، وكأن القصيدة كلها كل متكامل غير مفصولة عن وحدتها الشعورية حتى فى الأفعال ،- تبرق - يتصاعد - تتوق - يباع - تبتاع - تعربد)) وبنفس روح النسبة (3:1) ثلاثة أفعال مضارعة هي (تبيع - تقتات - تتكدس) في مقابل فعل ماضٍ واحد (هدها) ،وبنسبة (10:0) عشرة افعال مضارعة دون مقابل من الزمن الماضي هي: (تخشى) مكرر مرتين - (لا ترحم) منفيًّا - (يبيعون) : من الأفعال الخمسة المرفوعة بثبوت النون - (توأد) صحيح مهموز- (يبقى) معتل ناقص - (تغرس) صحيح سالم - (سيعيد) بسين الاستقبال للدلالة على المستقبل القريب - وكذلك الفعل (سيرمم) المضعف - ( يعيد) المعتل الأجوف..دون ذكر أى مقابل من الفعل الماضي مما يدل دلالة قاطعة على إصرار الكاتبة على استخدام المضارع. وجدير بالذكر أن ننوّه أن القصيدة ليس فيها أى (فعل أمر) بُتَاتًا مما يدل على عدم وجود نصح ولا إرشاد فى المجتمع الليلي أو في شوارع الليل بدليل استخدام الشاعرة للفعل المضارع (يعربد) بما فيه من قسوة وجبروت وفوضى وإرادة وسيطرة باستحكام الظلم فمن يعربد غيرالعربيد ؟ وكذلك ورد الفعل المبني للمجهول أربع مرات للدلالة على شهرة من قام بالفعل أو اتصف به كالتالي: ( يُباع - تُبتاع - تُوأد يُنفى ) ، وكلها أفعال مضارعة مضمومة الأول مفتوحة ما قبل الآخرمنها ما هو أجوف معتل الوسط، ومنها ماهو معتل ناقص معتل الآخر ومنه ماهو مهموز صحيح.
ب- إحصاء الحروف والأدوات:
ورد في القصيدة حرف الجر (في) مستحدمًا (10)عشر مرات، وحرف الجر (من) (6) ست مرات ،حرف الجر (على) (4) أربع مرات، حرف الجر (عن) (2) مرتين ،حرف الجر ( الكاف ) (2) مرتين، حرف الجر ( اللام ) (2)مرتين، وكذلك وردت حروف العطف في القصيدة كالتالي : حرف العطف (الواو) ورد في القصيدة (30) ثلاثون مرة ليدل دلالة قاطعة على سرعة الدفقات الشعورية وكأنها أمواج هادرة داخل أحاسيس ووجدان الشاعرة فالعاطفة جياشة وفيها صدق فني وفعلي ، وكذلك ورد حرف العطف (الفاء)، ( 2) مرتين لبيان التعقيب والسرعة والاستجابة،وكذلك ورد حرف (السين) الذي يدل على الاستقبال القريب ، ولم ترد (سوف) التي تدل على التسويف والاستقبال البعيد ،وكذلك ورد النفي باستخدام حرف النفي (لا ) مرة واحدة ، وكذلك ورد استخدام الضمير الغائب ( هى ) مرة واحدة للدلالة على شوارع الليل.
** 6- الموسيقى والقافية فِي القصيدة : **
ليست موحدة بل متنوعة على حسب الحالة النفسية من الضيق والضجر للشاعرة لقتل الرتابة ولكسر أفق التوقع لدى المتلقي، وقد نجدها سريعة نونية الروي، مترادفةأو متراكبة أومتواترة النوع كما في قولها : (الشجن -الوسن -الزمن - مُزن - وطن - وهن - تئن - العفن) أو بائية الروي ( لهب - الحُجُب ) أو ميمية الروي( ترحم - درهم ) أو هادئة بطيئة باستخدام حرف العلة (الألف أوالواو أو الياء ) لدلالة وشيوع وذيوع الحزن والكآبة وقد نجدها بائية أوتائية أو ميمية أو رائية الروى لدى الشاعرة كما في قولها : ( السراب - الأبواب -الأحباب ) ، (مدى - صدى ) ، ( رهيبة - سليبة - كئيبة) ، (رخام - ظلام - سلام - طعام - أحلام -أجرام - أجسام - عظام - غرام - أوهام - أرحام )،(المهجور - الديجور) تتناسب مع السطر الشعري والدفقة الشعورية الثائرة أو الحزينة .
** 7- ما الجديد في القصيدة ؟؟ **
هل شوارع الليل أضافت لنا جديدًا؟
1- القصيدة نفحة لمن يعيشون على هامش الحياة على الكفاف الذين هم مجرد أرقام وأكوام وأكداس الذين خلت منهم الحياة رغم اليأس ورغم تمسكهم بالحياة فهم المستضعفين والغلابة والجياع والمقهورين ، فالصبيَّة رمز لبقية الأطفال ورمز لهذه الطبقة الكادحة فى الحياة، فلا يعقل أن أجسادهم يأكلها البرد والقُرُّ وصارت رميمًا وعظامًا وجلدًا وما زال فيها الرمق لممارسة البغاء، وإنما هم ضحية في أيدي لصوص المتعة الحسية والشبق واللذة والنعيم التى صورتهم الشاعرة بثعابين تريد الطعام وإن كان العظام والجلد والرميم .
2- الجديد انهزام طبقة الصبيَّة أمام الآلام والمواجع والبرد والصقيع ، فالصبيَّة جائعة شريدة ضالة تائهة تجتاز الشوارع بلا هدى والقصيدة دللت على تأكيد حالها بتنوع وتلون الآلام والأوجاع ، ثم انتقلت الشاعرة لدائرة أكبر هى دائرة الوطن ولا غرابة في ذلك فالصورة الذهنية للوطن قد اكتملت ،فالوطن العربي كله متهالك مثل الشوارع تمامًا مثل البشر فى الليل لافرق بينهم وبين الثعابين أوالحيوانات الضالة التى تعيش على الجيفة .
3- تصل الكاتبة فى النهاية لطبقة الحاكم الذي يبيع شعار ترميم الرحم وشعار ترميم الوطن، ويسوق الأوهام ويصدرها لشعبه ، فالوطن ممزق مثل الأجسام والأجساد البالية ، فالمشهد قد تغير من الصبية لعبور طبقة الفقراء الكادحين الموجوعين لطبقة التجارالثعابين في شوارع الليل لطبقة الحكام النبلاء الميامين ومن في مستواهم فى وطن عربي كبير، وفى نسق أكبر بعيد كل البعد عن الدين، وكل معنَى فى مكانه لا يوجد تناقض لأن الوطن هو ذلك الكل المكمل المتكامل على حد قول الشاعرة ( الغائص في البؤس والديجور) فهي صورةعميقة جدًّا وموفقة فيها الشاعرة أيما توفيق ،فالجمال والعفة والطهارة والدين في مقابل الحديث عن تجار البشر الذين يصلبون الأجساد في مشهد شبيه بصلب شبيه المسيح (يهوذا) ورفع النبى (عيسى) روح الله وكلمته التى ألقاها لمريم حيًّا إلى السماء،وما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم، وما كانت أمه مريم البتول (بغيًّا) ولم يمسسها بشر( انظر سورة مريم الآيات من( 16:20) وانظر سورة النساء الآيتين ( 156:157) فى القرآن الكريم . وانظر سيرة مريم في التراجم ،وانظر إنجيل يهوذا).
4- الجديد أن الشاعرة صورت الحبيب في صورة (وطن) تفتقده لأسباب ، وتفتش عته لأسباب ولا تجد وجهه ، ولا تعرف وجهته فهى تائهة وضالة فى رحلتها ، وهذا الوطن الحبيب (مُغَيَّب خلف الحُجب)، فالشاعرة تفتش عن وطن تخاطبه فى ذاتها ، ولا تجده أشبه بقصيدة (البلاد المحجوبة) لجبران خليل جبران (يا بلاداً حُجِّبَـتْ منْذُ الأزَلْ .. كيفَ نرْجوكِ ومنْ أيْنَ السَّبيلْ
أيُّ قَفْرٍ دونهــا ؟ أيُّ جبَلْ .. سورُها العالي؟ ومنْ منَّا الدَّليلْ؟
أسرابٌ أنتِ ؟ أمْ أنْتِ الأمَلْ؟ .. في نفـوسٍ تتمنَّى المستـحيلْ؟
أمَنامٌ يتهادى في القلــوبْ .. فإذا ما اسْتيْقَظَتْ ولَّى المنـامْ؟
أمْ غيومٌ طُفْنَ في شمْسِ الغروبْ .. قبلَ أنْ يغْرقْنَ في بحْرِ الظلامْ؟
** 8- الخلاصة والخاتمة : **
1- إن هذه القصيدةهى صرخة في وجه كل حاكم فى وجه كل طاغٍ في وجه كل تاجر أراد ان يتاجر بمقدرات الوطن أو يعبث بأبنائه الكادحين الشرفاء أو يتلاعب بشرفهم وبأرزاقهم أو يقتل جيلًا من الصبايا في البغاء فهي صورة شهرية نثرية متكاملة لشوارع الليل وعوالم الخفاء وتفضح الوطن المهترأ في الليل .
2- هذه القصيدة تعانقت فيها الأماني والحروف والإحساس وتموج بدقة التصوير النفسي الممزوج بالوصف الموضوعي فالقصيدة منتهى الألم والوجع والتشتت والضياع والحيرة.
3- هذه القصيدة مليئة ومفعمة بالروح الدافئة للشاعرة الطفلة الصبية التى لا تكبر بداخلها ويظهر ذلك في كل شرايين وعروق القصيدة
4-هذه القصيدة فيها كثير من المشاهدات التى وقفت عليها الشاعرة بنفسها وهذه المشاهدات زادت في الآونة الأخيرة في جل مجتمعنا العربي مما يجعلها ظاهرة تستحق جدية الدراسة.
...........................................
الناقد الأدبي : معروف صلاح أحمد شاعر الفردوس - القاهرة - مصر.
Aucune description de photo disponible.