كلّ الأدراج خاوية...
ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ...
تجمع أشلاء حيرتها وتنتصب واقفة.
"كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !
كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !
فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.
تضيق وتضيق وتضيق...
ولا ضلع في الدّائرة يسندني.
لا ضلع في الدّائرة..."
تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجإ لأسرارها الشّحيحة.
يئنّ الدّرج المنخور تحت قبضتها وهي تسحبه إليها، يُشرق وجهها بابتسامة ظفر، تسحب لفافة قطن، تتحسّسها كأنّها رضيع في قماطه، تفكّ عقدة صغيرة تلفّها، ثمّ تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره.
ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة، تقرّبها من وجهها، تتشمّها، فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ.
تضع في فمها حبة اللّبان المرّ وترتمي على أريكة باهتة الألوان، ألوان ما اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات...
حبّة اللّبان المرّ شهد يمحو لبرهة من الزّمن علقم الحياة الذي تكابده...
حبّة اللّبان المرّ حلوى الذّاكرة، فاكهة مجلس أمّها الحنون، تمائم العرس في كفّ الصّبايا، وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة...
وكم باتت حبّة اللّبان، في عتمة خطى يقين، مشاعل لمتاهات الحكاية... !
وكم صارت يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان !
طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة.
تتّبع صدى الطّرقات...
تسوس الطّرقات خطاها.
بصوت كالرّجيف تسأل:" من...؟"
صوت هامس رهيف يأتيها من خلف الباب:"يقين...؟"
يهتزّ قلبها لصدى الصّوت الهامس الرّهيف، تعضّ على شفتها، تشدّ قبضتها على فستانها، وتسند رأسها على الباب كالخدرة مردّدة:"من...؟ من أنت؟"
ويفترّ ثغرها بالضّياء، كأنّها ترى ابتسامته النّضّاحة عذوبة وهو يجيب:" أنا حلمي... زوجك أيقين، افتحي الباب."
تأسرها رعدة تجتاح كامل جسدها حتّى لكأنّها تسمع أسنانها تصطكّ.
"أوّاه...كم سنينا مضت تلتهم السّنين
وأنا أنتظر معجزة الإياب...
قالوا "مات"...
لم قالوا " قد مات"؟
لمَ ذريتني لقمة للشتات...؟
أنّى ذريتني وعانقت الغياب...؟
كم سنينا مضت...؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين... !"
تزداد حدّة الطّرقات، وحلمي خلف الباب ينادي:" أيقين افتحي الباب، أيقين..."
يزغرد المفتاح في أكرة الباب، وتفيض أنهار العناق.
ذات الرّائحة الحبيبة تؤوب إليها والصّوتَ الحبيب، والجسمُ النّحيل ذاته، كعهده، في العناق رحيب، وكثير من البكاء الغريب الغريب...
ويقين تمسي ذوبا في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف.
كان خريف...
والأخبار هلّلت لانتهاء القتال، الحرب لملمت أوزارها، تركت للرّياح أن تكنس أوراق الأزيز، أن تضمّد جراح الغيمات حتّى تعشق وجه الشّتاء...
وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب
كانا معا، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء
والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى...
كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع...
قال:" أسمّيه جمالا".
قالت:" أسمّيه ربيعا".
لكنّ قصفا جائرا شوّه ذاك الجمال، أجهض ذاك الرّبيع، وبسط رداءات الخريف على كلّ الخطى، واستيقظت يقين على جسد يخنقه البياض، على بصر يخنقه الظّلام، على خبر يقول:" زوجك ضمّه موكب الأموات..."
تتخلّل أصابع يقين شعر زوجها، تبتسم، تهمس:" الحمد لله أن ظللت حيّا سليما"
يتمتم:" ما أدراك أيقين؟
ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى ؟
الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين...
وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعا ! ثمّ ألا ترين سا..."
تلذعه سياط نشيجها، يبتعد عن حضنها قليلا، يمسح بكفّه دموعا حرّ وهو يهمس بصوت رجيف:" زال الخريف أيقين... ها قد عدت، ها نحن نجتمع من جديد...
مواجعُ الفقد تذبّها ساعة الوصال.
المواجعُ ريح يكسر أمواجَها دوامُ الحال من المحال، و لله الحمد أن ما دامت حال..."
يشتدّ النّشيج، يحتضنها حلمي من جديد، لكنّها تسحب نفسها منتفضة وهي تصيح:"أعماني ذاك المساء يا حلمي... إنّي عميت."
يتأمّل الزّوج عينين لا تريانه، يشرق فؤاده بالنّحيب، يعقل سيّاف الفرح لسانه.
"الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة...
الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة..."
تكنس العينان المعتمتان ابتسامته وإشراقات النّظرة المشتاقة.
يتفحّص زوجته الضّريرة فلا يرى غير الأسى.
مشارط الآه تنقضّ على الفؤادين العليلين بلا رحمة.
يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك"
تصرخ يقين:" ما هذا...؟"
يردّد حلمي:" لا تجزعي ، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن..."
تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين...
جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين...
تهمس:" لأراه... ربّاه، قفّةَ عيون"*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزهرة خصخوصي/ تونس
(*)إحالة على مثل تونسي ترجمته إلى الفصحى هي:" والأعمى يتمنّى قفّة عيون"
من خلال جسّ نبض النّصّ وتلمّسنا لآليات السّرد فيه، يتّضح لنا قاموسا لغويا يضطلع بمقدرة هائلة على اصطياد أفعال ذات بعد دلالي رمزي إيحائي فيّاض مكثّف متدفّق شذريّ يمزج بين رصد الحركة الخارجيّة للبطلة وسبر أغوار نفس مكلومة تشكو فقدا مضاعفا يتعالق مع عالمها الخارجي، فضاء، وأشياء. يتزاوج فيه الانفعال مع التّعابير المكنيّة المجازيّة الموظّفة التي أضفت على المتن بعدا شاعريّا شعريّا، يشاغب شغاف قلب المتلقّي، ويزيد من رصيد المتعة والتلذّذ لديه، من خلال استحسانه لاستعمال اللّفظ في صياغة العبارة رغم مرار الواقع المشابه لحبّة اللّبان المرّة التي بات مرارها أيقونة دلاليّة، و عنصرا أساسيّا فاعلا وفعّلا ومكوّنا رئيسيّا ويقينا لا يدع مجالا للشكّ لطعم حياة البطلة يقين، ليتشكّل لونا من ألوان السّعادة والفرح والحلوى والحنّاء والطّعام وقد تمّ التّوسّل بحبّة اللّبان المرّ واسقاطها لإبراز مدى قتامة الوضع ومرار واقع حياة فئة من المجتمع تستمر معاناتها في الزّمن كاستمرار أفعال المضارع وتواترها كل هذا ساهم بشكل مذهل في إبراز الجانب الفلسفي الوجودي الذي تنبثق منه رؤية الأديبة، من خلال تركيز زوم عدسة السّارد العليم على زوايا بعينها لتضخيمها وترتيب الأفعال وتواتر حدوثها مع رصد كلّ انفعال بشكل أبرز حرفيّة في إحكام لعبة تركيب عناصر الحبكة بشكل جعل القصّة القصيرة تبدو لها ذروة كذروة الرّواية وكأنّها استبدلت طابعها الهلالي وذلك لحظة بلوغنا: "تفكّ عقدة صغيرة تلفّها ثم تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره" وقد تعالت دقّات قلب المتلقّي وبدأت في التّسارع خلال الوصف وتدرّجه البطيئ حيث ساهم في توتير هذا الأخير لمعرفة ما يوجد داخل اللّفافة الملفوفة كنمط إيقاع السّرد والوصف الدُّرِّي، كالاتفاف الدّرويش الصّوفي ودورانه حول نفسه أثناء آدائه لطقوس رقصة المولويّة حين ينصهر مع نغمات العزف والذّكر ممعنا في التّفكير في الذّات الإلاهيّة سعيا إلى بلوغ مرحلة الصّعود كمسبار نفّاذ للانعتاق من الجسد لبلوغ الحقيقة النّورانيّة والكشف، لتخليص الذّات من فاعليّة الزّمن الدّائري و الجاذبيّة الأرضيّة لننتبه فجأة أنّه من خلال الألفاظ المستعملة أنّ النّصّ يكتسي طابعا صوفيّا وأن الحركات فيه ذات طابع دائري كدوران رقصة التنانير المولويّة التي تماهي في شكلها دوران الكواكب في السّماء وقد توخّى السّارد هنا أيضا، التدرّج والتّنامي في صياغة مفاتح قاموس الطّابع الصّوفي. ولدعم زعمنا هذا، أُكمل استعراض بقيّة الوصف في الكشف عمّا يوجد داخل اللّفافة للتتبّع بقيّة معجمها اللغوي من خلال الألفاظ المستعملة ومن ثمّ ربطها مع ما سبق، مستشهدة، بما تيسّر من أمثلة داعمة الفكرة للتتجلّى بوضوح أكثر
"ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة تقرّبها من وجهها،تشمّها،فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ فتضع في فمها حبّة اللّبان المرّ ....
اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات.."
فمن خلال الطّوفان نستشفّ فيضانا وفيضا،أمّا الشّهقة والصّعقة فتحيلنا على البرق والومضة والوميض وشهقة البداية، ورجفة الخزّاف التي تنبثق منها تشكيل المادّة ، وشهقة النّهاية التي تمنحها الصّعقة مسحة قاتمة، ترتبط بالعتمة والظّلمة وبالفعل السّالب للحياة الرّافع للرّوح ترفّعا (كرفع كفّها) المرفوع استعدادا للإقلاع للنّفاذ من السّقف ومن السّماء كذلك فعل "تقرّبها"يقرّبنا من
التّقرّب إلى الله أمّا العصفور فيأخذنا على جناحيه إلى رفرفة الرّوح، فيما يسافر بنا معنى "في آخر ملجإ لأسرارها " إلى سرّ الأسرار النّورانيّة التي تنكشف بواسطتها الحقائق..
كحقيقة مرار لبانها المرّ الذي تلوكه والذي صار طعمه مرادفا ل "حلوى الذّاكرة وفاكهة لمجلس أمّها الحنون، ولتمائم العرس في كفّ الصّبايا" ذاك الكفّ الذي مازال منجذبا للفعل للمس ولجاذبيّة الأرض التوّاقة للتّكاثر وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة "...
لتصير يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان كأنّها النّبيذ المعتّق لمرار حياتها الحالكة يقينا ومنارة تستنير بها كناظور تستدلّ به المراكب في عتمة اللّيل الحالك تجنّبها الضّياع والتّوهان في عباب بحر ظلمات الحكاية التي تختزنها ذاكرة....