الاختيار الصعب..وسيلة أم غاية ؟
قراءة تحليلية لنص / أحمال
للقاصة / إيناس سيد جعيتم
بقلم الأديب / محمد البنا
*****
أحمال
_____
ينسابُ الدمعُ في هدوءٍ على وجنتيها، فلا تتكلفُ عناءَ إخفائِه، أو ربما لم تعد تأبهُ بنظراتِ الشفقةِ التي تتابعُها من الركابِ حولها، تضغطُ بشدةٍ دون وعيٍ على المظروفِ الأبيضِ المزينِ بشعارِ المستشفى الحكومي الذي غادرته منذ ساعةٍ أو أكثر، على المظروفِ كتب اسمُها بإهمالٍ يتناقضُ وهولَ ما يحوي، تشتعلُ خلايا مخِها بأفكارٍ سوداويةٍ أكثر مما تشتعلُ بفعلِ علتِها، ناولتها الممرضةُ المظروفَ الذي يحملُ نتائجَ فحوصاتِها بإهمالٍ وامتنعت عن الإجابةِ عن تساؤلاتِها، هاجمها الخوفُ بضراوةٍ فخارت رجلاها ولم تقويا على حملها، كيف ستنتظرُ إسبوعًا للعرضِ على الطبيبِ ليخبرَها بما كشفتهُ فحوصُها؟ ماذا ستفعلُ إن قالها؟ كيف سيتحملُ جسدُها العلاجَ الذي يُصَبُ كنارٍ داخل الخلايا ليحرقَ الجيدَ منها مع الخبيث؟ وهناء....وحيدتها...
(آهٍ يا ابنتي، ظلمناكِ يومَ أحضرناكِ لهذه الدنيا، ما أورثكِ أبوكِ إلا فقرًا وما استطعتُ أن أهبَك من جمالِ الشكلِ شيئا).
أغمضت عينَيها فداهمتها صورُ المريضاتِ في القسم، وجوهٌ صفراءٌ وأجسامٌ أكلها العلاجُ أكثرَ من المرضِ، نساءٌ تبدو الحسرةُ في ملامحِهن، فقدنَ رموزَ أنوثتِهن، اجتثتُ ايدي الجراحين ارحامًا واثداءً، واجتث (الكيماوي) تيجانَ رؤسهِن، ما همها إلا صورَ المرافقِينَ لهن، على اختلافِ أعمارهِم وأجناسهِم جمعتهم الحسرةُ والألم، فتحت عينيها لتزدادَ دمعاتُها وأنفاسُها تهتفُ (هناء)...
مرت محطاتٌ لم تحصْها، قارب القطارُ على آخرِ محطاتهِ، ارخت عينيها لما تحملُ من همٍ مغلف، حاولت أن تتحسسَ أملًا بالنجاةِ بين أوراقهِ،
(اللعنةُ عليكم جميعًا، أما من عاقلٍ بينكم؟ أما من رحيم...؟
كيف تضِنون على من يقبضُ الخوفُ قلوبَهم بكلمةِ نعم أو لا؟
هو سؤالٌ بسيطٌ جدًا نسأله جميعًا، سنحيا..؟
تبا للفقرِ الذي ألجأنا إليكم..)
تعاودُ الهتافَ، هناء...
يقفُ القطارُ ينساها من رافقوها الرحلةَ ويمضون لحالهِم، تهمُ بالنهوضِ فيكبلُها ثقلُ ما تحملُ بمقعدِها، تنظر له بضيقٍ ما كان ينقِصُها إلا المرض!
تحاملت لتقف، جرجرت رجليها والمظروفَ يزداد ثقلًا، في لحظةِ عبورِها البابَ قرر أن يريحَها، فانسل من بين أصابعِها ليسقطَ عبر الفراغِ الضيقِ الفاصل بين عربةِ القطارِ والرصيف، صاح عليها أحدُ الشباب:
لقد وقع منك شيءٌ يا سيدتي.
أجابته في راحةٍ وخفة:
أحملُ ما يكفيني.
...........
ايناس سيد جعيتم ٢٤ مارس ٢٠٢١
................
القراءة
.........
وها نحن الآن أمام واقعية سحرية، ولكنها لا تنتمي بحال إلى واقعية جبراييل ماركيز..نعم واقعية سحرية مختلفة أختلافًا جذريًا عن تلك المدرسة السردية بعناصرها ومقوماتها، إنها واقعية سحرية ينبع سحرها من شجن المشهد، ونزيف الوجع من شقوق الحروف..نص تصويري آخاذ مشاهده مؤلمة حد البكاء، الوجع والألم يستشري في السطور كما السرطان في الخلايا، وليت الكاتبة أكتفت بالمرض وهمه والمرضى وهمومهم، بل زادت فأوجعت وأضفت مرافقين فأوغلت في سراديب الوجع ليفيض المشهد أوجاعا تلو أوجاعا، ثم ضفرته بإبنة ( هناء ) من لها بعدها؟..غير فقر أورثه أبوها، ودمامة أورثتها لها أمها، وضياع حتمي ستورثه لفلذة كبدها إن هى رحلت كما رحل من قبل أبوها، إمعان وتوغل وتعمق لامس القاع، ليفجر بركانًا من التساؤلات..سألتها لنفسها...من الظالم ومن المظلوم؟..وأي مجتمعٍ هذا الذى بلغ فيه الاهمال والتحقير مبلغه، فلم يسلم منه كلاهما..لا المرضى ولا ملائكة الرحمة ( سابقا )!.
وبعيدًا عن المدرسة التأويلية وهى الأقرب مضمونًا وفهمًا للاسقاطات السياسية للنص وفك رموزه وتبيان صلاتها بعضها ببعض وترابطها، سأجتهد محللًا النص من زاوية ابعاده الاجتماعية الانسانية.
نص يلقي بصيص ضوء خفي على ما يعانيه المرضى في المستشفيات الحكومية، والخاصة بمرضى السرطان خاصة..من إهمال وسوء معاملة، لكنه رغم خفوته إلا أنه أضاء بما يكفي.
ثم تفاجأنا القاصة بخاتمة صادمة موغلة في الإيلام للمجتمع كله بلا استثناء..إذ تترك الغلاف وراءها في اشارة الى تخليها عن محاولة العلاج، مشيرة بأصبع الاتهام للكل..الكل بلا استثناء.. وتختار البقاء بجوار ابنتها..أهى هكذا اختارت الحياة؟..أم اختارت الموت البطئ؟..ظاهر لحظة التنوير يوحي باختيارها الحياة، وباطنها يوحي باختيارها الثاني، ولا يفوتني أن أشير إلى أن لحظة التنوير تلك اقتحمها شاب، فما دلالته ؟ وسواء ذُكر الشاب في النص مصادفة او عن عمد، فإن الدلالة قد وقعت وبرقت كصاعقة رمزية بليغة واسقاط محكم على عجز هذا الجيل عن فرض حل، إذ أنه نبه لسقوط الغلاف، ثم تم إخراسه بالقوة او بعدم الاستماع له، أو بالتغاضي العمد عما نبه له من مغبة ما حدث.
وهكذا مضت الكاتبة تاركة النهاية مفتوحة وليختر كل متلقي ما يناسب احساسه بالمأساة
...................
محمد البنا ٢٥ مارس ٢٠٢١


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق