الأحد، 27 ديسمبر 2020

قراءة نقدية بقلم: الكاتبة الجزائرية زهراء كشان في مجموعة قصصية ضريح بلا شيخ للأديبة المصرية شاهندة الزيات

 قراءة نقدية بقلم: الكاتبة الجزائرية زهراء كشان

في مجموعة قصصية ضريح بلا شيخ للأديبة المصرية شاهندة الزيات
تتجلى أهمية المجموعة القصصية ضريح بلا شيخ في أنها تظهر التطور البشري من وجهة نظر فلسفية و مواقف ذات بعد اجتماعي مرتبطة بوجود الإنسان العربي المسلم في هذا الكون ،كما أن العلوم الاجتماعية و الأخلاقية النفسية حاضرة في هذه المجموعة القصصية التي تخاطب الضمير الإنساني حيث تكشف الكاتبة عن صدق وجدانها في طرح جريء منسق يساعد المتلقي عل فهم الأفكار و استيعابها. ترسم في الأفق الإنساني الذي يتجلى عبر التخيل في قصص ضريح بلا شيخ بإيوديلوجية حكيمة تختزل من تجربة الأفراد مشاهدا وتلون بلباقة لوحة فنية في أفق بلا حدود ببراعة و بمختلف الألوان ، بطرح جريء لبق تتدفق أفكارها متسلسلة و تنساب الكلمات مخضلة بقطر الندى لترصد أحداثا من مواقعها ، تقوم الكاتبة بتجميع الأحداث و تنظيمها بتفاصيل تغمرها بالجاذبية ، تجعل القارئ يسهب داخل الوصف و التراكيب دون تعثر بشوق لمعرفة الأجزاء و الوصول إلى النهاية. في مقدمة حازمة تلازمها المغامرة و الجرأة و التحدي من كاتبة عربية ذات شخصية قوية سأصطحبكم في رحلتي و الصراخ الأبدي يمحق عظامكم و يفنيها
ظهرت لتتلاشوا و خلقت لتعدموا، فأنا وجدت لأصنع لك ذاك المرآى الممزوج بالوجع ... هل تبصره ؟ هل تحس به
تلك العبارات المحكمة التي تسربت مع تنهداتها وسجلتها في سطور ،حددت لقصصها مآرب قبل أن تخط رسائلها للقارئ.
فوق حطام المشاهد الدرامية تتدخل شاهندة بمواقفها الصارمة في كثير من الأحيان
في قصة صرير الأفاعي: كل قطعة أثاث تتفق مع الأخرى لتشتعل حولها و تشكل حاجزا منصهرا يمنعها من المرور ، يحسبون أنهم أذكياء طوال الوقت و نسوا أن الإله اسمه الحق و العدل والرحيم ، الشديد العقاب في نفس اللحظة
استوحت المؤلفة شاهندة الأحداث الدرامية من مظاهر حقيقية مأساوية من واقع المجتمع العربي الإسلامي وراحت تبلورها في ساحة الخيال تصورها بمرونة فكرها الإبداعي تنظمها في تسارع مبهر وترتبها بإيحاءات موجزة محترمة قواعد القصة القصيرة ، تسيِّر الأبطال بفيض خواطرها ،تبدأ الموقف و تنهيه ببراعة، في تشويق و إثارة تجعل القارئ يتطلع لقراءة القصة الموالية.
عرضت الكاتبة القصص بمنهجية هادئة من أجل إقناع المتلقي بلغة تعتمد البساطة ، تبرز فيها نزعة الإصلاح ، ترددت كلمات نفسها أو مرادفاتها أو مشتقاتها في ألق و بعربية فصحى سليمة في انسجام مع اللهجة المصرية المتميزة، تثري النصوص و تضفي عليها بلاغة و جمالا ،قصص مؤثرة متماسكة تمزج بين الواقع و الخيال تظهر الشخصيات في أدوار مترابطة ، من خلال جزئيات قليلة للفرد ترسم خطة واسعة للمجتمع و تؤسس فضاءات مناسبة لقراءة تأملية من خلال التأثير على النفس الإنسانية.
صورت الكاتبة في منحنى التطور الاجتماعي لحظة انقلاب القيم داخل الأسرة العربية فتقوم بإصلاح هذا الشرخ بأخلاقها و ميولها و وجدانها ، يتحمل قلمها هذا العبء معها باعتباره قلم المرأة العربية المسلمة ، اعتنقت الكاتبة بعض الظواهر الاجتماعية أثناء الكتابة و بصمتها على الورق بتبر و حبر مزجت بين الحس الاجتماعي العاطفي و الوازع الديني الأخلاقي دون خدش لحقائق المجتمع العربي المسلم حيث حاكت المشاهد في نسيج واضح الانسجام بأسلوب شجاع،صاغت المواقف و شكلت الجوانب الدرامية للواقع بإبداع ، تجلت الدوافع الموضوعية لشخصية البطل في قلب القصة، أرادت أن تظهر بمهارة المعادلة الصعبة، كيف تتحطم المرأة و تتلاشى في عتم الخطأ و الخيانة في حين تسمو بكبرياء في ظلال الأخلاق و الوفاء للأسرة و الدين و المجتمع، أبرزت القصص أن الإخلاص و الوفاء قيمتان جميلتان وأن الرداءة تمزق نسيج المجتمع .
اعتمدت الكاتبة على الحبكة السردية و نجحت في منهجية الحكي ، أضافت استنطاق الشخصيات في عدة مقاطع في بعض القصص في منلوج تعبر عن الغضب و الاحتدام النفسي سأزفك له ، سأعقد عليكما الليلة لا ليست الليلة و إنما في التو و اللحظة، استمدت القصص قيمتها الجمالية من بنائها الفني حيث تألقت المؤلفة شاهندة في حركة التنقل بين القضايا في خفة و نشاط و انتقاء المواقف و تطويرها تدريجيا و تحريك الأشخاص بمهارة ، الوحدات تتداخل في انتظام، تتضافر الأزمنة و الأشخاص في تناغم لتوفر الذوق و الدفء و تجلب المتعة و الفائدة و الاستراحة أثناء القراءة، اتسمت القصص بالسهولة و الوضوح في غير إفراط كما تميزت بالشفافية و حسن اختيار الألفاظ من حيث الرؤية والوظيفة و الأداء، كما ميزها الاختزال السلس و مرونة الأفكار و الهدف القوي،وردت عبارات راقية استزادت بها النصوص أناقة و بلاغة اتضح من خلالها اتساع الخيال و انسياب في الأفكار و رونق في التعبير ، استعملت أدوات التعليل و الروابط المنطقية ، تفننت في بناء نسقية التراكيب و المعاني. الأديبة شاهندة الزيات ضليعة في القص و من هفت نفسه لقراءة قصة قصيرة ممتعة فليتوجه بدون تردد إلى ضريح بلا شيخ مجموعة قصصية لها نكهة أدبية خاصة .
L’image contient peut-être : 1 personne, texte

قراءة: بعنوان النّزعة الصّوفيّة في القصّة القصيرة "من العيون قفة.." للأديبة القاصّة التّونسية زهرة الخصخوصي بقلم الناقدة سهيلة بن حسين حرم حماد

 قراءة: بعنوان النّزعة الصّوفيّة في القصّة القصيرة "من العيون قفة.." للأديبة القاصّة التّونسية زهرة الخصخوصي

==========
=============
مِنَ العيون قفةٌ... !
كلّ الأدراج خاوية...
ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ...
تجمع أشلاء حيرتها وتنتصب واقفة.
"كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !
كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !
فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.
تضيق وتضيق وتضيق...
ولا ضلع في الدّائرة يسندني.
لا ضلع في الدّائرة..."
تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجإ لأسرارها الشّحيحة.
يئنّ الدّرج المنخور تحت قبضتها وهي تسحبه إليها، يُشرق وجهها بابتسامة ظفر، تسحب لفافة قطن، تتحسّسها كأنّها رضيع في قماطه، تفكّ عقدة صغيرة تلفّها، ثمّ تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره.
ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة، تقرّبها من وجهها، تتشمّها، فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ.
تضع في فمها حبة اللّبان المرّ وترتمي على أريكة باهتة الألوان، ألوان ما اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات...
حبّة اللّبان المرّ شهد يمحو لبرهة من الزّمن علقم الحياة الذي تكابده...
حبّة اللّبان المرّ حلوى الذّاكرة، فاكهة مجلس أمّها الحنون، تمائم العرس في كفّ الصّبايا، وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة...
وكم باتت حبّة اللّبان، في عتمة خطى يقين، مشاعل لمتاهات الحكاية... !
وكم صارت يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان !
طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة.
تتّبع صدى الطّرقات...
تسوس الطّرقات خطاها.
بصوت كالرّجيف تسأل:" من...؟"
صوت هامس رهيف يأتيها من خلف الباب:"يقين...؟"
يهتزّ قلبها لصدى الصّوت الهامس الرّهيف، تعضّ على شفتها، تشدّ قبضتها على فستانها، وتسند رأسها على الباب كالخدرة مردّدة:"من...؟ من أنت؟"
ويفترّ ثغرها بالضّياء، كأنّها ترى ابتسامته النّضّاحة عذوبة وهو يجيب:" أنا حلمي... زوجك أيقين، افتحي الباب."
تأسرها رعدة تجتاح كامل جسدها حتّى لكأنّها تسمع أسنانها تصطكّ.
"أوّاه...كم سنينا مضت تلتهم السّنين
وأنا أنتظر معجزة الإياب...
قالوا "مات"...
لم قالوا " قد مات"؟
لمَ ذريتني لقمة للشتات...؟
أنّى ذريتني وعانقت الغياب...؟
كم سنينا مضت...؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين... !"
تزداد حدّة الطّرقات، وحلمي خلف الباب ينادي:" أيقين افتحي الباب، أيقين..."
يزغرد المفتاح في أكرة الباب، وتفيض أنهار العناق.
ذات الرّائحة الحبيبة تؤوب إليها والصّوتَ الحبيب، والجسمُ النّحيل ذاته، كعهده، في العناق رحيب، وكثير من البكاء الغريب الغريب...
ويقين تمسي ذوبا في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف.
كان خريف...
والأخبار هلّلت لانتهاء القتال، الحرب لملمت أوزارها، تركت للرّياح أن تكنس أوراق الأزيز، أن تضمّد جراح الغيمات حتّى تعشق وجه الشّتاء...
وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب
كانا معا، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء
والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى...
كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع...
قال:" أسمّيه جمالا".
قالت:" أسمّيه ربيعا".
لكنّ قصفا جائرا شوّه ذاك الجمال، أجهض ذاك الرّبيع، وبسط رداءات الخريف على كلّ الخطى، واستيقظت يقين على جسد يخنقه البياض، على بصر يخنقه الظّلام، على خبر يقول:" زوجك ضمّه موكب الأموات..."
تتخلّل أصابع يقين شعر زوجها، تبتسم، تهمس:" الحمد لله أن ظللت حيّا سليما"
يتمتم:" ما أدراك أيقين؟
ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى ؟
الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين...
وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعا ! ثمّ ألا ترين سا..."
تلذعه سياط نشيجها، يبتعد عن حضنها قليلا، يمسح بكفّه دموعا حرّ وهو يهمس بصوت رجيف:" زال الخريف أيقين... ها قد عدت، ها نحن نجتمع من جديد...
مواجعُ الفقد تذبّها ساعة الوصال.
المواجعُ ريح يكسر أمواجَها دوامُ الحال من المحال، و لله الحمد أن ما دامت حال..."
يشتدّ النّشيج، يحتضنها حلمي من جديد، لكنّها تسحب نفسها منتفضة وهي تصيح:"أعماني ذاك المساء يا حلمي... إنّي عميت."
يتأمّل الزّوج عينين لا تريانه، يشرق فؤاده بالنّحيب، يعقل سيّاف الفرح لسانه.
"الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة...
الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة..."
تكنس العينان المعتمتان ابتسامته وإشراقات النّظرة المشتاقة.
يتفحّص زوجته الضّريرة فلا يرى غير الأسى.
مشارط الآه تنقضّ على الفؤادين العليلين بلا رحمة.
يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك"
تصرخ يقين:" ما هذا...؟"
يردّد حلمي:" لا تجزعي ، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن..."
تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين...
جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين...
تهمس:" لأراه... ربّاه، قفّةَ عيون"*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزهرة خصخوصي/ تونس
(*)إحالة على مثل تونسي ترجمته إلى الفصحى هي:" والأعمى يتمنّى قفّة عيون"
========
===========
نص القراءة :
قراءة: بعنوان النّزعة الصوفية في القصة القصيرة من العيون قفة..للأديبة القاصة التونسية زهرة الخصخوصي
العتبات:
من العيون قفة ...
عنوان مقتبس من المثال التّونسي
(لَعْمَى يتمنّى قفّة من العيون )
والشّاهد في ذلك أنّ أحدهم سأل ضريرا قائلا: "يا لَعْمَى آشْ تحِبْ" ردّ عليه "قفّة من العيون " وقيل أيضا "من القفاء عينان" وكلاهما مثل تونسي متداول يفيد تقريبا نفس المعنى قفة من العيون أو من القفاء عينان ..
طلب يبدو غرائبيّا ولكنّه يوحي بشوق مفتقِد لنعمة البصر، إلى النّظر فهو يرغب في أن تصبح له مقدرة خارقة تفوق المعقول والمتعارف عليه، تمكّنه من تعويض ما فاته و متحسّبا ما هو آت، لذلك يطلب قفّة من العيون تجنّبه الحاجة لتخزينها حتى يتمكّن من تعويض ما قد يتلفه الزمن ويفسد ساعة يرغب في ذلك أو ربّما يتمنّى استعمالها كلّها ليتمكن من النّظر في كلّ الزّوايا وكلّ الاتجاهات حتى كأنّني أحسبه يطلب عيونا مجهريّة بمواصفات كميرا بانوراميّة الأبعاد تمسح الأمكنة والأشياء بمقدرة مجهر مسحا وتدقّق في التّفاصيل تدقيقا بحيث لا تدع كبيرة ولا صغيرة تفوته تعويضا لنقص يشعر به لتتجلى أمام عيونه القفة كلّ الحقائق...
ج٢
الاستهلال والقفلة
كلّ الأدراج خاوية...
ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ...
الحدث: ارتطام يد أنثى بالخشب تبحث عن شيء مضمر في أدراج خاوية تتصارع مع الزّمن والفراغ والخواء بين الرّغبة والفقد والعناء والأمل في العودة... بين لفظي الغرق والارتطام... يظهر جزء من لوحة، ينقصه ركام وحطام وأشلاء..لتكتمل الصّورة التي كوّنها الرّائي في ذهنه وخياله... فكلاهما يسبح في خياله ومخياله أملا في بلوغ مرفإ آمن لا يخيب آماله فلأيّهما ستكون الغلبة؟...
يبدو الاستهلال في علاقة وثيقة مع العنوان وكذلك مع القفلة من خلال الهمس وكأنّ الذّات بلغت من الضّنك أقصى مداه، فلم تعد تقدر على الكلام بصوت مسموع ، من فرط إجهاد الصّراع مع أمواج الفراغ، ومن جهة أخرى بلغت سعادتها أقصى مداها بحيث بدا تمسّكها بالحياة مرتبط بفرحتها بالحياة وشدة شوقها إلى النّظر إلى الهو الغائب الذي ما زال غائبا أم أنه غائب مستتر قصدا تفاديا لركاكة التكرار وتجنبا لترهّل حكي. ذاك الهو الذي ظنته قد فارق الحياة ومازالت لم تشبع بتلمسه فحسب بل إنها اشتاقت لرؤياه حتى تتفرّس في وجهه وملامحه وبقية قوائمه لتمتلأ من حسنه بهاءه بالنّظر ،وبالتّالي عادت إليها الرّغبة في الحياة وفي الإمتلاء
"تهمس لأراه...ربّاه قفّة من العيون "من خلال المتوفّر في هاته الفضاءات المجاورة عنوانا (استهلالا وقفلة)يتّضح لنا مدى وحدة ذوبان الحدث واندماجه مع الفضاء الخارجي من خلال توحد انفعال الشّخصيّة، صاحبة اليد، مع المحيط الزّمكاني والأشياء، يبرز مدى توفّق السّارد في الوصف، ومقدرته في مشاغبة للقارئ وتوتيرة بشكل ضمن استعداده وتشوّقه لمتابعة بقية الحكائيّة، من خلال نقل صورة حيّة موجزة تعتمد على المشهديّة والإحساس والإيحاء والإلحاح في القرع وذلك بتناغم الإيقاع سبرا في أغور النفس باعتماد تقنية الكر والفر تسريعا وايجازا بتقديم موجز خاطف يلعب دور الآفيش للفلم سينمائي متسقا منسجما لفظا ومعنى..
ج٣
من خلال جسّ نبض النّصّ وتلمّسنا لآليات السّرد فيه، يتّضح لنا قاموسا لغويا يضطلع بمقدرة هائلة على اصطياد أفعال ذات بعد دلالي رمزي إيحائي فيّاض مكثّف متدفّق شذريّ يمزج بين رصد الحركة الخارجيّة للبطلة وسبر أغوار نفس مكلومة تشكو فقدا مضاعفا يتعالق مع عالمها الخارجي، فضاء، وأشياء. يتزاوج فيه الانفعال مع التّعابير المكنيّة المجازيّة الموظّفة التي أضفت على المتن بعدا شاعريّا شعريّا، يشاغب شغاف قلب المتلقّي، ويزيد من رصيد المتعة والتلذّذ لديه، من خلال استحسانه لاستعمال اللّفظ في صياغة العبارة رغم مرار الواقع المشابه لحبّة اللّبان المرّة التي بات مرارها أيقونة دلاليّة، و عنصرا أساسيّا فاعلا وفعّلا ومكوّنا رئيسيّا ويقينا لا يدع مجالا للشكّ لطعم حياة البطلة يقين، ليتشكّل لونا من ألوان السّعادة والفرح والحلوى والحنّاء والطّعام وقد تمّ التّوسّل بحبّة اللّبان المرّ واسقاطها لإبراز مدى قتامة الوضع ومرار واقع حياة فئة من المجتمع تستمر معاناتها في الزّمن كاستمرار أفعال المضارع وتواترها كل هذا ساهم بشكل مذهل في إبراز الجانب الفلسفي الوجودي الذي تنبثق منه رؤية الأديبة، من خلال تركيز زوم عدسة السّارد العليم على زوايا بعينها لتضخيمها وترتيب الأفعال وتواتر حدوثها مع رصد كلّ انفعال بشكل أبرز حرفيّة في إحكام لعبة تركيب عناصر الحبكة بشكل جعل القصّة القصيرة تبدو لها ذروة كذروة الرّواية وكأنّها استبدلت طابعها الهلالي وذلك لحظة بلوغنا: "تفكّ عقدة صغيرة تلفّها ثم تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره" وقد تعالت دقّات قلب المتلقّي وبدأت في التّسارع خلال الوصف وتدرّجه البطيئ حيث ساهم في توتير هذا الأخير لمعرفة ما يوجد داخل اللّفافة الملفوفة كنمط إيقاع السّرد والوصف الدُّرِّي، كالاتفاف الدّرويش الصّوفي ودورانه حول نفسه أثناء آدائه لطقوس رقصة المولويّة حين ينصهر مع نغمات العزف والذّكر ممعنا في التّفكير في الذّات الإلاهيّة سعيا إلى بلوغ مرحلة الصّعود كمسبار نفّاذ للانعتاق من الجسد لبلوغ الحقيقة النّورانيّة والكشف، لتخليص الذّات من فاعليّة الزّمن الدّائري و الجاذبيّة الأرضيّة لننتبه فجأة أنّه من خلال الألفاظ المستعملة أنّ النّصّ يكتسي طابعا صوفيّا وأن الحركات فيه ذات طابع دائري كدوران رقصة التنانير المولويّة التي تماهي في شكلها دوران الكواكب في السّماء وقد توخّى السّارد هنا أيضا، التدرّج والتّنامي في صياغة مفاتح قاموس الطّابع الصّوفي. ولدعم زعمنا هذا، أُكمل استعراض بقيّة الوصف في الكشف عمّا يوجد داخل اللّفافة للتتبّع بقيّة معجمها اللغوي من خلال الألفاظ المستعملة ومن ثمّ ربطها مع ما سبق، مستشهدة، بما تيسّر من أمثلة داعمة الفكرة للتتجلّى بوضوح أكثر
"ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة تقرّبها من وجهها،تشمّها،فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ فتضع في فمها حبّة اللّبان المرّ ....
اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات.."
فمن خلال الطّوفان نستشفّ فيضانا وفيضا،أمّا الشّهقة والصّعقة فتحيلنا على البرق والومضة والوميض وشهقة البداية، ورجفة الخزّاف التي تنبثق منها تشكيل المادّة ، وشهقة النّهاية التي تمنحها الصّعقة مسحة قاتمة، ترتبط بالعتمة والظّلمة وبالفعل السّالب للحياة الرّافع للرّوح ترفّعا (كرفع كفّها) المرفوع استعدادا للإقلاع للنّفاذ من السّقف ومن السّماء كذلك فعل "تقرّبها"يقرّبنا من
التّقرّب إلى الله أمّا العصفور فيأخذنا على جناحيه إلى رفرفة الرّوح، فيما يسافر بنا معنى "في آخر ملجإ لأسرارها " إلى سرّ الأسرار النّورانيّة التي تنكشف بواسطتها الحقائق..
كحقيقة مرار لبانها المرّ الذي تلوكه والذي صار طعمه مرادفا ل "حلوى الذّاكرة وفاكهة لمجلس أمّها الحنون، ولتمائم العرس في كفّ الصّبايا" ذاك الكفّ الذي مازال منجذبا للفعل للمس ولجاذبيّة الأرض التوّاقة للتّكاثر وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة "...
لتصير يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان كأنّها النّبيذ المعتّق لمرار حياتها الحالكة يقينا ومنارة تستنير بها كناظور تستدلّ به المراكب في عتمة اللّيل الحالك تجنّبها الضّياع والتّوهان في عباب بحر ظلمات الحكاية التي تختزنها ذاكرة....
ج٤
نتبعها، نتابعها، في تتبّعها الصّدى، تسأل، ويجيب الغائب همسا، كأنّه الرّوح، يلتبس لدينا الواقع والحلم والأمل، الحاضر الواقع المتخيّل الغائب المفقود بالفعل الذي ما زال مفقودا. والمتخيّل الغائب العائد بالفعل الذي صار فعلا فاعلا حاضرا مخاطبا، فالأفعال السّابقة جاءت كلّها تقريبا في زمن مضارع، تلوكها كعلكتها المرّة في فك السّنين الماضيّة، معانقة بذلك السّراب والخواء تتنامى الحكائيّة، بظهور دائرة سرديّة تدفعها دفعا نحو مزيد التّشويق، خادما رؤيا الأديبة ،الذي أمعن ساردها في استدراج المكان والزّمان وإقحامهما بشكل جدلي تفاعلي موحّدا إياها موفّرا بذلك عناء شكوى،وتظلّم يقين من واقع قاهر لتدخل في حوار وجدل مع المتلقّي للتّحاور في شأن وضع تغلب عليه صبغة الكونيّة، متجنبة بذلك السّقوط في الإسهاب والتّحليل الذي كان سيضفي بها حتما إلى ترهّل القصّة القصيرة التي قد يتضايق منها المتلقي فمن خلال ضيق العبارة استفزت القارئ ومكّنته من فرصة أكبر للتّحليل والتّحليق في فضاء التّأويل بحيث كان لها بليغ الأثر لديه للتعمق والغوص للقبض على درر النّص....
سهيلة بن حسين حرم حماد
سوسة / تونس في 23/12/2020
L’image contient peut-être : 1 personne

السبت، 26 ديسمبر 2020

مزاجية النقد ومافيات التعصّب بقلم الأديب عادل نايف البعيني

 مزاجية النقد ومافيات التعصّب


عادل نايف البعيني
ليس من السهل هذه الأيام الخوض في ماهية النقد الأدبي نظرا للكم الهائل من الإنتاج الأدبي الذي يحمل في طيّاته الغث والسمين، إضافة لقلة النقاد وضيق الوقت لديهم، ناهيك عن العزوف عن القراءة إلى الإنترنيت والتلفزيون وغيرها من وسائل الثقافة السريعة وغير المملة بسبب المادة المطروحة. لكن كل هذا لا يمنع من إلقاء نظرة إلى ماهية النقد في بلدنا، والرد على كثير من التساؤلات من قبيل: هل للنقد الأدبي مافياته؟ وهل للنقد الأدبي صداقاته وعداواته؟ وهل للنقد علاقة بالسياسة يخدمها ويعمل في إطارها؟ وهل هناك نقد أدبي خاص بالجنس الآخر؟ وهل هناك نقد مزاجي من قبيل أحبّ هذا النوع الأدبي ، ولا أحب هذا النوع؟ ومن يطلق التصنيف على شاعر أو روائي أو أديب بأنه شاعر وروائي؟
النقد كما يعلم الكثيرون هو وقوف الناقد بتجرّد مطلق عن الميول والرغبات والانتماءات السياسية أو الحزبية، على جوهر العمل الأدبي من حيث الموضوع والمعاني والأفكار الجديدة والمبتكرة مرورًا بإسهاب على النقاط الإبداعية المضيئة في النص. وإذا كان العمل النقدي يسير خلاف ذلك فإنّما هو نقد مزاجي قائم على نظرة سطحية ، ومنطلق من حكم مسبق يمكن أن يكون الناقد قد وضعه سلفا على اعتبار أنّ الكاتب هدفًا ومتنفّسًا له، إن من ناحية تعاليه عن القراءة، أو بسبب معرفته له كونه معاصرا أو غير مشهور، وكثيرا ما يقع الكتاب المبتدئين ضحية لهذا الناقد فتكون اللامبالاة والسخرية والاستهجان منطلقا بحيث ينظر إليه من خلال كاتب كبير ومشهور فيقارن به ويُهْمَل بسبب ذلك.
ولكن هذا لا يعني بأنْ ليس هناك نقّاد ملكوا ناصية النقد بقوّة، وأبلوا فيه بلاءً حسنًا من خلال تجرّدهم الذاتي، وعدم انحيازهم لأي سبب من الأسباب، والانطلاق من الحيادية المطلقة في تحليل النص أو المجموعة، منطلقين من أمانة العمل النقدي البنّاء، هادفين من خلال النقد إلى إبراز مواطن الضعف كي يتجنبها الكاتب لاحقا، ومتلمّسين مواطن الإبداع والجودة كيما يستمر عليها مجدِّدًا ومبتكرًا.
وبالعودة للمطروح موضع التساؤل أبدأ منطلقا بالتساؤل الأول: هل للنقد الأدبي مافياته بالمعنى المجازي للكلمة؟ يبدو لي من خلال احتكاكي بالوسط الأدبي والنقدي، أنّ فئةً من نقادنا هنا في سوريا تنتمي إلى مافيات نقدية لها أساليبها وتطلعاتها وتوجّهاتها الخاصة التي تهدف في غالبية الأحيان إلى عرقلة مسيرة الأديب الناشئ والمبتدئ بأية صورة كانت_ إذا لم يكن لذلك الكاتب سندًا يستندُ إليه- ظنًّا بأن الكاتب يجب ألاّ يخطئ وإن أخطأ فويلٌ له- وتبدأ العرقلة من خلال التندّر بما يكتب أو إهمالهم للمكتوب وعدم النظر فيه، بل وعدم تشجيعه، حتى يقال له : دعك من الشعر لأصحابه ومن كتابة القصة لأهلها. أو يعلّقون على إنتاجه في غيابه أمام أحد أصدقائه. ولكم سمعت نقّادا أو هكذا يعتقدون أنفسهم يحبطون المبتدئين بما قدموا بأسلوبهم الساخر اللاذع، من غير أن يقدّموا لهم نصيحة تذكر، أو يدلّوهم على السبل الصحيحة للكتابة هذا إذا كانوا يعرفونَها، في الوقت الذي لو لَم يُتَحْ لهم من يشجعهم يوما ما لظلّوا في الظلّ. وكثيْرًا ما يكون أسلوب بعض النقّاد سببا في خسارة العديد من الشعراء والأدباء من كلمة قالوها بحق كاتب ما قصدوا بها شيئا أم لم يقصدوا، ولكي لا أكون ظالما فيما أقول أكرّر إلى أنّني أخصّ في كلامي فئةً من النقاد وليس الجميع.
أمّا بصدد التساؤل الثاني، حول دور الصداقات والعداوات في رفع أو خفض هذا الكاتب أو ذاك، نجدها على أعلى مستوياتها، خاصة في المحافظات الصغيرة والمحصورة؛ حيث يرفع الصديق صديقه فيما لو أسفّ، وينزل عدوّه حتى ولو أجاد، فيجد التبرير النقدي الجيد للصديق بيسر وسهولة، في الوقت الذي يحطّم عمل الآخر من خلال موقف شخصي نحوه أو نحو من يخصّه، حتى ولو كان عمله الأدبي جيّدا وفيه جمالية وإبداع. فللصداقة دورها في إشهار هذا أو ذاك من الأدباء والأخذ بيدهم، أو طمسِ أعمالِ آخرين وكفِّ أقلامِهم. ولعل حادثة جرت معي وقد خرجتُ للتوّ من محاضرة قيّمة ، عرّج فيها المحاضر على أسْماء في الساحة الأدبية، همس لي أحد الحاضرين قائلا: لو كنتَ صديقا للمحاضر لكان أورد اسْمكَ مع مَنْ أوْردَ.
أمّا ثالثُ تساؤلٍ فيدور حول علاقة النقد بالسياسة أو الحزبية ودوره في خدمتها ودعمها، فلا أحد ينكر أنّ للسياسة دور فاعل في جميع مجالات حياة الشعوب والأفراد، - خاصة في الدول النامية- فكما أن السياسة أو الحزب يرفع كاتبا ويشهره ويكون سببا في ارتقائه، فإنما يعود ذلك لدور النقاد في هذا الحزب أو التنظيم الذي روّج لهذا الكاتب ودعمه بالثناء عليه، والإشادة بما قدّم، بل قد ينصح جمهور حزبه من القراء وغيرهم قراءته والتزوّد من زاده. ولا شك أنّ هذا النقد كثيرا ما يكون مسيّسًا فيقدّم أحيانا موادّ أدبية غثّة ودون المستوى الراقي للأدب، ومع ذلك يرتفع صاحبها ويعلو شأنه ويشق طريقا في الحياة الأدبية، إلاّ أنه سرعان ما ينطفئ كشمعة، إذا هبّت رياح التغيير وزال الدعم السياسي عنه.
وفي رابع تساؤل وهو ما يدور حول النقد والجنس الآخر، وهل يمكن أن يصل النقد لدرجة التهميش أو التندّر بكاتبةٍ ما شاعرة كانت أم قاصّة أم أديبة فقط لكونها امرأة، حتى هذا أيضا ليس ببعيد عن الحقيقة. حيث يقف كثيرون من نقادنا وأدبائنا موقفا سلبيا من الجنس الآخر في أكثر الأحيان، إلى درجة أن تصبح إحداهن هدفا سهلا للسخرية وعدم المبالاة ناهيك عن أسلوب الهجوم اللاذع على المكتوب دون تبيان السبب أحيانا. وكأني بالناقد أو الأديب الرجل يعز عليه أن تنافسه امرأة على ريادة هذا الفن الأدبي أو ذاك فتصبح المرأة دريئة لكل متعصب من الرجال. ولقد لمست ذلك بشكل واضح وجليٍّ لدى بعض الأدباء والشعراء إزاء قاصّة أو كاتبةِ مقالات أو شاعرة وعلى الرغم من أن كلَّ واحدة منهن قد أصدرت مجموعة أو أكثر فقد ظلّ الموقف العدائي ضدّهن مستمرّ ناهيك عن لصقهن بتهم لا أخلاقية أحيانا، إضافة للهجوم المركّز على إنتاجهن، ولا أستغرب ذلك فتلك طبيعة الرجل الشرقي، ونقادنا من هذا الشرق. وقد يكون الموقف من المرأة الكاتبة ايجابيا بالرغم من رداءة ما تقدم من إنتاج لسبب شخصي أردّه مجدّدا إلى الطبيعة الشرقية للرجل الناقد. و المرأة القوية الشخصية، والمبدعة في كتابتها، هي التي تستطيع أن تشق طريقها رغم أنف بعض النقاد المحبطين لمسيرتها.
والنقطة الأخيرة في هذا الموضوع تتمحور حول مزاجية الناقد، وحالته النفسية من المكتوب. فهل يا ترى تتبدّل
نظرة الناقد حيال النص نفسه إذا ما عرض عليه في فترة لاحقة. وهل يتدخّل العامل النفسي لدى كاتب عند
الحكم على نص ما انطلاقا من حبّه أو كرهه للموضوع.
يبدو من خلال التجربة أن هناك شيء من هذا القبيل. فقد عُرض نصٌّ على أحد النقّاد حيثُ عالجه تحليلا ونقدًا، فخرج من بين يديه مُمزّقا مشوّها بالكاد أسْماه نصّا أدبيا. وبعد عام عُرض الموضوعُ ذاتُه على الناقد نفسِه، فإذا بالنص قطعة إبداعية رائعة، وقد صنّفه الناقد من بين النصوص المبتكرة، مما يدل على دور المزاجية في النقد. وكثيرا ما يبدي ناقد ما إعجابه بمجموعة شعرية لشاعرٍ ما، ونفاجأ بعد فترة بالمجموعةِ نفسها، قد وقعت بين أنياب قلمه فإذا هي أشلاء مبعثرة. وأحيانا يبدي الناقد إعجابا بنص أدبي أو عنوان مجموعة ما، لا يلبث بعد فترة أن يبدي رأيا مغايرا نحو هذا النص أو ذاك مِمّا أعجبه سابقا، وقد حدث مرة أن عرضت مجموعة شعرية (مخطوطة) على أربعة ناقدين قارئين لتقرير طباعتها وعلى الرغم من موافقة الثلاثة الأُوَل عُرِضت على رابع أشار بعدم موافقته على الطباعة، وكاد المسؤولون يأخذون برأيه لولا الحياء من غيره.
في الختام أقول: لا شك بأن النقاد الحقيقيين في تاريخ الثقافة العربية قلة، وهؤلاء الذين يمارسون النقد من دون خبرة ما هم إلاّ هواة يعلقون على الموضوع دون مستند نقدي، وبشكل اعتباطي وعشوائي. فالناقد يحتاج لخبرة وممارسة وإلمام واسع بأصول النقد قبل أن يقدم عليه فيشوّهه، وقد قال الدكتور الناقد صلاح فضل في حوار بينه وبين الأستاذ أحمد خليل نشر في الملحق الثقافي: " الناقد الحقيقي هو المستبصر الذي يستكشف أرض المستقبل بالنسبة للمبدع" ويقول أيضا في غير مكان من الحوار: " النقد ليس عملا اعتباطيا يتم بالصدفة، ولكنه تراكم خبرة معرفية بالفلسفة وباللغة وبالفن وبطرائق التعبير وبالمذاهب النقدية". ويقول أيضا:" الناقد ليس مجرّد دارس أكّاديمي أو مؤرّخ للفكر، لا بدّ أن يكون خلاّقا له، ولا يستطيع أن يخلق الفكر النقدي دون التفاعل الحي مع الواقع الإبداعي".


الإطار المعرفي لعلم الدلالة بقلم الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي

 الإطار المعرفي لعلم الدلالة

مثلما أكدنا انفا فإن علم الدلالات هو علم يدرس أنظمة العلامات الدالة في الكون سواء أكانت لغوية او غير لغوية كما أنه علم يدرس، مبدأ الرمز ويقف عند انموذج علمي، سيميولوجي كأن يكون انموذج التواصل بواسطة الحركات الإشارية أو بالايقاعات الموسيقية عندئذ، ننزل من مستوى العلم العام من العلامات إلى مستوى العلم الخاص أو النوعي إلى حد نزولنا من اللغة إلى اللسان فيسمى بالسيميائية وإذا دخلنا إلى السيميائية فإن عملية إنجازها تستوجب جعله من الاصطلاحات ولكل هذا كانت قضية الدلالة صورة مطابقة لهذا التصنيف
وأما الإطار المعرفي الذي يندرج فيه علم الدلالة اللغوي فإنه يتعلق بجنس الإطار الخاص بمعنى ان علم الدلالة يتناول جزءا مما يعنى به علم العلامات وهو الجزء المرتبط بالعلامة اللسانية اي العلامة المنطوقة والمسموعة
ولكن لعلم الدلالة ارتباطا متنوعا من أهمه ارتباطه بأصناف العلوم الأخرى ذلك أن علم الدلالة الذي، من وظائفه أن يحدد القيمة الرمزية للكلمات اللغوية ضمن مجموعة بشرية ثقافية والذي من مشمولاته أن يحدد كيف يتعامل المتكلمون بتلك اللغة فيما بينهم بتلك العلامات اللغوية الأولى والذي من مهامه أن يبين ما يحف بكل لفظة تنطق وسط مناخ اجتماعي معين من ايحاءات وتأثيرات فإنه ولا شك يرتبط بنوع آخر من الدراسة والمعارف من الدراسات الاجتماعية لأن اللغة ترتبط ارتباطا وثيقا بهذا المقوم الاجتماعي
وإلى جانب علم الاجتماع نجد علم النفس ذلك أن عملية الدلالة من حيث هي تحقيق للمعنى انطلاقا من الصوت المسموع ترتبط عضويا بحالة نفسانية يكون عليها المتلقي متهيئا للإدراك والفهم لما يسمعه
وإذا فإن للألفاظ اللغوية مستويين من الدلالة :
الأول وهو المستوى التصريحي Denotation وهو الحد الأدنى الذي، يحقق معنى الكلام
الثاني وهو المستوى الإيحائي Connotation وهو جملة ما ترتبط به اللفظة من تجارب فردية تثيرها في ذهن المتكلم او السامع عن طريق الذكرى
كما لا يفوتنا هنا الإشارة إلى الدراسة النفسية التي تدخل في باب الدلالة اللغوية لتكتسب شرعية أخرى على مستوى علم النفس التحليلي Psychanalyse وذلك لدراسة كيفية تحقق الإدراك Compréhension /Ententement وذلك بدراسة عمليتي تركيب الرسالة من لدن الباث وبتفكيكها من لدن المتقبل السامع Encodage et Décodage (يتبع)
(الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي)
L’image contient peut-être : 1 personne, debout et intérieur


الخميس، 24 ديسمبر 2020

جديلة ياسمين بوصفها مشروعا تربويا قراءة في المجموعة القصصية (جديلة ياسمين) للكاتبة الجزائرية المبدعة زهراء كشان. بقلم الناقد عبد الرحيم خير

 جديلة ياسمين بوصفها مشروعا تربويا قراءة في المجموعة القصصية (جديلة ياسمين) للكاتبة الجزائرية المبدعة زهراء كشان.

أصبحت القصة القصيرة اليوم من وسائل التربية والتعليم الأوسع انتشارا والأكثر جذبا والأعمق أثرا في نفوس الأطفال خاصة في المراحل العمرية الأولى، وذلك لما تتركه القصص من أثرٍ كبيرٍ في نفوسِ الأطفال من خلال المشاركة الوجدانية لمشاعر وعواطف وانفعالات الشخصيات، حيث يشارك الأطفال أبطال القصة أفراحهم وأحزانهم ويتخذون أبطال القصص مثلا وقدوة يقارنون أنفسهم بهم، ويكتسبون منهم الأخلاق والسلوكيات الحميدة. وقِصص الأطفال هي تلك القِصص التي تُخصص للصغار، بهدف تعليمهم، وتحفيز قدراتهم العقلية، وتطوير ملكاتهم، وإكسابهم المعارف والمهارات عن طريق حكايات هادفة موجهة تجمع بين العرض الشائق المسلي والأهداف التربوية، وتوفر المتعة والتسلية والتعليم، وتضمن التفاعل والمشاركة.. وترجع أهمية قصص الأطفال الهادفة إلى أنها تحقق عدة أهدف، فجبانب الأهداف العلمية والمعرفية المبثوثة فيها فإنها تغرس في الأطفال الأخلاق والسلوكيات الحميدة، واليوم أصبح لقصص الأطفال أهمية كبرى في تنمية مهارات الطفل كونها تساهم في ثقل قدراته العقلية، وتكسبه السلوكيات الحسنة، بأسلوب ومنهج لايقوم على النصح والتوجيه المباشر كطرق التعليم التقليدية وإنما تعتمد إثارة الخيال وتنبيه الطفل إلى مواقف وأحداث وسلوكيات واقعية يتفاعل معها ويتعلم منها بنفسه، والمجموعة القصصية (جديلة ياسمين ) إلى جانب كونها قصصا ترفيهية مسلية فإنها تعد مشروعا تربويا متكاملا يتخذ القصص القصيرة قاعدة للتربيةوالتعليم؛ تربية الطفل على المبادئ والقيم والأخلاق، وينطلق نحو تنمية معارفه ومهاراته، عن طريق القراءة المسلية التي تزيد من تركيز الطفل وتحبب إليه المطالعة والتّعَلُّم الذاتي. وقد تميزت المجموعة القصصية جديلة ياسمين بأنها جمعت بين عناصر الفن القصصي واعتمدت منهجا تربويا متكاملا سعت من خلاله لتحقق أهداف خَططت لها مسبقا ومن هذه الأهداف: ١-- الهدف التعليمي: وهو المعلومات والخبرات التي يكتسبها الطفل من عملية التعلم عن طريق القراءة أوالملاحظة، ولتحقيق الهدف التعليمي حرصت الكاتبة في معظم قصص المجموعة على تقديم معلومات مفيدة تناسب أعمار الصغار وتزيد من مهاراتهم ويكتسبون منها معلومات مفيدة عن الإنسان ممثلا في شخصيات تاريخية كشخصية الرسام إيتيان دينيه والذي عرف بعد نصر الدين دينيه( مولده ونشأته وحياته)، والأماكن كمدينة قسنطينة الجزائرية ( موقعها عاداتها تقاليدها شهرتها، آثارها ومعالمها السياحية وموقعها الجغرافي وتاريخها العريق ) كذلك كانت المجموعة غنية بالكثير من المعلومات المفيدة والتي قُدمت بأسلوب شائق يضمن فهمها من قبل الصغار معلومات جديدة ومفيدة عن ( أشخاص - أماكن - بلدان - معالم سياحية - حيوانات وطيور - فواكه ونباتات )كما تضمنت قصص المجموعة صورا مختلفة تنمي عند الأطفال مهارات متعددة؛ كمهارة الرسم والتلوين والكتابة، والحفظ والتذكر والتلخيص وصولا إلى مهارات عليا كالإبداع بسرد أحداث القصة أو كتابة نهاية من إبداع الطفل وخياله، أو كتابة قصة مشابهة من مواقف حياتية مر بها ... ٢---الهدف التربوي: هو التغيير الذي تسعى القصة إلى تحقيقه من خلال (مواقف وأحداث و سلوكيات) أيجابية أوسلبية تقوم بها شخصيات القصة وتسلط الضوء عليها وتبدأ في نقدها في حال كونها سلبية أو مدحها وتقديرها متى كانت إيجابية وفي مجموعة جديلة ياسمين اهتمت كشان اهتماما كبيرا بالقيم التربوية وحرصت على غرسها في نفوس الأطفال؛ قيم الحق والعدل والأمانة وحب الوالدين واحترام الآخرين وحماية الوطن والدفاع عنه كما تضمنت المجموعة قيم المواطنه والأخوة والتكافل وإعانة المحتاج والعفو والسماح والاعتذار عند الخطأ والاهتمام بالتربية والحرص على تعليم الصغار القيم والمبادئ. والمدقق في مجموعة كشان القصصيصة يجد أنها ليست قصصا مسلية فحسب بل هي منهج تربوي أُسِّس على رؤية نقدية للتربية والتعليم، حيث تقدم القصة ثم تتبعها بمجموعة من الأنشطة الإثرائية والأسئلة المقالية والاختيارية والتي يستطيع الطفل من خلالها أن يُقيم نفسه ومكتسباته، وفي نهاية كل قصة تُقيم الكاتبة بينها وبين القارئ الصغير جسرا للتواصل عبر مجموعة من الأسئلة والأنشطة الإثرائية، إن تمكن من إجابتها فإن الكاتبة تدعوه بالعبقري الصغير وتطوقه بجديلة ياسمين جائزة ومكافأة لموهبته وتفوقه، وإن لم يتمكن الصغير من الإجابة شجعته على مراجعة القراءة وإعادتها مرة أخرى. ولأن فن القصة القصيرة له عناصر محددة فإن كيشان بملكتها السردية وأسلوبها المميز استطاعت توظيف هذه العناصر بما يخدم فكرتها ومشروعها التربوي ومن أهم هذه العناصر التي وظفتها . ١ - الشخصيات وهي العنصر الفاعل والذي يُنقل الحدث من خلاله حيث تقوم بدور الناقل للأفكار والأفعال التي يكتبها الكاتب، وشخصيات جديلة ياسمين معظمها شخصيات واقعية مألوفة( الأب ، الأم ، هشام، أنور ، الصياد ، ليليان ، نور...... ) وبعضها شخصيات خيالية ( العصفور الأبيض، الثريا ) هذا المزج بين الشخصيات الواقعية التي تقدم المثل والقدوة، والخيالية التي تنمي خيال الطفل وتفتح آفاقه ومداركه للولوج بعوالم غير مألوفه، ثثري الخيال وتزيد الخبرات وهو ما كان ينعكس في النهاية على شخصيات القصة بالإيجاب فنجد الطفل أصبح إيجابيا متفاعلا نشيطا يعتذر عما كان منه من صفات أو سلوكيات مشينة. ٢-- الموضوع هو الذي ينقل الفكرة التي تسعى القصة لطرحها والتعبير عنها، وقد تنوعت أفكار وموضوعات المجموعة القصصية جديلة ياسمين فاحتوت المجموعة على عشر قصص مختلفة الموضوعات حملت كل منها فكرة قدمت الكاتبة في كل قصة منها قيمة تضاف لمجموعة القيم التي يجب أن تنمى لدى الصغار، كما تميزت موضوعات جديلة ياسمين بالنظرة التاريخية بعرضها لأماكن تراثية وشخصيات تاريخية وتسليط الضوء عليها ليتعلم الصغار تاريخهم ومعالم بلادهم وشخصيات كان لها تأثير في حاضرهم . ٤-- الأسلوب وهو قدرة الكاتب الإبداعية على صياغة العمل الأدبي

وقد تنوع أسلوب الكاتبة بين الوصف والحوار والسرد، وتميزت لغتها بالوضوح والبساطة والايجاز كما كانت العبارات قصيرة معبرة تصل إلى الفكرة بأقل كلمات، كما أعتمدت كشان اللغة الشعرية أسلوبا للوصف؛ وصف الحدائق والأماكن والمدن بكلمات منتقاة بعناية تلامس عواطف الصغار وتزكي ملكة الطفل الإبداعية ليعبر بأسلوبه عن أحداث ومواقف حياتيه مشابهة. ولعل تميز المجموعة القصصية للأديبة زهراء كشان يرجع إلى النقاط التالية . ١-- قدمت كشان أنماطا مختلفة من القصص تباينت بين الواقعية والخيالية أوكانت خليطا منهما معا واتخذت ذلك طريقا لإثراء مهارات الأطفال وإكسابهم رؤية واقعية للتعامل مع الأحداث، وتوسيع مداركهم وتنمية قدراتهم على التخييل والإبداع وذلك باستخدام مستويات لغويةً مختلفةً وتوظيفها بمهارة بما يخدم موضوع القصة وطريقة عرضها ومناسبتها للمرحلة العمرية المقدمة لها.
٢-- اهتمت كشان بالنواحي الترفيهية المسلية كاستخدام الصور والرسوم المساعدة في توصيل الفكرة، وكان للصور والرسوم المبثوثة في ثنايا القصص أهمية كبرى في تفتيح أذهان الأطفال وذلك بربط الصور والرسوم بالأماكن واستحضار خصائص وصفات المكان من خلال ربط المكان بأحد مكوناته فالزهرة وهي من مكونات البستان أو الحديقة تعيد إلى ذهن الطفل هذا البستان أو الحديقة بما فيهم من أشجار ونباتات وأعشاب، وطيور وغير ذلك، كما اهتمت الكاتبة بنواحي الترفية والتسلية من رسومات وصور كانت داعمة للفكرة وتقف جنبا إلى جنب مع النواحي التربوية والتعليمية وقد رأينا أنه لم يطغَ جانب على آخر فاكتملت الإفادة وتحقق الهدف المنشود . ٣ -- حرصت كشان على صياغة القصص من خلال مفردات واضحة ومعبرة وأسلوب شائق تميزت كلماته بالجرس الموسيقي والعبارات الرشيقة المعبرة عن المواقف والتي تتناسب مع موضوع القصص مبتعدة عن الغموض والكلمات صعبة الفهم والتفسير، وإن كانت قد نثرت بعض الكلمات الصعبة في مواضع متفرقة عادت إلى بيان معانيها بنهاية القصة، بغرض إثراء معجم الأطفال اللغوي وتزويدهم بكلمات ومعانٍ جديدة، وتنمية مهارات البحث والتفسير وهو أيضا هدف قياسي لبيان تفاوت المستويات التعليمية ومدى قدرة الطفل على الاستيعاب والتحصيل. ٤ -- حرصت كشان على تناول الأنماط السلوكية المختلفة الحسنة والسيئة وذلك ليقارن الصغير بنفسه بين السلوكين ويرى عاقبة كل منهما وقد اهتمت كيشان أن تحتوي القصص بنهايتها على مكافأة أو جائزة لصاحب السلوك الحسن وعقاب وحرمان لصاحب السلوك السيئ ( قصة العصفور الأبيض والثريا) أنور النشيط في مقابل هشام الكسول مكأفأة أنور ببعض الألعاب والهدايا ومنع هشام وحرمانه من أي جائزة جزاء لكسله، والعبرة من القصة ندم هشام واعتذاره لوالدته، ومن هذا الموقف يتعلم الطفل كيف يختار الطريق الصحيح والسلوك القويم بنفسه دون نصح أو توجيه أو تدخل مباشر وهو ما ينمي مهاراته ويصحح تصرفاته وسلوكياته الخاطئة.
في النهاية يمكننا القول أن (جديلة ياسمين ) ليست مجموعة قصصية عادية وإنما هي مشروع تربوي تعليمي مميز أستطاعت الكاتبة فيها ومن خلال استخدام وتوظيف القصص القصيرة الهادفة والموجهة إلي معالجة بعض الأنماط السلوكية الخاطئة وتقويمها بأسلوب غير تقليدي لايقوم على النصح والإرشاد والتوجيه المباشر وإنما يقوم على الاستنباط والتعلم من مواقف وأحداث حقيقية أو خيالية يجد الصغير نفسه مشاركا لأبطالها، مقتديا بهم ومتعلما منهم محبا وممارسا للصفات والسلوكيات الحسنة وكارها ومبتعدا عن السلوكيات والتصرفات السيئة .
خالص الأمنيات للكاتبة بدوام الإبداع والتوفيق ولمشروعها التربوي بالنجاح وتحقيق الهدف المنشود
الناقد عبد الرحيم خير
L’image contient peut-être : 1 personne, texte