الخميس، 5 نوفمبر 2020

قراءة نص:عمر ينوء للشاعرة السورية: سمر الديك بقلم : الشاعرة زينب الحسيني _لبنان.

 قراءة نص:عمر ينوء

للشاعرة السورية:
سمر الديك
بقلم :
الشاعرة زينب الحسيني _لبنان.

النص :عمر ينوء.

عنيدٌ أنت يا ليلي
رياحك شمالية حزينة
لبست أردية العتمة وسرقتِ القمرْ
خبأتِ النجوم في متاهات مسحورةٍ
انبعق الغمامُ بانصبابات المطر
يغسل خطايا الحبِّ
والأرض, والبشرْ
ما زلت تعاندني
تكابدني
تراقصني تداعبني
كنسمة صيفٍ عند السحرْ
رفقاً بي أيها الليل
سأروي لك كل الحكاية
وأجتزىء لك بعض الروايةِ
بعيدةٌ عنه : عمري يضيع وسط الدروب
ذكرياتٌ حفرت أخاديدَ وبعض الندوبِ
لقاؤه حلم يتراءى من بعيد
والعشق صار حد الارتواء, أويزيد
والقلب ينبض سيلاً من اشتهاء
عساني أطير إليه
أرسل كل طيوري بين يديه
أسقيه شهداً مذابا
أقبل منه الوجه والتُّرابا
وأستعيد يوماً, كنا فيه شبابا.
القراءة:
نبدأمن العتبة"عمرٌ ينوءُ"
ينوء من "ناءَ" ناء نوْءاً فهو ناءٍ, ويقال: ناءَ الشخص بالحِمل: أي نهض في جهدٍ ومشقة.
ال"عُمر" نكرة تسَع تحت عباءتها زمناً بحاله, بكل الأويقات والظروف والأحوال التي يعيشها الإنسان في
حياته, وبكل التنوع والتّضادِّ والمفاجآت ..
"ينوء" بالمضارع يوحي بفعلٍ حاضر ومستقبلي, وال"نوْء"يدلُّ على تعبٍ ومشقة, في "عمرٍ" تعِسٍ


نعيش قساوة أيامه, وتداعياتِ هول الحروب والاغتراب والحنين , وانعاكاسات كل هذا, على نفسية
الإنسان من كمدٍ وكآبة وقلقٍ وجودي.
بيئة القصيدة:
أ_ الفكرة الرئيسية:
تبدأالشاعرة عتبة الاستهلال بقولها "عنيد أنت يا ليلي , رياحك شمالية ...
ليلها مروِّعٌ في كثافة حلكته وهمومه, بجراحه وغموضه.. يذكرنا بليل امرىء القيس حيث يقول:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي.
وفي تتابع النص , نكتشف أن الشاعرة تعاني من فقد حبيبٍ , عشقته عشقاً صوفيَّاً, وأنها تعيش على الذكريات التي
"حفرت الأخاديد" وتركت في الروح الندوب .و يبقى"الوصال"حلماً تصبو إليه.. و أملاً يحييها , لتستعيد يوماً "شبابها وأيام صباها" وتقبِّل منه "الوجه والترابا"
ب_ المستوى الدلالي للألفاظ والتعابير:
نتابع: "سرق القمر, وخبَّأ النجوم في متاهات مسحورة" صورٌ تحمل مجازاتٍ رمزية توحي , بأن كل ما كان يبهجها,
قد استتر في"متاهات" مجهولة خبَّأها سحرة أو شياطين.
"انبعق الغمامُ بانصبابات المطر
يغسل خطايا الحب, والأرض, والبشر.
انبعق المطر, تعني أن المطر سال فجأة وبغزارة.
النص يخاتل, ويحتمل التأويل, فهل "انصبابات المطر" هي الدموع الغزيرة التي تغسل " خطايا الحب"
أم هي غمامات تسكب زخات وزخاتٍ من المطر لتغسل خطايا البشر؟ ونتساءل : وهل للحبِّ خطايا؟

وكل ما نعرفه عن الحب أنه ملاذ للإنسان يستجير به ويأنس,والحب في معناه الواسع , هو فيض من محبة, أوصت به الأديان السماوية والشرائع قاطبة, ونادى به الرسل والفلاسفة , كي يكون مسلكاً وطريقة تحتذى في التعامل بين البشر,
فهل يسود اليومَ في الكون الحب؟ أم أنَّ الخطايا تسود..؟
ما يحصل في عالم اليوم, هو خير دليل على انقلاب الأمور وتسيُّد الشر والضغينة, كبدائل للحب ,
فقد شوَّه الناس وجه الحبِّ الكوني , وأفسدوه وتاجروا باسمه, بعدما تلوثت النفوس , فلوثت البيئة و"الأرض".
وكأنَّ الطبيعة تثأر لنفسها.
هذا التوصيف الشفيف, يحمل نفساً رومنسياً ذا علاقة بنفسية الشاعرة , التي تحس بالكمد والكآبة, ولعل
"انصبابات المطر" هي دموع مدرارة تذرفها الشاعرة كما سيتبين لنا من خلال متابعة النص,
حيث تقول:
"بعيدة عنه: عمري يضيع وسط الدروب
ذكرياتٌ حفرت أخاديدَ وبعض الندوب."
إذن هي تعاني من فقد حبيبٍ بقولها" بعيدةٌ عنه.."
ال"هاء " في "عنه",ضمير متصل يعود لغائبٍ , لم نعرف من"هو" لكنْ بإمكاننا أن نتكهَّن.. فقد يكون حبيباً وقد يكون "وطناً"
وعلى الأرجح أن يكون الإثنان معاً: الحبيب/ الوطن , فعند معظم الشعراء نجد تواؤماً بين الحبيب والوطن, ويصبح الوطن المفقود , وجهاً للحبيب المنتظر.
نتابع متن القصيد , فنتعرف على معاناة الشاعرة من جراء غربتها وبعدها عن الأهل والأحباب ,
بعدما تجاوز "العشق" حد الارتواء, وتجاوز الشوق طاقة الاحتمال.. وصار اللقاء حلما منتظراً, يلوح من بعيد..

ج_ المستويات التصويرية:
النص ثريٌ بالاستعارات:

(لبست أردية العتمة, خبأت النجوم في متاهات مسحورة, القلب ينبض سيلاً من اشتهاء)
القلب ينبض سيلاً من اشتهاء (أنسنة)
(ذكرياتٌ حفرت أخاديدَ وبعض الندوب ..( تشخيص) وما إلى هنالك من مجازات..
_غلبة الأفعال المضارعة ( تعاندني, تكابدني, تراقصني , تداعبني, ) تدل على الاستمرارية والحركة في آن ..
وظفتها الشاعرة للدلالة على حالتها النفسية و مراوغة الليل لها فهو تارة "معاند" وطوراً يراقص ويداعب,
لذا تستحلفه "أن يرفق بها" لتخبره وتخبرنا في آن :
"أن العشق فاض.." وهنا تسمو بإشراقة صوفية تذكرنا بالشعراء الصوفيين الذي يرتفعون بمراتب العشق وينزهون المعشوق,
فيصبح صنواً للإله المعبود ... تودُّ لو تطير إليه, ترويه حبَّاً و"شهداً مذابا" وتقبل منه "الوجه والترابا"
استطاعت الشاعرة من خلال صورها الشعرية, أن تنقل لنا معاناتها: قلقها, حنينها, ومن ثمَّ لهفتها وشوقها لوصال "الحبيب"
علَّها تستعيد شيئاً من ذكريات "عمرها" الذي بات " ينوءُ" بحِمل الغربة وندوبها,وآلام الكينونة بعيداً عن مرابع الصِّبا
وفقد الوطن والأهل , بالإضافة لفقد "الهوية" التي تحدد لها أبعاد شخصيتها ووجودها..
_ اللغة الشعرية:
اللُّغة الشعرية, مكثفة التعابير, شفيفة الألفاظ والتصوير, تعبر عما يجيش في النفس من أحاسيس متنوعة وتقلبات..
وظفت الشاعرة فيها , الأفعال المضارعة التي أعطت النص استمرارية وديناميكية حركية, فعشنا معها حكايتها
مع اللَّيل " المعاند" والوجد والأرق والانتظار..
في النص موسيقى داخلية, يحسها المتلقِّي من خلال تجانس الألفاظ والتركيبات المتناسقة, ومن خلال اللغة وسهولة الانسياب.
من خلال التعبير عن "الأنا" استطاعت الشاعرة التعبير عن الجماعة, وعن إحساس الإنسان بالغربة والضياع والتشرذم النفسي, وعن الشَّوق العارم لملامسة تراب الوطن وعناق الأحبة , الذين لا بدائل في الكون, تعوِّض فقدهم
في "متاهات الغربة"
وأخيراً كل التقدير والمودَّة للشاعرة المبدعة, الأستاذة سمر الديك على ما أمتعتنا به من جمال ورهَف أحاسيس,
بقصيدة هي ترنيمة حبٍّ وحنين لذكرياتٍ تحفر "ندوباً " في الروح وفي الوجدان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق