قراءة بعنوان : عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدا (عوز)
================
============
عَوَز/ قصّة قصيرة جدًا .. بقلم: محمد المسلاتي- ليبيا Mohamed Elmslati
في طفولتي؛ كلما تسربت قطرات من دموعي إلى شفتي لذعني مذاقها المالح..
وحين تعرفتُ إلى البحر لأول مرة، أذهب إليه خلسةً.. تعاقبني أميّ بالضرب بعد تذوقها مسام جلدي، وهي تقول لي:
- ها أنت كالعادة؛ لم تقف في مكانك بالسوق لتحصل لنا على مايجود به العابرون.
تشير إلى أبي العاجز القابع في زاوية الحجرة.. حوله انكفأت زجاجات دواء فارغة.. مع صراخ أشقائي الأربعة، وذباب لا يكف عن الطنين.
يختفي صوتها عبر نشيج حزنها.. تفرّ من عينيها الذابلتين حبات نديّة صغيرة كالبللور.. تبللني.. عندها تراءى لي عيون أُناس لا أعرفهم يبكون وجعًا في أعماق أمواج يَمٍّ تهدر مياهه بكل هذا الملح.
================
=============
قراءة بعنوان:
عنوان بعمق ارتداد الصدى وفصول رواية اختزلتها حكاية في القصّة القصيرة جدا (عوز):
عوز قصّة قصيرة جدا للأديب الليبي محمد المسلاتي. عنوان مربك يدخل على القلب وحشة، كوحشة ذكر الموت، ذلك أنّ الفقر كافر، والخصاصة قاتلة والحاجة تبعث في النّفس اشمئزازا، وتفرز في الذهن غمّة وغمامة سواداء، وكثافة كآبة غربة واغترابا وقتامة تسدّ النّفس، قد تشعر الفرد بالعجز والضآلة، نتيجة الإحساس بعدم القدرة على تحقيق القيمة وضمان الكرامة،
في مجتمع يؤله المكانة. قد تتقوقع الذات حول نفسها رافضة التّفاعل والاندماج مع غيرها (الآخر)، ما يزيد في تفاقم العزلة وعدم الرّغبة في الحياة والإحباط، فيتحوّل الوجود إلى عبث، لاستوائه بالعدم، بسبب انهيار صرح العدالة في ذهنه، وعدم بلوغ إشباع الرّغبة حتى في ملء البطن وبطون من حوله إذا كانت هاته الذّات مسؤولة عن غيرها... عوز قد يدفع بالبعض إلى الانتحار من أجل تخليص الذات بذاتها لذاتها، وربما تخليص غيرها بيدها فقد تقدم قبل ذلك على قتل من هم تحت ولايتها وإمرتها المؤقتة، بحُجٌة النّجاة من عار القهر والتسول على أبوب المساجد والكنائس وغيرها من المعابد والمعالم، والإفلات من الجلد المستمرّ المدمّر للنّفس الكئيبة الممزقة بين استبداد الفقر وحالة الموت واللاموت بين الشهقة والشهقة الواقعة كالواقعة...
عوّدنا القاص محمد المسلاتي Mohamed Elmslatiعلى قصصه ذات البعد الاجتماعي الإنساني اللّصيق بالواقع، وباعتبار أنّ القصة القصيرة جدا هي نموذج يمتاز بالإيجاز والإيحاء والتلميح والاقتضاب والتّجريب والتأزّم والإضمار والتّصوير البلاغي، نراه قد وفّق مبدئيا في اختيار العنوان شكلا ومضمونا، كرمز لدال ومدلول اكتنز صورا لاحتمالات توليد معاناة ذات، أو فئة من المعذّبين المعدمين المقهورين في الأرض، جرّاء قلّة ذات اليد التي تؤدي لفاقة وتعاسة، قد تُفقد بعضهم الرّغبة في الحياة نتيجة إحساس باليأس من العدل وفقدان الأمل في التّغيير والنّقص وشعور محبط للفرد موازية لشعور داخلي محبط قد تؤكد أن الدّهر متآمر عليه يجرّعه مرار الفقر أورثه إياه وسيورّثه بدوره لمن بعده لتزداد الخصاصة وتتفاقم... فتشل بذلك كل رغبة في المقاومة والدفاع من أجل حق الحياة.. يحيلنا العنوان كملفوظ مباشرة على البؤساء لفكتور هوغو... وكمعنى للمهمشين والمعدمين العذبين في الأرض للدكتور طه حسين.
الموضوع:
روح ترفرف في سماء الحرّية وقد انعتقت من الزّمن الأرضي المحتوم والمحكوم بالدّوران في تبعيّة كينونة البشر ، الذي يسير على الدّوام في عجل لا يستكين، فلا يقف ولا يتوقّف، لا يوقفه سوى توقّف سارد في عالم التّجريب والخيال والتّخييل، ليصف حالة أو مكانا أو ليسترجع حدثا أو زمنا عبر الذّاكرة أو حلما ليشيّد عليه ملكا وأملا، حتى وإن كان واهيا فإنّه يمنح صاحبه سعادة مؤقّتة، قد تساعده على الاستمرار والمقاومة ودفع عجلة الحياة إلى الأمام...
بانفصال هذه الرّوح عن المادّة تتوقّف عجلة الزّمن، فتنفصل عن الحياة وعن الحاجة للعبد فتتوقّف الرّغبات والحلم والعيش على الأمل. غير أنّنا نكتشف من خلال تتبّعنا للقصّة القصيرة جدا أنّ الرّوح ما زالت مشدودة للأرض وللبحر تحنّ للأمكنة وللأهل وللفئة التي تنتمي لها، فهي مرآتها التي تعكسه مياه البحر الكاشفة لمعاناتها ولمعاناته الباطنة ومن خلال دموعهم ودموع أمّه الثكلى، يتجسد الاتحاد بعد الفناء عبر استمرار المعاناة، إذ نراه يستذكر طعم دموعه وقسوة الدّهر نتيجة جشع وامتناع العباد الموسرة القادرة على المساعدة، نتيجة سوء توزيع الأرزاق، فالرّوح نراها انفتحت على الهنا والهناك في نفس الوقت، فاتحة من جهة السّماء، نافذة على البقاء السّرمدي وعلى الخلود، وعلى السّمو والتّسامي والرّفعة والترفّع على الملموس وعلى حقيقة الفناء بعد الوجود، ومن جهة ثانية عبر دموعهم تَسبح في أغوار ذاتها لتغوص باحثة في تاريخ أصل معاناتها وشقائها عندما كانت شقيقة الجسد فقد كانت تعيش وعائلتها عيشة ضنكة تقتات على إحسان المحسنين وما يجود به بعضهم في ظلّ أب عاجز مريض مسجى ينتظر حتفه لا يجد ثمن الدواء . تكرّر المشوار تَدور رحى الأيام وتُطوى صحيفته ويظل حال أمّه وأهله كما كانت عليها في حضوره ، يزيدها الفقد مزيدا من الوجع والشجن والحزن فتذبل جفون أمّه بالقهر على مرار بعده الأبدي... فيعبر بنا عبر بساط الريح امكنة وازمنة ويتمكن بنظرة عقاب ماسح ان يرصد أهم الأحداث التي
تركت وشما وبصمة دامية على حظها باكية
جدلية تفاعل الرؤية لصالح الفكرة والفئة والموضوع:
على غير عادة القصّة القصيرة جدّا نلاحظ أنّ القاصّ عدّد حوادث في أمكنة وأزمنة مختلفة لفواجع ومواجع ومراجع، لشخوص مختلفة لها علاقة بالروح عندما كانت ساكنة جسدا، مقاربا بين درجات مستوى الملوحة واختلافها، حاشدا الدّموع وقطرات النّدى والبحر والشّجن، وأصواتا لها قرع مدوّ كقرع الطّبول تصمَّ الآذان التحمت في الزحام مع طنين الذّباب التي استدعاها المؤلّف ليؤلّف مشهديّة ناطقة مثيرة توتّر المتلقي وتشحنه لتخلق الصّورة البليغة المتحركة، التي تحمل معها الذّوق والشم واللّمس والبصر والحسّ والإحساس بالزّمن بالأمكنة وباختلافها واختلاف درجاتها، عبر التوسّل بالرّمز، وبتراسل الحواس كما تعمل على تحفيز القارئ على ملء الفراغات ليكتمل المشهد لكي ينزل هذا الأخير للميدان، استعدادا لرصد الحركة وحراك الجموع الموجوعة تحسبا لاندلاع ثورة قادمة جديدة للجياع التي قد تكتسح المكان وتعمرّه كالجراد الذي قد يأتي على الأخضر واليابس، ثورة لسكان قاع المدن، تلك التي صدى ضجيجها بلغنا من قعر البحر، نشتمّ منه غضبا وضجيجا كصخب دوي صدى ضجيج ثورة الزنوج، التي قد تفيض بما فاض بها من وجع فتغطي الأرض كطوفان نوح الذي استوحينا معناه من الدّموع التي ترقرقت في العيون وفاضت وداعبت الشّفاه وتذوّقها اللّسان ليُخبر عن شطط ملوحة لاذعة تشبه ملوحة مياه البحار والملّاحات، وتماهي القلوب القاسية، كأنّها تُنذر بتسونامي قد تفجّر كلّ عيون الأرض، لتؤازر الفئات المسحوقة المدعوسة التي كان لها البحر حضنا وعبّارة ولّدت عُبرة وعِبرة في الصّبر وتذوق مستويات درجات المرارة على أثر حَرقة التي قد تخلّف وراءها حُرقة. يفضفض المعوزون للبحر بأحزانهم ويختارونه حضنا علّه يكون المنفذ المنقذ وأغلب الظنّ يجدون عنده راحتهم الأبديّة ليسحق أحزانهم ويزيد في شقاء ذويهم بفقدانهم ولكنّه بالآخر، يأملون به محو كلّ قبيح لتأسيس عهد مريح يستريح فيه الجميع.
الأسلوب واللّغة:
مرّة أخرى استطاعت اللّغة أن تؤكّد بأنّها الفاعلة والفعّالة في تجسيد كل جنس وتوظيف كلّ صغيرة وكبيرة تخدم النصّ والفكرة وتدفع بالحدث نحو إحداث الدّهشة ببراعة كما برهنت أن التّكثيف ليس بالعبارة فحسب، بل التّكثيف يتجاوز الملفوظ ويتعدّاه إلى تكثيف كلّ العناصر المساهمة في البناء كتكثيف المعنى والأزمنة والأمكنة والصّورة والشّواهد التي تضارع الموالح والعيون والأدمع والأصوات وغيرها المهم أن تقع بيد نسّاج ماهر يتقن الغزل والتّوليف ويفهم في تركيب الألوان ويحسن توظيف الإضاءة، ويحذق الإخراج محدثا لذة في الأسلوب ومتعة تدوزن مرار العوز والفقر الذي صاحبنا من العنوان إلى القفلة محدثا الصدمة بأن مرافقنا كان مجرد روح ترى ولا ترى تخترق الأمكنة والأزمنة والقواعد محافظا على قدرته على الإقناع والجذب والتشويق والإيهام بالصّدق محققا متعة القص.
في هذا يذكرنا القاص محمد المسلاتي Mohamed Elmslati بمقولة الأديب يوسف إدريس عندما كان يتحدّث عن مدى التزام الكاتب بالجنس وبالقالب شكلا:
"عندما يكون عقل أمّتي في خطر فلتذهب جميع الأشكال الفنّية إلى الجحيم "موثق بالصّفحة 180 ظلّ الذّاكرة حوارات ونصوص من أرشيف "الدّوحة" في حوار أجراه معه أحد الصحفيين سنة 1976.
_^___--'
سهيلة بن حسين حرم حماد
تونس الزهراء في 28/09/2021

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق