تقنيات مبتكرة كنجيماتٍ مطرة
إطلالة بقلم / محمد البنا
على..
رؤية نقدية لنص مذهل لشيخ النقاد العرب.. الأستاذ أحمد طنطاوي
قصة قصيرة من أرشيف الماضى
........
العصارى الممطرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا التكور اللدن ينسحق تحت عصبية يدىَّ , ثم ينفلت عنيدًا فى دائرة مرتدة
باستمرار .. ترى كم مرة ارتشفت شفتاى الرقيقتان من ينابيع هذا المعطاء الحنون ؟
صرختها الفجائية أوقفت أصابعى بانعكاسة عصبية مرتعشة الوجدان سحبت معها كل ضبابات حياتى , و أمى .. بيد مرتجفة تنزع على عجل مشابك الغسيل حرصًا على الملابس من المطر الزاعق
عينا روحى البريئتان تلتهمان بشغف القطرات الندية , و يشم كيانى عبق الأشجار المبتلة , و لم أدر _ و ما زلت _ سر هذا الارتباط الحميم بين الحزن و تلك الأوراق اللامعة ...فى عينيها تساءلت مرة أخرى عن المعنى , تلك المرآة لروحى ... ما زلت لا أعرف
سئمت التكرار , فانزويت بفكرى حيث المجاهل السحيقة للتأمل الساكن .
" لماذا توقفت فجأة ..؟؟ "
لم أدر بماذا أجيب , كنت حقًا أجهل الإجابة , لاشك أن فرجة من باب مغلق على وشك الانفراج , و سأرى حينها حتمًا ما يذهلنى و يعقد لسانى مرة أخرىلاشك أن فرجة من باب مغلق على وشك الانفراج , و سأرى حينها حتمًا ما يذهلنى و يعقد لسانى مرة أخرى .
حتى هذه الدماء النازفة بغزارة , و التى تعلن فداحة ما صنعت لم تخرجنى من دائرتى العجيبة , لم أر مثل هذه الألوان من قبل .. كانت هناك مئات الأنواع و الدرجات من اللونين الأخضر و الأحمر .. هذين اللونين فقط , بل إنى و أصر , قد سمعت لهما إيقاعًا فريدًا ... كانت تهزنى وتنادينى , فتختلط حروفها بهذه الألوان و الإيقاعات فى حُلم أعجزعن سرده .
أخرجتُ أخيرًا من حُلمى و تلاقى خوف عينينا , فأكملتُ بجنون ما بدأت هربًا من هذا السقوط الفجائى فى اللامعنى , و ابتدأ جسمى \ كيانى يسترد _ وسط الدماء و هدهدة الأمومة الحانية _ وجوده الحيوى النشِط راسمًا بأسى تلك الهزات العنيفة و قطرات المطر المنتحبة
كنت أعدو هاربًا بجنون من هذا الحُلم الجميل الكئيب .. ..هذه الجنة لم تُخلق لنا
سرنا ... نرتدى أغلفة الصمت الملتاع , وحيدين إلا من أنفسنا , تغوص أقدامنا فى مياه الشارع المبلل , و تلتمع وجنتانا تحت بقايا المطر فى ذلك الأصيل الشاحب .
.....
............
هناك ... فى زاوية الشارع , لمحتها تبكى تحت شجرة ...
رفعت وجهها العجوزالمتغضن ناحيتى فى حزن خابٍ , و بيدها مشابك الغسيل .
أحمد طنطاوى
13\7\1987
الثانية صباحًا
الرؤية النقدية
أقف أمام هذا النص.. بحزن وإعجاب شديدين، تستولي علي حالة من الدهشة .جزء مني يستمر بالوقوع فيه
مبللًا برذاذه الحزين الهابط بنعومة
وجزء آخر ارتطم قبل دهر وأورق، ثم أزهر بمشهديته الغضة الرقيقة، بلغته الثاقبة ورموزه المتواطئة الصادمة مع أم وطفلها الذي يرفض أن يكبر ، متمسكاً، بنسخته العالقة في الحاضر المرّ، نسخة عائمة في لزوجة الزمكان في سرد كامل وتفرّد، كوشاية حلم يتناسخ. هي لحظة زمنية يلتقطها السارد ويطلقها لترتد عليه في مشاهد حالمة تخفي ظلال قاتمة لحقيقة محدبة.. لا تعكس الحدث كما وقع بل تستمر بتشويهه.حبل المشيمة الخفي الذي يستمر بالامتداد فلا ينقطع ولا يُشجَب ولا يتوقف.
قبيل الحلم
السارد في حالة انزواء فكري واسترسال روحي كأنه مصلوب لكرسي في عيادة طبيب نفسي أحكم سيطرته على وعيه بخلق حالة من التأمل الساكن
(لماذا توقفت فجأة ..؟؟)
يبحث عن تلك الهوة التي تتشبث به، ليفتح له( فرجة الباب المغلق) أمام عقله الباطن فتنداح الذكريات المتشابكة لذاته الطفلة التي لا تتذكر سبب حزنها ولا انكسارها، بل تحيط بها الرموز التي تمتد فتغير ملامحها، يصبح للألوان صوت ويغدو للصوت دعوة
وللغموض القابع في الذاكرة هيئة واعية يتشاركها السارد ونسخته الطفولية في حزن واحد وكما ورد في النص
سرنا ... نرتدى أغلفة الصمت الملتاع , وحيدين إلا من أنفسنا , تغوص أقدامنا فى مياه الشارع المبلل, و تلتمع وجنتانا تحت بقايا المطر فى ذلك الأصيل الشاحب
بعيد اليقظة
ورد في النص
أخرجتُ أخيرًا من حُلمى و تلاقى خوف عينينا
للحدث هيئة غائمة، بوح شفيف متقن، يتحدث عن زمن ماطر، يغرق أرضًا عشبية خضراء بدماء نازفة، بصرخة أم خائفة تلتقط غسيلها الذي سيبتل، لن يشاركنا السارد لا وعيه، سيبتعد بنا خلف مجاهل إدراكه وعقله الباطن سيستبدل يقظته ب ال (السقوط الفجائى في اللامعنى)
,سيحدق في نسخته ويمشيان معًا ليواجها خوف الماضي وقسوته ،ذلك الخوف الغامض مما وقع ومما لن نعرفه يوما. حتى يسترد كيانه صحوة ما
عودة مبللة بالدماء وحنو الأمومة إلى الواقع
وكما ورد في النص
كنت أعدو هاربًا بجنون من هذا الحُلم الجميل الكئيب .. ..هذه الجنة لم تُخلق لنا
الأم ونظرية التحديق
فى عينيها تساءلت مرة أخرى عن المعنى
تلك المرآة لروحى ... ما زلت لا أعرف
هذه الرغبة الحادة بالهروب إلى الحقيقة تعطش جاد و خفي لقوة العقل وتمرده، ،هذا الإحساس المباشر بالآخر رغم غموضه لا يفتأ بالاستمرار والتجذر، لكن ما أن يمتد الرمز إلى أيقونة الأمومة حتى يتحول الواقع لبؤرة كثيفة، تستجدي إحساسنا بالإثارة المطلقةوتزداد قوة الشعور بالتجريد، فتستعيد الذاكرة روحها،وتصبح شخصية الأم بألمها وحنانها وعطائها مرآة شاسعة تعبر اللغة الخصبة فيها إلينا، عبر السرد المتساقط زمنياً في صعود وهبوط، وتنفذ لمشاعر المتلقي وأحاسيسه من علوٍ وتفوقٍ و تبصّر.
قَفل الزمن مرتبط بمشابك الغسيل
تأتي النهاية الطازجة كنوع من الإحاطة الكاملة لشعور السارد و علاقته بأمه، بفقر مدقع أنشب أنيابه في لحمه، من جنة حلم بها ولم تتحقق ، سينتهي النص بشاعريته اللغوية المكثفة إلى حلم يمضغُ ذكرى، تقبع في العمق...
تتشظى فيها مشاعر الإنسان المنفصم بين طفولته وحاضره لتطلق كابوسه الجديد وبؤس ماضٍ لم ينج منه، بل تسكنه أمه العجوز بأصابع تطبق على مفاصل الزمن، تعريه و تنزع عنه رومانسيته القديمة وارتباطها بالأوراق المبللة والمطر، بغموض الدماء النازفة وهول ما حدث، بمشابك الغسيل المسروقة. لتغرزه في واقع بربري مشؤوم لاعودة منه.. ويسائلنا النص وعصارته الممطرة في أعماقنا عن المعنى....
إذهال ثم إذهال ثم إذهال
Kinana Eissa
30 - Sep-2021
..............
الإطلالة
..........
عندما يبدع شيخنا سردًا، وتتلقف أستاذتنا لوحته الإبداعية تحليلًا، ينبغي علينا أن نفرغ عقولنا لنعيد ترتيب أبجديتنا الأستيعابية، ونفسح فضاء قلوبنا لنملأه نجومًا ودرر.
نحن أمام نص شديد التعقيد تقنيًا، أبدعه ناقد تعمد- ونجح- بوعي غلق نافذته النقدية حين مخاض لوحة شاعرية تنتمي للأدب الرمزي التراجيدي، لوحة غلبت عليها سوداوية المشهد، كلاسيكيات القرون الأولى، وكأنه لخص جحيم دانتي وجنة أفلاطون منصهرين في بضعة أسطر شاعرية حزينة، أقول تعمد صديقي أحمد طنطاوي بوعي ترك الناقد خلفه، ولكن الناقد تسلط عليه بلاوعيه، وأعمل قريحته النقدية الفذة، ليخرج لنا تقنيةً جديدة - أو أحسبها كذلك حسب علمي- فقد مزج بين تقنيتين ابداعتين معا في نص واحد، فنرى شخصية الطفل ( الراوي) تتصاعد رأسيًا حيث توقف الزمن أو تجمد، بينما المكان والشعور ( الواعي واللاواعي) يتحركان أفقيا، والتقنية الأخرى نراها في الشخصية المصاحبة ( الأم ) في تمددها الأفقي ( مرور الزمن )، ويتجمد المكان متمثلأً في عود على بدء ( نشر الغسيل ).
أما عن الدراسة التي تفضلت بها أستاذتنا الناقدة الرائعة كنانة عيسى، فلا يخفى على متابع مثقف ملم بالمدارس النقدية قديمها وحديثها، أنها أتبعت المدرسة التحليلية للنقد، ولكن بتخريج آخر يختلف في معظمه عن كلاسيكية المدرسة التحليلية، لتخرج علينا أيضًا بإبداع نقدي مستحدث مزجت فيه بين تفكيكية دريدا في شقها الثاني(إعادة بناء النص)، والمدرستان التحليلية والرمزية منصهرين في تحفة نقدية تضاف لرصيدها النقدي المتميز.
محمد البنا ٣٠سبتمبر ٢٠٢١



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق