الاثنين، 22 نوفمبر 2021

قراءة بعنوان : عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدا (عوز) بقلم الناقدة سهيلة بن حسين حرم حماد

 قراءة بعنوان : عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدا (عوز)

================
============
عَوَز/ قصّة قصيرة جدًا .. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا Mohamed Elmslati
في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
- ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على مايجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.
================
=============
قراءة بعنوان:
عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدا (عوز):
عوز قصّة قصيرة جدا للأديب الليبي محمد المسلاتي. عنوان مربك يدخل على القلب وحشة، كوحشة ذكر الموت، ذلك أنّ الفقر كافر، والخصاصة قاتلة والحاجة تبعث في النّفس اشمئزازا، وتفرز في الذهن غمّة وغمامة سواداء، وكثافة كآبة غربة واغترابا وقتامة تسدّ النّفس، قد تشعر الفرد بالعجز والضآلة، نتيجة الإحساس بعدم القدرة على تحقيق القيمة وضمان الكرامة،
في مجتمع يؤله المكانة. قد تتقوقع الذات حول نفسها رافضة التّفاعل والاندماج مع غيرها (الآخر)، ما يزيد في تفاقم العزلة وعدم الرّغبة في الحياة والإحباط، فيتحوّل الوجود إلى عبث، لاستوائه بالعدم، بسبب انهيار صرح العدالة في ذهنه، وعدم بلوغ إشباع الرّغبة حتى في ملء البطن وبطون من حوله إذا كانت هاته الذّات مسؤولة عن غيرها... عوز قد يدفع بالبعض إلى الانتحار من أجل تخليص الذات بذاتها لذاتها، وربما تخليص غيرها بيدها فقد تقدم قبل ذلك على قتل من هم تحت ولايتها وإمرتها المؤقتة، بحُجٌة النّجاة من عار القهر والتسول على أبوب المساجد والكنائس وغيرها من المعابد والمعالم، والإفلات من الجلد المستمرّ المدمّر للنّفس الكئيبة الممزقة بين استبداد الفقر وحالة الموت واللاموت بين الشهقة والشهقة الواقعة كالواقعة...
عوّدنا القاص محمد المسلاتي Mohamed Elmslatiعلى قصصه ذات البعد الاجتماعي الإنساني اللّصيق بالواقع، وباعتبار أنّ القصة القصيرة جدا هي نموذج يمتاز بالإيجاز والإيحاء والتلميح والاقتضاب والتّجريب والتأزّم والإضمار والتّصوير البلاغي، نراه قد وفّق مبدئيا في اختيار العنوان شكلا ومضمونا، كرمز لدال ومدلول اكتنز صورا لاحتمالات توليد معاناة ذات، أو فئة من المعذّبين المعدمين المقهورين في الأرض، جرّاء قلّة ذات اليد التي تؤدي لفاقة وتعاسة، قد تُفقد بعضهم الرّغبة في الحياة نتيجة إحساس باليأس من العدل وفقدان الأمل في التّغيير والنّقص وشعور محبط للفرد موازية لشعور داخلي محبط قد تؤكد أن الدّهر متآمر عليه يجرّعه مرار الفقر أورثه إياه وسيورّثه بدوره لمن بعده لتزداد الخصاصة وتتفاقم... فتشل بذلك كل رغبة في المقاومة والدفاع من أجل حق الحياة.. يحيلنا العنوان كملفوظ مباشرة على البؤساء لفكتور هوغو... وكمعنى للمهمشين والمعدمين العذبين في الأرض للدكتور طه حسين.
الموضوع:
روح ترفرف في سماء الحرّية وقد انعتقت من الزّمن الأرضي المحتوم والمحكوم بالدّوران في تبعيّة كينونة البشر ، الذي يسير على الدّوام في عجل لا يستكين، فلا يقف ولا يتوقّف، لا يوقفه سوى توقّف سارد في عالم التّجريب والخيال والتّخييل، ليصف حالة أو مكانا أو ليسترجع حدثا أو زمنا عبر الذّاكرة أو حلما ليشيّد عليه ملكا وأملا، حتى وإن كان واهيا فإنّه يمنح صاحبه سعادة مؤقّتة، قد تساعده على الاستمرار والمقاومة ودفع عجلة الحياة إلى الأمام...
بانفصال هذه الرّوح عن المادّة تتوقّف عجلة الزّمن، فتنفصل عن الحياة وعن الحاجة للعبد فتتوقّف الرّغبات والحلم والعيش على الأمل. غير أنّنا نكتشف من خلال تتبّعنا للقصّة القصيرة جدا أنّ الرّوح ما زالت مشدودة للأرض وللبحر تحنّ للأمكنة وللأهل وللفئة التي تنتمي لها، فهي مرآتها التي تعكسه مياه البحر الكاشفة لمعاناتها ولمعاناته الباطنة ومن خلال دموعهم ودموع أمّه الثكلى، يتجسد الاتحاد بعد الفناء عبر استمرار المعاناة، إذ نراه يستذكر طعم دموعه وقسوة الدّهر نتيجة جشع وامتناع العباد الموسرة القادرة على المساعدة، نتيجة سوء توزيع الأرزاق، فالرّوح نراها انفتحت على الهنا والهناك في نفس الوقت، فاتحة من جهة السّماء، نافذة على البقاء السّرمدي وعلى الخلود، وعلى السّمو والتّسامي والرّفعة والترفّع على الملموس وعلى حقيقة الفناء بعد الوجود، ومن جهة ثانية عبر دموعهم تَسبح في أغوار ذاتها لتغوص باحثة في تاريخ أصل معاناتها وشقائها عندما كانت شقيقة الجسد فقد كانت تعيش وعائلتها عيشة ضنكة تقتات على إحسان المحسنين وما يجود به بعضهم في ظلّ أب عاجز مريض مسجى ينتظر حتفه لا يجد ثمن الدواء . تكرّر المشوار تَدور رحى الأيام وتُطوى صحيفته ويظل حال أمّه وأهله كما كانت عليها في حضوره ، يزيدها الفقد مزيدا من الوجع والشجن والحزن فتذبل جفون أمّه بالقهر على مرار بعده الأبدي... فيعبر بنا عبر بساط الريح امكنة وازمنة ويتمكن بنظرة عقاب ماسح ان يرصد أهم الأحداث التي
تركت وشما وبصمة دامية على حظها باكية
جدلية تفاعل الرؤية لصالح الفكرة والفئة والموضوع:
على غير عادة القصّة القصيرة جدّا نلاحظ أنّ القاصّ عدّد حوادث في أمكنة وأزمنة مختلفة لفواجع ومواجع ومراجع، لشخوص مختلفة لها علاقة بالروح عندما كانت ساكنة جسدا، مقاربا بين درجات مستوى الملوحة واختلافها، حاشدا الدّموع وقطرات النّدى والبحر والشّجن، وأصواتا لها قرع مدوّ كقرع الطّبول تصمَّ الآذان التحمت في الزحام مع طنين الذّباب التي استدعاها المؤلّف ليؤلّف مشهديّة ناطقة مثيرة توتّر المتلقي وتشحنه لتخلق الصّورة البليغة المتحركة، التي تحمل معها الذّوق والشم واللّمس والبصر والحسّ والإحساس بالزّمن بالأمكنة وباختلافها واختلاف درجاتها، عبر التوسّل بالرّمز، وبتراسل الحواس كما تعمل على تحفيز القارئ على ملء الفراغات ليكتمل المشهد لكي ينزل هذا الأخير للميدان، استعدادا لرصد الحركة وحراك الجموع الموجوعة تحسبا لاندلاع ثورة قادمة جديدة للجياع التي قد تكتسح المكان وتعمرّه كالجراد الذي قد يأتي على الأخضر واليابس، ثورة لسكان قاع المدن، تلك التي صدى ضجيجها بلغنا من قعر البحر، نشتمّ منه غضبا وضجيجا كصخب دوي صدى ضجيج ثورة الزنوج، التي قد تفيض بما فاض بها من وجع فتغطي الأرض كطوفان نوح الذي استوحينا معناه من الدّموع التي ترقرقت في العيون وفاضت وداعبت الشّفاه وتذوّقها اللّسان ليُخبر عن شطط ملوحة لاذعة تشبه ملوحة مياه البحار والملّاحات، وتماهي القلوب القاسية، كأنّها تُنذر بتسونامي قد تفجّر كلّ عيون الأرض، لتؤازر الفئات المسحوقة المدعوسة التي كان لها البحر حضنا وعبّارة ولّدت عُبرة وعِبرة في الصّبر وتذوق مستويات درجات المرارة على أثر حَرقة التي قد تخلّف وراءها حُرقة. يفضفض المعوزون للبحر بأحزانهم ويختارونه حضنا علّه يكون المنفذ المنقذ وأغلب الظنّ يجدون عنده راحتهم الأبديّة ليسحق أحزانهم ويزيد في شقاء ذويهم بفقدانهم ولكنّه بالآخر، يأملون به محو كلّ قبيح لتأسيس عهد مريح يستريح فيه الجميع.
الأسلوب واللّغة:
مرّة أخرى استطاعت اللّغة أن تؤكّد بأنّها الفاعلة والفعّالة في تجسيد كل جنس وتوظيف كلّ صغيرة وكبيرة تخدم النصّ والفكرة وتدفع بالحدث نحو إحداث الدّهشة ببراعة كما برهنت أن التّكثيف ليس بالعبارة فحسب، بل التّكثيف يتجاوز الملفوظ ويتعدّاه إلى تكثيف كلّ العناصر المساهمة في البناء كتكثيف المعنى والأزمنة والأمكنة والصّورة والشّواهد التي تضارع الموالح والعيون والأدمع والأصوات وغيرها المهم أن تقع بيد نسّاج ماهر يتقن الغزل والتّوليف ويفهم في تركيب الألوان ويحسن توظيف الإضاءة، ويحذق الإخراج محدثا لذة في الأسلوب ومتعة تدوزن مرار العوز والفقر الذي صاحبنا من العنوان إلى القفلة محدثا الصدمة بأن مرافقنا كان مجرد روح ترى ولا ترى تخترق الأمكنة والأزمنة والقواعد محافظا على قدرته على الإقناع والجذب والتشويق والإيهام بالصّدق محققا متعة القص.
في هذا يذكرنا القاص محمد المسلاتي Mohamed Elmslati بمقولة الأديب يوسف إدريس عندما كان يتحدّث عن مدى التزام الكاتب بالجنس وبالقالب شكلا:
"عندما يكون عقل أمّتي في خطر فلتذهب جميع الأشكال الفنّية إلى الجحيم "موثق بالصّفحة 180 ظلّ الذّاكرة حوارات ونصوص من أرشيف "الدّوحة" في حوار أجراه معه أحد الصحفيين سنة 1976.
_^___--'
سهيلة بن حسين حرم حماد
تونس الزهراء في 28/09/2021
Peut être une image de une personne ou plus, personnes debout et foulard

تقنيات مبتكرة كنجيماتٍ مطرة إطلالة بقلم / محمد البنا على.. رؤية نقدية لنص مذهل لشيخ النقاد العرب.. الأستاذ أحمد طنطاوي

 تقنيات مبتكرة كنجيماتٍ مطرة

إطلالة بقلم / محمد البنا
على..
رؤية نقدية لنص مذهل لشيخ النقاد العرب.. الأستاذ أحمد طنطاوي
قصة قصيرة من أرشيف الماضى
........
العصارى الممطرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا التكور اللدن ينسحق تحت عصبية يدىَّ , ثم ينفلت عنيدًا فى دائرة مرتدة
باستمرار .. ترى كم مرة ارتشفت شفتاى الرقيقتان من ينابيع هذا المعطاء الحنون ؟
صرختها الفجائية أوقفت أصابعى بانعكاسة عصبية مرتعشة الوجدان سحبت معها كل ضبابات حياتى , و أمى .. بيد مرتجفة تنزع على عجل مشابك الغسيل حرصًا على الملابس من المطر الزاعق
عينا روحى البريئتان تلتهمان بشغف القطرات الندية , و يشم كيانى عبق الأشجار المبتلة , و لم أدر _ و ما زلت _ سر هذا الارتباط الحميم بين الحزن و تلك الأوراق اللامعة ...فى عينيها تساءلت مرة أخرى عن المعنى , تلك المرآة لروحى ... ما زلت لا أعرف
سئمت التكرار , فانزويت بفكرى حيث المجاهل السحيقة للتأمل الساكن .
" لماذا توقفت فجأة ..؟؟ "
لم أدر بماذا أجيب , كنت حقًا أجهل الإجابة , لاشك أن فرجة من باب مغلق على وشك الانفراج , و سأرى حينها حتمًا ما يذهلنى و يعقد لسانى مرة أخرىلاشك أن فرجة من باب مغلق على وشك الانفراج , و سأرى حينها حتمًا ما يذهلنى و يعقد لسانى مرة أخرى .
حتى هذه الدماء النازفة بغزارة , و التى تعلن فداحة ما صنعت لم تخرجنى من دائرتى العجيبة , لم أر مثل هذه الألوان من قبل .. كانت هناك مئات الأنواع و الدرجات من اللونين الأخضر و الأحمر .. هذين اللونين فقط , بل إنى و أصر , قد سمعت لهما إيقاعًا فريدًا ... كانت تهزنى وتنادينى , فتختلط حروفها بهذه الألوان و الإيقاعات فى حُلم أعجزعن سرده .
أخرجتُ أخيرًا من حُلمى و تلاقى خوف عينينا , فأكملتُ بجنون ما بدأت هربًا من هذا السقوط الفجائى فى اللامعنى , و ابتدأ جسمى \ كيانى يسترد _ وسط الدماء و هدهدة الأمومة الحانية _ وجوده الحيوى النشِط راسمًا بأسى تلك الهزات العنيفة و قطرات المطر المنتحبة
كنت أعدو هاربًا بجنون من هذا الحُلم الجميل الكئيب .. ..هذه الجنة لم تُخلق لنا
سرنا ... نرتدى أغلفة الصمت الملتاع , وحيدين إلا من أنفسنا , تغوص أقدامنا فى مياه الشارع المبلل , و تلتمع وجنتانا تحت بقايا المطر فى ذلك الأصيل الشاحب .
.....
............
هناك ... فى زاوية الشارع , لمحتها تبكى تحت شجرة ...
رفعت وجهها العجوزالمتغضن ناحيتى فى حزن خابٍ , و بيدها مشابك الغسيل .
أحمد طنطاوى
13\7\1987
الثانية صباحًا
الرؤية النقدية
أقف أمام هذا النص.. بحزن وإعجاب شديدين، تستولي علي حالة من الدهشة .جزء مني يستمر بالوقوع فيه
مبللًا برذاذه الحزين الهابط بنعومة
وجزء آخر ارتطم قبل دهر وأورق، ثم أزهر بمشهديته الغضة الرقيقة، بلغته الثاقبة ورموزه المتواطئة الصادمة مع أم وطفلها الذي يرفض أن يكبر ، متمسكاً، بنسخته العالقة في الحاضر المرّ، نسخة عائمة في لزوجة الزمكان في سرد كامل وتفرّد، كوشاية حلم يتناسخ. هي لحظة زمنية يلتقطها السارد ويطلقها لترتد عليه في مشاهد حالمة تخفي ظلال قاتمة لحقيقة محدبة.. لا تعكس الحدث كما وقع بل تستمر بتشويهه.حبل المشيمة الخفي الذي يستمر بالامتداد فلا ينقطع ولا يُشجَب ولا يتوقف.
قبيل الحلم
السارد في حالة انزواء فكري واسترسال روحي كأنه مصلوب لكرسي في عيادة طبيب نفسي أحكم سيطرته على وعيه بخلق حالة من التأمل الساكن
(لماذا توقفت فجأة ..؟؟)
يبحث عن تلك الهوة التي تتشبث به، ليفتح له( فرجة الباب المغلق) أمام عقله الباطن فتنداح الذكريات المتشابكة لذاته الطفلة التي لا تتذكر سبب حزنها ولا انكسارها، بل تحيط بها الرموز التي تمتد فتغير ملامحها، يصبح للألوان صوت ويغدو للصوت دعوة
وللغموض القابع في الذاكرة هيئة واعية يتشاركها السارد ونسخته الطفولية في حزن واحد وكما ورد في النص
سرنا ... نرتدى أغلفة الصمت الملتاع , وحيدين إلا من أنفسنا , تغوص أقدامنا فى مياه الشارع المبلل, و تلتمع وجنتانا تحت بقايا المطر فى ذلك الأصيل الشاحب
بعيد اليقظة
ورد في النص
أخرجتُ أخيرًا من حُلمى و تلاقى خوف عينينا
للحدث هيئة غائمة، بوح شفيف متقن، يتحدث عن زمن ماطر، يغرق أرضًا عشبية خضراء بدماء نازفة، بصرخة أم خائفة تلتقط غسيلها الذي سيبتل، لن يشاركنا السارد لا وعيه، سيبتعد بنا خلف مجاهل إدراكه وعقله الباطن سيستبدل يقظته ب ال (السقوط الفجائى في اللامعنى)
,سيحدق في نسخته ويمشيان معًا ليواجها خوف الماضي وقسوته ،ذلك الخوف الغامض مما وقع ومما لن نعرفه يوما. حتى يسترد كيانه صحوة ما
عودة مبللة بالدماء وحنو الأمومة إلى الواقع
وكما ورد في النص
كنت أعدو هاربًا بجنون من هذا الحُلم الجميل الكئيب .. ..هذه الجنة لم تُخلق لنا
الأم ونظرية التحديق
فى عينيها تساءلت مرة أخرى عن المعنى
تلك المرآة لروحى ... ما زلت لا أعرف
هذه الرغبة الحادة بالهروب إلى الحقيقة تعطش جاد و خفي لقوة العقل وتمرده، ،هذا الإحساس المباشر بالآخر رغم غموضه لا يفتأ بالاستمرار والتجذر، لكن ما أن يمتد الرمز إلى أيقونة الأمومة حتى يتحول الواقع لبؤرة كثيفة، تستجدي إحساسنا بالإثارة المطلقةوتزداد قوة الشعور بالتجريد، فتستعيد الذاكرة روحها،وتصبح شخصية الأم بألمها وحنانها وعطائها مرآة شاسعة تعبر اللغة الخصبة فيها إلينا، عبر السرد المتساقط زمنياً في صعود وهبوط، وتنفذ لمشاعر المتلقي وأحاسيسه من علوٍ وتفوقٍ و تبصّر.
قَفل الزمن مرتبط بمشابك الغسيل
تأتي النهاية الطازجة كنوع من الإحاطة الكاملة لشعور السارد و علاقته بأمه، بفقر مدقع أنشب أنيابه في لحمه، من جنة حلم بها ولم تتحقق ، سينتهي النص بشاعريته اللغوية المكثفة إلى حلم يمضغُ ذكرى، تقبع في العمق...
تتشظى فيها مشاعر الإنسان المنفصم بين طفولته وحاضره لتطلق كابوسه الجديد وبؤس ماضٍ لم ينج منه، بل تسكنه أمه العجوز بأصابع تطبق على مفاصل الزمن، تعريه و تنزع عنه رومانسيته القديمة وارتباطها بالأوراق المبللة والمطر، بغموض الدماء النازفة وهول ما حدث، بمشابك الغسيل المسروقة. لتغرزه في واقع بربري مشؤوم لاعودة منه.. ويسائلنا النص وعصارته الممطرة في أعماقنا عن المعنى....
إذهال ثم إذهال ثم إذهال
Kinana Eissa
30 - Sep-2021
..............
الإطلالة
..........
عندما يبدع شيخنا سردًا، وتتلقف أستاذتنا لوحته الإبداعية تحليلًا، ينبغي علينا أن نفرغ عقولنا لنعيد ترتيب أبجديتنا الأستيعابية، ونفسح فضاء قلوبنا لنملأه نجومًا ودرر.
نحن أمام نص شديد التعقيد تقنيًا، أبدعه ناقد تعمد- ونجح- بوعي غلق نافذته النقدية حين مخاض لوحة شاعرية تنتمي للأدب الرمزي التراجيدي، لوحة غلبت عليها سوداوية المشهد، كلاسيكيات القرون الأولى، وكأنه لخص جحيم دانتي وجنة أفلاطون منصهرين في بضعة أسطر شاعرية حزينة، أقول تعمد صديقي أحمد طنطاوي بوعي ترك الناقد خلفه، ولكن الناقد تسلط عليه بلاوعيه، وأعمل قريحته النقدية الفذة، ليخرج لنا تقنيةً جديدة - أو أحسبها كذلك حسب علمي- فقد مزج بين تقنيتين ابداعتين معا في نص واحد، فنرى شخصية الطفل ( الراوي) تتصاعد رأسيًا حيث توقف الزمن أو تجمد، بينما المكان والشعور ( الواعي واللاواعي) يتحركان أفقيا، والتقنية الأخرى نراها في الشخصية المصاحبة ( الأم ) في تمددها الأفقي ( مرور الزمن )، ويتجمد المكان متمثلأً في عود على بدء ( نشر الغسيل ).
أما عن الدراسة التي تفضلت بها أستاذتنا الناقدة الرائعة كنانة عيسى، فلا يخفى على متابع مثقف ملم بالمدارس النقدية قديمها وحديثها، أنها أتبعت المدرسة التحليلية للنقد، ولكن بتخريج آخر يختلف في معظمه عن كلاسيكية المدرسة التحليلية، لتخرج علينا أيضًا بإبداع نقدي مستحدث مزجت فيه بين تفكيكية دريدا في شقها الثاني(إعادة بناء النص)، والمدرستان التحليلية والرمزية منصهرين في تحفة نقدية تضاف لرصيدها النقدي المتميز.
محمد البنا ٣٠سبتمبر ٢٠٢١

قراءة بعنوان: (صيحة فزع لأديب يؤمن أن الأدبب رسالة والكتابة كما الرّوح نفحة ونفخة ربّانية) في مقتطف من رواية (أعترف أن زوجي .. كلب! ) للدكتور مختار أمين بقلم الناقدة سهيلة بن حسين حرم حماد

 قراءة بعنوان: (صيحة فزع لأديب يؤمن أن الأدبب رسالة والكتابة كما الرّوح نفحة ونفخة ربّانية) في مقتطف من رواية (أعترف أن زوجي .. كلب! ) للدكتور مختار أمين

=========
============
مقتطف من رواية/ أعترف أن زوجي .. كلب! (للأديب مختار أمين
ــــــــــــــــ
حمالة صدري تئن من حملها لطفلين معاقين تضخما بعد طول سكون. يحتفظان بطراوة أنجبتها الآيادي العابثة اللاهية على أديمها الأبيض الناصع..
قبل الخوض كانا كرتان من الثلج. آن المبادرة يثوران. يغليان. يتصلبان هامدين، يرفعان رايتهما يستسلمان، ككثب على تل جمدته اللثمات المبتلة بالرضاب النهم..
مالي أحكي عن نهديّ، كأني أصف خريطة لصحراء كفر كان بها حياة..
كل شيء فيّ يصفني.
كل شيء فيّ يعبر عني.
أصف جسدي كأني أصف بيت العائلة الذي يميزه الصخب، وميزته الحياة، كان يبيعها للغرباء مقابل متعة ونس، مقابل ضحكة ترجّ أضلعه، مقابل دمعة غير الدمعة..
دمعة تخرج لحظة جزة ألم، ورشفة نشوة، بمص لسعة تعبر عن كيّ يحدث بداخلها، مقابل تذكرة هيروين النسيان..
هذا البيت الأسطوري يشبه أبي، كما يشبه جسدي وأجزائه..
كان يشبهنا في عمر البراءة. عمر نتاج الذات والطرح المستباح، والجود بأخصب ما فينا.
كنا نصرف ماء خصوبتنا في أوقات خيلناها نضج، أوقات كنا نعتقد أنها لنا. نعتقد أننا نمتلكها ونسيّرها لأجلنا..
ورثت أبي في بيته وممتلكاته وعاداته..
في الليل يبصق عصير الألم على أجساد خليلاته ويسعد كلما انتشين، ويخرج في النهار مذهوا وعنفوان الليل على عزيمته وإصراره، يحقق صفقاته الناجحة "كبزنس مان"
أما أنا أنسى هزائمي النهارية والليلية ساعة نشوتي. ساعة امتصاصي، وارتشاف كل قطعة من جسدي الذي أمنّ به على رفّاقي النهمين. أو عابري الصدفة والطريق أحيانا..
في باكورة شبابي كنت أنام باكية بعد خطوب الليالي حتى طلوع الشمس، أستحلفه أن يبقى. فلا يبقى إلا قليلا، أخشى أن أختلي بنفسي، واستسلم للنوم عاجزة. كنت لا آمن أن يسطو عليّ النوم، يرسلني في طرد تابوتي إلى العالم الأبدي، ربما يستلطف روحي يأخذها فلا يعيدها، أو يعبر عن شدة كرهه لها ويقبضها.
عائدة بعد طول غياب لبيت العائلة العتيق، صممّه أبي كأنه يرسم لوحة نادرة، أعده كقصر لأسرة ملكية، يحب الزهور والتماثيل بكل أنواعها الجرنيتية، والرخامية، والجبسية، والمصنوعة من الحديد والنحاس، ملأ بها أجزاء كبيرة من حديقتنا الشاسعة، وعلى المداخل والدرج، والصالون الرئيسي، وعاشقا للزهور لا يبارى. يجمع شتلاتها النادرة من كل البلدان، ويزرع أغلبها بيديه، يتشممّها في نهم ، وكأنه في لحظة ونس مع احدى خليلاته. نقب عنها في أكبر العائلات كما يحب في حفلاتهم الخاصة ونواديهم..
يبدو أبي عاشقا لا يشيخ، مظهره من أولويات اهتماماته. يتزين كملك يخرج إلى مؤتمر رسمي، مثله في ريعاني أتزين لسنوات طويلة حتى هدّني الزمن بصفعاته على جسدي ومعالم وجهي..
عشر سنوات منقطعة عن زياراتي لمصر. بلدي الحبيب.. "نيلها هو دمي.. شمسها في سماري.. حتى لوني قمحي.. لون خيرك يا مصر.. مصر . مصر".
أغنية فاشلة كاذبة..
لم تعد هي أمي، ولا شمسها في سماري، ولا حتى لوني قمحي، والخير طول عمرنا نشتريه، ونعطي منه لولادها الغلابة، في استكانة الخدم والعبيد يقبلون أيدينا، كنت أكره عادتهم هذه، ولا أشعر بألفة أو أمان مع الطبقة الفقيرة الكادحة.. كدح الهمّ والألم..
أكره تملّقهم ونفاقهم، وألسنتهم دوما تعج بكلمات عن الرحمن، والوهاب، والحنان، والمنان، وشفاههم جافة مملّحة بمئات زبد ريق الجوع..
مصر الجديدة، وشارع صلاح سالم عصر الباشاوات.....
=========
============
القراءة:
العنوان: (صيحة فزع لأديب يؤمن أن الأدبب رسالة والكتابة كما الروح نفحة ونفخة ربانية)
رواية (أعترف أن زوجي...كلب) عنوان الرواية متشظ صادم مذهل مرعب مخيف مقزّز يهزّ الأبدان ويندى له الجبين مربك إلى حد القشعريرة والغثيان، يورّط المجتمع ويحمله المسؤولية إلى درجة جعلت الأديب مختار أمين يطلق صيحة فزع، بلسان أنثى ليعبر عن مأساتها من أعماقها فغاص في أغوار شظايا ذات محطّمة، متناثرة على قارعة العمر، تتضوّر ألما من غدر الزّمان وعبث الرّجال، فقدت طعم المكان والزّمان والأمل في المستقبل، لم يبق لها سوى سراب أحلام مزّقتها ذكريات أياد عابثة ورشفة متعة عابرة سُمّها مازال عالقا بهضابها وتلالها، يلسعها كلّما حاولت تجاهله، يذكّرها بحقيقة حُرقة فقد تاج عفّتها وكرامتها.. بدت نفسها محطّمة ومازالت تتلمّس تضاريسها في مرآة ذاكرة مكسورة الخاطر يائسة بائسة، جفّت ينابيع أحلامها وينابيع الصّدق والحب العذري الطّاهر، كرهت محيطها المدنّس بالنّفاق والتّملّق ومخاتلة الكادح والمتديّن المقنّع المارد، المتلحّف برداء العفّة المزيّفة وقناع الدّين القابع، في قعر حضيض زبد نهم الرذبلة، الذي لا يفرّق بين حلال وحرام، لشدّة صدمتها نسيت أيّا من أولئك أمّها، نسيت من حملت بها، أهي مصرَ الغالية، أم غانيةُ؟... لا تفرّق بين أرض وعرض في زمن طغت فيه المادّة، يستجدي حسن تدبّر وتأمّل الآخر سبب شقائها الذي يمتصّ رحيقها ويتركها خرقة بالية تلملم شتاتها، تلوك مشاهد ملّتها وكرهت إعادة تكرارها.
يدع الأديب ال(هو) ليهبّ ليرتق الممزّق، ويصلح المترهّل، وما أتلفته يداه قبل فوات الأوان... قبل أن تكسر ال(هي) قيود الحشمة وتدير ظهرها لل(هو) إلى الأبد، وتتمرّد كشيطان مارد كفَر بجنّة الإنسان وتوعّده بالغواية..
جاء الأسلوب في حشد من الخدم والحشم من الملفوظات المكنوزة بالصّور المتناغمة المتناسقة حمّالة أوجه لمواجهة مأساة متشعّبة.
للنذكير فإن الدكتور مختار أمين في حوار أجراه له مؤخرا الصّحفي عِذاب الركابي مدير مجلة الثقافة العربية الصادرة في شهر سبتمبر 2021 يعتبر الفن رسالة و"الكتابة كما الرّوح نفحة ونفخة ربانية أصلها خير لأنّها هبة من الله" لذلك وجب حسن توظيفها فيما يرضي الخالق و الخلق وباعتبارها "بصمتك الوراثية أمام المجتمع" -مخاطبا الكتاب- فهي تضع كلّ كاتب وتجعله" أمام المسؤلية وأمام المجتمع" وباعتبار خاصية البصمة الوراثية فكلّ منّا له دور محدّد يجب القيام به على أكمل وجه. لذلك نراه شأنه شأن العظماء من الكتاب الكبار مهووس بما أصاب الإنسان من وهن وقلة عزم يعمل على خلخلة الواقع المرير يؤمن بالتغيير ويحلم بغد أفضل للإنسان تتحرّر فيه المرأة من أغلال قهر القدر والزمان والعبودية، المعطلة لكينونة البشر وكذلك تحريرها من الثّعالب والذّئاب وتخليصها من الوضعية السّلبية التي فُرضت عليها أو تلك السّالبة المُهينة المُشينة التي فرضتها على نفسها والتي قد توقف بها كينونة البشر والحياة، وضعية اختارتها بعضهن لأنفسهن لفقدهنّ.الثّقة في الرّجل عموما. لذلك نراه يعمل على أن تستعيد المرأة ثقتها بالرّجل من جديد، مع إيمان راسخ بأنّ هذا لن يكون إلّا بمؤازرة الرّجل لها، باعتباره نصف المجتمع لذلك نراه يعوّل عليه ويحثّه على مراجعة كلّ مواقفه وسلوكاته من أجل احتضان المرأة، وتبني وجعها، والأخذ بيدها، قبل ان تمتدّ يد الغريب إليها، قبل فوات الأوان، ملمّحا تارة ومُلقٍ عليه اللّوم ومسؤولية إمكانية انحرافها وانحراف كلّ المجتمع برمّته تارة أخرى ، مذكّرا إيّاه بأنّه بصلاحهما تصلح الأنثى والذّكر معا لتستقيم الكينونة، فالمراة أمه وأخته وزوجته وابنته وزميلته وجارته، فببصلاح الكلّ في المطلق، امرأة كانت أو رجل، تستعيد صيرورة الزّمن بهاءها بريقها ونقاءها ويستعيد عش الزوجية سكينته فيستطيب عيش الأزواج والزوجات والأبناء والأباء والأمهات، فيصلح المجتمع ككلّ. ذلك أن في احترامهما لبعضهما تستقيم الحياة ويختفي الشّذوذ في كل السلوكات الظاهرة للعيان أو الغير مرئية... ومن هنا نراه يقذف من روحه على رأيه في الكلّ بقناعة المسؤول المحمّل "برسالة في كنهها رسالة وعي للمجتمع ، ورأي في منظور تبصيري." نفس المقال
سهيلة بن حسين حرم حماد
سوسة في 11/09/2021

متلازمة الثنائيات في السرديات النقدية للأديبة د. جيني فؤاد بقلم الناقد محمد البنا

 متلازمة الثنائيات في السرديات النقدية للأديبة د. جيني فؤاد

................
رغم قلة معروضها النقدي إلا أن المتتبع لقراءاتها النقدية، لا يجد صعوبة وبقليل من التركيز الذهني، اقول لا يجد صعوبة في وضع إصبعه على سر جماليات أسلوبها النقدي المتميز، البليغ في لغته دون تقعر أو مغالاة بلاغية استعراضية، أسلوبها البسيط في سرديته، العميق في استجلاب الدرر الكامنة في قيعان حروف النصوص، إنها بالفعل بحارة ماهرة تتقن إدارة دفة سفينتها، وغواصة متمكنة تملك أدوات الغوص كافة، فتلتقط من السطح ظواهره المضيئة، ومن العمق قناديله الساحرة، ومن القاع لؤلؤته الكامنة في صدفاتها.
أسلوب نقدي يتكئ بقوة وكفاءة مشهودة لكل ذي عينين تبصران، وذهن متفتح ..يتكئ على الثنائيات بكافة أشكالها وتخريجاتها اللغوية..فمن ثنائيات التضاد مرورا بثنائيات التوافق وعروجًا على ثنائيات الجمل الشرحية الموحية تضادًا أو اتفاقا.
ولنبحر معًا أحبتي في بحيراتها النقدية لنستخلص ما سبق وأشرنا إليه.
ففي قراءتها لنص
* فنجان قهوة بارد على سطح طاولة ساخنة* ل/ محمد البنا
نلمح ثنائياتها التضادية بجلاء حيث كتبت " المساحة الممتدة بين الشرط والإصرار، بين الإرادة والقدرة، القبول والصد، المانع والوقوع...يحاول الإنحدار، يستنطق حدود الميل والإنجراف العميق...فكرة الذاتية والأنانية، البوح والكتمان، الصدق والزيف، المواءمات والتوازنات"
وفي قراءتها لنص
* طمأنينة كاذبة* للأديبة/ كنانة عيسى
حيث تقول " العتمة واللعنة، المسير والهدف، المفردات والتفاصيل، السقوط والاعتراف، الصدق والصفح، اللجوء والتطهر، اطمئنان راحل وجمال لن يغادر، برودة ناعمة، الاكتناف والتعفف، مسايرة واستمرار، عودة وشروع، انكسار وتمزق، مكاشفة وخلاص..بينما هو يتمادى في ممارسة الخديعة والمكابرة دون وازع أو ندم، تتمادى هى في انتحال المثول والصبر.
وفي قراءتها لنص
* رشفة * للأستاذ/ عصام الدين محمد أحمد الشاكه
كتبت د.جيني " الطقس والثأر، الظاهر والباطن، التشوه والبثور، التهديد والتنازل، الإملاء والإذعان، الشرط والخضوع، المبدأ والتأويل، التبرير والخنوع، اليقظة والغفلة، الإعتراف والإنكار، الكساد والركود، الخدر والاسترخاء، اعماق الفقد ومتاهة السؤال، انشطار وتشظي، فوران واحتراق..أما وقد وصل العصف ذروته، فقد أقر الوهم أنه بلا سلطان بلا مبدأ"
وفي قراءتها لنص
* الفراغ * ل/ محمد البنا
نجد الأديبة الحصيفة تذكر " الإنكسار والألم، الرجاء واليأس، القسوة والشغف، القرار والمفاجأة، الفرار والنجاة، الظالم والضحية، الكبرياء والصدق، ..ينحني الشرر المتطاير أمام الخجل، حينها فقط تغادر الروح ولا يصفق وراءها سوى الفراغ".
ثنائيات لغوية اعتمدت عليها في تحليل تموجات المتن السردي تدليلًا وتأويلا، ونجحت في ذلك نجاحًا باهر.ًا ملفتًا، وداعيًا إلى التوقف والتأمل.
محمد البنا ٢٩ سبتمبر ٢٠٢١

المضحك المبكي..حياته ووفاته قراءة تأملية بقلم محمد البنا لنص* غزوة سعيد وعبيد* للرائع / عمر مصطفى

 المضحك المبكي..حياته ووفاته

قراءة تأملية
بقلم محمد البنا
لنص* غزوة سعيد وعبيد*
للرائع / عمر مصطفى
..............................
النص
......
غزوة عبيد وسعيد
عمر حمَّش
لم يتخيل أحد ما كان سيحدثُ حينما مرّ المختارُ بعربةِ الكنافة الشامية .. كنت في شمس باب كوخنا حين تمتم أبي:
هذا الرجلُ كان أهم بائع كنافة في يافا!
صرّت دواليبُ الخشب على الرمل، وقابلني دولابٌ أخذ ينفرد، وأنفاس المختار المتقطعة تدفعُ العربةَ، وتنادي:
كنايف!
ثمَّ يُتبع صوته بصوت بوقِه: طوط!
وأبي يقول: آه ... يا زمان!
لم أفهم .. فقط كنت أسمع في صوتِ أبي رعدًا، وأرى حريقا .. كنتُ أحسّ من تنهيداتِه أن شيئا عظيما قبل أن أجيء أنا؛ كان قد حدث، شيئا استثناء مغايرا للطبيعة، أقدّرُ أن خسفا وقع، وأن شمسا تبعثرت!
كان المختار يقترب، وأبي يقول:
هذا الرجلُ ... كان على أريكةِ حانوته؛ يداعبُ نرجيلته، ويهزّ طربوشه للحسان المتأبطات أذرع الأكابر!
ويزفرُ أبي ... وأزفرُ أنا في لغزي المبكّر، أفهم، ولا أفهم .. وأحترق ..!
في لحظةٍ جاء سعيد وعبيد .. اقتربا، حتى جاورا العربة..
كانا أسمرين كالطين، نحيفين مثل غصنين، معفرين بلا أهل .. قيل: مات ذووهم في قصف القرية .. وقيل: ضيعتهم طريق الهجرة!
قال أبي: من أين لهما ليشتريا الكنافة!
لكنا رأينا عبيد يحمل الصينية، ويجري..هرول وهي على رأسِه، ثمَّ أخذ يصعد سفح التلّة، صاح أبي، وصحتُ أنا، وصاحت النسوةُ من على صنبور الماء ... وصاحت الدنيا، لكن عبيد ظل يصعد، وجسدُ المختار يتنقل .. بعدها فوجئنا بالصينية الأخرى على رأس سعيد، رأيناهُ هوى مثل طيرٍ، والتقطها كحبة قمح، ثمَّ شرع هو الآخر يصعد التلّة المقابلة .. تجمعت الأولاد، صاحوا: سعيد وعبيد!
كان الاثنان هناك متقابلين حيثُ لا أحد ... على الرمل الأصفر البكر .. ورأيتُ من بعيدٍ عصافير شرعت تأتي، لتحلّق فوق رأسيهما، وهما منكبان كلٌّ منهما على غنيمتِه، علنا ساعة الظهر الحمراء .. يأكلان متباعدين مثل بطلين .. ونحنُ تحتهما في حيرة .. المختار .. والرجالُ .. والأولاد .. والنساء .. الدنيا كلها كانت في حيرة!
انتظرنا .. ساعة .. ثم ساعةً .. صاغرين .. المختار يلهث .. ونحن نلهثُ ..!
نادى المختار: ارميا الفارغ!
ونادى أبي .. ونادت الحارة!
ففوجئنا بعبيد من فوقنا يصيح: سلّموا .. نسلّم!
قال أبي: ماذا؟
صاح: الشبشب!
ضحكنا، حتى كدنا نموت .. حتى المختار ضحك، واهتزت بطنه .. ابتعدنا عن شبشب عبيد .. لكنه قال: أكثر ... فزدنا له المسافة .. حينها نزل حذرا على رأسه الصينية الفارغة .. اقترب حتى التقط شبشبه، ثمَّ فرَّ إلى التلّة، أمّا سعيدٌ فهو الآخر رمانا بصينيته؛ فجاءتنا حافتها تدور مثل سكين ...!
عاد المختار يدفعُ عربته .. وعدتُ أنا؛ أرقب تراخيَ الدولاب، وأسمع صريره المغادر ... وأبي الذي كان بعينيه يشيعُ المختار؛ عاد يقول: آه يا زمان!
عمر مصطفى ٢٥سبتمبر٢٠٢١
............
القراءة
عودٌ على بدء.. ما بدأ به السارد أقصوصته أنهاها به، وكأن الزمن لم يمر، وكأن التاريخ يعيد نفسه تكرارا مملا لا أمل فيه ولا عبرة يعتبرها سامع او مشاهد..سعيد وعبيد ما زالا يعتليان التلة، والجموع تنظر في بلاهة بعد نوبة صراخ، والمختار تائه يبحث عن هوية، والأب يقتعد المصطبة يمصمص شفتيه آسفًا على زمن مضى، دون أن يحرك ساكنا، فنحن (كنا) وما زلنا ( كنا)، وفي خاتمة مذهلة ذهول المستحيل حين تحقق، وسنظل ( كنا )..مأسأة أمة وليس قرية مقصوفة او مدينة مجهضة ( يافا) او وطنًا وأدوه بل أمة كاملة..كغثاء السيل، فلا جيل يعلم جيلا ويأخذ بيده إلى أعلى التلة، بل تركه يهوي في ظلمات وظلمات، وانجبه في صحراء تيه لا زرع فيها ولا ماء...عود على بدء وكأننا نشاهد فيلما تراجيديا فنبكي ونبكي ونبكي، وعندما ينتهي نسارع بأعادة تدويره كيلا تجف دموعنا!!
تقنية التدوير هى بطل النص بلا منازع، ويشد على عضدها السخرية المبطنة من كل شيء التي فاض بها المتن السردي، (طوط) أراها طز وطز، واراها آسفًا طامة وطامة، فما اكثر طاماتنا!!
.سخرية مننا جمعيا لم تستثني احدا حتى السارد نفسه.
ترميز بالغ الدقة متبعًا سيمائيات ناقصة أحد أضلاعها الثلاثة، ليكمل المتلقي غلق المثلث وفق قدرته الذهنية والتخيلية، ليستنبط الدلالة المرجوة، وليترك الباب مفتوحًا لاسقاط الرموز على واقع معاش مهين وخانع، فبين راءٍ لسعيد وعبيد رمزا للاحتلال، وبين راءٍ لهما رمزًا لقيادتين اعتليا التلة أحدهما وقع أوسلو ( الشبشب ) وآخر وقع وثيقة التنسيق الأمني( حد الصينية، الذي يتجه مباشرة نحو جز الرقاب) في إشارة خفية إلى أحداث سجن جلبوع وما أعقبه من وشاية...يبحر كل متلقي وفق منظوره.
نص مدهش من جملة نصوصك المدهشة صديقي العزيز عمر.
.....................
محمد البنا ٢٦سبتمبر٢٠٢١