قراءة الناقد القدير عبد العزيز بحفيض / الدار البيضاء / المغرب
لقصيدتي ... الشمس محارة الزمن ...
قراءة الاقتدار ورد الاعتبار للنقد والحرف
جزيل شكري وسلال الورد
لعبة الذاكرة و الزمن :
نحو شعرية و تذويت الفضاء
يطل علينا النص الشعري عبر مكون الذاكرة " ذاكرة الدفء ..." و تنتتهي بنفس المكون " ذاكرة الحروف"، كأن هناك مخاتلة ومراهنة على لعب جميل، على رؤية مبرمجة لتمرير الخطاب الشعري و تفعيل هندسة نابضة بالحيوية ومشبعة بالزمن، مع الاشتغال على عنصر الفضاء في شتى تمفصلاته الفيزيقية والموضعية والحسية، فشاعرتنا منذ البدء، راهنت على الاشتغال على اللغة ذات تخطيط مفعم بالسلاسة والانزياحية والتأويل، فحسب إيلوار " تبقى في كل قصيدة عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة " من أجل أن تعطينا وتقدم لنا رسالة، لأن (الشعر الجيد فيما يراه لوتمان هوالشعرالذي يحمل بلاغا فنيا، ولا ستطيع ذلك إلا إذا تواكب فيه المتوقع واللامتوقع، فاذا فقد الاول أصبح عديم المعنى، وإذا فقد الثاني أصبح عديم القيمة) -1- فقبل استكناه عوالم القصيدة، نروم لمشاكسة عنوان النص الموسوم (الشمس محارة الزمن) لنستفسر جميعا، كيف تم انتقاؤه واختياره ليحمل هودج القصيدة ؟ فتبعا لجون كوهن ( ينال النص مشروعيته من العنوان فوجوده البنيوي رهين بوجود " العنوان " كما لو أن العنوان يقي الخطاب من الاندثار والتشتت و التلاشي) -2- فمن هو الأصل/البدء، هل العنوان أم النص ؟ هل اذا سبرنا مكامن العنوان، هل تنجلي الدلالات وتنفتح مغالق النص؟ ف( العنوان بنية رحمية تولد معظم دلالات النص فاذا كان النص هو المولود، فان العنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية و الايديولوجية) - 3 -عنوان القصيدة يتشكل من ثلاثة مكونات اسمية :
الشمس - محارة - الزمن.
ف"الشمس" كمؤشر على الضوء والدفء والحياة والتوقيت ( شروق - غروب - أصيل ...)، فهي كوكب كسائر كواكب الدنيا.أما "المحارة" فيمكن تفسيرها بالصدفة ونحوها أومكان يحوراليه اويحار فيه( موضع/ حيز) أما " الزمن "هو الدهر المطلق، غير المحدد ..فالشمس هنا اصبحت لها مكانة اساسية مع الزمن، بل هي بؤرته الرئيسية. لماذا هذا التصوير لصورة الشمس في هذا العنوان؟ هل يستمد النص الشعري ملامحه، صورته، أزره بأهداب هذا العنوان؟ أكيد ان نفس العنوان وجد ضالته في ثنايا النص و بالضبط في الشطر السابع ( وما للرقم 7 في الثرات الاسلامي والمخيال الشعبي ) كما ان مفردة " الشمس " تكررت ثلاث مرات في النص مع الاختتام بها في آخر الشطر الأول ( ذاكرة الدفء تغازل الشمس ) إذن فالعنوان( عبارة عن نص مختصر، يتعامل مع نص كبير يعمس أغواره وأبعاده )-4- سنطرح سؤالا مشروعا حسب لوتمان، قبل الشروع في عملية التفكيك والتحليل، وهو، كيف ينبني نص ما؟ ولماذا بني بالذات على هذا النحو ؟ فالشاعرة بوعي منها أم بغيروعي، هل هندست وخططت لمعمار قصيدتها ؟ لماذا البستها هذا القشيب المفرداتي والترسانة من الكلمات والصور والانزياحات....؟ هل تعمدتها ام ان السجية الشعرية غالبت الشاعرة و تحكمت في شعريتها وشاعريتها الدفء تغازل الشمس؟ لا شك ان الفضاء الذي اشتغلت عليه الشاعرة فضاء عام اتسع لكل مكونات الحياة الواسعة ، الكبيرة والصغيرة ( الشمس- الرصيف- الشعاع - الثلج- نجوم على حافة – البحار- المدى - الصدى - الخضم ...) مما وسع وعمق من التدرج الرؤيوي لقصيدتها، حيث بصمت هذه الفضاءات بشاعرية مرهفة، جعلتها نابضة حياة و حيوية :
- ذاكرة الدفء تغازل الشمس
-على الرصيف البارد
- يتمطى الشعاع
- الشمس محارة الزمن
- في أذنيها يروي حكاياته العجيبة
- نجوم على حافة الوسن
- همس المحارة ترجع الصدى
فهذه أفضية منحتها الشاعرة شاعرية لها مقيدة بزمن مطلق، ضمني، يشتغل في سرية وبحرية :
( زوربا يعد الخطى
يقيس المسافة
يعد خيمة )
( سفينة نوح والخضم
عزف أزلي ....ناي وقيثار )
كما نسجل أن أغلب الفضاءات والأفضية أنسنتها شاعرتنا بقصدية تروم تذويبها وجعلها تنوب عن الذات المخاطبة الواعية، لتقوم مقامها برسالة الإبلاغ الفني حسب لوتمان:
- يكنس الظل
- يمزق شبكة القلق المعلقة كالعناكب
-على الرصيف البارد
- يتمطى الشعاع
فمهما حاولنا الاقتراب من النص لاستكناه جوهره وأصوله ومنابعه الدلالية والمعرفية لأن ( هذا النص يوظف العلاقة التواصلية بين المفردات بطريقة مختلفة نقيضة اختلافية يفتح اللغة على مساحة غير منضبطة من سياقات البناء الداخلي وسياق القراءة وذلك لتستمد القصيدة حركيتها و عنفها من تحريك الدلالات في سياق بعدي جديد ومختلف )- 5- فهناك جمل تركيبية عادية التصنيف مما لم يستدع أي توترعلى مستوى الاستقبال والتقبل، بقدر ما كانت المفردات و العبارات خلقت صورا شعرية انزياحية متوترة، غير مألوفة أحدثت ارتعاشا ورجفة نفسيين لدى المتلقي الذي اعتاد تركيبات نحوية ذات دلالة مبسطة :
( تنصب ارجوحة الوصول
على الرصيف البارد)
(يذيب الدفء ثلج الملل
يكنس الظل
يمزق شبكة القلق المعلقة كالعناكب)
(زوربا يعد الخطى
يقيس المسافة
يعد خيمة )
القصيدة انبت على 33 شطرا شعريا ، ابتدأت ب :
12 فعل - 11 اسم - 10 أحرف
و انتهى الأشطر ب :
30 اسم - 01 فعل - 00 حرف - 02 ضمير متصل
عموما غلبة المكون الاسمي، على ماذا يدل الحضور الكاسح للمكون الاسمي في النص ؟
كما اعترى القصيدة عنصر تشويش الرتبة التركيبية في الجملة و كسر ترتيبها العادي من فعل – فاعل – مف به إلى فاعل – فعل – مف به ، مثل :
ذاكرة الدفء تغازل الشمس ( فا – ف- مف به)
ذاكرة الدفء ( فا- ف – مف به )
تراقص ليل المسهدين
في حين جل الجمل والتركيبات حافظت على ترتيبها المألوف، الا أن ملاحظة اساسية نسجلها على القصيدة، هو انفلاتها وعدم تقيدها بعلامات الترقيم، مما خلق تشويشا آخر في عملية ضبط الوقفة ( والابتداء، أنواع النبرات الصوتية والأغراض الكلامية تيسيرا لعملية الإفهام من جانب الكاتب اثناء الكتابة، و عملية الفهم على القارئ أثناء القراءة) -6- فهل الشاعرة واعية بهذا التوجه الحداثي النقدي في الاستغناء عن علامات الترقيم ؟ علما أنه ( إذا خلت الكتابة من علامات الترقيم المناسبة، فإن هذا يؤدي الى اضطراب المعنى عند القارئ ) - 7- فالشاعر المغربي محمد بنيس في ديوانيه ( مواسم الشرق ) و( ورقة البهاء )، ( لا يوظف علامات الترقيم، بل ترك شعره نصا مفتوحا، ينساب بشكل نثري وسردي، مما يجعله يدس كتابة جديدة ماحية للفواصل بين انواع الكتابة، أي الى نص متحرر تماما من اية علائق او قيود منطقية او بنائية ) - 8-على مستويات بنيات النص المعرفية أونظرية الإطار fram theory حسب منسكي Minsky، فالشاعرة اختزنت في الذاكرة معارف على شكل بنيات قصد نسج و هندسة قصيدتها ن منها :
1_ تيمة الأسطورة / التاريخ/ الشخصيات: نوح – زوربا – مجنون – المسهدين
2- تيمة البرودة / الحرارة : الابارد – الصقيع – الشمس- الدفء
تيمة الحالات النفسية : رجفة _ الملل – القلق- الانتصار – الحس – الصمت – همس-
3- تيمة الفضاء / الزمان : الشمس – الشعاع – الصقيع- ثلج- الرصيف- نجوم
لماذا وظفت الشاعرة شخصيات نوح وزوربا ؟
فيما يشتركان ؟ لماذا عمدت اليهما ؟
خلاصة القول يمكن اعتبار هذا النص انه يرفض مفاهيم نهائية للمعنى، وهو نص شاعرتنا يغري بالقراءة والمتابعة الماتعة لتدفق صوره وسلاسة تعابيره وكثافة رؤاه .
عبد العزيز بحفيض
الدار البيضاء/ المغرب
المراجع :
1- تحليل النص الشعري يوري لوتمان
2- -السيميولوجيا و العنونة جميل حمداوي
3- -في نظرية العنوان خالد حسين حسين
4- زمن النص جمال الدين خضور
5- -سيميولوجيا علامات الترقيم جميل حمداوي
القصيدة
...... الشّمسُ مُحارة الزّمن ......
ذاكرةُ الدّفْءِ تُغازلُ الشّمس
تنصبُ أرجوحة الوُصول
على الرّصيف الباردِ
يتمطّى الشّعاعُ
والصّقيعُ بالونةٌ
تُفرقعُها شوكةٌ مُهملة
الشّمسُ مُحارة الزّمن
في أذنيها يرْوي حكاياته العجيبة
منذُ ألف رجفة ورجفة
يُذيبُ الدّفْء ثلج المَللْ
يكنسُ الظّلّْ
يُمزّقُ شبكة القلق المعلّقة كالعناكب
على فوهة الانتصارْ
يوقظُ الحِسّ الغائرَ في الصّمت
غُبار الأيّام
لوثةُ مجنون يعدّلُ السّاعة
على هواهْ
يُبعثرُ الأوقات ..يضحكُ
ثمّ يُعيدُ ترتيبها
ذاكرة الدّفْء
تُراقصُ ليْلَ المُسهّدين
على شُرفاته تعلّقُ القناديل ..
نجومٌ على حافّة الوَسَن
وزُورْبا يَعُدُّ الخُطى
يقيسُ المسافةَ
يُعِدُّ خيمة
على الجانبين يُسقطُ الفزّاعات الواهمة
تتجلّى البحارُ في المَدى
همسُ المُحارة يُرْجعُ الصّدى
سفينةُ نُوح والخضمّ
عزفٌ أزليٌّ ..نايٌ وقيثارْ
والأنَا للأنَا دِثارْ
أُغنيةٌ مُعتّقةٌ في ذاكرة الحُروف.
تونس ..... 30 / 5 / 2020
بقلمي ...جميلة بلطي عطوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق