ال" معز بالعنوان "
عبدالله المتقي
قليلة هي عناوين الأعمال الأدبية التي تذهل المتلقي و تستفزه ثم تتصيده، كما تثير في ذهنه الحدس والفضول وكثير من التساؤلات عدة ، ولا يستطيع الإجابة عنها ما لم يقتحم أغوار النص وتفاصيله .
ونظرا لأهمية هذه العتبة وباقي النصوص الموازية في النقد الحديث ، الذي أولاها اهتماما متفردا ، فأبرز أشراكها الجمالية والرمزية والشعرية ، الأمر الذي نجم عنه ظهور علم جديد له قواعده وأصوله ، اسمه " علم العنونة ".
ابن سيدة الأندلسي يراه "سمة الكتاب" ، أي علامته وباب الدخول إليه ، ويشرق كما لو أنه ثريا معلقة في سقف النص يراه "دريدا " ، ويعده محمد مفتاح بمثابة الرأس للجسد ، ويمدنا بزاد ثمين لتفكيك شفرات النص ، وصفوة الكلام ، " علامة الدار على باب الدار " يقول المثل الشعبي .
في نفس السياق ، نادرة هي تلك العناوين التي تبقى موشومة في ذاكرة التلقي كصوت حواري ، وكإغواء ، وكمرايا متعددة من شأنها أن تزج بالقارئ في عوالم النص ، وتحضرنا بعض هذه العناوين النوعية والشائقة والمغرية ، ولتكن تونسية ، وعلى سبيل المثال ، نذكر في الشعر " عرق ذهني أو عضة فاكهة على فم عاطل” ليوسف خديم ، و" لا ينام البحر إلا وحيدا" لحافظ محفوظ ، وفي القصة القصيرة ، " الدماء لاتنبت القمح" لحسن سالم ، وفي الرواية " الملا ئكة لا تطير " لفاطمة بن محمود ، " عشيقات النذل " لكمال الرياحي ، "مسمار تشيخوف" يوسف رزوقة،
مناسبة هذا الحديث في محبة سحر العتبات ، العنوان الذي اختاره الروائي والإعلامي التونسي معز زيود لروايته الجديدة " الحدائق المحرمة " الصادرة مؤخرا عن مسكيلياني للنشر، عنوان يدري كنهه كما الصيرفي ديناره ، وكما لو أنه علىى وفاق “مع فيليب لان ، و " ينبغي أن ننتبه إلى النص الموازي وأن ننتبه منه "
وبهذا ، تبتغي بوابة "الحديقة المحرمة" ، عفوا، بوابة الحديقة الماكرة جماليا ، توريطنا إيجابيا في الانتقال من شجرة إلى أخرى أخرى ، ومن ذاكرة إلى أخرى تليها ، وإلى جملة من الانكسارات العاطفية والمهنية والسياسية والإعلامية المنخورة حتى ، والتي سيقشر بيضة حرامها وممنوعاتها بطل الرواية ، ويبدو معز كما لو ينبش روائيا في الواقع التونسي ما بعد الثورة، الذي أمسى كما التنين وبرؤوس متعددة ، ومصابا بسرطان المرحلة ، ويشبه حديقة محرمة لا يعي حرامها الحلال سوى من في قلبه وطن يستحق الانتباه .
رواية لم أجد لها من تشريح عارف وعالم ، غير ما كتبته الروائي محمد عيسى المؤدب على الواجهة الثانية للغلاف "يمضي معز زيود في توصيف رحلة الجسد والروح، منفلتا إلى كل الأمكنة المتاحة، وكأن السكون والضيق زنازين موصدة للروح المغتربة والجسد المهتاج. فلا تستعرض الرحلة فتوحات العشق واللذة بقدر ما توغل في امتصاص إحساس ثخين بالضياع، ضياع النفس وضياع الوطن الذي تأكله أفواه أبنائه، كما يأكله سوس الفساد وسطوة المتطرفين والجواسيس".
وبقدر ما سحرني هذا العنوان الذي لم يأت اعتباطا، ولا تم إنزاله هكذا ، فمن يعرف هذا العزيز زيود ، ويقرأه بعين فاحصة وعاشقة ، يصل إلى أنه قارئ نهم بأكثر من لغة ، وكاتب ماهر وحرفي ، ويحترم الكتابة حد الصلاة والعبادة ، فهي لديه كما الشعر لدى ابن رشيق " باب متسع جدا ، وفيه أشياء غامضة ، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة " .
أقول : زيود لا عب ماهر في كتاباته بدءا من عناوين أعمدته ، ثم هذا العنوان الروائي الذي جاء تساوقا مع ماقاله النقد القديم " تسمية الأسماء بأضدادها " ، وهذا يعني أنها حديقة مباحة لكل من يتقن فك الشفرات الرابضة في ذاكرة النص وجغرافيته ، إنه لعب المهرة الذي يتصيد القارئ للدخول إلى هذا الحرام المباح والمسموح به.
وختاما ، ماذا لو كان هذا العنوان الذي يرفع شارة التحريم ، حكاية اسمها لعبة الكتابة التي اسمها "المكر المعقلن والشائق والبهي " ..وفي انتظار دخولك عزيزي القارء إلى أغوار "المعز بالعنوان " ..مبروك لزيود هذا الجديد الروائي وبالدفوف والمزامير ، وقراءة ممتعة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق