مزاجية النقد ومافيات التعصّب
عادل نايف البعيني
ليس من السهل هذه الأيام الخوض في ماهية النقد الأدبي نظرا للكم الهائل من الإنتاج الأدبي الذي يحمل في طيّاته الغث والسمين، إضافة لقلة النقاد وضيق الوقت لديهم، ناهيك عن العزوف عن القراءة إلى الإنترنيت والتلفزيون وغيرها من وسائل الثقافة السريعة وغير المملة بسبب المادة المطروحة. لكن كل هذا لا يمنع من إلقاء نظرة إلى ماهية النقد في بلدنا، والرد على كثير من التساؤلات من قبيل: هل للنقد الأدبي مافياته؟ وهل للنقد الأدبي صداقاته وعداواته؟ وهل للنقد علاقة بالسياسة يخدمها ويعمل في إطارها؟ وهل هناك نقد أدبي خاص بالجنس الآخر؟ وهل هناك نقد مزاجي من قبيل أحبّ هذا النوع الأدبي ، ولا أحب هذا النوع؟ ومن يطلق التصنيف على شاعر أو روائي أو أديب بأنه شاعر وروائي؟
النقد كما يعلم الكثيرون هو وقوف الناقد بتجرّد مطلق عن الميول والرغبات والانتماءات السياسية أو الحزبية، على جوهر العمل الأدبي من حيث الموضوع والمعاني والأفكار الجديدة والمبتكرة مرورًا بإسهاب على النقاط الإبداعية المضيئة في النص. وإذا كان العمل النقدي يسير خلاف ذلك فإنّما هو نقد مزاجي قائم على نظرة سطحية ، ومنطلق من حكم مسبق يمكن أن يكون الناقد قد وضعه سلفا على اعتبار أنّ الكاتب هدفًا ومتنفّسًا له، إن من ناحية تعاليه عن القراءة، أو بسبب معرفته له كونه معاصرا أو غير مشهور، وكثيرا ما يقع الكتاب المبتدئين ضحية لهذا الناقد فتكون اللامبالاة والسخرية والاستهجان منطلقا بحيث ينظر إليه من خلال كاتب كبير ومشهور فيقارن به ويُهْمَل بسبب ذلك.
ولكن هذا لا يعني بأنْ ليس هناك نقّاد ملكوا ناصية النقد بقوّة، وأبلوا فيه بلاءً حسنًا من خلال تجرّدهم الذاتي، وعدم انحيازهم لأي سبب من الأسباب، والانطلاق من الحيادية المطلقة في تحليل النص أو المجموعة، منطلقين من أمانة العمل النقدي البنّاء، هادفين من خلال النقد إلى إبراز مواطن الضعف كي يتجنبها الكاتب لاحقا، ومتلمّسين مواطن الإبداع والجودة كيما يستمر عليها مجدِّدًا ومبتكرًا.
وبالعودة للمطروح موضع التساؤل أبدأ منطلقا بالتساؤل الأول: هل للنقد الأدبي مافياته بالمعنى المجازي للكلمة؟ يبدو لي من خلال احتكاكي بالوسط الأدبي والنقدي، أنّ فئةً من نقادنا هنا في سوريا تنتمي إلى مافيات نقدية لها أساليبها وتطلعاتها وتوجّهاتها الخاصة التي تهدف في غالبية الأحيان إلى عرقلة مسيرة الأديب الناشئ والمبتدئ بأية صورة كانت_ إذا لم يكن لذلك الكاتب سندًا يستندُ إليه- ظنًّا بأن الكاتب يجب ألاّ يخطئ وإن أخطأ فويلٌ له- وتبدأ العرقلة من خلال التندّر بما يكتب أو إهمالهم للمكتوب وعدم النظر فيه، بل وعدم تشجيعه، حتى يقال له : دعك من الشعر لأصحابه ومن كتابة القصة لأهلها. أو يعلّقون على إنتاجه في غيابه أمام أحد أصدقائه. ولكم سمعت نقّادا أو هكذا يعتقدون أنفسهم يحبطون المبتدئين بما قدموا بأسلوبهم الساخر اللاذع، من غير أن يقدّموا لهم نصيحة تذكر، أو يدلّوهم على السبل الصحيحة للكتابة هذا إذا كانوا يعرفونَها، في الوقت الذي لو لَم يُتَحْ لهم من يشجعهم يوما ما لظلّوا في الظلّ. وكثيْرًا ما يكون أسلوب بعض النقّاد سببا في خسارة العديد من الشعراء والأدباء من كلمة قالوها بحق كاتب ما قصدوا بها شيئا أم لم يقصدوا، ولكي لا أكون ظالما فيما أقول أكرّر إلى أنّني أخصّ في كلامي فئةً من النقاد وليس الجميع.
أمّا بصدد التساؤل الثاني، حول دور الصداقات والعداوات في رفع أو خفض هذا الكاتب أو ذاك، نجدها على أعلى مستوياتها، خاصة في المحافظات الصغيرة والمحصورة؛ حيث يرفع الصديق صديقه فيما لو أسفّ، وينزل عدوّه حتى ولو أجاد، فيجد التبرير النقدي الجيد للصديق بيسر وسهولة، في الوقت الذي يحطّم عمل الآخر من خلال موقف شخصي نحوه أو نحو من يخصّه، حتى ولو كان عمله الأدبي جيّدا وفيه جمالية وإبداع. فللصداقة دورها في إشهار هذا أو ذاك من الأدباء والأخذ بيدهم، أو طمسِ أعمالِ آخرين وكفِّ أقلامِهم. ولعل حادثة جرت معي وقد خرجتُ للتوّ من محاضرة قيّمة ، عرّج فيها المحاضر على أسْماء في الساحة الأدبية، همس لي أحد الحاضرين قائلا: لو كنتَ صديقا للمحاضر لكان أورد اسْمكَ مع مَنْ أوْردَ.
أمّا ثالثُ تساؤلٍ فيدور حول علاقة النقد بالسياسة أو الحزبية ودوره في خدمتها ودعمها، فلا أحد ينكر أنّ للسياسة دور فاعل في جميع مجالات حياة الشعوب والأفراد، - خاصة في الدول النامية- فكما أن السياسة أو الحزب يرفع كاتبا ويشهره ويكون سببا في ارتقائه، فإنما يعود ذلك لدور النقاد في هذا الحزب أو التنظيم الذي روّج لهذا الكاتب ودعمه بالثناء عليه، والإشادة بما قدّم، بل قد ينصح جمهور حزبه من القراء وغيرهم قراءته والتزوّد من زاده. ولا شك أنّ هذا النقد كثيرا ما يكون مسيّسًا فيقدّم أحيانا موادّ أدبية غثّة ودون المستوى الراقي للأدب، ومع ذلك يرتفع صاحبها ويعلو شأنه ويشق طريقا في الحياة الأدبية، إلاّ أنه سرعان ما ينطفئ كشمعة، إذا هبّت رياح التغيير وزال الدعم السياسي عنه.
وفي رابع تساؤل وهو ما يدور حول النقد والجنس الآخر، وهل يمكن أن يصل النقد لدرجة التهميش أو التندّر بكاتبةٍ ما شاعرة كانت أم قاصّة أم أديبة فقط لكونها امرأة، حتى هذا أيضا ليس ببعيد عن الحقيقة. حيث يقف كثيرون من نقادنا وأدبائنا موقفا سلبيا من الجنس الآخر في أكثر الأحيان، إلى درجة أن تصبح إحداهن هدفا سهلا للسخرية وعدم المبالاة ناهيك عن أسلوب الهجوم اللاذع على المكتوب دون تبيان السبب أحيانا. وكأني بالناقد أو الأديب الرجل يعز عليه أن تنافسه امرأة على ريادة هذا الفن الأدبي أو ذاك فتصبح المرأة دريئة لكل متعصب من الرجال. ولقد لمست ذلك بشكل واضح وجليٍّ لدى بعض الأدباء والشعراء إزاء قاصّة أو كاتبةِ مقالات أو شاعرة وعلى الرغم من أن كلَّ واحدة منهن قد أصدرت مجموعة أو أكثر فقد ظلّ الموقف العدائي ضدّهن مستمرّ ناهيك عن لصقهن بتهم لا أخلاقية أحيانا، إضافة للهجوم المركّز على إنتاجهن، ولا أستغرب ذلك فتلك طبيعة الرجل الشرقي، ونقادنا من هذا الشرق. وقد يكون الموقف من المرأة الكاتبة ايجابيا بالرغم من رداءة ما تقدم من إنتاج لسبب شخصي أردّه مجدّدا إلى الطبيعة الشرقية للرجل الناقد. و المرأة القوية الشخصية، والمبدعة في كتابتها، هي التي تستطيع أن تشق طريقها رغم أنف بعض النقاد المحبطين لمسيرتها.
والنقطة الأخيرة في هذا الموضوع تتمحور حول مزاجية الناقد، وحالته النفسية من المكتوب. فهل يا ترى تتبدّل
نظرة الناقد حيال النص نفسه إذا ما عرض عليه في فترة لاحقة. وهل يتدخّل العامل النفسي لدى كاتب عند
الحكم على نص ما انطلاقا من حبّه أو كرهه للموضوع.
يبدو من خلال التجربة أن هناك شيء من هذا القبيل. فقد عُرض نصٌّ على أحد النقّاد حيثُ عالجه تحليلا ونقدًا، فخرج من بين يديه مُمزّقا مشوّها بالكاد أسْماه نصّا أدبيا. وبعد عام عُرض الموضوعُ ذاتُه على الناقد نفسِه، فإذا بالنص قطعة إبداعية رائعة، وقد صنّفه الناقد من بين النصوص المبتكرة، مما يدل على دور المزاجية في النقد. وكثيرا ما يبدي ناقد ما إعجابه بمجموعة شعرية لشاعرٍ ما، ونفاجأ بعد فترة بالمجموعةِ نفسها، قد وقعت بين أنياب قلمه فإذا هي أشلاء مبعثرة. وأحيانا يبدي الناقد إعجابا بنص أدبي أو عنوان مجموعة ما، لا يلبث بعد فترة أن يبدي رأيا مغايرا نحو هذا النص أو ذاك مِمّا أعجبه سابقا، وقد حدث مرة أن عرضت مجموعة شعرية (مخطوطة) على أربعة ناقدين قارئين لتقرير طباعتها وعلى الرغم من موافقة الثلاثة الأُوَل عُرِضت على رابع أشار بعدم موافقته على الطباعة، وكاد المسؤولون يأخذون برأيه لولا الحياء من غيره.
في الختام أقول: لا شك بأن النقاد الحقيقيين في تاريخ الثقافة العربية قلة، وهؤلاء الذين يمارسون النقد من دون خبرة ما هم إلاّ هواة يعلقون على الموضوع دون مستند نقدي، وبشكل اعتباطي وعشوائي. فالناقد يحتاج لخبرة وممارسة وإلمام واسع بأصول النقد قبل أن يقدم عليه فيشوّهه، وقد قال الدكتور الناقد صلاح فضل في حوار بينه وبين الأستاذ أحمد خليل نشر في الملحق الثقافي: " الناقد الحقيقي هو المستبصر الذي يستكشف أرض المستقبل بالنسبة للمبدع" ويقول أيضا في غير مكان من الحوار: " النقد ليس عملا اعتباطيا يتم بالصدفة، ولكنه تراكم خبرة معرفية بالفلسفة وباللغة وبالفن وبطرائق التعبير وبالمذاهب النقدية". ويقول أيضا:" الناقد ليس مجرّد دارس أكّاديمي أو مؤرّخ للفكر، لا بدّ أن يكون خلاّقا له، ولا يستطيع أن يخلق الفكر النقدي دون التفاعل الحي مع الواقع الإبداعي".

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق