الجنة والنار..لحظة احتضار
قراءة استشرافية
بقلم محمد البنا
لنص ( موت آخر )
ل / إيناس سيد جعيتم
................................
النص
.......
موت أخر
لم يدر أيهما أعلى صوتا، أنفاسه المتلاحقة أم نبضاته المتسارعة؟ تسارعت خطواته وظلام ثقيل يكسو الطريق حوله في ليلة هجرها القمر وعافتها النجوم، صرخت حدقتاه اللتان اتسعتا رغما عنه ألما وهي تتحسس انحناءات الطريق، هاجمه إحساس بغيض بالوحدة واخزا عموده الفقري فارتعدت فرائسه، خطا خطوة ضائعة ممددا ذراعيه محركا أنامله عله يجد ما يطمئنه، تنبهت أذنه لصوت لم يعرف أيأتيه من خلفه أم من تحت قدميه، لهاث وزمجرة دسا الرعب في قلبه الذي اعتصره الألم وهو يدفع الدماء في عروقه بسرعة ورائحة الخوف تنضح منه، تعثرت خطاه وهو يحاول الفرار من ذلك المجهول المزمجر بغضب حوله، مست أصابعه جدارا باردا فألجأ ظهره إليه فزعا والصوت يقترب، تمدد الجدار واحتواه لينهش جسده بأنياب وأظافر لم تدع خلية من جسده إلا وأذاقتها الألم..
استفاق على صوت نبضاته التي تقرع صدره في عنف، مرت ثوان حتى أيقن أنه حلم بغيض وانتهى، حاول فتح عينيه فعانده جفناه، ولم تقو ذراعاه على الحركة، أراد الصراخ أن انجدوني لكن شفتيه اللتين تحتضنان إنبوبا لم تتحركا، تحول خوفه لغضب وهو يدفع جسده الميت للحركة دون جدوى، عادت الأمواج المنكسرة تتلاحق في سرعة شديدة على الشاشة الصغيرة، سمع الباب يفتح وخطوات مضطربة تنتشر بالحجرة.
- احقنيه بالمهدئ بسرعة قبل أن يصاب قلبه بأذى.
سرى المهدئ مع ما يدخل جسده من محاليل، أجبر القلب على الراحة، وحام ضباب حول عقله، «أهو موت جديد يلبسني؟» قبل أن تسدل أخر ستائر العدم بينه وبين الحياة، تاق لضمة ذاك الجدار مرة أخرى.
إيناس سيد جعيتم٢٢أبريل٢٠٢١
القراءة
..........
العنوان ( موت آخر ) الدلالة ..أما موت مختلف، أو موت للمرة الثانية، إلا أن الجملة التي وردت في النص (تاق لضمة ذاك الجدار مرة أخرى) ترجح الاحتمال الثاني للعنوان، وفي المتن خوف شديد ولهاث ومحاولة هروب ثم التجاء الى جدار بارد يحمي ظهره، وفي النهاية يتكرر ( الجدار) مؤكدًا على أنه الجدار الأول ب ( ذاك )..المدهش أن الجدار في وضعيته الأولى كان ملجأ وملاذ وهروب من مجهول أو موت إلى حياة ( جدار بارد..يمنح الطمأنينة و " بارد" هنا تفيد الأمن والأمان، تناصا مع آية إبراهيم عليه السلام)، إلا أن الجدار احتواه ونهش جسده!!، ليظن السارد أنه في حالة موت، ليستفيق على نبضاته المتسارعة، ومن ثم حقنه لمحاولة انقاذه إلا آنه يتوق لضمة إخرى (تنهش جسده) ...أم أنها كلها هلاوس محتضر ( سكرات موت ولحظات ما قبيل الموت) اثناء اسدال ستائر العدم بينه وبين ما سبق؟.. وي كأنّ النص يقول أن الميت يموت مرتين..ميتتان الفارق الزمني بينهما لا يستغرق زمنًا إلا بقدر ما يستغرقه حلم، وبمعنى آخر..كأن الميت يرى موته قبل موته، ويرتعب منه ويحاول الهرب دون جدوى، فينتقل إلى اللحظة الأخيرة(الموت الفعلي) متمنيًا إياها وليس كارهًا لها..آن لقلبه أن يرتاح.
الفكرة جميلة رغم تكرارها في نصوص أدبية من قبل، ولكن المدهش هنا تمثل في معالجة جديدة تلاعبت بالأضداد ببراعة واتقان..موت حياة/ رعب راحة/ جري اجبار/ لهاث هدوء، والأجمل لفظة ( الجدار) بتوظيفها مرتين متضادين ( بارد ويعني الحماية والأمن )، و( أنياب) وتعني الموت والعذاب والعدم...ومجمل التضادات تؤول إلى ( الجنة والنار في الآخرة ).
نص مربك للمتلقي، جيد الحبكة، عمدت الكاتبة فيه إلى الصنعة المتقنة عمدًا، حتى في جملها المتسارعة الحركة، نضح منه انشائية سردية، رغم براعة الوصف المشهدي.
لغة سليمة وألفاظ دقيقة دالة محكمة.
نص مزج الحالة النفسية بأطروحة فلسفية ميتافيزيقية في جوهرها، رغم ظاهرها الوجودي، إذ أنها تنافش لحظة وجودية ( الاحتضار ) بالغوص في أعماق اللحظة تخيلًا، وهو ما لم يخبرنا به ميت سابق عنها..جميلة الأطروحة وجميل هذا العقل الأدبي الذي تخيل فطرح فأبدع.
محمد البنا..٢٣ أبريل٢٠٢١


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق