الثلاثاء، 6 يوليو 2021

أمل البنا..و..الظل كنانة عيسى ..و..ضبابية الزمان والمكان

 أمل البنا..و..الظل

كنانة عيسى ..و..ضبابية الزمان والمكان
................................
الظل
منكفئًا بين طيات كتابه يعبر باب حجرته، وبصورة آلية يجلس. ينتبه لسقوط أبريق الماء الذي لكزه للتو و هو يجلس فوق الكومدينو. يخلع نظارته التي تقعرت تحت عينيه، وبنظرة استطال لها أنفه تدور بين؛ قطع الزجاج المتناثرة، و كرسيه الذي يجلس عليه معظم ساعات القراءة، والحجرة التي يختلط توزيع أثاثها بين لحظة وأخرى، وبنظرة مفزعة هاله باب الحجرة الموصد الذي ولج منه منذ قليل، ليقول في صوت مسموع: لقد كنت ممسكاً الكتاب بكلتا يدي.. لم أغلقه، ومن المؤكد أنني لم أفتحه أيضاً.
تفتح والدته الباب ، و تتجه إليه قائلة: ماذا تريد على العشاء يا حبيبي؟
ينظر إليها و إلى بقعة الماء تحت قدميه منتظراً منها توبيخًا ، أو أي كلمةٍ تستدعي أسفها على المجهود الذي أضاعته سدى في تنظيف حجرته.
وبينما ظل على مكانته صامتاً، اقتربت تتلمس وجهه بين راحتيها و تجس حرارته، لترتسم على وجهها علامات الرضا : سَأُعد فطائرك المحببة و كوب الشيكولاتة الساخن
تخرج. ينظر لكتابه- نقد العقل المحض- لكانط. يرتمي فوق فراشه والكتاب فوق صدره.. ينتفض قائلا: أنا لا أحب الشيكولاتة
يعلو رنين هاتفه إلى الجوار منه. اتسعت حدقتاه على شاشة الهاتف، جلس مشدوهاً للرنين الذي تواصل مرات بلا هوادة، ليقول في نبرة تدلت معها شفتيه: إنه أنا
مد يده، يفتح الهاتف متوجساً، عاجله الصوت قائلا: أنتظرك لأكثر من ساعة، فأين أنت الآن؟
-تقصد، أن هناك موعداً بيننا؟!
و بلهجة حاسمة يقول الصوت قبل أن يغلق الخط في وجهه : من المؤكد أنك تمزح. . أسرع فلن ألبث بإنتظارك كل هذا الوقت.. ستجدني بالممشى الحجري قرب البحيرة.
يسقط الهاتف من يديه.. ينهض في بطء.. يقف أمام المرآة، ممشطاً سطحها الأملس و قد ألصق وجهه الممتقع بها، ليتأكد من إسقاطات أبعاده الجسدية عليه
يدخل أخوه الصغير رمزي دون أن يطرق الباب باكياً وهو يقول: سأخبر أبي أنك أخذت دراجتي ولعبت بها مع أصحابك
يستبدل ملابسه وهو يتطلع للصغير الذي تشبث بسرواله. يخرج تاركاً إياه بعد أن رفسه، ليتوعده الآخر صارخا: سأجعله يضربك
عند مروره بحجرة المعيشة وجد أمه تستوقفه، وهي تشاهد أحد الأفلام قائلة: لا تتأخر على الغداء.. إذا أمكنك المرور على رمزي بالجامعة فافعل، فقد استيقظ اليوم مريضًا وذهب مضطرًا لبدء اللإمتحانات
يسير خطواتٍ نحو الباب وقد عجز عن التفكير. أرهقته الأضواء المبالغة بالمنزل، فلم يشعر إلا ببرودة الجدار الذي استند إليه تواً، قبل أن يتجدد حماسه للخروج من جديد
يمضي بسيارته، مصطحباً الكتاب الذي لم ينته من قراءته.. كانت شواهد قبور تبدو بعيدةً عن الجانب الغربي للممشى المُعبد بالحصوات، والذي تُفضي نهايته إلى البحيرة. وبخطواتٍ إيقاعية عقد ذراعيه و أخذ يتفحص بعض تماثيل الآلهة الإغريقية التي أهدتها اليونان لتلك الحديقة. مر إلى جوار امرأة تبيع عصائر مرطبة، ابتاع كوباً، ليكتشف بأنه يعادل حرارة الطقس الحار. ينظر إلى بؤسها، ثم يمضي به متأففاً دون اعتراض.. يجلس على أحد المقاعد الخشبية المعروشة. يسحب سيجارة من جيبه، بعد أن وضع العصير جانبا. أشعلها و أخذ يتطلع إلى المراكب الشراعية التي تُبحر مع نسمات الهواء الساخن، بينما نقيق بعض الضفادع وصوت صرصور الحقل قد أخذ يتسرب من الأعشاب الممتدة على الحافة من البحيرة.. مضى الكثير من الوقت، ما جعله يتلفت حوله، ويركل الأرض قائلاً: ما أشد ما يجلبه البلهاء لأنفسهم
ينتبه إلى الظل الذي تراكم فوق المقعد المجاور له، وقد بدا لشيخ يرتدي معطفاً مقاوماً للمطر. ينظر لوجهه الذي تأصلت به ندبات غائرة كأنها ممرات في مدونة رخامية. يحمل كوباً من نفس العصير الذي كان قد ابتاعه منذ قليل، غير أن الكوب قد بدا مثلجاً من البخار المكثف عليه، مما جدد على وجهه النقمة على السيدة العجوز
_أتمانع إن جلست على المقعد المجاور لك؟
-على الرحب، فيبدو أنه لا يوجد بالمكان غيرنا
الشيخ: مما لا شك فيه أن الجميع لا يفضل النزهة في مثل تلك الأوقات
ينظر بتحفظٍ لملابسه التي لا تتناسب مع الطقس الحار، ليقول باستغراب: و هل أتيت أيها الشيخ للنزهة اليوم؟!
-لا..لا أُخْفيك سراً، أنه كلما شغلتني قضية فكرية، أخرج للأماكن المتسعة الهادئة بحثاً عن صفاء الذهن لتحليلها
-بومة منيرفا..
الشيخ وقد ضاقت عيناه و هو يضغط على كلماته: نعم، هي كذلك بالفعل
-أتعتقد أن الميتافزيقا التي قد لا يستوعبها العقل البشري خاضعة للتحليل؟
الشيخ: ربما... دعني يا صاح أفكر بصوتٍ عالٍ للقضية التي قد أهمتني طويلاً.. أكان في حديث الشيطان الذي أقنع به أبوينا وهما ينعمان في رغد السرمدية، بأنّ هناك متعة ناقصة، ولذة لن يسموّا إليها، إلا من خلال الشجرة المحرمة؟
-ألا يمكن القول بأنهما كانا ساذجين، أو ربما كانت الحكمة لأن نكون على هذا الكوكب
الشيخ:.. عندما تظل مُلاحقاً لكل دقيقة من حياتك، فأنت حتمًا ستسعى إلى التمرد، لتختلق بعدها الأعذار بأنّ هناك من قام بالتحريض
_تمزح .. فهل اختفت المراقبة؟ّ!
الشيخ: وهل انتهى التمرد؟.
يتجدد صوت صرصور الحقل، ليقول له وقد انتبه للكتاب الماثل بين يديه: قرأت هذا الكتاب في شبابي لأكثر من مرة
_إنها الأولى لي..
الشيخ: أتَذكر أنه كان الدافع الأول لي إلى الهجرة لاستكمال دراساتي العليا بفرنسا
_ياله من دافعٍ رائع. كم أتمناه، وكم أغبطك عليه
يبتسم ابتسامة هزيلة قائلاً: كانت هجرة طويلة، أنفقتُ فيها معظم سنوات حياتي. غير أنني قد عدت.. عدتُ من قارة النور الباردة، إلى قفار الذاكرة البعيدة
-ألهذا عدت؟
الشيخ:.. ربما ليكون هذا هو تمردي الأخير
يرن الهاتف في جيب قميصه..إنها سوزان.. يستأذن الشيخ وينهض مبتعداً بخطواتٍ منزعجة ليجيبها.. غير أنّ الصوت كان لصديقتهما فرح و هي تنفطر من البكاء: سوزان ماتت.. لن تلاحقك بعد الآن، فاسترح أيها الوغد منها ومن الطفل الذي رأيته فخاً ليربطك بها
_ كيف هذا؟!
_ لا تدّع البراءة، وأنت الذي أشار عليها بتلك العملية.. اسمع أنا لا تُشرفني صداقتك، ولا أريد أن أراك يا رمزي حتى ولو صدفة
يَسقط الهاتف من يديه. يلتفت مذهولاً حوله. عبثاً لا يجد أثراً للشيخ. يرفع صوته منادياً: يا...
يرتمي على المقعد. وقد أخذت الشمس بالانسحاب من فوق سطح البحيرة الرمادية. بينما أطاحت النسمات الغافلةبكوب شرابه الفارغ.
.......
أمل البنا ١٠ مايو ٢٠٢١
.............................
القراءة
.........
عندما يختل ميزان المكان والزمان
...............................................
لطالما كانت النصوص النفسية التي تكتبها الأستاذة أمل البنا، تأخذ امتدادَا فلسفيًا جدليا فتنتقل من سياق السرد بلغته البسيطة السلسة إلى الخيال الجامح الذي يقلب موازين الانطباعات والدلالات و يفرض سيطرة عقلية آنية لتبلور صراع الإنسان تجاه عقله و وجوده وإدراكه و وعيه.
وفي هذا النص، ذي اللغة البسيطة االانسيابية، أحكمت الكاتبة بناء السرد في إطارات مشهدية متشابكة، ينقلنا فيها الخطاب السردي للقطاتٍ درامية سينمائية ٍعابرة تكثّف فيها الزمن و قد غدا مرنًا بلا حدود وتشابكت فيها الأمكنة ففقدت ثباتها وكينونتها ،خلل النسيج الزمكاني :
ينمو في مناخ الشك تدريجيًا لدى السارد والشخصيات المنبثقة عنه الذي ينكر أنه (رمزي) بل يتقمص دور الأخ الأكبر المستنكر و المراقب الخارجي، كما ظهر في النص
١-تتغير مواضع قطع الأثاث في البداية
٢.الباب مفتوح ثم أوصد
٣- الأم التي لم تنتبه لبقعة الماء التي حدثت للتو بسبب
- الفجوة الزمنية وتقدم كوبا من الشوكولا لرمزي
٤.رمزي يدخل شاكيا باكيا على نفسه (وعي مختلف)
٥.تلفون من نفسه (رمزي)
٦-الأم تطلب منه المرور على اخيه رمزي الذي غدا في الجامعة
٧.يلتقي السارد (رمزي) بذاته العجوز ويرى نفسه في المستقبل وقد تشرب فلسفة كانط في حياته وانتهى بالغربة والوحدة.
٨-.يدرك انه (رمزي) الذي فقد مبادئ الحب و َالاخلاص والانتماء، كأنه مرآة لواقع تقهقهر ،أمام الانهزامات والتسيس والكوارث والحروب ،فانغلق على نفسه، وأعاد تركيب واقعه المشوش كهروب يبرره بظواهر من نسج تفكيره يسميها ظواهر ما خلف الطبيعة، حين لا تنقذه من براثنها بومة منيرفا (رمز الحكمة) التي تطير فحسب في الظلام لترفض لعنة العقل في زمن الجنون.
السارد يصارع الحقيقة المرة في وجوده، فهو عاجز عن استدراك أبعاد حياته ضمن خيباته وانكساراته و قرارته الخاطئة وعقده النفسية، فهو يستقرأ محيطه بحواسه الآنية كظواهر مرتبطة بذهنه ومنطقه ومبادئه وكل ما يجري حوله ليس بذي حقيقة بل مظاهر حسية تبرر انفصاله عن الواقع وانسلاخ وعيه عنه،و انعدام مفهوم الماضي والحاضر في ذاكرته المشوشة، اذ خذله بحثه المنطقي عن جوهر الحياة فوقع في اضطراب نفسي عزله عن الوجود بأبعاده المادية المألوفة وخلق له عالمًا بديلا غير متوازنٍ، فالخلل العقلي كما أرادته الكاتبة فصل وعي السارد عن ذاته وضخّم عقده فاختل مفهوم الزمكان وعلاقة الأشياء وظاهرها ببعضها البعض،الزمان والمكان والسببية لا وجود لهم في وعي السارد اللامتوازن لأنها خارج معرفته وإدراكه. قد تنطبق تلك الفلسفة الدقيقة على رواية (الغرفة) للكاتبة إيما دونوغو التي تصور معرفة طفل ولد في غرفة وبقي سجينا فيها لمدة خمس سنوات وارتبطت معرفته بما استطاعت حواسه في نسيج زمكاني خارج عن إرادته لأنه حبس رغما عن إرادته، فبقي ضمن حقيقة مشوهة حجّمت وعيه بظاهر ما تدركه حواسه وليس بالواقع.
وهذه فلسفة كانط التي اعتنقها السارد في مسار تأزماته
، المتقلب وحياته الفوضوية اللامنتمية التي تعكس في النهاية مجتمعًا متناقضًا محكومًا بظاهر قاسٍ اقتصر على إدراك الحواس وعجز عن إدراك عمق التحضر والإنسانية، لكي يقدر على الحياة ضمن إدراكه البسيط ،يشذب وعيه في حدود الزمكان المزيف ليقدر على البقاء. في واقع مر منكسر.
نص رائع دام المداد
كنانة عيسى ١٠ مايو ٢٠٢١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق