**********************************************************
تجسيم تيمة الوطنية في ديوان "وطني الجريح" للشاعر الأسعد التايب
"جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل أن يحيى من أجل هذا الوطن"توماس كارليل(كاتب إسكتلندي وناقد ساخر ومؤرخ. 1795 – 1881).
في خضم هذا الوضع المتردّي وتفشّي البلاء في كل العالم، فقد برزت العديد من الأقلام التونسيّة والعربيّة تنشد الأوطان، أقلام جريحة طغى عليها حبّ الوطن سيما وقد شكّلت الغربة دافعا وحافزا لنبش الجراح وتعديد النّكبات الموصوفة في الدّول العربيّة،
ويُعدّ الشعر الوطنيّ غرضا متجدّدا منذ بداية العصر الحديث، وهذا ناتج عن التقلّبات الحياتية والأوضاع المأساويّة والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وما تعانيه الشعوب العربيّة خاصة في العشرية الأخيرة بتعاقب الثورات وما انجرّ عنها من تدنٍّ لمستوى المعيشة وكثرة المآسي التي ألمّت بالشعوب.
ةيضع الشاعر الأسعد التايب بين أيدينا هذا المنجز، ديوان "وطني الجريح" لتنسج ثوبا مختلفا عمّا سبق من شعر في حبّ الوطن،
فالتجربة الشعرية التي نتصفّح مخاضها، شكّلت مولودا فتيّا من رحم المعاناة والمآسي التي ألمّت بالوطن، حتى تتجسّد تيمة "الوطن" في كلّ النصوص التي أفرزتها هذه التجربة الغنيّة الحافلة بالإبداع، لتختلف الصور وتتعدّد في كلّ نصّ من يراعه، ولتتشكّل صورة (تونس)، فقد كتب الشـّاعر عن الوطن وعن البعد عنه وحبّه المتغلغل في صدره، بكلّ ما يحمل من أبعاد إنسانية وقيم حياتيه لتجسيد الوجدان في شكل قصيدة ...
فنجد تيمة الوطن في ديوان «وطني الجريح» متصدّرة هذا العمل الإبداعي بصورة جليّة ومتينة وبهرجة مزركشة في حلّة رسمت لوحات شعريّة في حبّ الوطن، فقد طوّع الشاعر الخيال، وجارى الأحداث الواقعة لاطّلاعه ومتابعته الشّديدة لوضع البلاد، فكرّس ما أمكنه من جهود لوضع مسار إبداعي متميّز حتى لا أقول منفرد لأنّ الصورة يتوارثها الأجيال، لكن الصياغة تبقى وليدة الحسّ الفنيّ والإبداع الشعري، حتى تصل الرّسالة المقصودة للقارئ،
وليست هذه دراسة لعمل إبداعي، بل هيّ محاولة لقراءة ما بين السّطور لما ورد في مجمل هذا الديوان الشعري، مسلّمين بأنّ قصيدة النّثر هي موطن للإبداع وسبيل ينتهجها الشاعر للتعبير عمّا يختلج بوجدانه.
وبرز جليا بعدُ الشاعر عن وطنه فولّد ذلك في نفسيّته مشاعر متفاوتة لتجسيم الصورة الشعرية، بأبـعادها المختلفة، فيفرز من رحمها الحبّ والحنين وندرك من خلال بعض الصور خوف الشاعر على الأهل والبلاد، فيصوغ شعرا حالما بغد أفضل في خضمّ هذا التضارب المعيشي والوضع المتردّي لما آلت إليه البلاد شأنها شأن البلدان العربية.
فتيمة الوطن تشكّلت منذ عتبة العنوان "وطني الجريح" إذ يسافر بنا الأسعد التايب إلى عالم الإحاسيس والمشاعر، فكأنّي به ينزف ليحاكينا في مولوده هذا عن الجرح كما تصوّره وكما عاشه في بلاد الغربة، فهذا النتاج كتلة من الأحاسيس التي أفرزها البعد عن الوطن وقد وجد للسان قلمه جرأة في الوصف ونحت للصورة وعرض لمشهد بعض الأحداث الأليمة التي ألمت بالوطن...
وقد قال في قصيدة: ألا يا وطن
مِنْ جَلَلِ المصائب
والخداع
قَد ضَاقَ صَدْرِي
فِي بَحْرِ الضَّيَاعِ
أمَا تَدْرِي يَا بَحرُ
كَم ضِقْتُ ذَرْعًا
فلِكُلِّ نَاعٍ للخَضْرَاء
نَاعٍ.
ويبرز في هذه القصيدة عمق الجرح الذي يسكن ضلوع الشاعر وهذا البعد عن الوطن لم يمنع مشاعره من الهطول سيولا لرسم لوحة بديعة تتشكّل في خطوطها صورة الوطن والغيرة التي تتملّكه وحبّا إليه.
وإنّ الدّلالات في جلّ نصوص شاعرنا تخفي في عمق عبارتها وجعا وحملا ثقيلا فتتجسّد العبارة في صوته وترتسم العبرة في بلاد الغربة، وتطغى مشاعر الحسرة والحزن والشجن والشوق والحنين والحبّ .
وقد صاغ الشاعر الخطاب المباشر في العديد من النصوص بسلاسة ولغة مبسطة لنقل الواقع، حتى ندرك عمق المعاناة وجرحه المرسوم في نبضه من خلال القصائد على آمتداد الوطن.
فقال في قصيدة: اغتصاب وطن
مَا زِلْتُ أَرْثِي كَنْز مَوْطِنِي
الذِي غَدْرا نُهبْ
شَرّ الطُغَاة المُسْتَترَ
أشْكُو إلى الله العَلِي المُقْتَدر
فقد تتعدّدت الصّور في جل النصوص لكنّه جرح عميق وحسّ وطني وثيق بين الشاعر والوطن فترتبط العاطفة بالمشاعر ليخرج الإحساس معلنا وطأة الفقد والبعد. لكنّ الصّلة وطيدة بين الشاعر وبلده لا تنقطع فهو في الأعماق يرسمه في كل قصيدة، ليبرز جرحه المكنون معبّرا على قلقه عن الوضع الذي آل إليه.
قال في قصيدة: العودة
فيا أيها الزمن ولِّ عنّي
ولا تقترب من حدود الجسد
وخذ من وتيني دواء لشعبي
لتجعله الرّوح فيهم وتد
فأبقى وفيا لها للأبد
فتونس في قلب الشاعر وفي جوهر نتاجه ونبضه الذي ينزف دما، لكنّه تجاوز في عدّة نصوص حدود الوطن، ليشمل جلّ الأوطان العربية التي سكنتها الفتن وتردّي الأوضاع السياسية فيها والنزاعات المتواصلة جرّاء الثورات والأحداث المأساوية ناشدا السّلم والسّلام للأوطان العربية وقد تعكر صفو الربيع العربي، ما أفرز من قضايا تغنّت بها الأقلام العربية، وغيرها في أوطان منكوبة أخرى.
قال في قصيدة: صفقة القرن
أسفاه على ذي الدّماء التي قد أريقت
وا حسرتاه على صمتهم
وتلك الخيانة
خجلت شعوب العرب
ربما يبكينا العالمْ
فالوطن أمة نلتحف بردائها وهو الحضن الدافئ والملجأ والمرسى الذي يتعبّد الإنسان في شطآنه، فهو الميناء لكلّ السفن حيث نخلد لنستريح كلما تعكّر صفونا وأضنتنا رحلة الحياة القاسية، فهو موطن للمحبين والعاشقين ، إذ نجد ذراعيه مشرعتين لتعود إليه أنى تلعثمت خطانا فينقذنا من الضياع ويمحو بحضنه سنوات الغربة.
فما تنتصر الأوطان إلا بوعي شعوبها وتونس تبقى في القلب تتغنى بها الأقلام وربيعها مزهر رغم الكبوات التي تعترض شعبها خلال السنوات العجاف الأخيرة التي يمرّ بها.
هذا ما أوحى به القلم بعد إستعراض نصوص الشاعر الأسعد التايب ولم أتقصّ كل مواطن الجمال في وأترك للقارئ سبيل الغوص في مكامن هذا المنجز وسيجد روعة الحرف.
هو مولود بهيّ ينتظر نجاحه
وبالتوفيق لهذه الوطنية المخلصة.
الشاعر طاهر مشي.