الظلال بين الواقع والخيال
قراءة فلسفية لنص (الظل) ل / أمل البنا
بقلم / محمد البنا
........................
النص ( الظل )
............... ....
منكفئًا بين طيات كتابه يعبر باب حجرته، وبصورة آلية يجلس. ينتبه لسقوط أبريق الماء الذي لكزه للتو و هو يجلس فوق الكومدينو. يخلع نظارته التي تقعرت تحت عينيه، وبنظرة استطال لها أنفه تدور بين؛ قطع الزجاج المتناثر، و كرسيه الذي يجلس عليه معظم ساعات القراءة، والحجرة التي يختلط توزيع أثاثها بين لحظة وأخرى. وبنظرة مفزعة هاله باب الحجرة الموصد الذي ولج منه منذ قليل، ليقول في صوت مسموع: لقد كنت ممسكاً الكتاب بكلتا يدي.. لم أغلقه، ومن المؤكد أنني لم أفتح الباب أيضاً.
تفتح والدته الباب ، و تتجه إليه قائلة: ماذا تريد على العشاء يا حبيبي؟
ينظر إليها و إلى بقعة الماء تحت قدميه، منتظراً منها توبيخا ، أو أي كلمة تستدعي أسفها على المجهود الذي أضاعته سدىً في تنظيف حجرته
وبينما ظل على مكانته صامتاً، اقتربت تتلمس وجهه بين راحتيها و تجس حرارته، لترتسم على وجهها علامات الرضى و هي تقول: سَأُعد فطائرك المحببة و كوب الشيكولاتة الساخن
تخرج. ينظر لكتابه- نقد العقل المحض- لكانط. يرتمي فوق فراشه والكتاب فوق صدره. ينتفض قائلا: أنا لا أحب الشيكولاتة
يعلو رنين هاتفه إلى الجوار منه. اتسعت حدقتيه على شاشة الهاتف، و جلس مشدوهاً للرنين الذي تواصل مرات بلا هوادة، ليقول في نبرة تدلت معها شفتيه: إنه أنا
مد يده، يفتح الهاتف متوجساً، عاجله الصوت قائلا: أنتظرك لأكثر من ساعة، فأين أنت الآن؟
-تقصد، أن هناك موعداً بيننا؟!
و بلهجة حاسمة يقول الصوت قبل أن يغلق الخط في وجهه : من المؤكد أنك تمزح. فأسرع فلن ألبث بإنتظارك كل هذا الوقت. ستجدني بالممشى الحجري قرب البحيرة.
يسقط الهاتف من يديه.. ينهض في بطء.. يقف أمام المرآة، ممشطاً سطحها الأملس و قد ألصق وجهه الممتقع بها، ليتأكد من إسقاطات أبعاده الجسدية عليها
يدخل أخوه الصغير رمزي دون أن يطرق الباب باكياً وهو يقول: سأخبر أبي أنك أخذت دراجتي ولعبت بها مع أصحابك
يستبدل ملابسه وهو يتطلع للصغير الذي تشبث بسرواله. يخرج تاركاً إياه بعد أن رفسه ليتخلص منه ليتوعده الآخر صارخا: سأجعله يضربك
عند مروره بحجرة المعيشة، وجد أمه تستوقفه وهي تشاهد أحد الأفلام قائلة: لا تتأخر على الغداء.. إذا أمكنك المرور على رمزي بالجامعة فافعل، فقد استيقظ اليوم مريضا وذهب مضطرا لبدء اللإمتحانات
يسير خطواتٍ نحو الباب وقد عجز عن التفكير. أرهقته الأضواء المبالغة بالمنزل، فلم يشعر إلا ببرودة الجدار الذي استند إليه تواً، قبل أن يتجدد حماسه للخروج من جديد
يمضي بسيارته، مصطحباً الكتاب الذي لم ينته من قراءته.. كانت شواهد قبور تبدو بعيدةً عن الجانب الغربي للممشى المُعبد بالحصوات، والذي تُفضي نهايته إلى البحيرة. وبخطواتٍ إيقاعية عقد ذراعيه و أخذ يتفحص بعض تماثيل الآلهة الإغريقية التي أهدتها اليونان لتلك الحديقة. مر إلى جوار امرأة تبيع عصائر مرطبة، ابتاع كوباً، ليكتشف بأنه يعادل حرارة الطقس الحار. ينظر إلى بؤسها، ثم يمضي به متأففاً دون اعتراض.. يجلس على أحد المقاعد الخشبية المعروشة. يسحب سيجارة من جيبه، بعد أن وضع العصير جانبا. أشعلها و أخذ يتطلع إلى المراكب الشراعية التي تُبحر مع نسمات الهواء الساخن، بينما نقيق بعض الضفادع وصوت صرصور الحقل، قد أخذ يتسرب من الأعشاب الممتدة على الحافة من البحيرة.. مضى الكثير من الوقت، ما جعله يتلفت حوله، ويركل الأرض قائلاً: ما أشد ما يجلبه البلهاء لأنفسهم
ينتبه إلى الظل الذي تراكم فوق المقعد المجاور له، وقد بدا لشيخ يرتدي معطفاً مقاوماً للمطر. ينظر لوجهه الذي تأصلت به ندبات غائرة كأنها ممرات في مدونة رخامية. يحمل كوباً من نفس العصير الذي كان قد ابتاعه منذ قليل، غير أن الكوب قد بدا مثلجاً من البخار المكثف عليه، مما جدد على وجهه النقمة على السيدة العجوز
_أتمانع إن جلست على المقعد المجاور لك؟
-على الرحب، فيبدو أنه لا يوجد بالمكان غيرنا
الشيخ: مما لا شك فيه أن الجميع لا يفضل النزهة في مثل تلك الأوقات
ينظر بتحفظٍ لملابسه التي لا تتناسب مع الطقس الحار، ليقول باستغراب: و هل أتيت أيها الشيخ للنزهة اليوم؟!
-لا..لا أُخْفيك سراً، أنه كلما شغلتني قضية فكرية، أخرج للأماكن المتسعة الهادئة بحثاً عن صفاء الذهن لتحليلها
-بومة منيرفا..
الشيخ وقد ضاقت عيناه و هو يضغط على كلماته: نعم، هي كذلك بالفعل
-أتعتقد أن الميتافزيقا التي قد لا يستوعبها العقل البشري خاضعة للتحليل؟
الشيخ: ربما... دعني يا صاح أفكر بصوتٍ عالٍ للقضية التي قد أهمتني طويلاً.. أكان في حديث الشيطان الذي أقنع به أبوينا وهما ينعمان في رغد السرمدية، بأن هناك متعة ناقصة، ولذة لن يسموا إليها، إلا من خلال الشجرة المحرمة؟
-ألا يمكن القول بأنهما كانا ساذجين، أو ربما كانت الحكمة لأن نكون على هذا الكوكب
الشيخ:.. عندما تظل مُلاحقاً لكل دقيقة من حياتك، فأنت حتما ستسعى إلى التمرد، لتختلق بعدها الأعذار بأن هناك من قام بالتحريض
_تمزح .. فهل اختفت المراقبة؟ّ!
الشيخ: وهل انتهى التمرد؟.
يتجدد صوت صرصور الحقل، ليقول له وقد انتبه للكتاب الماثل بين يديه: قرأت هذا الكتاب في شبابي لأكثر من مرة
_إنها الأولى لي..
الشيخ: أتَذكر أنه كان الدافع الأول لي إلى الهجرة لاستكمال دراساتي العليا بفرنسا
_ياله من دافعٍ رائع. كم أتمناه، وكم أغبطك عليه
يبتسم ابتسامة هزيلة قائلاً: كانت هجرة طويلة، أنفقتُ فيها معظم سنوات حياتي. غير أنني قد عدت.. عدتُ من قارة النور الباردة، إلى قفار الذاكرة البعيدة
-ألهذا عدت؟
الشيخ:.. ربما ليكون هذا هو تمردي الأخير
يرن الهاتف في جيب قميصه. إنها سوزان.. يستأذن الشيخ وينهض مبتعداً بخطواتٍ منزعجة ليجيبها. غير أن الصوت كان لصديقتهما فرح و هي تنفطر من البكاء: سوزان ماتت. لن تلاحقك بعد الآن، فاسترح أيها الوغد منها ومن الطفل الذي رأيته فخاً ليربطك بها
_ كيف هذا؟!
_ لا تدّع البراءة، وأنت الذي أشار عليها بتلك العملية. اسمع أنا لا تُشرفني صداقتك، ولا أريد أن أراك يا رمزي حتى ولو صدفة
يَسقط الهاتف من يديه. يلتفت مذهولاً حوله. عبثاً لا يجد أثراً للشيخ. يرفع صوته منادياً: يا...
يرتمي على المقعد. وقد أخذت الشمس بالانسحاب من فوق سطح البحيرة الرمادية. بينما أطاحت النسمات الغافلةبكوب شرابه الفارغ.
.................
أمل البنا..١٠ مايو ٢٠٢١
.......................
القراءة
..........
عندما يقع بين يدي نص للأستاذة أمل البنا، أعد ذهني جيدًا لتقبل جديد، فهى قاصة لا تكرر نفسها، وعودتني دائمًا على ولوج دهاليز وسراديب وكهوف النفس البشرية، فذانك ملعبها المفضل والذي تجيد المراوغة على بساطه بمهارة وتأنق فائقين، نعم ماهرة في التمويه واضغام المفاتيح، ومتأنقة في تركيب الجمل المشهدية ذات الدلالات السيميائية المتعددة، هذه هى أمل البنا، وهذا الذي بين يدينا الآن نصها الأحدث ( الظل ) في تقاطع مذهل مع فكرة نصي ( البعد الخامس )، ولكن في انتقاء جديد ومدخلٍ غير مطروق، ومعالجة اتسمت بخيال خصب، اعتمد الفلسفة الكانتية( نقد الرجل المحض ) في عكسها والمتضاد مع ماهيتها( درس لسنين فلسفة الغرب وفلاسفته وعاد بلا شيء، والميتافيريقا( علوم ما وراء الطبيعة ) حيث مزجت الأزمنة والأمكنة المختلفة في حيز ضيق زمكاني حاضر، والمينيرفا المتسامية بالروح، حيث جمعت بين روحي الشيخ والشاب على شاطئ بحيرة، ومزجتهم ببراعة في بوتقة ( الظل )، وبمعالجة ولا أروع حين تداخلت الأمكنة والأزمنة، فجمعت بين الماضي والمستقبل في زمن حاضر مرفوض، ونحت العقل جانبًا - لقصوره عن الإدراك- واتكأت على خاصية الحواس، فحولت الواقع إلى إلتباس، والماديات إلى ظلال، بل ظل واحد، بل ظل معرّف ب (ال) عن سبق عمد وترصد، كأنها تقول دون أن تقول ( كلهم واحد) ( الشاب / الطفل / العجوز..رمزي)..في إشارات سيميائية ناقصة أحد أضلعها ولكنها وافية الدلالة التأويلية ( إنه أنا / ظل صامتًا/ يتحسس أبعاده الجسدية في المرآة،...وغيرها من العلامات السيميائية) والتي تؤدي كلها إلى رفض الواقع والاستناد على الحواس في هلوسة بصرية وذهنية مكتملة الأركان والأبعاد، حيث العقل المغيب اللهم إلا عن الدهشة والاستغراب، العقل غير المدرك لواقعية الواقع بماديته القميئة، ورفضه التام له.
إنها وبحق فترة أو لحظة زمنية ندر ألا يكون أحدنا تعرض لها، متسائلًا ( من أنا ؟)..وتأتيه الإجابة ..الظل!..ما أنا إلا ظلي..وإن جاز لنا أن نقول هو نص ينحو نحو جلد الذات، أو يمكننا أيضًا أن نقول هو إرهاصة متخيلة في مصفوفة حسابية ليوم يقوم الناس فيه من قبورهم تأهبًا لساعة حساب في يوم مشهود، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته التي تأويه، لكل امرئٍ يومئذٍ شأنٌ يغنيه.
..................
محمد البنا ١٢ مايو ٢٠٢١


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق