السبت، 20 ديسمبر 2025

قراءة نقدية: "الثلاثية الققجية بين الحيوانية والإنسانية" الثلاثية القججية :"جزار الإنسانية " الكاتبة: د. الهام عيسى (سوريا). الناقدة :جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية: "الثلاثية الققجية بين الحيوانية والإنسانية"

الثلاثية القججية :"جزار الإنسانية "

الكاتبة: د. الهام عيسى (سوريا).

الناقدة :جليلة المازني (تونس)


التصدير:


يقول بودلار:"الشكل هو سرّ العمل الفني "


لماذ تطالعنا الكاتبة إلهام عيسى بهذا الشكل الثلاثي في القصص القصيرة جدّا والذي دأبت عليه في انتاجها الابداعي؟


نطرح هذا السؤال لعل القارئ يدرك المغزى من تنضّد الكاتبة الهام عيسى..  


فما رمزية الرقم(3)  الذي اقترن بالأدب؟


يرى بعض الباحثين أن الرقم(3)  في الأدب والثقافات المختلفة  يرمز الى الكمال والوحدة والتكامل والخلق والحكمة ويظهر في "قاعدة الثلاثة" لزيادة التأثير السردي.


"يتواجد الرقم( 3) بشكل متكرر في الأدب والأساطير حيث يستخدم للتعبير عن المفاهيم الأساسية مثل البداية , الوسط , النهاية..(1).


في الشعر والروايات تشكل الصيغ المؤلفة من ثلاثة عناصر شكلا جذابا يسهم في "عمق النص و جاذبيته " .


وفي هذا الإطار فإن الكاتبة جمعت بين الشكل الجذاب وعمق النص لزيادة التأثير السردي في الثلاثية الققجية.


إن هذه الموازنة بين الشكل والمضمون تقتضي سمات محددة في قراءة هذه الثلاثية الققجية كمقياس لمدى الحكاية والقصصية بها.


التحليل : "الثلاثية الققجية بين الحيوانية والإنسانية"


1- في قراءة العنوان "جزار الانسانية":


لقد أسندت الكاتبة عنوانا شاملا للثلاثية الققجية " جزار الانسانية".


ورد العنوان مركبا إضافيا وبين المضاف والمضاف اليه مفارقة عجيبة:


+ الجزار:


- المعنى الحرفي والمهني هو الشخص الذي يذبح الأنعام ويقطع لحمها ويبيعه.


- اللقب التاريخي: قد يُطلق على القائد القاسي الذي يسفك الدماء كثيرا مثل أحمد باشا الجزار.


+الانسانية: تُعرّف الانسانية بأنها مجموعة من وجهات النظر الفلسفية والأخلاقية التي تركز بشكل أساسي على قيمة الانسان فردا كان أم جماعة وترتبط بالاستدلال والتفكير(2).


وفي هذا الاطار من شرح المفهومين (الجزار/ الانسانية) قد يتساءل القارئ :


- كيف يمكن للإنسانية بمعانيها الفلسفية والأخلاقية أن تكون ضحية هذا الجزار؟


لعلنا نقف على ذلك في صلب التحليل.


2- سمات الثلاثية الققجية وأهدافها:


ان الثلاثية الققجية  تقتضي سمات تتميّز بها وهي سمات على ضوئها يتم التناغم والاتساق بين القصص .ق.ج الثلاث للثلاثية وهي سمات كمقياس لمدى الحكائية والقصصية  بالثلاثية:


لو تأمّلنا بأهمّ سمات هذه الظاهرة الأدبية الثلاثية نلاحظ أنها تهدف بالأساس الى:


أ- تصوير الواقع.. أي ملمح يميل الى الجانب التصويري؟.


ب - التميّز بالدّائرية (عودة الأبطال بالظهور في معظم المراحل الثلاث).


ج - حصول نفع القراءة من أي مرحلة تبدأ .. مع خيط رفيع رابط بينها.


لعلّ هذا ما جعلنا نعتبر الكاتبة  الهام عيسى تنخرط في ظاهرة الثلاثية لتحقّق الملامح الثلاثة السالفة وتحقق الحكائية والقصصية بها.


3- تجليات السمات الثلاث بثلاثية الكاتبة الهام عيسى " جزار الانسانية":


أ- تصوير الواقع.. أي ملمح يميل الى الجانب التصويري؟.


+الققجية الأولى : لقد أسندت الكاتبة عنوانا لها "طفل يبحث عن غد"


ان هذا العنوان قد يُحرّك فضول القارئ لمعرفة حاضر هذا الطفل الذي يبحث عن غد وإن كان الغد  يرمز الى المستقبل والى المصير فما مستقبل هذا الطفل وما مصيره؟


ان الكاتبة  تثير جدلية اليوم والغد و الحاضر والمستقبل.


 استهلت الكاتبة الققجية الأولى بفعل في صيغة الماضي مسند الى الجماعة الغائبين او الجمع الغائب (هم)  فقالت: "خبّؤوا".


ودلالة ضمير الغائب(هم) في النص هو إمْعان في التحقير والإشمئزاز من ذكر اِسم هؤلاء الجماعة الغائبة لان الضمير المتقدم عادة يعود على اسم متأخر في النص لكن الكاتبة لم تذكره في صلب النص ومن ثمّ كان التحقير والاشمزاز من ذكره .


وقد يكون نوعا من التقية التي يلجأ اليها الأديب خوفا من ردة فعل الساسة وحذرا منهم...


إن ضمير الغائب الجمع يعود على الجُناة  الذين بدّدوا أحلام  الأطفال والأحلام غالبا ما  تُطرح لتحقيق غد أفضل .


وبالتالي هل هذا الطفل الذي يبحث عن غد مشرق بأحلامه سيعيش هذا الغد؟


تقول الكاتبة: "خبّؤوا أحلامهم في جيوب الريح. كانت أوراقًا ورسائل مؤجلة وبقايا أعمار."


انها مفارقة عجيبة بين الفعل "خبؤوا" والمكان  "جيوب الريح "الذي خبؤوا فيه.


انها معادلة صعبة فالاحتفاظ  بأحلام الأطفال كان بإطلاقها الى الريح لتتطاير وتتلاشى وبالتالي تلاشي الغد الذي يبحث عنه الطفل والكاتبة استخدمت المفرد في صيغة الجمع فهذا الطفل هو نموذج لكل الاطفال الذين يعيشون نفس الظروف القاهرة.


ان أحلامهم كانت أوراقا تلاعبتْ بها الريح ورسائل مزقتها أيدي المساومين في حقهم وأعمارهم مهددة بحتفها وسط ظروف تهجير تنتهك حق الحياة الإنساني ليحل الموت محل الحياة  واذا الطفل الذي يبحث عن غد يفقد يومه و حاضره ويدفن الواقعُ الظالمُ أمانيه دون شاهد.


وكأني بالكاتبة تبحث عن شاهد عيان ليُنصف هؤلاء الأطفال ضحايا ظلم ومساومة.


والمساومة عادة ما تكون بين طرفين يتفاوضان حول قرارات مهمة وقد تشير الى محاولات للتوفيق بين رغبات متضاربة أو ضغوط خارجية.


وأحلام الاطفال كانت ضريبة الرغبات المتضاربة والضغوط الخارجية المحكومة بالمصالح.


ان الكاتبة رسمت مشهدا أليما موجعا باستخدام معجمية قائمة على حركية الأفعال(مزّقتها/ غرقت/ ارتجفت/ أطبق/ يصرخ/ دفن).


ان هذه الحركية تحيل الى حركيّة  بركح المسرح ..انها مسرحية الواقع الظالم والحياة المريرة.


ولعل الكاتبة تبث رسالة للقارئ بأن ما يحدث في الواقع شبيه بالخيال بشاعة وتجرّدا من الانسانية  فتقول:


"مزّقتها المساومات. غرقت الخيام، ارتجفت الأجساد، وأطبق الموت على المكان. طفل يصرخ بحثًا عن حذاء وكساء ورغيف. عند المساء، اكتشفوا أن الواقع دفن أمانيهم دون شاهد"


ان الكاتبة تنشد العدل و الإنسانية ..إنها تريد شاهد عدل يُنصف الضحية وهو نموذج صارخ لكل الأطفال أمثاله ضحايا القهر و التهجير والمسلوبين من حق الحياة.


+ الققجية الثانية: "الرصاصة الأخيرة"


لقد كانت الضحية أمّا تلقت الرصاصة الاخيرة لتلقى حتفها دون أن يراها أحد تماما كما دفن الواقع أماني الأطفال في الققجية الأولى دون شاهد.


لد استدعت الكاتبة الشخصية الدينية "إخوة يوسف" الذين حاولوا انتهاك حرمة حق النبي يوسف في الحياة.


ان الكاتبة استدعت الشخصية الدينية لترمز الى خيانة ذوي القربى تماما كما تمّت المساومات في الققجية الأولى.


+ الققجية الثالثة : لئن كان الطفل البريء ضحية  يد الغدر في الققجية الأولى والأم في الققجية الثانية فالضحية  في الققجية الثالثة هو الشيخ وهو رمز للحكماء من الرجال وقد يكون رمزا للقادة بحكمته.


ومن هنا فقد شهدت الققجيات الثلاث ضحية باختلاف شرائح المجتمع.


 ب - التميّز بالدّائرية (عودة الأبطال بالظهور في معظم المراحل الثلاث).


 ما يقف عليه القارئ في الثلاثية الققجية هو تواتر الضحية من الاطفال أوالامهات أوالشيوخ.


وفي هذا الاطار فان هؤلاء الجُناة قد انتهكوا حرمة حق الحياة والتي قال فيها الله في سورة  الانعام الآية (33)"ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله الا بالحق ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليّه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا".


ان هؤلاء الجُناة لم يبقوا ولم يذروا من شرائح المجتمع  فقتلوا الطفل الذي هو مستقبل المجتمع والأمّ المسؤولة على استمرارية النسل والشيخ الذي هو رمز للحكماء من الرجال ومن القادة والساسة..


انها إبادة جماعية تتنافى والمبادئ الإنسانية والأخلاقية سواء من ذوي القربى(المساومات/ اخوة يوسف/ جنازة روحانية/ تذبح الانسانية..) أو من الجناة أعداء العدل والحرية وحقوق الانسان .انها حيوانية شرسة ومتوحشة.


ان فظاعة مشهد الحرب في كل مراحل الثلاثية يشي بانهيار القيمة الانسانية التي كرّم بها الله الانسان على جميع المخلوقات "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"( الاسراء- الآية 70).


والآية الكريمة تبرز المكانة العظيمة في الكون وتؤكد على مسؤولياته تجاه هذه الكرامة وتدعو الى تعظيم قيمة الانسان واحترام كرامته وتحويل  هذا التكريم الالهي الى قيم اجتماعية  تعزز حقوق الانسان.


بيد أن حقوق الانسان من خلال هذه الثلاثية قد انتهكت بالكامل لأن حق الحياة يعلو كل حقوق الانسان .


ان القوي ينتهك حق الضعيف ويتحول من أجل مصالحه الى حيوان متوحش وشرس متجرّد من كل آدمية وانسانية. 


ان هؤلاء الجُناة ممن سلبوا الاطفال والأمهات والشيوخ حق الحياة هم من أطلقت عليهم الكاتبة "جزار الانسانية" لأن ما يقترفونه من جرائم هي جرائم تجرّدهم من كل انسانية ..انهم ذبحوا القيم الانسانية والاخلاقية بكل حيوانية  دون رحمة.


وكأني بالكاتبة تتوجه الى المنظمة العالمية لحقوق الانسان التي لا تبالي بما يحدث أمامها.


وقد عبرت الكاتبة عن هذه اللامبالاة  بامتياز في قولها :


-" دون شاهد" (الققجية الاولى)


- "دون أن يراها أحد" (الققجية الثانية)


- "كانت الإنسانية تذبح على مرأى العيون"( الققجية الثالثة)


وفي هذا الاطار فان تقاطع الققجيات الثلاث في عودة الضحية في كل مرحلة من مراحل الثلاثية هي بمثابة خيط رفيع رابط بينها يتيح حصول نفع القراءة من أي مرحلة تبدأ:


ج - حصول نفع القراءة من أي مرحلة تبدأ .. مع خيط رفيع رابط بينها :


+ البداية: لقد لعبت الكاتبة في سردها على الشخصية الضحيّة  فلئن كانت شخصية الاطفال الضحية بسبب التهجير والجوع والبرد والعراء(البداية) فان شخصية الضحية  هي الامهات حتى ينقطع النسل ويندثر المجتمع بأسره (الوسط) ونفقد الحكمة والقيادة (النهاية).


+ الوسط :لئن كانت الشخصية الضحية هي الامهات (الوسط)  فالاطفال قد يموتون وهم في أرحام أمهاتهم قبل أن يروْا نور الحياة وقد يموتون في غياب رعاية الأمهات (البداية).وموت الاطفال الذين هم مستقبل المجتمع والأمهات اللائي هن يجسّدن استمرارية النسل يسْلب الشيوخ حكمتهم وسبب وجودهم وتكون الإبادة جماعية وشاملة(النهاية).


+ النهاية: ان قتل الحكماء من رجال المجتمع هو إعْدامٌ لأعْلى هَرَم المجتمع(النهاية) وان هُدّم أعْلى هرم في المجتمع فسينهار من تحته الأمهات(الوسط)  وتباعا الأطفال الذين سيسْلبهم الجناة أمهاتهم (البداية) .


وخلاصة القول فان الكاتبة قد لعبت على الشخصية في سردها بهذه الثلاثية الققجية فجعلت الشخصية الضحية تمسّ كل شرائح المجتمع من أطفال وأمهات وشيوخ فكانوا ضحايا جزار الانسانية التي ذبحها بكل حيوانيته  المتوحشة دون شفقة أو رحمة.


ولعل القارئ هنا يتعاطف مع الكاتبة الهام عيسى وهي تُسِرُّ الوجَع الشديد لعله يُبْرِئُ سُقمَها ويستحضر ما قاله العظيم أرنستو  شي  جيفارا :


"اذا  ذبلت الأخلاق ذبل كل ما حولها .وحماية الأخلاق ليست رفاهية  بل هي خط الدفاع الأخير عن  بقاء المجتمعات".


وبالتالي فان هؤلاء الجناة قد تجردوا من كل المبادئ الاخلاقية وذبحوا الانسانية لتدمير هكذا مجتمعات ضعيفة.


سلم قلم الكاتبة الهام عيسى الذي برع بامتياز في الموازنة  بين الشكل الجذاب وعمق النص لزيادة التأثير السردي في الثلاثية الققجية.  


بتاريخ :18/ 12/ 2025


 المراجع:


(1) الكاتب لاري باس- قوة الثلاثة- شبكة القصص.


(1)  الكاتبة  شهيرة دعدوع  - مفهوم الانسانية- في 30 يونيو 2022 موقع - موضوع -


جزار الإنسانية  ثلاثية ق ق ج .


 الكاتبة : الهام عيسى


طفل يبحث عن الغد///


خبّأوا أحلامهم في جيوب الريح. كانت أوراقًا ورسائل مؤجلة وبقايا أعمار. مزّقتها المساومات. غرقت الخيام، ارتجفت الأجساد، وأطبق الموت على المكان. طفل يصرخ بحثًا عن حذاء وكساء ورغيف. عند المساء، اكتشفوا أن الواقع دفن أمانيهم دون شاهد


الرصاصة الأخيرة ///


تحت المطر، كانت أمٌّ عالقة تحت ركام بيتها. احتضنت الرصاصة الأخيرة حين خذلها الضمير العام. نزفت بصمت، ولم يرها أحد. إخوة يوسف مرّوا قريبًا، نظروا طويلًا، ثم أكملوا الطريق.


سلم الغيم///


عجوز حمل في قلبه الضائع سهام الغدر سجد وركع واحتضن اوجاعه في دهاليز وحدته كان ضجيج الصمت يلفظ انفاسه الأخيرة سرح جدائل الشمس واعتلى سلم الغيم  غفى على رصيف الوداع في جنازة نورانية  كانت الإنسانية تذبح على مرأى العيون



الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

قراءة نقدية: "القصيدة والمشاعر بين الواقع والحقيقة" (أسطورية المشاعر) القصيدة: "أي هذيان أجمل من ..." الشاعرة :سليمى السرايري (تونس) الناقدة :جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية: "القصيدة والمشاعر بين الواقع والحقيقة"

(أسطورية المشاعر)

القصيدة: "أي هذيان أجمل من ..."

الشاعرة :سليمى السرايري (تونس)

الناقدة :جليلة المازني (تونس)


القراءة النقدية: "القصيدة والمشاعر بين الواقع والحقيقة"


لقد استهلت الشاعرة سليمى السرايري قصيدتها باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الاعجاب : أي هذيان أجمل من أننا هنا


                     اثنان نؤدي طقوسنا المختلفة


ان الشاعرة مُعجبة بجمال هذيان وجودهما مع بعض وهما يؤديان طقوسهما المختلفة:


- أي هذيان تقرّ به الشاعرة انه الأجمل باستخدام اسم التفضيل المطلق بحصر الجمال في هذا الهذيان ؟


- أي طقوس مختلفة يؤديها الحبيبان(اثنان)؟.


لعل الشاعرة تقرّ بالهذيان في الحب والذي يعني حسب بعض المختصين أنه "حالة من الارتباك الذهني الشديد وتقلب المزاج  والهلاوس والأوهام المتعلقة بالشخص المحبوب حيث يفقد الشخص السيطرة على تفكيره المنطقي ويصبح مشوشا بين الواقع والخيال يتصرف بامتلاك أو خوف أو تعلق مفرط"


وفي هذا الاطار هل هو هذيان العشق أو هوس الحب الذي تتقاسمه الحبيبة العاشقة مع حبيبها المعشوق والاثنان كلاهما عاشق ومعشوق.


ومن هنا كان العشق بينهما هذيانا وهَوَسًا بل جنونا فكل منهما مجنون بالطرف الآخر الى درجة انها أضفت عليه سمة العبادة (نؤدي طقوسنا المختلفة).


وطقوس الحب  حسب بعض المختصين "هي مجموعة من الممارسات والعادات الي تعزز الترابط العاطفي وتظهر المودة بين الحبيبين."


ولعل الشاعرة تشي للقارئ بالطقوس الرومانسية للحب والمتمثلة  في الكلام الطيب والتعبير عن المشاعر والاحتضان والاحتواء وهذا قائم على التضحية وتجاوز الذات من أجل الحبيب  وهو من أسس الحب الحقيقي (1).


ولعل القارئ هنا يدعم الطقوس المختلفة التي يؤديها الحبيبان معا "بنظرية مثلث الحب" التي وضعها عالم النفس الامريكي روبرت ستيرنبرغ والتي تفسر الحب بثلاثة مكونات رئيسية تشكل زوايا المثلث (2) :


1- الألفة (الحميمية) :الشعور بالارتباط والثقة والمشاركة والتفاهم المتبادل.


2- الشغف: الإنجذاب الرومانسي و العاطفي والرغبة في التواصل الجسدي وهو المكون الذي يعطي الحب طابعه الرومانسي.


3- الالتزام: القرار بالبقاء مع الشريك والرغبة في بناء مستقبل مشترك.


وفي هذا السياق يعتبر الحب الكامل(الميثالي) بتوازن هذه المكونات الثلاثة(الفة + شغف + التزام) وهو حب يُعتبر أصعب أنواع الحب في الحفاظ عليه. وهو الحب الحقيقي أو لا يكون.


وباعتبار أن الحب الحقيقي صعب جدا تقول الشاعرة:


على أرض لا تعترف بالحب


ولا تؤمن بالمشاعر التي تكبر كالسنابل


تطير في السماء كاليمام


وتحطّ على الأشجار البعيدة


إن الشاعرة تعمد إلى استخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على التقديم والتأخير فقدّمت ظرف المكان(على أرض) للتأكيد على المكان ورمزيته الى الواقع الذي تعتبره لا يعترف بالحب (الحقيقي) وينكر المشاعر .


والشاعرة تثير هنا ثنائية الواقع  والحقيقة وهي حقيقة الحب والمشاعر:


لئن كان الواقع لا يعترف بالحب ولا بالمشاعر  فإن الشاعرة تعتبر الحب حقيقة لا يمكن انكارها .


وهل أكثر من أنها تعتبر أن الحب والمشاعر كائنا حيّا  ينمو ويكبر تماما كالسنابل ويطير كاليمام في السماء ويحط على الأشجار البعيدة .


و لعل الأشجار البعيدة هي كناية عن الآفاق التي تتوق إليها المشاعر وهي تنمو وتكبر وتطير في السماء لأن مشاعر الحب راقية  لن ترضى البقاء على أرض لا تعترف بها ..إنها ترنو الى العلا والى الفضاء الرحب حيث لا تقيّد حريتها أرض تنكرها إنها مشاعر ترفض الأسفل وتتوق الى الأعلى.


ان الشاعرة قد استخدمت معجما لغويا يعود الى علم الأحياء(السنابل/ اليمام/ الاشجار) واستخدمت أفعالا دالة على الحركة (تكبر/  تطير/ تحطّ) لإضفاء الحيوية والحياة على المشاعر باعتبارها كائنا حيّا.


وهذا الكائن الحيّ ليس كائنا حيّا عاديا بل هو كائن راق وحرّ(السماء) وحالم (الاشجار البعيدة).


ان هذا الحب وهذه  المشاعر باعتبارها كائنا حيّا وحرّا وحالما  هي حقيقة لا يمكن للواقع أن ينكرها وألا يعترف بها الى حدّ الإغتيال فتقول الشاعرة:


ثم تُغتال كالشهداء


على التلال والساحات الخالية


ان هذا التوتر اللغوي باستخدام لغة غير مألوفة قائمة على الانزياح الدلالي من تشخيص وتشبيه  فقد شخّصت الشاعرة المشاعر وشبهتها بالشهداء الذين يتم اغتيالهم ظلما وعدوانا وبالتالي:


- هل الواقع ظالم للمشاعر؟


- هل الواقع عدوّ للمشاعر؟


ان الشاعرة وبنبرة ساخطة تنكر اغتيال المشاعر بعيدا عن الواقع ودون شاهد عيان يقرّ بها ككائن حيّ (على التلال والساحات الخالية).


وكأني بالشاعرة تريد شاهد عيان ليدافع عن المشاعر ضد اغتيالها.


ولعل القارئ هنا يتدخل ويستحضر قول الشابي ليدعم حقيقة المشاعر التي لا يمكن ان ينكرها الواقع :


عش بالشعور وللشعور فإنما// دنياك كون عواطف وشعور


وتختم الشاعرة بنبرة متفائلة قائلة:


لتتحوّل الى عصافير خضراء


تؤمن أن السماء قريبة


وفي هذا الصدد فان الشاعرة تعتبر أن المشاعر وان اغتيلت سوف لن تموت بل تبعث من جديد حين تتحوّل الى عصافير خضراء مؤمنة بحريتها وبأحلامها.


ان الشاعرة صنعت من المشاعر أسطورة حين جعلتها كائنا حيا ينمو ويكبر ويعلو ويحلم ..


وهل أكثر من أن الشاعرة قد جعلت المشاعر تقاوم الاغتيال لتبعث من جديد وكأني بها تستحضر أسطورة  طائر الفينيق الذي يولد من رماد احتراق جسده.


انها أسطورية المشاعر التي تتحدى الواقع وتتجاوز المعاناة  وتقاوم الاغتيال لتولد من جديد كائنا حيّا (عصافير خضراء) حقيقة لن ينكرها الواقع.


ان المشاعر حقيقة لا يمكن ان يُنكرها الواقع.


سلم قلم الشاعرة هذا القلم المتمرد الذي لا يشبه الا سليمى السرايري.


بتاريخ 16/ 12/ 2025


المراجع:


(1) أحمد سالم- قواعد الحب | الجزيرة- 19/ 11/ 2016


(2) نظرية مثلث الحب ويكيبيديا.


القصيدة (سليمى السرايري)


 أيَّ هَذَيَانٍ أَجْمَلَ مِنَ أَنّنَا هُنَا

اثْنَانِ، نُؤَدِّي طُقُوسَنَا الْمُخْتَلِفَةَ

عَلَى أَرَضٍ لَا تَعْتَرِفُ بِالْحُبِّ

وَلَا تُؤْمِنُ بِالْمَشَاعِرِ الَّتِي تَكْبُرُ كَالْسَّنَابِلِ

تَطِيرُ فِي السَّمَاءِ كَالْيَمَامِ

وَتَحُطُّ عَلَى الْأَشْجَارِ الْبَعِيدَةِ...

ثُمَّ تُغْتَالُ كَالْشُّهَدَاءِ

عَلَى التِّلَالِ وَالسَّاحَاتِ الْخَالِيَةِ.

لِتَتَحَوَّلَ إِلَى عَصَافِيرَ خَضْرَاءَ

تُؤْمِنُ أَنَّ السَّمَاءَ قَرِيبَةً.

-

سليمى السرايري



الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

قراءة أسلوبية نقدية-متعجلة-في قصيدة الشاعر التونسي القدير -طاهر مشي"أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ" بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قراءة أسلوبية نقدية-متعجلة-في قصيدة الشاعر التونسي القدير -طاهر مشي"أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ"


 "أعدّي لِيَ الأرضَ كي أستريحَ

فإني أحُّبّك حتى التَعَبْ..."


(محمود درويش)


(أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ)


أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ

وتعثّرَ قلبُهُا في طرقِ الانتظارْ…


ألمُّ شتاتَ نبضِها،

وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً

كي لا يضلَّ الحلمُ

في ليلِ الأعذارْ.


أقولُ لها:

ما ضاعَ من الوقتِ

ليس خيانةً دائماً،

بعضُ المواعيدِ

تتأخّرُ

لتأتي

أصدقَ

وأجملَ

وأشدَّ التصاقاً بالقدرْ.

 

طاهر مشي


تستمدّ صورة الأنثى في النصوص-العشقية-بلاغة حضورها من غيابها.فهي الغائبة-الحاضرة أو الحاضرة-الغائبة بإمتياز ( بعضُ المواعيدِ/تتأخّرُ

لتأتي/أصدقَ/وأجملَ/وأشدَّ التصاقاً بالقدرْ..)بلاغة التجلي في التخفي أو التخفي في التجلي..فهي أنثى الشعر أكثر منها أنثى الواقع،أنثى الحلم أكثر منها أنثى الحقيقة،أنثى الماء أكثر منها أنثى الطين،أنثى الوله أكثر منها أنثى الإمتلاء،أنثى الأمنية المهدورة لا الأمل المبتغى..(ألمُّ شتاتَ نبضِها،وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً/كي لا يضلَّ الحلم/في ليلِ الأعذارْ..)

يوغل الشاعر التونسي القدير طاهر مشي-في استحضار طيفها إلى المدى الذي تتداخل فيه تخوم المكان وحدود الزمان،وكل عناصر الوجود المتقابلة:الحضور والغياب..القدوم والتأخر.. 

وهي الثنائيات المتقابلة التي تسهم مجتمعة في تعميق جراح الشاعر/المحب،والكشف عن خباياها الهاجعة في كيانه..وهي كذلك صور التشظي وقد تحوّلت إلى-لهيب-شعري يحرق،ويتعالى النداء ولا رجع لصداه..

من الجدير-في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة،وفي تحقيق قدرتها التأثيرية،فالملامح الصوتية التي تحدّد-هذا النص النثري المشحون بالعواطف-قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)،والبنية الصوتية للشعر،كما للنثر ليست بنية تزينية،تضيف بعضا من الإيقاع،أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر،بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري،تنفر منه،وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما،وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر وكذا النثر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف،فبلأصوات يستطيع -الشاعر-أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة،واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث،وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان (2).

ظاهر الأمر أن الحب الذي يستولي على النفس كلها هو أحرى بالدوام،وحقيقة الأمر أن الحب الذي يبلغ هذا المبلغ هو أقرب الحُبَّين إلى الخطر وأدناه إلى التبدُّل؛لأن النفس الإنسانية لا تدوم طويلًا على حالة الاستغراق أو الشبع والامتلاء،وقد يُضمن الدوام للحب الذي يستريح من جانب إلى جانب ولا يكلف الطبع جهدا عظيما في موالاته بالمدد والتجديد،ولكنه لا ضمان للحب الذي يحتاج أبدا إلى مدد يكفل له كل استغراق وامتلاء،ولا يصبر على فراغ بعضه إلا نزع إلى حالة أخرى من حالات الاستغراق والامتلاء..

وإذن؟

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون -نصوص المبدعين-بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى الإبداع،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة للطاهر مشي التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول،فكان ما كان في هذه-القراءة المتعجلة-من مقاربة بدورها عاجلة،سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها،كما سعت إلى تلمُّس معالم الرؤيا في هذا الخطاب الشعري النثري الذي تراءت معالم رؤياه غربة-عاطفية-وحنين جارف لمعشوقة ينتشر عطرها بين ضلوع الشاعر..(ألمُّ شتاتَ نبضِها/وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً/كي لا يضلَّ الحلمُ/في ليلِ الأعذارْ..)

هذه الغربة العاطفية العاصفة-تعاني وتعاين وتحلم،ولكنّها لا تهرب،بل تواجه بغير قليل من الصمود،وبغير قليل من المعاناة تماهيا مع وجدان تعتمل في داخله الأحاسيس وتحتدم المشاعر..ويندلق الحب في ثناياها المتعرّجة غزيرا بحجم المطر..

هذه القصيدة يمكن فهمها كحالة إنسانية عامة تجسد محاولة الشاعر للإمساك بتشتته الداخلي، والبحث عن نقطة ضوء في ظلام التبريرات والمماطلات التي قد تؤدي إلى ضياع الأحلام.إنها قصيدة مقاومة نفسية،حيث تحتدم  المشاعر  ويتحول الألم إلى فعل إيجابي (تعليق القنديل) لحماية الحلم من الضياع في دياجير الأعذار..

إنها لوحة إبداعية رسمت بمهارة نموذجاً متميزاً للشعر العربي المعاصر الذي يجمع بين إحساس الغزل العربي التقليدي و لغة التصوف في الصبر والانتظار عبر رؤية وجودية للزمن والمصير،ومن خلال أسلوب حديث في التعبير والتصوير..

ختاما أقول : لقد نجح الشاعر ( طاهر مشي )في تقديم رؤية متفائلة رغم نقطة البداية المؤلمة،فالشخصية الشعرية لا تستسلم بل تتخذ إجراءً وقائياً،مما يجعلها قصيدة أمل ينبجس من دهاليز الإحباط..

وقد لا أبالغ إذا قلت أن القصيدة تطريز إبداعي بأنامل شاعر-يعي ما يقول-،ويبدع في  تحويل التجربة العاطفية الفردية إلى تأمل فلسفي في علاقة الإنسان بالزمن،وبذلك تتجاوز الغرض العاطفي المباشر إلى أبعاد فكرية أعمق،مع الحفاظ على دفء التعبير الإنساني وصدقه.

ومذ متى لم يكن شاعرنا ( طاهر مشي) صادقا في ملامسة وجدان الأنثى وابهارها بكلمات لطاف كلما اختمر عشب الكلام لديه..؟!


محمد المحسن


الهوامش

1-اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000

2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 1990



موسوعة اعلام التركمان في الشعر العربي للدكتور فاروق كوبرولو بقلم الدكتور اوميد كوبرولو

 موسوعة اعلام التركمان في الشعر العربي للدكتور فاروق كوبرولو

الدكتور اوميد كوبرولو

بعد سقوط النظام البعثي في العراق عام 2003 ، وتحديدا في الثالث من أبريل وبداية حرية الطباعة والنشر ، اقدم الادباء والكتاب إلى الاسراع في التأليف ونشر مؤلفاتهم وزيادة رصيد دواوينهم وكتبهم المطبوعة، وحتى دون الإهتمام بنوعية نتاجاتهم . ولكن مؤلف كتابنا ( موسوعة إعلام التركمان في الشعر العربي ) الأديب والشاعر والكاتب الموسوعي التركماني  الدكتور فاروق كوبرولو رغم رصيده المطبوع الذي تجاوز 60 كتاب في مجال الشعر والادب والبحث والترجمة باللغتين العربية والتركية،  انه طراز خاص من المؤلفين والناشرين،  حيث يستغرق تاليف كتاب عنده احيانا أشهر طويلة وسنوات. فعلى سبيل المثال فموسوعته هذه التي بين أيدينا اخذت خمس سنوات من عمر كاتبنا القدير. نعم فاروق كوبرولو طراز خاص من المؤلفين يقضي اكثر أوقاته في القراءة والكتابة وسد نواقص المكتبات من الكتب المهمة كماصدر لطلبة الدراسات العليا والباحثين. فإعداد موسوعة تاريخية مهمة في فترة 900 عام ليس من السهل وخصوصا لمؤلف يهمه منشوره الذي يحمل أسمه،  فالدكتور كوبرولو لايعد كتاب من دواوين وكتب جاهزة يحصل منها على سيرة الشعراء واشعارهم ومنشوراتهم وينقلها الى كتب يحمل أسمه ولا يستغرق إعداد هذه الكتب سوى اسابيع قليلة. فالدكتور كوبرولو يجمع المعلومات عن شخصية شعرائه وكتابه من مصادر موثوقة عديدة ويكتبتها بإسلوبه الخاص ويحلل شخصية كل شاعر وكاتب وبعدها نوعية اشعارهم وكتاباتهم والمدارس الأدبية التي ينتمون إلية وصورهم وادواتهم الشعريةويدرج في نهاية إصداراته المصادر والصحف والمجلات التي أعتمد عليها وكماورد في كل إصدار من إصداراته.

في إهداء موسوعته هذه يقول الدكتور فاروق كوبرولو:

إلى كل قلم:

عشق البيان العربي

وحظى بجمال حروفه

عشق قديم

نهج به كل قوم

دخلوا الإسلام

والتركمان جزء عظيم

كتبوا بالعربية

وأحبوها

وعشقوها

وهذا العمل

بعض من ذلك

العشق

يعضده المكتوب

والتاريخ

وشهادات اخر.

وفي مقدمة الكتاب يؤكد الدكتور كوبرولو على أنه امضى في تأليف موسوعته سنوات يجمع مواده وأخباره واشعاره، ولقائاته مع الشعراء ، وتصانيف تصبت في هذا الإتجاه، وقد توافرت عنده المصادر وازدادت المراجع، ثم اللقاء مع اعلام تركمان كتبوا بالعربية،  والحصول على التصانيف التي صنعوها،  وكان الأمر صعبا وجهدا عضليا وفكريا ألا إن إرادة وإيمان المؤلف صنعا منه فارسا يمتطي صهوة العمل بلا كلل.

أما في تقديم الاستاذ الدكتور عدنان امين فيقول: الدكتور فاروق كوبرولو اول من دشن المكتبة التركمانية والعراقية بكتاب جمع الشعر التركماني في المهجر (الشعر التركماني في المهجر ) وإذا كانت ( الرابطة القلمية لشعراء المهجر من العرب في أمريكا الشمالية) او ( الرابطة الأندلسية لشعراء المهجر من العرب في امريكا الجنوبية ) وقد خلتا الرابطتان من الشعر النسوي.  فقد تأرخ الدكتور كوبرولو المسألة حتى أخذنا نقرأ عن الشعر النسوي التركماني في المهجر، وهذا الكتاب وحده يستحق تكريما خاصا ودرعا يميز الدكتور كوبرولو الاديب الذي لم تنضب معارفه،  فهو يدخل عامه السبعين بما يربو على خمسين كتابا اطال الله في عمره وزاد علما وبركة.

بعد جهد الخمس سنوات التي اكمل فيها كوبرولو موسوعته الراقية هذه،  توصل إلى إضافة شعراء إلى قائمة الشعراء التركمان الذين كتبوا بالعربية عاشوا قبل الشاعر التركماني الكبير نسيمي البغدادي (1339م - 1417م) وفضولي البغدادي ( 1494م - 1556م ) ، أمثال ابو علي الأربيللي(؟ - 1179 م ), البحراني الأربيللي( ؟ - 1189 م)، صلاح الدين الأربيللي(؟ - 1234 م ) ، حسام الدين الحاجري الأربيللي(؟ - 1235م)، أبن قره طاي الاربيللي( ؟ - 1237 م)، كمال الدين الأربيللي( ؟ - 1241م )، المجد النشامي الاربيللي( ؟ - 1258م )، ومحمد يوسف التلعفري( 1197م - 1277م ).

ولم ينسى الدكتور في درج الشاعرين اسعد النائب والشيخ عبدالرحمن الخالصي من القرن السابع عشر، والشعراء محمد مهري الكركوكلي،  سالم ملا سليمان، محمد صادق من القرن الثامن عشر في موسوعته والإشارة إلى شاعريتهم واشعارهم بالعربية ايضا. أما اعلام التركمان الذين اشتهروا في الشعر العربي القرن الماضي فالدكتور الشاعر مصطفى جواد على راس هذه القائمة ويليه كل من موسى زكي مصطفى، الدكتور صفاء خلوصي،  عبدالوهاب البياتي،  إسماعيل سرت توركمن،  وحيدالدين بهاء الدين،  الدكتور سنان سعيد، قحطان الهرمزي،  الدكتور عبداللطيف بندر اوغلو،  علي شكر البياتي، عبدالعزيز سمين البياتي،  الدكتور محمد مردان،  خيري عبدالله البياتي،  كمال ملا خليل إبراهيم كفريلي،  فخري جلال،  حسين علي مبارك،  حسن كوثر، طالب رؤوف الونداوي،  الدكتور عبدالوهاب الدافوقي،  إسماعيل إبراهيم،  حمزة حمامجي،  رمزية مياس،  الدكتور ياسين يحيى اوغلو،  شيرزاد طاهر بابا،  آيدان النقيب،  فاضل حلاق، كنعان شاكر عويز آغالي،  الدكتور نصرت مردان وآخرون.  آما  من الجيل الجديد فدرج الدكتور فاروق كوبرولو في موسوعته إعلام التركمان في الشعر العربي اسماء كثيرة من بينها زاهد جهاد البياتي، محمد مهدي بيات، الدكتور فاروق كوبرولو، منور ملا حسون، نوزاد عبدالمجيد، جلال بولات، نورالدين موصللو، هاني صاحب، صباح طوزلو،  غانم رشاد الصالحي،  قره وهاب،  محمد عمر حمزه لي،  قاسم آق بايراق،  فوزي اكرم ترزي،  نرمين طاهر بابا،  صدى صفاء خلوصي، أوميد كوبرولو،  بصيره تسينلي،  سمير كهية اوغلو،  ايسر عبدالوهاب البياتي،  ايهان اورنقاي، متين عبدالله،  كلزار عبدالعزيز بياتلي وآخرون.  خلاصة الكلام موسوعة الدكتور فاروق كوبرولو هذه، كتاب يضم في دفتيه 161 شاعرا وشاعرة يمثلون جميع مناطق توركمن إيلي من مدن واقضية ونواحي وقرى، كتبوا الشعر باللغة العربية وابدعوا فيه رغم لغتهم الام وبيئتهم التركمانية التي نشئوا فيها.

واعتمد الدكتور كوبرولو في إعداد موسوعة اعلام التركمان في الشعر العربي هذه على مصادر تاريخية مهمة من كتب نادرة، ووثائق تاريخية مهمة وصحف ومجلات مشهورة منها:

أربيل في شعر القرنين السادس والسابع للهجرة / الدكتور حسام داود خضر الاربيللي/ 2011 بغداد.

الشعر التركماني في المهجر/ دراسة وترجمة/ الدكتور فاروق كوبرولو/ 2016 كركوك.

مطلع الاعتقاد والقصائد العربية للشاعر فضولي البغدادي/ الدكتور عبداللطيف بندر اوغلو/ 1994بغداد.

شعراء كركوك/ عطا ترزي باشي المجلد الأول والثاني والثالث/ 2012 إسطنبول.

أدباء العراق المعاصرون/ خليل إبراهيم عبداللطيف/ 1992 النجف.

وجوه تركمانية في رحاب الصحافة والثقافة/ وحيدالدين بهاء الدين/2008 بغداد.

شعراء التركمان المعاصرون/دار الشؤون الثقافية العامة/1987 بغداد.

إمراة من لهب/ديوان شعري/ نرمين طاهر بابا/ 2016 كركوك.

عصافير الجنة/ مجموعة شعرية/ فوزي اكرم ترزي/1999 بغداد.

أسفار العزلة/ مجموعة شعرية/منال الشيخ/ القاهرة 2008.

اما المجلات والدوريات التي اعتمد عليها الدكتور فاروق كوبرولو كمصادر ومراجع في إعداد موسوعته فهي مجلة الاخاء البغدادية، الرأي العربي، الفنار التربوية،  عشتار النمساوية، الكاتب التركماني،  الوطن(يورد)، صوت الاتحاد،  توركمن إيلي،  الينبوع(بنار)، إيشيق،  كركوك، جريدة العراق،  الشرق الاوسط،  صوت إتحاد الأدباء الدولي،  صحيفة المثقف.

نماذج من شعراء واشعار الموسوعة:

١. نسيمي البغدادي : هو من خلفاء فضل الحرفي،  اول شاعر تركماني اختار الشهادة في محراب القصيدة العقائدية(مقطوع اللسان ومسلوخ الجلد وهو في التاسعة والأربعين من عمره واختار الموت بعز ولم يختر الذل والاستسلام وهو ينشد على صليب الموت بلا هلع او تردد. يقول نسيمي في إحدى عزلياته:

حشاك تنساني وتنكر صحبتي

وهواك في ديني ووجهك قبلتي

انت العليم بان حبك قاتلي

ما حاجة أشكو إليك قضيتي

هذا ومالي زلة أعلم بها

الا هواك ولم أثب عن زلتي

اسقيني من كأس حبك شربة

يفني الزمان ولم افق من سكرتي

٢. فضولي البغدادي: هو الشاعر الذي استحوذت شهرته وشاعريته على عهدين متتاليتين من تاريخ العراق وهما العهد الصفوي والعثماني.  لقب امارة الشعر وشيخ الشعراء، وعاش بين بغداد والحلة ودرس العربية على يد أستاذه الذي كان عالما بارعا في العربية وكان والده يشغل منصب مفتي الحلة. ويقول الشاعر في إحدى غزلياته:

كنفت جواد الاختفا مخافة

لعلى ينجيني مظاهرة الحمى

وخفيت عن العذال في كهف عزلتي

هديت إلى الحصن الحصين من العدى

إهانة عذل العاذلين مصيبة

بشرط وجود الاعتبار على الفني

خلعت لباس الاعتبار لانه

مهتك استار السلامة في الملى

لذيد على قلبي مرارة محنتي

كنشوة ضهباء الصباية في الصبا

سلوك طريق العقل زاد تخيري.

٣. الشيخ عبدالرحمن الخالصي: ترعرع في احضان الشيوخ واعتاب التكايا والذكر والاوراد لذا تفوح من قصائده الحب الإلهي والعشق الباطني وقاموسه الشعري يكمن فيه مفردات الطبيعة والحب والهوى والشكوى والمديح والوصف والغزل والمحبة الخالصة وفي إحدى قصائده يقول:

يا غزال الحي يا ظبي اللوا

هجر عينكم حشايقد تسول

عاذل العشاق جهلا بالهوى

لو علمت ما الهوى رمت الهوى

يا جوادا بالوصال جد لقى

ذاب جسمي من لظى نار الجدى

خالصا كما خاطرت درر عشق

يقبل عند الأطباء الدوا

شواني الحب في نار الفراق

وما ادري متى يوم التلاق

جرى في العين دم الاشتياق

سليمي منذ حلت بالعراق

الاقي في هواها مالاقي.

٤. الدكتور مصطفى جواد: هو عالم لغوي مرهف وشاعر وباحث ثبت وصاحب رسالة في الحياة وهو من المهتمين بالمعاني اكثر من اهتمامه بالألفاظ. ترعرع في أجواء دينية يفوح فيها عبق الشعر والتراث والتاريخ والحضارة والعشق الإلهي وآل بيت الرسول(ص) في قصيدة له في رثاء الحسين(ع)، يقول:

جل المصاب آل محمد

فاذر الدموع بيومه المجدد

وابك الكرام الزائرين عن العلي

والدين بالقول الكريم وباليد

نكر الزمان مصابهم فاعاده

تاريخ عز للسمو مؤيد

فالحق لا ينسه سالف عهده

والذل لا يبقيه سوط المعتدى

ما حرر الإسلام الا سادة

اضحى بخا الإسلام مرهب اليد.

وفي نهاية المطاف اود ان اقول بأنني مهما كتبت في حق هذه الموسوعة التاريخية الفريدة من نوعه بأنني لا اوفي حق اديبنا وكاتبنا وباحثنا المبدع الدكتور فاروق كوبرولو الذي سهر الليالي من سنوات عمره في إعداد هذا المنجز الكبير والذي سيكون المرجع والمصدر الرئيسي عند الكتابة عن الشعراء التركمان الذي كتبوا ولا يزال البعض منهم يكتبوا اشعارهم باللغة العربية.  فهينا له التهاني لتفوقه ونجاحه الباهر وتميزه الماسي.

الدكتور أوميد كوبرولو

مدير مركز توركمن شاني للإعلام والأبحاث

فنلندا



هي أبسط من غيمة بقلم / الشاعر محمد الليثي محمد

 ***             هي أبسط من غيمة

أسقطت علىّ  

 رذاذ ناعم

بللني 

 بصوت مسموع

وأنا في مكاني

يأخذني البحر

الى ظل داري

 كنت أحمل أيامي

بقوة التعود

لست خاسر ولا منتصر

فارغ من الأفكار الباردة

أنا ... وهو  ... فارغان 

كحبة سقطت من شيء

لم تسمع الحياة به

ولا    هو    أيضا

ربما كنت منتظر  معجزة

في تكرار تفاصيل الحياة

حين تفاجئك بالجديد

ماذا سيحدث أن هرب الوقت ؟

وقالت لي :  هناك موتا قادم

خلف الباص في الحلم الثاني

كنت منتظر أن أري لون الرضا

في عينيها

هو ليس أبيض

ولا رمادي  ،   أسود

بل أخضر ذهبي

يضيء في  ظلامي

كنت أنتظرها

يوم الأحد

خلف انتهاء أجراس الكنيسة

حين تبعدنا موسيقى الكلمات

وهى تهرب من الضوء

هنا نفعل كما يفعل العاطلون

ننتظر  الأمل

عل هناك أمل ؟

في أن تلد أيامي

كما أريد 

كانت أجلس على قارعة الطريق

حين دهستني خدعة 

هى نفس الخدعة

تقترب منك فتشعر بالخوف

وطيبة قلبك  ودموعك

حين يموت النسيم

فتقتلك بدما بارد

لماذا  ...........

أموت 

أنا أريد 

إن أعيش الحياة بطريقتي

هي طريقة خطا في خطأ

رمي الجنود الكسل

ورموني بالكلمات 

من تكون ؟

وأنت متأبطا دمك

متورطا في عشقك

لولا العدم 

لا اكتشفت الشفاء

من تكرار السؤال 

ومن العشق الجديد

______________-----------------------------________________

بقلم / الشاعر محمد الليثي محمد  _ مصر . قصيدة من ديواني الجديد بعنوان ظلال البيت



الراقصة تحت مجهر نقد الأستاذ الفذ محمّد بسام العمري بقلم الكاتبة هادية آمنة //تونس

 الراقصة تحت مجهر نقد الأستاذ الفذ محمّد بسام العمري

الراقصة برقصتها المجنونة، تلك التي تخترق الأعراف وتتمرد على القيود، لم تكن مجرد شخصية في النص، بل صارت همزة وصل حيوية بين الكاتب والناقد. عبر حركاتها المكثفة، وجسدها الذي يروي الحلم والجنون، تكشف الأسرار المخبوئة

هادية آمنة

القراءة النقدية

يتكوّن هذا النص من فسيفساءٍ أدبية شديدة الكثافة، تتداخل فيها الأساطير، والرموز، والحركة الراقصة، والنار، والعشق، والموت… وكأن اللغة نفسها تتحوّل إلى جسدٍ يرقص في ليلٍ طويل. إنّه نصّ يُكتب كما تُعزف الأجساد، لا كما تُسطر الكلمات. ولأجل ذلك، يتيح لنا تحليلًا أدبيًّا منفتحًا على مدارس متعدّدة، وعلى تناصّات عالمية، تُعيد قراءة الراقصة بوصفها كائنًا وجوديًّا، ثائرًا، مأساويًّا، متمرّدًا على قَدَره، ومستسلمًا له في اللحظة ذاتها.

لم تولد هذه الراقصة في الواقعية، بل في العتمة التي خلقتها الرمزية حين جعلت من الزنبقة، والنار، والأفعى، والثلج، والحنّاء… علاماتٍ لا تشير إلى ذاتها، بل إلى ما وراءها. هي ابنة بودلير حين قال إنّ الطبيعة “غابة من الرموز”، وابنة رامبو حين ألقى بنفسه في “الخلود عبر فوضى الحواس”. وكلّ شيءٍ في النص يشهد على ذلك: الزنبقة التي لا تزهر إلا في ضوء القمر، هي ذاكرةٌ للحبّ قبل أن يكون الحب، وهي مرآة الروح حين تبحث عن خلاصٍ خارج الجسد. تتخذ من “حافة النهر” طريقًا، كما لو أنّ الماء آخر ما تبقّى من الوعي قبل أن يغرق في جنون النار. إنها شبيهة بـ أوفيليا في هاملت، تمشي نحو الماء لتغسل عقلها المكدود، لكنها هنا تمشي نحو اللهيب لتغسل روحها من البرودة.

وليس عبثًا أن تخاطَب الراقصة بجملةٍ تهددها وتبشّرها في آن: «إذا لم تخافي من الضياع، فخافي من السباع خلف عتمة الأكمة.» إنّ الخوف هنا ليس نقيض الشجاعة، بل بوابتها السرّية؛ وهذا ما يجعل النص متصلًا بـ الوجودية، كما عند سارتر وكامو, حيث المعنى يولد فقط حين تواجه الشخصية عريها أمام العبث. فالرقص هنا ليس حركة، بل احتجاج على الصمت الكونيّ… لقد رقصت كما يفكّر الفلاسفة: لا لتُعرف، بل لتتطهّر.

ولأن النص منح جسدها وظيفة النار، فقد انفتح أيضًا على السريالية: فهي لا تلتزم قوانين الطبيعة، بل قوانين الحلم؛ الأحراش تتأمّل جسدها، والثلوج تستجيب للنداء، والكروم تسكب بين شفتيها خمرًا بطهارة الماء… هذا الحوار بين الطبيعة والراقصة يحيلنا إلى لوركا حين جعل القمر كائنًا حسيًّا في مسرحيته عرس الدم، وإلى كافكا حين اعتبر أنّ العالم يمكن أن ينقلب إلى حشرة بمجرد يقظةٍ خاطئة. هكذا تتورّط الراقصة في الوجود… لا تعيشه، بل تعيش ضدّه.

وإذا كانت الأفعى تتقدّم في المشهد الأخير ككاهنةٍ مهووسة تبحث عن “السرّ”، فإنّها تكشف عمق المدرسة الديونيزية التي تحدّث عنها نيتشه: إنّ الخلق لا يبدأ إلا من لحظة الانفجار، والانفجار لا يولد إلا من العشق، والعشق لا يتجلّى إلا حين يرقص الجسدُ عاريًا في قلب النار. الأفعى لا تريد قتلها فقط، بل تريد امتلاك لغزها… وكأن الراقصة ليست امرأة، بل كتاب مغلق يبحث الكون عن طريقةٍ لقراءته.

تتجلّى هنا أيضًا ظلال أنتيغون من التراجيديا الإغريقية: تلك التي فضّلت الموت على أن تتنازل عن حريّة الروح. وهنا أيضًا، تبقى الراقصة وحدها في الوهاد القاحلة… كما لو أن العالم تخلّى عنها، ليبقى احتمال الخلاص مرهونًا بصوتٍ قادم من “العلاء”. فتسير رغم العرج، وتغلق الماء البارد، وتلتف بالبرنس الورديّ… وكأنها عادت إلى الجسد بعد أن جرّبت الموت. هذه النهاية لا تُنهي النص، بل تعيد بدءه… مثل دورة الحياة في الأساطير الشرقية وطقوس التجدد في جلجامش وعشتار.

إن قوة هذا النص أنّه لا يكتفي بأن يكون سردًا، بل يتحوّل إلى طقسٍ وجوديّ يضع الأنثى في مركز الأسطورة والحدس. هنا تتداخل فلسفة الجسد مع فلسفة الروح، وتتحوّل اللغة إلى مرآة تحترق كي تُضيء.

إنه ليس قصّة راقصةٍ فقط، بل شهادةٌ على أن الخلاص لا يجيء عبر النجاة… بل عبر الاحتراق الكامل.

فالرقص في جوهره ليس فنًّا حركيًّا…

بل اعترافٌ صارخ بأن الإنسان قابلٌ للاشتعال.

وأن اللغة يمكن أن تصبح لهيبًا حين تبلغ حدودها القصوى.

وهنا تحديدًا،

تبدأ الأدب…

وتبدأ الحياة.

محمد بسام العمري

الراقصة

زنابقُ بيضاءُ لا تزدهرُ إلّا في ضوءِ القمر.

تذوي إذا مستها الشمس.

هي التي كانت تُحبّها وتعرفُ أماكنَ وجودِها، تسيرُ إليها حافيةً عند اكتمال البدر.

تُدميها الأحراشُ وإِبَرُ الصنوبر.

تُجِدُّ في الذهاب إلى حافة النهر، مُتناسيةً الأصواتَ التي تصيحُ فيها، تمنعها، تُهدّدها، تُثنيها.

«إذا لم تخافي من الضياع، فخافي من السباعِ المُترصِّدة خلف عتمة الأكمة.»

روحٌ مُتنطّعةٌ كروحها لا تُدركُ معنى الخوف والخطر.

كان أمنُها الغريرُ يَكبُرُ فيها مع حفيفِ أشجارِ الصفصاف، وهي تضمُّ إلى صدرها أزهارَ الزنابقِ القصيرةِ العُمر.

حِنكتُها هزيلةٌ، وميراثُ الطبيعةِ المتوحّشِ فيها كبير.

أيقنتْ أنّها في حاجةٍ إلى انعتاقٍ سحريٍّ لروحها،

في حاجةٍ إلى نغمٍ حالمٍ صاخبٍ كنفسها المتقلّبة،

في حاجةٍ إلى طفرةٍ هائلةٍ من العشق.

«طريقُكِ مُلتويةٌ كالثعابين، وكلّ جنونٍ منكِ هو لدغة.

تتباعد الأزمنةُ والأمكنةُ، وتتوحّدُ اللدغات.»

في جنونٍ تتقافزُ ألسنةُ النار أمامها، فتنزعُ عنها كلَّ أثوابِ الغواية… تتعرّى تمامًا.

قد تُستثارُ النارُ وتغرسُ مخالبَها فيكِ.

تتطلّعُ الأحراشُ إلى جسدِ الراقصةِ المتوهّجِ وهو يغوصُ في اللَّهبِ المُستعر.

انبعثتْ موسيقى من الكائناتِ المحيطةِ بها المُحدِّقةِ فيها.

خفَّتِ الرياحُ من عويلها لتتأمّلَ وجهَ الراقصةِ وهي تتطلّع بعيدًا خلف ستائر الزمن.

«أنتِ تُنشدين اللعنات، تتعرّين، ترقصين وسط النار على إيقاع الجنون.»

ماذا تُفيد النصيحةُ مع من تلبّسته شياطينُ العشق؟

لقد احتلّ التمرّد كلَّ ذرّةٍ فيها ليهبَها الحريةَ والانطلاق.

ملأتِ الوهادَ والسهولَ داخلها وخارجها بالقتلى،

فكانت تضحكُ وتبكي بلا سبب.

يا بؤسها… هي عاشقةٌ ولا تدري من عشيقُها.

طاردتها الأصواتُ، وأهاجتها النغمات.

توسّلتِ الزنابقُ من أجلها كثيرًا كي لا تُغافلها النارُ وتلتهمها بين أحشائها.

توسّلت إلى القُوى الخارقة في مُخيّلة البشر أن تجعل النارَ بردًا وسلامًا على راقصةِ القمر.

توسّلت إلى الشموس، إلى الأقمار، إلى الوهاد، والأدغال، إلى الجبال، والأنهار أن تنتشلَها من بوتقةِ أتونِ الجحيم.

توسّلت الزنابقُ وجدّت في التوسّل، فهي قصيرةُ العمر، وحبيبتُها داميةُ القدمين على نصال الشوك تسيرُ.

تناهى للثلوجِ البيضاءِ توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فكان لراقصةِ القمر ساترًا باردَ الهواء.

تناهى لطحالبِ البحارِ السمراء توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فعجنت لجروحِ الأقدام الحنّاء.

تناهى للكرومِ توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فسكبتْ بين شفتيها خمرًا لها طُهرُ الماء.

لم تَكفَّ الزنبقةُ عن لمسِ الراقصة، تتحسّسُها، فعمرُها قصيرٌ وهي تخشى الفناء.

أينعتِ الزنبقةُ عندما لامست العُريَّ الراقصَ، فامتلأت بعصارةِ الخلدِ وتجدُّدِ التكوين.

تنسحب أفعى بين الأحراش، وتُطلق صوتَها فحيحًا:

«الخلد… الخلد… ما أشدَّ ضعفَ ذاكرةِ الزنابق، مع عدم إدراكِهم لدورةِ الموتِ والحياة.»

لم تُخلق راقصةُ القمر على شاكلة العامة.

هُم خائفون إلى درجةِ الخنوع،

لا يسألون، لا يفكّرون.

فما سرُّها؟

هرست الأفعى الأعشابَ، ومزّقت الأغصان، واقتحمت الدَّغل، ومرّغت وجهَها في الرماد تحت أقدام الراقصة.

وقالت: «لقد بحثتُ عنكِ طويلًا، وقتلتُ من أجلكِ كثيرًا، حتى أظفرَ بسرّك.»

انطفأت النارُ وانسحبتِ الزنابق.

واستسلمت الراقصةُ للمساتِ اللزجةِ للأفعى وهي تنزلق على جسدها المرتعش.

كشّرت على أنيابها وهمّتْ بلدغها، ثم قالت:

«خرقتِ الأعرافَ والأوامر… تجرّأتِ على الرقص عاريةً وسط اللهيب، وما احترقتِ…

ولّدتِ أعمارًا لقصيرةِ العمرِ الزنبقةِ… فما سرّك؟»

«إنّه العشق… العشقُ الكبيرُ الذي مسَّ قلبي…»

«سرّكِ منقوص… مشبوه…»

ثمّ صاحت مقهقهة:

«العشق؟ العشق؟

انصرفي… ابتعدي… انفجري!»

لم تتوقع الراقصةُ الخلاص، فأخذت تعدو بلا وجهةٍ تعرفُها.

قالت الغربانُ في أعالي الأشجار،

والضفادعُ على ضفاف الأنهار:

«الأفعى لا تتركُ حسنًا سالمًا.»

كانت الزنبقةُ تستمعُ متألّمةً إلى كلماتهم:

«آه لو تستطيع راقصتي التغلّب على كلّ هذا الثورانِ البريّ داخلها، وتستنكفُ بالخضوع كغيرها.»

بكت الزنابقُ، وانتحبت الأشجار.

ضاعتِ الراقصةُ في العتمة.

رحل الجميع، وبقيت وحيدةً في الوهادِ القاحلة.

حينها أدركت أنّها تحتاجُه رغم التباس طقوسِ الولاء.

كانت تراه من حيث يراها.

«قال من عليائه: اتبعيني.»

فسارت مضطربةَ القدمِ في الحُلْكَة، في المنحدر الوعر، تخشى الزَّلَق وتخاف الوحشة.

صرخت وصاحت، وسقطت على أديم الأرض ممسكةً بكاحلها، وقد بدأت البرودةُ والزرقةُ تغزو جسدها.

انتفضت، ثم مدّت يدَها إلى مكبَحِ الدُّوشِ البارد، تُغلقُ زخّاته.

التفّت ببرنسها الورديّ، واستلقت تُنشدُ الاسترخاء بعد رقصتها

الصباحية اليومية وهي عارية

هادية آمنة //تونس

Hedia Emna



على هامش ذكرى الثورة التونسية المجيدة بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش ذكرى الثورة التونسية المجيدة

دعوا البلاد..تبحث عن على مكامن التصحيح والتصويب اللازمَيْن والمُلِحَّين..!


"في عزّ كل أزمة،يخيّل للبعض أنّ المشهد ينهار… لكن الحقيقة أنّ الشعوب التي تعرّفت على الألم، تعرّفت معه على أسرار النهوض.

وتونس،مهما اشتدّ عليها الليل،ما زالت تقف على قدمين: مؤسسةٌ صامدة،وشعبٌ لا يتقن الاستسلام.."

المحامي التونسي أ-منير بن صالحة


قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ الديمقراطية بتونس انتصرت،وإنّ الأجواء في هذا البلد الاستثنائي غدت تعبق برائحة الوليد القادم: الحرية، لاسيما في ظل الرياح العاتية التي عصفت بالربيع العربي،في بعض الأقطار العربية الأخرى..

وما علينا والحال هذه،إلا أن نحتفي جميعا بانتصار الديمقراطية في بلدنا،ونواصل مسيرة الثورة بثبات حتى تنتقل تونس من النظام الجمهوري المزيّف إلى النظام الجمهوري الديمقراطي.

ومن هنا،فإنّ أهم إنجاز حققناه كتونسيين عبر الانتخابات التشريعية/الرئاسية هو أنّ تونس بقيت شامخة في غابة "الربيع العربي" التي احترقت أشجارها في ليبيا ومصر واليمن وصولا إلى العراق.

الاحتراق الذي أتحدث عنه حدث بفعل التصدعات الداخلية داخل البيت العربي،الذي هبّت عليه- بالأمس-نسائم الثورة،لكنه لم يصمد في وجه قوى الردة،وغدا بالتالي مسرحا للاحتراب،حيث السلاح اللغة الوحيدة السائدة بين الفرقاء السياسيين الذين غلّبوا النقل على العقل،فخسروا الاثنين معا، الحرية والديمقراطية..والنتيجة الحتمية لتلك التداعيات الدراماتيكية هي أنّ تلك الثورات غدت رهينة لدى قوى خارجية،لا هم لها سوى إجهاض جنين الحرية داخل أحشاء الثورة، ومن ثم خنق كل نفس ديمقراطي أو مشروع وطني تحرري من شأنه أن يخلّص الأمة العربية من عقال الترجرج والتخلّف..

إنّ أهمية التجربة الديمقراطية في تونس،تتجلى أساسا في حملها لبذور الانتشار في المنطقة،كما سبق لانتفاضتها إن كانت الشرارة الأولى التي أشعلت "الربيع العربي"،فمنذ نشوبها،أوحت الثورة التونسية بإمكانيةالتغيير الذي طال انتظاره،كما أوحت بأن عملية التغيير في أوضاع معقدة ومتراكمة الرواسب،كما هو الحال في المنطقة العربية،يمكن أن تحصل،بصورة تدريجية انتقالية وسلمية،يجري الاحتكام فيها إلى عملية الاقتراع التي تفسح للمواطن فرصة للمشاركة في الحياة السياسية،طالما افتقدها،مع ما ترتب على هذا الفقدان من عواقب تدفع اليوم العديد من الشعوب العربية ثمنها. 

أقول هذا لأني على يقين من أنّ قوة التجربة التونسية في الأفق الديمقراطي تكمن في أنها السبّاقة،التي حافظت على الأمل بالتغيير السليم، على الرغم من العقبات المتراكمة.ولا شك في أن وعي الشعب التونسي،وتنوّع ثقافته وممارسته وانفتاحه،كان له الدور الأساسي في هذه النقلة النوعية المفصلية،التي يبدو أنها تمتلك طاقات للتطوير والترسخ،حيث تصبح عصية على مناخات العنف والإرهاب السائدة راهنا في عالمنا العربي..

ولكن..بغض النظر عن المنطق الحسابي،ورهانات الربح والخسارة،لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الاستقرار بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب،مما سيفضي مستقبلاً-في تقديري-إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي.

كما أن مسارات الحكم في ظل حكومة سارة الزعفراني،لن تكون سهلة بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها،خصوصاً في الملف الاقتصادي وكذا الملف الأمني،وعلى رأسه موضوع الإرهاب وتداعياته الدراماتيكية على الاستقرار السياسي المنشود..هذه الملفات الشائكة تستدعي وعيا عميقا بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتستخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة،وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة،إذا أرادت-حكومة سارة الزعفراني-أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة..

لكن في جميع الأحوال،فإن الحكومة أمام تحدّي إقناع التونسيين بأدائها،فالخطاب الإعلامي للحكومة ضعيف ويتم بنسق بطيء في مرحلة حرجة،لا تقبل التسويف أو التواصل المتقطع بين صاحب القرار من جهة،والمتلقي وهو المواطن الواقف على الجمر،من جهة ثانية.مع ذلك،فإن معضلة الحكومة لا تقف عند إشكالية التواصل مع الرأي العام،وإنما أيضاً في ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة في عديد القطاعات الحيوية.

 على هذا الأساس،علينا أن ندرك جميعا أنّ الديمقراطيات،إنما قامت على نمط من الإكراهات، وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة، لتستقر في النهاية على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبة بعضها بعضاً،وكل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلاً لحل النزاعات،ذلك أنّ ديمقراطية ما بعد الثورة في تونس قائمة على تعايش مفروض،وتوازن قوى واضح،سيدفع كل الأطراف،بغض النظر عن أحجامها الانتخابية،إلى الإقرار بحق الجميع في المساهمة في بناء المشهد السياسي المقبل،ضمن الخيارات الكبرى للمجتمع التي تم التنصيص عليها في الدستور التونسي الجديد..

ويكفي أن نتذكّر ما ترتّب عن الحوار بين الفرقاء السياسيين من خيارات سياسية كبرى،تمثلت بالأساس في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد، على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً،ولا متيسراً، كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية،ثم الرئاسية،في آجال محددة،وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها،الأمر الذي ساعد على تخطي عتبة الانسداد الذي حصل

أردت القول إن تونس في حاجة إلى تكاتف كل مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كل المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا.

 أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،وما على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والانتفاعي-المسيطر عليهم، ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.

لقد أنجز الجانب النظري من امتحان الديمقراطية بكتابة دستور ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي،ونحن اليوم على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة وهي مرحلة تنزيل النظري إلى أرض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق..بمنأى عن الأيادي المرتعشة والألسن المتلعثمة..

وهنا أختتم: إن تونس اليوم،وعلى الرغم مما تخلل مسيرتها من شوائب،إلا أنها باتت تشكّل بستان الأمل في وسط دياجير مكبلة لحالات عربية عديدة،وبذلك،هي جديرة بالدراسة المعمقة والمستفيضة،لعلها تساهم في العثور على مكامن التصحيح والتصويب اللازمَيْن والمُلِحَّين،ولينشغل في الأخير أهل الربيع العربي بأمورهم وأحوالهم، ويتركوا تونس تكمل تجربتها، لأنها- ببساطة-خارج المقارنة والمنافسة.


محمد المحسن



الاثنين، 15 ديسمبر 2025

الكتاب اللامتناهي: قراءة وجودية وسيميائية لرواية "الوراق "للكاتب الشاعر"مروان يوسف عواد” بقلم الباحثة والناقدة الدكتورة آمال بوحرب تونس

 الكتاب اللامتناهي: قراءة وجودية وسيميائية لرواية "الوراق "للكاتب الشاعر"مروان يوسف عواد”

‏‎

‏‎في الفلسفة الوجودية علاقة الإنسان بالبحث والتحليل   علاقة وجودية  خالصة إذ  يصبح البحث عن الذات والتحليل الداخلي ضرورة أساسية لفهم الوجود البشري، كما يؤكّد جان بول سارتر في قوله “الوجود يسبق الماهية” أي أن الإنسان لا يولد بجوهر محدّد مسبقاً، بل يصنع نفسه خطوة بخطوة من خلال اختياراته الحرّة والتأمّلات اليوميّة. هذا البحث يتحوّل إلى مواجهة مباشرة مع “الفراغ” أو اللا-وجود، حيث يصف مارتن هيدغر “الكينونة هناك” كحالة الإنسان الذي يتساءل دائماً عن معنى حياته وسط عالم يغرق في الروتين اليوميّ السطحيّ

في رواية “الوراق” لمروان يوسف عواد (2025)، يُحوّل الكتاب من أداة تسلية إلى مرآة تحليليّة تعكس علاقة الإنسان بذاكرته ونفسه، مُحوّلاً القراءة إلى رحلة لا متناهية نحو “الأصالة” أو الوعي الحقيقي، مستلهماً ألبير كامو في رفض العبث بالتمرّد، وسورن كيركغور في “القفزة” نحو الإيمان بالمعنى الذاتي .

‏‎الوراق: الرمز الأول للبحث الوجودي

‏‎يبدأ النص بتقديم الوراق كشخصيّة مركزيّة في الفصل الأوّل: “في آخر زقاقٍ لا يدخله الضوء إلا ببطاقة إذن، كان هناك دكّانٌ ضئيل لا لافتة له، لا إعلان، لا رفوف براقة”، مما يُجسّد حالة الإنسان الوجودي المعزول في عالمه الداخلي المظلم، محاصراً بالعدم واللامعنى الأساسي للحياة اليوميّة. عندما يقول المارّة “إن أردت أن تجد نفسك… فادخل على الوراق”، يصبح الدكّان دعوة صريحة لمواجهة الذات، كما في “القصديّة” السارتيريّة حيث يُدرك الإنسان حريّته من خلال النظر إلى داخل نفسه. وجهه “المطوي كشعر قديم” وعيناه “غائرتان في الماضي” تُشير إلى الذاكرة كمصدر وحيد للكينونة الحقيقيّة، بينما إجابته “في قلبك” عن سؤال “أين كتب الفلسفة؟”

 تُؤكّد أن البحث الوجودي داخلي تماماً، يتطلّب شجاعة الحرّيّة لا الاعتماد على كتب خارجيّة، ممهّداً بذلك تسلسل الفصول كرحلة تحليليّة تدريجيّة نحو الوعي .

‏‎الوراق رمز للعدمية والحرّيّة السارتيريّة

‏‎يستمرّ دور الوراق كمرشد وجوديّ عبر الفصول، حيث يُناول الزائرين كتباً يصفها بـ”لا تعرفها، هذا أنت حين كنت نفسك”، مُعلناً أن الكتاب ليس سلعة بل مرآة تعكس الذات المفقودة في أعماق “كائن ولا شيء” لسارتر، حيث يُدرك الإنسان فراغه الجوهريّ ومسؤوليّته الكاملة عن تشكيل حياته. هذا التسلسل المنطقيّ من الفصل الأوّل يُظْهِر الدكّان كمساحة آمنة لكشف “الفراغ” الداخليّ، مشابهة لـ”الغثيان” الذي يصيب روكوين في رواية سارتر عندما يفقد الثقة في العالم الماديّ السطحيّ فالوراق هنا يُعيد الإنسان إلى نقطة البداية مسؤوليّته الشخصيّة عن وجوده، مُحوّلاً كلّ زيارة إلى لحظة تحوّل وجوديّ يُعيد ترتيب الأولويّات من الخارجيّ إلى الداخليّ .

‏‎القارئة والكتاب: الكينونة ومواجهة الذات

‏‎في فصل “القارئة” تدخل امرأة برائحة “ورقٍ قُرئ كثيراً” وعيناها “تطرح السؤال قبل أن تنطقه الشفاه”، تبحث عن كتاب “يشبهني”فيُعطيها الوراق واحداً يحذّر منه بأنّه “يقرأك أكثر ممّا تقرئينه” مُحوّلاً عمليّة القراءة من استهلاك سلبيّ إلى مواجهة جذريّة تعكس هيدغر في “الكينونة والزمان” حيث يصبح الكتاب “دعوة” للكشف عن الذات المخفيّة تحت طبقات “اليوميّ” أو السلوك الجماعيّ السطحيّ اختفاؤها بعد ذلك، مع رؤية الوراق “عينيْها” في كلّ كتاب يفتحه، وهو يرمز إلى التحرّر الأصيل أو الاندماج الكامل في النص، كما في “الطاعون” لكامو حيث يُولَد المعنى الحقيقيّ من المواجهة المباشرة مع الموت والعبث، مُعْلِماً القارئ أنّ القراءة الحقيقيّة تُغيّر الوجود نفسه لا تُضيف إليه مجرّد معارف .

‏‎الرسالة والكتاب اللامتناهي بين شجاعة كيركغور وكامو

‏‎تصل الرسالة الصفراء بدون اسم أو تاريخ إلى الوراق في مساء خريفيّ: “لقد فهمت… لكنّني تأخّرت” بخطّ مهتزّ، مما يدفعه لإغلاق دكّانه ثلاثة أيّام، ثمّ تعليقه ورقة “الفهم لا يحتاج وقتاً… بل شجاعة”، يُبرِز هذا تأخّر الوعي الوجوديّ كما في “المرضى” لكامو حيث يُدرك الإنسان عبثيّته متأخّراً جداً. أمّا الكتاب اللامتناهي في الركن الأيمن، فهو رمز للوجود المفتوح دون ختام: “كلّ من جهل نفسه وسعى ليعرفها… إنّه كتاب”، مستحضراً كيركغور في “الخوف والرعب” بـ”القفزة الإيمانيّة” أمام اللامعقول، وكامو في “أسطورة سيزيف” حيث يستمرّ الصراع الدائم مع العبث كدليل على الحياة الأصيلة، مُعْلِماً أنّ النهاية وهميّة والكتابة عمليّة لا متناهية .

‏‎مقاربات فلسفية سرديّة الذاكرة كينونة مستمرّة

‏‎يربط النص مقاربات فلسفيّة سرديّة عبر فصوله حيث تتحوّل الذاكرة إلى “كينونة مستمرّة” كما عند هيدغر، فالفتى في “من يعيش في الورق” يقول “أنا لا أقرأ الكتب… أنا أعيش فيها” مُجسّداً اندماج الذات مع النص كفعل أصيل يتجاوز القراءة السطحيّة. 

الفتاة ذات الدفتر الأحمر تنبّئ “غداً سيمرض الوراق… وسيبيع آخر كتبه يوم الجمعة” مُحوّلة الكتابة إلى قدر سيزيفيّ كامويّ يُعيد إنتاج العبث، بينما الرجل في “الكتاب الكاذب” يعود بعد سنوات قائلاً “الآن فقط… فهمت العنوان”، مستحضراً سارتر في اكتشاف الحرّيّة المتأخّرة اما  الحلم بالمكتبة “بلا سقف” حيث “كلّ كتاب يحمل اسم شخص عرفه” يُكثّف كيركغور بالقفز نحو الذات الجماعيّة مُوحِداً الفصول في نسيج سرديّ يُعيد قراءة الوجود ككتاب لا يُغْلَق، حيث “أنت لم تكن تبيع كتباً… أنت كنت تُكْتِبُ من خلالهم” .

‏‎تحليل سيميائي: الإشارات والدلالات في “الوراق”

‏‎يعمل النص سيميائياً كبنية دلاليّة مترابطة، حيث يُشكّل الزقاق المظلم علامة رئيسيّة تشير إلى اللاوعي الجماعيّ والعزلة الوجوديّة “في آخر زقاقٍ لا يدخله الضوء إلا ببطاقة إذن”، مستلهماً رولان بارت في “ميتامورفوزات الكتاب” حيث تتحوّل الكلمات إلى رموز حيّة. الوراق علامة مركزيّة تشير إلى “بائع الذاكرة” كميتافور للذاكرة الثقافيّة الجماعيّة، ودكّانه بدون رفوف براقة يُقاوم ثقافة الاستهلاك السطحيّ. الكتاب اللامتناهي في “الركن الأيمن” – رمز المقدّس تقليدياً – يُنتِج دلالات لا متناهية: “صفحة تفتح أخرى”، إذ يُؤلَّف من “كلّ من جهل نفسه” كما في نموذج سوسير حيث الدليل غير مستقرّ، يُعيد إنتاج الذات مع كلّ قراءة جديدة. الرسالة الصفراء بدون اسم تُشكّل إشارة ميتافيزيقيّة للتأخّر الوجوديّ، بينما الفتاة ذات الدفتر الأحمر تُحَقِّق تنبؤاً سرديّاً: “غداً سيمرض الوراق”، يُحوّل الكتابة إلى قدر محتوم، مُعَزِّزاً ثنائيّة الحبر/الذاكرة كمحور يربط الفصول، ليصبح الوراق في الختام “المكتبة” محافظاً على “عطر الحبر” كباقٍ أبديّ للبحث الإنسانيّ .

‏‎الوراق مرآة وجوديّة أبديّة

‏‎تُكثّف رواية “الوراق” الصراع الوجوديّ في رحلة تحليليّة سيميائيّة عميقة، حيث يتحوّل الكتاب من سلعة مادّيّة إلى مرآة حيّة للذات، مُدْعِياً القارئ إلى شجاعة الوعي أمام العبث اليوميّ من خلال تسلسل فصولها الدقيق  لتُؤَكّد أنّ البحث عن النفس  عملية تستمرّ ككتاب لا متناه   تاركة “عطر الحبر” في الزقاق كشاهد حيّ على إمكانيّة الأصالة والمعنى في عالم يبدو مليئاً باللامعنى .

الباحثة والناقدة 

الدكتورة آمال بوحرب 

تونس



قراءة نقدية: "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي." القصيدة: " عودي كما أنتِ" الشاعر :طاهر مشي (تونس) الناقدة :جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية: "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي."

القصيدة: " عودي كما أنتِ"

الشاعر :طاهر مشي (تونس)

الناقدة :جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية : "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي".

1- عتبة العنوان "عودي كمل انت"

استخدم الشاعر بالعنوان "عودي كما أنتِ" أسلوبا انزياحيا تركيبيا قائما على الأمر الدال على الالتماس المدعوم بعبارة "كما أنتِ".

ان الشاعر يلتمس من حبيبته العودة دون شروط ..إنه سيقبلُها "كما هي".

ولعل الحبيب هنا يتقاطع مع حبيبة نزار قباني وهي تلتمس من حبيبها العودة اليها كما هو دون شروط فتقول:

ارجع كما أنتَ صحوا كنت أم مطرا// فما حياتي أنا إن لم تكن فيها

وفي هذا الاطار لئن كانت حبيبة نزار قباني تلتمس منه العودة كما هو لأن حياتها لا طعم لها بدونه فلماذا يلتمس الشاعر طاهر مشي عودة حبيبته اليه كما هي دون شرط؟

2- التحليل :قراءة نقدية "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي":

استهل الشاعر قصيدته باستخدام تناص داخلي مع العنوان "عودي كما أنتِ" وهو يضفي على الاستهلال ايقاعا يردده الشاعر على مسمعه قناعة منه بضرورة عودة حبيبته كما هي .

والتناص  الداخلي  حسب النقاد هو " تداخل النصوص ضمن النص الواحد(مفردات /عبارات/ افكار..) ويرتبط  بالايقاع الداخلي الذي يمثل البنية الموسيقية للنص من خلال ترتيب الأصوات, التكرار, والأنماط الصوتية التي تخلق لحْنا داخليا يتناسب مع التجربة الشعرية, ويُعدّ التناص الداخلي والايقاع الداخلي عنصرين أساسيين في إثراء النص وتعميق معانيه ودلالاته الجمالية عبر خلق توازيات و تناغمات بين الأجزاء المختلفة".

ان الشاعر يلتمس عودة الحبيبة دون شرط لأن غيابها بعثر حياته وبعثر أوراقه وشتت أنفاسه.

ان الشاعر يرسم مشهدا في انتظار الحبيبة وهو بين المتوقع وبين الواقع

لئن كان المشهد يشي بجماله الطبيعي في انتظار الحبيبة فإن غيابها

 قد بعثر جميع الحسابات فيقول:

عودي كما أنتِ

 تبعثرت جميع الحسابات

دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر كما لو أنه يغرق في حنينٍ أزلي، ورست جميع السفن على المرافئ، إلا أنتِ، أيتها النفس التائهة... ما زلتُ هائمةً على وجه الورق،

أوراقي مبعثرةٌ، وتئنُّ أنفاسي من فرط الشّتات

استخدم الشاعر التناص  بين "تبعثرت ومبعثرة " وله ايقاع  معجمي يشي بفرط معاناته التي تحولت فيها أنفاسه الى أنين (تئنّ أنفاسي من فرط الشتات).

ان هذه المعاناة تجعله يعود من جديد الى اعادة نفس الترديدة "عودي كما أنتِ" فتصبح الترديدة لازمة يلزم بها نفسه تأكيدا على رغبته الملحّة في عودتها كما هي.

انه يلتمس منها العودة بملامحها المألوفة وصوتها الذي يطمئن اليه.

ان في عودتها وجوده (دعيني ألملم ما تبقّى منّي) وراحته ( أعياني الترحال) ونجاحه(باتت حقابي تفيض بالخيبة).

وأكثر من ذلك فقد جرّب غيرها بحثا عنها لكنه لم يجد من يُشبهها(وبقايا وجوه مرت علي دون أن تشبهك) .

والشاعرهنا يتقاطع وقول نزار قباني:

وبين حبّ وحبّ أحبك أنتِ

وبين واحدة ودّعتني ..وواحدة سوف تأتي..

أفتش عنك هنا.. وهناك..

كأن الزمان الوحيد زمانك أنتِ

ان شاعرنا في غياب الحبيبة انقلبت لديه الموازين فيقول:

في غيابكِ، ضاقَ قلبي من اتساع الوقت، وصارت وطأة الأيام كوقع الخيول.

كَم خَذَلَني الصباحُ حين أشرَقَ دونَ ظلّكِ، تَذَكَّرَ أنّكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه

لا أَقوَى على ترتيب دَواتي، ولا على جَزِّ المسافاتِ  المُضَمَّخةِ  بالوَجَع. الأماكن كلها تشبهكِ... إلا أنكِ لستِ فيه

بغيابها تحول اتساع  الوقت ضيقا بقلبه وازدادت وطأة الأيام وتحول نور الصباح الى ظلام والقوة الى ضعف والاماكن فقدت طعمها الذي ألفه بحضورها  لانها الآن غائبة  .

ولعل قولة أحدهم عن الغياب تدعم وجعه:" غياب من نحب تماما كغياب اللون عن الصورة فالغياب لا يفقدنا الحياة بل يفقدنا طعم الحياة".

 ويعود الشاعر الى تلك الترديدة "عودي كما أنتِ" التي تخفي مزيجا من المشاعر, وهنا قد يتدخل القارئ بفضوله المعتاد متسائلا عن مشاعر الحبيب وهو يردّد ويكرّر هذه اللازمة الصوتية الايقاعية على مسمعه:

- هل الحبيب يسرّ ندما عما اقترفه مع الحبيبة جعلها تغيب عنه؟

- هل هو شعور بالذنب لأنه أساء إليها فجعلها تغيب عنه؟

- هل أن إلحاح الحبيب من خلال تكرار هذه اللازمة هو دعوة الى الحب اللامشروط  كما نظّر له ابن حزم في طوق الحمامة؟

ان القارئ  بهكذا أسئلة يكشف عن المسكوت عنه في القصيدة.

ولعل القارئ يدعم رأيه ويستحضر  رأي دوستويفسكي  في قسوة الغياب حين يقول: " ستبقى يتيما في غياب من تحب حتى لو عانقك العالم  بأسره.. الحب هو قرار داخلي يختار شخصا واحدا رغم كل البدائل".

وفي هذا السياق ما رأي شاعرنا طاهر مشي؟؟؟

يقول طاهر مشي:

 عودي، كما أنتِ

قبل أن يألفني الغياب، يلتهم ذاكرتي شبح النسيان

يعود الشاعر الى التناص الايقاعي  بتلك اللازمة التي تكررت بالقصيدة خمس مرات فطبعت القصيدة بايقاع الحز ن والوجع والاستسلام.

انه ايقاع يشبه الرثاء , وكأني به يرثي ضعفه واستسلامه لعودتها اليه كما هي دون شرط او قيد وفي كل الظروف وانهزاميته أمام معاناته بسبب غيابها.

انه يلتمس منها العودة كما هي خوفا من أن يصبح غيابها مألوفا عنده ويصبح حبه ضحية النسيان.

وهنا يثير الشاعر قضية الغياب والنسيان والغياب والحضور:

هل الغياب سبب في النسيان؟

 وفي هذا الاطار يقول بعض المفكرين:

-" كنت أحسب أن النسيان سهل حتى علمت أن الذاكرة لا ترحم".

- "ليتني أملك القدرة على محو ما مضى لكنه محفور في الروح"

- وداعا فقد حاولت أن أنساك لكن الذكرى أبقتني أسيرا"

ويرى بعض الفلاسفة في النسيان:

"يهددنا النسيان, ينقض ما نفعل, ويلاحق ما نكون وبموجب هذا بالتأكيد نحن نفكر فيه غالبا بصيغة سلبية بوصفه من جهة اخرى" فقدانا ونقصانا ومحوا والتباسا ونكرانا واضطرابا واهمالا وافتقارا وهفوة وتقصيرا.. ان النسيان من جهة اخرى يواسينا ويهيّئنا للمستقبل ويعيدنا الى الجديد..

النسيان هدام يكرهنا على يقظة مضنية.. واذا كانت الذاكرة  تسمح لنا بالتعرف على العالم فالنسيان  يعطينا قفزة الى عالم جديد وقدرة على الولادة من جديد"(1)

و في المقابل يقول فيودور ديستويفسكي:"لا يبقى في الذاكرة سوى ما نريد نسيانه"(2).

وفي غياب الحبيبة هل يمكن ان يكون الغياب حضورا موازيا فالغياب هو نوع آخر من الحضور..انه حضور يترك بقاياه في المكان والقلب لا يملؤه أحد.

وبالتالي فان الذاكرة تقاوم النسيان.

وخلاصة القول فان الشاعر طاهر مشي وباستخدام التناص الداخلي الايقاعي المثير لوجدان القارئ فهو يدعو الى الحب اللامشروط  لتعود الحبيبة كما هي تجنبا لمعاناة الغياب وخوفا من النسيان وهو بذلك يطرح قضية الحب اللامشروط  كقضية وجود مما جعل القصيدة ترتقي الى العالمية لتعانق نزار قباني والاديب المفكر الروسي  دوستويفسكي.

سلم قلم الشاعر طاهر مشي  هذا القلم المتمرد على المألوف.

بتاريخ 15/ 12/ 2025

المراجع:

(1) فلسفة النسيان: الوجود والعلاقة مع الماضي-جان لومبار- ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.

(2) النسيان في فلسفة دوستويفسكي

 القصيدة: "عودي كما أنتِ"

ااااااااااااااااا ااااااااااا

عودي كما أنتِ

 تبعثرت جميع الحسابات

دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر كما لو أنه يغرق في حنينٍ أزلي، ورست جميع السفن على المرافئ، إلا أنتِ، أيتها النفس التائهة... ما زلتُ هائمةً على وجه الورق،

أوراقي مبعثرةٌ، وتئنُّ أنفاسي من فرط الشّتات

عودي كما أنتِ،

بملامحكِ التي ألفتها، بصوتكِ الذي يشبه طمأنينة المطر

عودي، ودعيني ألملم ما تبقّى منِّي، فقد أَعْيانِي الترحال، وباتت حقائبي تفيضُ    بالخَيبة، وبقايا وجوهٍ مرّت عليَّ دون أن تُشبهكِ

في غيابكِ، ضاقَ قلبي من اتساع الوقت، وصارت وطأة الأيام كوقع الخيول. كَم خَذَلَني الصباحُ حين أشرَقَ دونَ ظلّكِ، تَذَكَّرَ أنّكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه.

لا أَقوَى على ترتيب دَواتي، ولا على جَزِّ المسافاتِ المُضَمَّخةِ بالوَجَع. الأماكن كلها تشبهكِ... إلا أنكِ لستِ فيها.

عودي، كما أنتِ

قبل أن يألفني الغياب، يلتهم ذاكرتي شبح النسيان

ااااااااااااااااا ااااااااااا

طاهر مشي



الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

مبادرة: قراءات في ضوء النص الاتحاد العالمي للمثقفين العرب رئيسة لجنة القراءة والنقد: الدكتورة آمال بوحرب(تونس) الرواية :"رحلة حفنة التراب" الكاتب خالد الباشق(العراق) الناقدة جليلة المازني (تونس)

  مبادرة: قراءات في ضوء النص

الاتحاد العالمي للمثقفين العرب

رئيسة لجنة القراءة والنقد: الدكتورة آمال بوحرب(تونس)

الرواية :"رحلة حفنة التراب"

الكاتب خالد الباشق(العراق)

الناقدة جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية: "الرواية  ودائرية الزمان والمكان "

1- التقديم المادي:

- رواية "رحلة حفنة التراب" للروائي العراقي خالد الباشق.

صادرة عن دار المرايا للنشر والتوزيع/ العراق.

الطبعة الاولى لسنة 2025.

تتضمن رواية "رحلة حفنة التراب" ثمانية فصول..

2- في قراءة لصورة الغلاف والالوان:

أ- في قراءة لصورة الغلاف:

أول ما يطالعنا بصورة الغلاف صورة رجل ينثر ترابا في الهواء ويبدده ليسقط على تراب الأرض  ومَدْرجا أبيض بدلالته في الصعود والنزول والنزول والصعود والذهاب والاياب والسفر والعودة...

انها  الأرض المحكومة بالثنائية المتضادة (السفر والعودة) .

وبالتالي هل ما ينثره الرجل من تراب باللوحة سافر ثم عاد؟

وكأني بالروائي يستحضر النص الديني الآية (67) من سورة غافر"هو الذي خلقكم من تراب"  ايمانا منه بان الانسان خلق من تراب وستكون العودة الى التراب أيضا للبعث من جديد .انها ثنائية الخلق والبعث..

ب- في قراءة للألوان :لقد اقتصر الروائي  على استخدام اللون البني واللون الابيض  باللوحة . فما دلالتهما ؟

+ اللون البني: يرى الباحث مجد فرارجة بموقع "موضوع" في 17/ جانفي 2021 ان اللون البني " يُعتبر من الألوان الطبيعية المحايدة التي تشير الى الاستقرار والأمان والقيم الراسخة ,حيث أنه لون الأرض الثابتة .."(1).

وحسب ما ورد بموقع الشرق الأوسط  :"يعتبر اللون البني أو لون التراب كما يصفه الكثيرون لونا حقيقيا ومستقرا تماما كاستقرار باطن الارض من منظور علم النفس كما يدل على الدعم مع وجود شعور قوي بالواجب والمسؤولية والالتزام".

+ اللون الابيض: يرى علماء النفس أن اللون الأبيض "يعتبر أخف لون من بين الالوان وهذا الشيء يرمز الى النقاء والبراءة والنزاهة ويوفر تطهيرا داخليا لافكارك وروحك كونه المصدر الأساسي للطاقة النقية"(2).

3-  في قراءة لعنوان الرواية "رحلة حفنة التراب"

لقد ورد العنوان مركبا اضافيا وكل من المضاف والمضاف اليه يشي بالمكان:

والرحلة حسب النقاد هي " الانتقال من مكان  الى آخر سواء كان ذلك بغرض السياحة ,التجارة ,العلم ,او الاستكشاف.."

و تستخدم عبارة "حفنة من تراب بلده" حسب بعض النقاد "للتعبير عن الاحتفاظ  بذكرى الوطن في الغربة  .والحب للوطن يمثل شعبا وتاريخا وحضارة وليس مجرد حفنة تراب" ولكنه يظل رمزا قويا للانتماء والحنين"

وفي هذا الاطار يقول الراواي عن الشخصية سليم ص(12) "أخذ حفنة من ترابها وخبّأها في جيبه ومضى"

ان هذه الحفنة من التراب ستكون رمزا لقريته التي سيرحل عنها. وقد شبهها بفراق الحبيبين  قائلا : "لنفترق كحبيبين" ص (12).

3*- في علاقة اللوحة بالعنوان:

لعل مزاوجة الروائي للونين البني والابيض باللوحة يشي مجازيا  بنقاوة وطهارة حفنة التراب  وشعور ذاك الرجل الذي ينثرها بالواجب وبالمسؤولية والالتزام باعادتها الى أصل ارضها. ..وقد نقف على ذلك في صلب التحليل:

4- التحليل: الرواية ودائرية الزمان والمكان:

استهل الروائي خالد الباشق روايته بذكر الاطار المكاني "في قلب القرية الهادئة"

هذا المكان سيرحل عنه الى مكان آخر هو المدينة (كانت المدينة بالنسبة اليه عالما مليئا بالفرص والاحلام.. عالما يختلف تماما عن الحياة البسيطة التي عاشها في القرية)ص (3).

ان هذا القرار بالتحول من مكان الى آخر, من القرية الى المدينة جعل سليما

يراجع نفسه وقد برع الكاتب في التعبير عن ذلك من خلال :

- سردية الحوار:على لسان الراوي الذي كان راويا عليما بكل ما يجول بخاطر سليم وينطق باسمه (بعد مرور أكثر من سنة ,أصبح العيش هنا شبه مستحيل, النهر جفّ, والأمطار تنقطع كثيرا وموْسمها انتهى..)(4).

وأكثر من ذلك فان الراوي قد:

- حلل نفسية سليم ليكشف لنا عما يخالج قلبه من مشاعر(في قلبه كانت تموج مشاعر مختلطة من الحنين والخوف والتفاؤل) (4).

- تدخل الراوي في اقناع سليم  لنفسه بالرحيل(في كل الحالات لن تكون الحياة التي يتجه اليها أكثر خيبة من حياته هنا)ص(4).

ان هذا التحول في المكان سيلعب على الزمان و الشخصية و الأحداث والحوار والوصف:

1- المكان والزمان:

يرى بعض النقاد ان الزمان والمكان "هما عنصران أساسيان في الرواية يحددان سياق الأحداث والشخصيات في الرواية.. والزمان هو الاطار الزمني للأحداث سواء كان خطيا او غير خطي ويشمل الزمن السردي والزمن النفسي الذي تعيشه الشخصية...

والمكان  هو الفضاء التي تجري فيه الأحداث ويمكن أن يكون جغرافيا ,اجتماعيا او نفسيا. وقد يتطور ليصبح بحد ذاته بطلا بالرواية".

ان المكان الجغرافي المطبوع بثنائية القرية والمدينة لعب على الزمان ليجعله هو الآخر مطبوعا بثنائية الماضي والحاضر باستخدام تقنية الاسترجاع "الفلاشباك":

أ- استخدام  تقنية الاسترجاع في الرواية:

لقد تواتر استخدام تقنية الاسترجاع الفلاشباك  في الرواية وغطى تقريبا كل مراحلها:

- عند وصوله الى المدينة دخل في مقارنة بين القرية والمدينة على لسان الراوي تارة ومن خلال حديث النفس تارة أخرى:

"في قريته كان الزمن يتهادى بخطوات وئيدة..اما هنا فقد بدا وكأنه يطارد الجميع بلا هوادة" ص(5) / "أيتها الحياة الغريبة كم أنت بلا عدالة اذ رغم تشابه صفاتك  لكنك مختلفة تماما من مكان الى آخر" (5).

- استرجاع مشهد بيع أرضه بالرخص وقرار الرحيل الى المدينة واسباب ذلك

( الارض لم تعد تجدي نفعا كما كان الحال سابقا) (7) / أغمض عينيه للحظة وعاد الزمن به الى الوراء) ص(9).

- استرجاع قول أبيه له دائما "الأرض ليست مجرد تراب يا سليم ,انها ذاكرة وان تركتها ستترك جزءا منك معها".

ب- الزمان والمكان فضاء نفسي:

لقد جعل الروائي من الزمان والمكان فضاء نفسيا يجسّد معاناة سليم فيقول الراوي وهو راو عليم بما يخالج نفسية سليم :

"عاد بذاكرته وهو بين صراعين:

- أرضه وفقره.

- المدينة ومستقبله" ص(10).

لقد استخدم الكاتب لتجسيد هذا الصراع الداخلي:

*تقنية صناعة السؤال المدهش للقارئ .والكاتب يسعى الى اثارة فضول القارئ لتوريطه في اقناع سليم على الرحيل وهو نوع من التحليل النفسي لشخصية سليم الممزقة بين البقاء والرحيل.. فيقول:

- "ماذا لو ذهبتُ ولم أنجح؟

- ماذا لوْ بقيتُ ولم أنجح أيضا في حياتي؟" ص(10).

* تقنية حديث النفس السلبي(وهو متنفس لسليم) والتحليل النفسي لاستجداء دعم القارئ لرحيله :

" أيتها الأرض العجوز سامحيني على فعلتي هذه ولا تحقدي عليّ .. أنا لا أعرف

شيئا هنا غير الفقر المدقع والجوع والعطش.. أصبحتِ جرداء.. لقد هرمتِ وما عاد بإمكانك ان تنجبي كالماضي"ص(11).

وفي هذا الاطار كأني بالكاتب من خلال تقنية طرح السؤال وأسلوب حديث النفس

وتوظيف راوٍ عليم بنفسية سليم يسعى الى اقناع القارئ بمدى تجذّر سليم وتشبثه بالقرية وبأرضه لينْفِيَ عنه صفة الانبتات .

2- أثر الزمان والمكان في الأحداث:

يطالعنا الكاتب بتقنية القصّ داخل القصّ ليصبح المكان المادي وهو المدينة مكانا اجتماعيا حيث يروي الكاتب للقارئ :

- قصة كوثر وكيف أصبحت لصة وسارقة.

- قصة سليم والضابط مازن ابن قريته.

- قصة سليم وسرقة ماله....

وفي هذا الاطار يرى بعض النقاد ان "وظيفة المكان في الرواية تتجاوز كونه مجرد مساحة للأحداث لتشمل تنظيم الحبكة وتأطير السرد وبناء الشخصيات واظهار علاقتها  بالبيئة وخلق جوهر فني خاص بالرواية يعكس دلالات رمزية عميقة. يعمل المكان والزمان كمؤثر أساسي في تشكيل الاحداث وعلاقاتها وكوسيلة لتعميق تجربة القارئ من خلال احساسه بالحواس بالبيئة التي تعيشها الشخصيات"

3- أثر الزمان والمكان على الشخصية:

ان شخصية سليم الممزقة بين المبادئ السمحة بالقرية و شبه انعدامها بالمدينة جعلته ممزّقا بين سلوكين:

- عدم التسامح :عندما تعرض سليم الى سرقة ماله بالمدينة اتهم كلّا من كوثر وعادل بالسرقة لانهما وحدهما يعلمان بما لديه من مال ولأنه يعلم ان كوثر لصّة.

بيد أن طيبته كقرويّ جعلته يتسامح معهما:

- التسامح : لقد تسامح سليم مع عادل رغم انه كان السارق الحقيقي لماله.

            لقد طلب السماح من كوثر وفعل المستحيل لكي تسامحه بل جعل                   مصيره مرتبطا بها حين اختارها زوجة له.

وهنا كأني بالروائي خالد الباشق يبث للقارئ رسالة انتصار الخير على الشر.

فالقروي سليم المتجذر في أصالته  قد جعلته مبادئ القرية يُصْلح انهيار الاخلاق بالمدينة. 

ومن ناحية أخرى فان الروائي خالد الباشق قد لعب على الزمان والمكان لصالح شخصية سليم:

- في الوقت الذي كان فيه سليم يريد أن يستثمر ماله الذي باع به أرضه يتدخل الروائي خالد الباشق وكأنه مخرج سنمائي ليجعل العمّ محسن يموت ليتيح لسليم شراء حانوته كمشروع جيّد.

- في الوقت الذي كان فيه سليم يبحث عن منزل للكراء من أجل الزواج  يتدخل الباشق ليجعل زوجة العم محسن تقرّرُ كراء منزلها لتسافر الى ابنها والاقامة معه

وهذا القرار يتيح لسليم فرصة ايجاد حل للسكن عند زواجه.

ولعل الروائي خالد الباشق يجيب عن سؤالين طرحهما سليم على نفسه وهو في صراع بين البقاء بالقرية والرحيل الى المدينة حين قال:

- ماذا لو ذهبتُ ولم أنجح؟

- ماذا لو لوبقيتُ أيضا ولم أنجح أيضا في حياتي؟

وبالتالي فان الباشق بما حققه سليم من نجاح بالمدينة قد اصطاد عصفورين بحجر واحد:

+ أخرج سليما من ذاك الصراع النفسي الذي يقض مضجعه وهو بين النجاح والفشل وبين البقاء والرحيل.

+ أطفأ ضمأ القارئ الفضولي الى معرفة مصير سليم من مغامرة الرحلة من القرية الى المدينة.

وفي هذا الاطار فان الزمان والمكان يساعدان كما يرى بعض النقاد "في تشكيل هوية الشخصيات وربطها بعالمها من خلال وصف تفاعلاتها والتعبير عن حالتها النفسية والاجتماعية...

كما ان للزمان والمكان تأثير درامي ونفسي فيساهمان  في خلق الاحساس بالتشويق والجمال ويعكس الاجواء النفسية (مثل الشعور بالألفة أو الغربة):

تحوّل شعور سليم من الشعور بالغربة بالمدينة الى الشعور بالألفة بها.

- كما أن الزمان والمكان يخلقان الواقعية والايحاء : بخلق عالم روائي ملموس بحيث ينتقل القارئ الى هذا العالم ويختبره بحواسه, ويعيش تجربة الانغماس الكامل فيه."

فكل قارئ جيّد قد يتموقع مكان سليم ليعيش تجربته بين الحاضر والماضي وبين القرية والرحيل عنها الى المدينة ويتوقع النجاح والفشل...

وكأني بالباشق قد جعل من الزمان والمكان بطلا وشخصية فاعلة في الرواية.

4- أثر الزمان والمكان على الحوار:

لقد استخدم الروائي خالد الباشق أنواعا من الحوار التي غطّت تقريبا كامل مراحل الرواية:

+الحوار الباطني (المونولوغ) أو حديث النفس  عند يبع سليم أرضه واستغلال المستثمر له / وهو يعيش صراعا بين بقائه بالقرية والرحيل الى المدينة/ وهو في صراعه بين القيم بالقرية وانهيارها بالمدينة....

+ الحوار المباشر :عند توديعه لأهل القرية/ أثناء عمله مع العم محسن/ اثناء حديثه مع الضابط مازن/ اثناء أحاديثه مع كوثر...

+ الراوي العليم الذي يحلل نفسية سليم ويتكلم باسمه فالراوي شخصية موازية لشخصية سليم بل ومتماهية معه  وهو حوار مواز ...

وبالتالي فقد اتسم الحوار بالسردية التي تفضح نفسية الشخصية المتأزمة سليم وتكشف المواقف وتطوّر سرد الاحداث...

5- أثر الزمان والمكان على الوصف:

لئن يقف القارئ على بعض الوصف مبثوثا هنا وهناك خاصة في حديث النفس واالحوار الباطني الذي جعله الروائي متنفّسا لسليم.. الا ان الكاتب كان زاهدا شيئا ما في الوصف مقابل التركيز على الاحداث والرسائل المبثوثة في الرواية من استغلال المستثمر لصاحب الارض/ صعوبة التأقلم بالمدينة/ انهيار الاخلاق بالمدينة/ انتصار الخير على الشر/  تشبث القروي بالارض/ الأصالة والتجذّر والانفتاح من أجل بناء المستقبل...

وفي هذا الاطار من أثر الزمان والمكان على مقومات وأركان السرد فان الروائي خالد الباشق قد وسم الرواية بدائرية الزمان والمكان فكانت النهاية عوْدًا على بدْء:

6- دائرية الزمان والمكان بالرواية:

ان حفنة التراب  التي شخصها الروائي  الباشق عند إضافتها الى مضاف  "رحلة" قد قامت  فعلا تماما كما سليم برحلة من القرية الى المدينة فخرجت من القرية وعاشت صراع سليم بين البقاء بالقرية والرحيل الى المدينة وشهدت معاناة سليم ليهزم الشرّ لصالح مبادئه التي يحملها كقروي نقيّ من أدران المدينة واستمتعت بمقاومة سليم للفشل لتحقيق النجاح وشعرت بالفخر وهو يفكر في حاضره بالماضي , انها عاشت معه ازدواجية الزمان والمكان:

- انها رحلت من القرية الى المدينة ثم عادت اليها.

انها كانت شاهد عيان على نجاحه.. وكأني بسليم يريد أن يقنع القارئ بمدى وفائه لحفنة التراب التي رافقته طيلة رحلته.

- انها شاركته حاضره ثم هو لا ينسى ماضيها فيجعلها وفيّة  بالعودة اليه.

فحفنة التراب :

*انطلقت من الماضي لتعيش الحاضر ثم تعود الى الماضي.

*انطلقت من القرية لتعيش فعاليات المدينة لتعود في النهاية الى القرية.

 يقول الكاتب باسم سليم:

" حفنة التراب هذه ,أخذتها  معي يوم رحلت عن القرية. كنت لا أفهم معنى الفقد تماما, لكنني شعرت أني يجب أن أحمل معي شيئا منها, شيئا يبقيني مرتبطا بها, ذكرى لهذه الأرض, جزءًا بسيطا من رائحتها...قبّل حفنة التراب وهو يفتح يده ببطء, لينثر الحفنة ويتركها تتطاير من بين أصابعه لتعود الى أصلها..

ثم همس: تعود اليك كما يجب أن يعود كلّ شيء الى المكان الذي ينتمي اليه.." ص (208).

وفي هذا الاطار فان الكاتب ومن وجهة نظر ميتاسردية  وميتاروائية لا يخفي عن القارئ هاجس روايته من خلال رسائله التي يبثها فيه (القارئ):

ان الكاتب يهدم ليبني ويقوّض ليؤسس:

- يؤسس للشعور بالانتماء الى المكان.

-  يؤسس الى اخضاع الزمن الحاضر للتفكير في الماضي.

- يؤسس الى الشعور بالتجذر ويرفض الانبتات.

- يؤسس الى  الايمان بالماضي وبالحاضر.

- يؤسس الى الشعور بالمسؤولية والالتزام  بإعادة حفنة التراب بعد رحلتها الى أصلها.

- يؤسس الى الأصالة والتجذر والانفتاح من أجل بناء المستقبل.

- يؤسس الى  الفخر بالأصل  المتمثل في القرية والبرّ بها تماما كالأمّ وكأني بالكاتب قد جعله ابْنا بارّا بوالدته (القرية) ومُعترفا بماضيه فيقول :

"عادت حفنة التراب التي كانت تذكرني بأرضي وماضيّ الى حضن أمّها التي أخذتها منها.." ص (209).

- يؤسس الى الوفاء للزوجة التي أعانته على غربته فأحبها (كوثر):

ان سليم كما هو وفيٌّ لأرضه وماضيه فهو وفيّ لحبيبته وحاضره فيقول الكاتب باسم سليم الى زوجته كوثر: " وأنا الآن أنتمي اليك, فأنت أصبحت موطني.." ص(209).

وفي هذا الاطار لعل الروائي خالد الباشق يرتقي بروايته "رحلة حفنة التراب" نحو العالمية وهو يستجيب في تسليط الضوء على المكان والزمان وما اتسما من دائرية ل:

- الناقد الفرنسي غاستون  باشلار في كتابه "جماليات المكان" والذي يعتبر من المراجع الكلاسيكية المهمة في هذا المجال و يتناول كيف يتشكل المكان في الادراك الحسي والخيالي.

- الناقد المغربي حسن بحراوي في كتابه" بنية الشكل الروائي" الذي يقدم دراسة مفصلة للبنى الروائية مع التركيز على فضاء المكان وعلاقته بالزمان والشخصية.

سلم قلم الروائي خالد الباشق ,هذا القلم الذي غرَف من نبعٍ لا ينضب من الإمتاع والمؤانسة.

بتاريخ:07 / 12/ 2025

المراجع:

(1) مجد فرارجة في 17/ جانفي/ 2021 موقع موضوع دلالات اللون البني.

(2) مرح محمود –دلالات اللون الابيض في علم النفس

في 6/اكتوبر2022.موقع موضوع



قراءة الكاتب صالح الرحماني لقصيدة الشاعر أبي البيرق عمرالشهباني " ابرهة العصر الأشقر".

 هذه قراءة salah rahmani صالح الرحماني  لقصيدة أبي البيرق عمرالشهباني " ابرهة العصر الأشقر"

وتجدون القصيدة بعد هذه القراءة

.

"أبرهة العصر الأشقر" ـ قراءة في الرمزية السياسية والاستعارات القرآنية


مقدمة:

تندرج القصيدة ضمن شعر المقاومة الرمزية، حيث يوظّف الشاعر شخصية "أبرهة" ـ العدوّ القرآني الذي جاء لهدم الكعبة سنة الفيل ـ باعتبارها استعارة كبرى للهيمنة الخارجية المعاصرة، وللنظام السياسي الذي يجعل من القوة المادية (الفيل، السطوة، المال، النفط) وسيلة لفرض إرادة الآخر على الأمة.

وتكشف القصيدة عن خطاب نقدي مزدوج: نقد الغزاة الجدد ونقد قابليّة الداخل للاستلاب. لذلك فهي قصيدة احتجاج، تنتمي من حيث البنية إلى شعر التهكم السياسي، ومن حيث المرجعية إلى السرديات القرآنية والمؤسَّس المتخيّل للذاكرة العربية.

أولًا: الرمزية المركزية – أبرهة العصر الأشقر

يحمل العنوان دلالات كثيفة.

فـ"أبرهة" هو الرمز التاريخي للغزو، أما وصفه بـ"الأشقر" فيحيل إلى

الغرب الإمبراطوري،

أو القوى البيضاء ذات الهيمنة،

أو الفاعل الدولي الحديث الذي يتدخّل في مصائر الشعوب العربية.

العنوان هنا صيغة استعادة، يربط الماضي بالحاضر، ويعيد إنتاج قصة "سنة الفيل" خارج سياقها القديم لتصبح تمثيلًا لواقع سياسي راهن.

ثانيًا: الحوار الساخر مع "الغازي" — تقنية الخطاب المعكوس

يستقبل الشاعر الغريب بعبارات ترحيب ظاهر، لكنها مشحونة بالسخرية المريرة:

"أهلا بكم يا سيدي يا أبرهة / هذي المدائن من قفاكم مفقرة"

"هلا نزلتم فالقصور قصوركم / فيها الإماء المونقات المبهرة"

الترحيب ليس اعترافًا، بل إدانة مُضمرة، إذ يحمّل "أبرهة" مسؤولية الفقر، ويُسند إليه ملكية القصور والجواري، في إحالة مباشرة إلى تبعية النخب العربية للغرب/الهيمنة.

القصيدة تقوم على المفارقة بين لغة المديح الشكلية والاحتجاج السياسي العميق.

ثالثًا: تكسير القداسة المزيّفة للغزو المعاصر

يتساءل الشاعر، بنبرة نقدية:

"عفوًا مليكي لم يعد فينا القِرى / ماذا قرانا والمدينة منكرة"

إنه ينكر فكرة أن الغزو يجلب المدنية أو الحداثة.

المدينة هنا منكرة: فاقدة لهويتها، مغتربة عن ذاتها، بعد أن "سُكّت" طرقها ووجهتها على مقاس الغريب:

"كيف اجترأنا أن نشيح بوجهنا / عن قبلة كنتم سككتم معبره"

البيت، القبلة، الطريق… كلها استعارات لمركز الأمة الرمزي الذي تمّت إعادة هندسته من الخارج.

رابعًا: قراءة في intertextuality القرآنية والتاريخية

تستدعي القصيدة شبكة من الرموز القرآنية:

1. سورة الفيل:

الفيل → آلة الهيمنة المعاصرة

أبرهة → القوة المهاجمة

الطير الأبابيل → غياب النصرة اليوم

الحجارة → إنهاك أدوات المقاومة

2. أبو رِغال:

يرد في خاتمة القصيدة:

"الكل صار تطوعًا كأبي رِغال / والبيت لا رب لديه لينصره"

أبو رِغال رمز الخيانة الداخلية في الذاكرة العربية الإسلامية، وهنا يتحوّل إلى توصيف لحالة جزء من النخب.

3. البيت، النوق، النحر، الحجاز، مكة، الدوحة، أنقرة:

كلها إحالات جغرافية وقيمية، ترسم خريطة عربية-إسلامية مفكّكة، فقدت وحدة العصبية.

خامسًا: نقد الداخل — قابلية الاستعمار وأزمة الإرادة

القصيدة لا تكتفي بجلد الغازي، بل تفضح هشاشة الداخل:

"ماتت لدينا النوق نحرًا سبّة / والبيت يرجو بالحجير المغفرة"

النوق رمز القدرة على المقاومة، والبيت رمز الأمة.

يقدّم الشاعر صورة أمة قتلت أدوات قوتها بيدها، ثم تطلب المغفرة.

وفي تصوير آخر:

"هذا قطيع شتّت أغنامه / والذئب مرتاح وولّى أصغره"

الأغنام → الشعوب،

الذئب → الغازي،

الأصغر → الوكلاء المحليون.

سادسًا: تشريح خطاب القوة المعاصرة

في القسم الأخير، يقدّم الشاعر صورة القوة التي تملك الأدوات ولكن تفتقد الروح:

"يا أيها الصنديد يصدأ سيفكم / لو هم يومًا أن يمدد منخره"

السيف يصدأ بمجرد الحركة؛

هي قوة هشة، رغم ما يبدو عليها من جبروت.

وهنا قلبٌ للحكاية القرآنية:

القوة المادية (الفيل) لم تعد سبب الانتصار، بل سبب الوهم.

ويختم بانتصار روحي:

"فأمتي قامت تقاوم من يشتت جوهره"

جوهر الأمة – قيمها، تاريخها، قدرتها على النهوض – ما يزال حيًا.

سابعًا: القراءة البلاغية

1. المفارقة والسخرية السوداء

أغلب القصيدة قائم على خطاب المديح، لكنه مديح تهكمي يعرّي الواقع.

2. التكرار الرمزي

تعود مفردات:

البيت، الفيل، الزيت، النخل، النوق، الحجارة

لتشكّل حقولًا دلالية تربط بين الماضي والحاضر.

3. الانزياح بين الحقل الديني والسياسي

يمنح القصيدة طاقة احتجاجية عالية، ويجعل النصّ جزءًا من "نصّ أوسع" هو التاريخ.

ثامنًا: البعد السياسي العام للقصيدة

يمكن قراءة القصيدة بوصفها:

نقدًا لاستباحة السيادة العربية،

نقدًا لتحالف بعض النخب مع الخارج،

رفضًا لاختزال المنطقة في موارد (النفط، الممرات، الأنظمة الأمنية)،

تحذيرًا من تحوّل الأمة إلى فضاء بلا مناعة رمزية.

وهي من هذا الجانب تنتمي إلى الشعر السياسي المقاوم الذي عرفه عصر ما بعد 1967، وتمتد جذوره إلى المتنبي وأبي تمام في هجاء الطغاة وكشف هشاشتهم.


خاتمة:

تمثل قصيدة "أبرهة العصر الأشقر" عملًا أدبيًا سياسيًا يُعيد كتابة سردية "عام الفيل" داخل الواقع المعاصر، ويجعل منها أداة نقدية لفهم العلاقة بين الغزو الخارجي والانقسام الداخلي.

وتتميّز بلغة عالية، مكثّفة، ومشحونة بمرجعيات دينية وتاريخية، تُعيد للقصيدة العربية وظيفتها الأصلية: أن تكون بيانًا سياسيًا وروحيًا ضد الظلم.

القصيدة:

(عمر الشهباني)

،

أبرهـــــــــة العصر الأشقر

.

أهلا بكم يــا سيِّدي يا "أبرهة"

هذي المدائن من قفــاكم مفقرة

.

هلاَّ نزلتم فالقصــــور قصوركم

فيها الإمـــاء المونقات المبهرة

.

يا صـاحب الفيل العظيم هَلُمَّ خُذْ

هذي الجفـان والدمى والمبخرة

.

عفوا مليكــي لم يعد فينا القِرى

مــــــاذا قِـــرانا والمدينة منكِرة

.

عفوا فإنَّا لم نجدْ في درسكم

مــــا يستفــاد فالرجــــاء المعذرة

.

لو كـان فينا من يترجم خَطْبَكم

كنَّـا اتَّبعنا فــي الطريق المسطرة

.

كيف اجترأنا أن نشيح بوجهنا

عن قِبلــة كنتم سَكَـكْـتُمْ مَعْبَــــرَه

.

أنتم بذرتم للحقــــــول حَسِيكَهَا

أنت


أبوالبيرق عمر الشهباني



الاثنين، 8 ديسمبر 2025

قراءة في قصيدة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة الأستاذة عزيزة بشير "للٰهِ درُّكِ (غزّا) الأبيّةَ..أرضَ الصُّمودِ بِأعْلى الهِضابْ.." بقلم الشاعرة عزيزة بشير

 قراءة في قصيدة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة الأستاذة عزيزة بشير "للٰهِ درُّكِ  (غزّا)  الأبيّةَ..أرضَ الصُّمودِ بِأعْلى الهِضابْ.."

(حين يعلو صوت الحق فوق نباح الرشاشات.. ونعيق المدافع..)


في خضم الحروب والخراب والدمار،تحتفظ قراءة القرآن بأهمية دينية عميقة للمسلمين،إذ يُعتبر مصدر القوة والسلوان ومبعث الراحة والسكينة للنفس في الأوقات الصعبة،حيث يذكر المؤمنين بحكمة الله وصبر الأنبياء على الابتلاءات.والآيات التي تتحدث عن الصبر والثبات في وجه الشدائد (مثل "واستعينوا بالصبر والصلاة") تمنح المؤمنين قوة معنوية.كما تؤكد على عدل الله وأن الظلم لن يدوم،مما يمنح الأمل للمظلومين والمضطهدين،

وتذكرهم  بأن الدنيا دار اختبار وأن الجزاء الحقيقي في الآخرة.وهنا يتحول القرآن إلى وسيلة للدعاء والمناجاة،طلباً للرحمة والفرج ورفع البلاء.

سقت هذه المقدمة المتعجلة وأنا أقراء قصيدة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة الأستاذة عزيزة بشير الموسومة ب"للٰهِ درُّكِ  (غزّا)  الأبيّةَ..أرضَ الصُّمودِ بِأعْلى الهِضابْ.."التي صيغت بحروف تداعب الوجدان،وتلامس  الذائقة الفنية للمتلقي،وذلك على هامش حفلُ تكريمِ 581 حافظَا لكتاب اللهِ في (غزّةَ)..إذ تقول :

بِرَغْمِ الدِّمارِ ورغْمِ الحِصارِ 

  ورَغْمِ الإبادةِ،قَتْلِ...الشّبابْ 


ورَغْمِ الدّماءِ وجَهْدِ البلاءِ

ورغْمِ المَجاعةِ ، …رغْمِ الذُّبابْ


ورغْمِ التشرُّدِ،رغْمٍ لِكلٍّ

وَكُلٍّ وَكُلٍّ وَرَغمِ...العذابْ

 

وَرَغْمِ الشّهيد وقتْلِ المَزيد

وَرَغْمِ الصَّهاينَ….

(حِفْظُوا الكتابْ)! !         .             


تَراهُم وُقوفاً،صِغاراً  كِباراً

بِبيضِ الثِّيابِ وخَلف…الحِجابْ


وَكُلٌ   يُرَتِّلُ  آيَ   الكِتابِ

بِصَوْتٍ مَهيبٍ وَعالِي…الجَنابْ


فَلِلٰهِ درُّكِ  (غزّا)  الأبيّةَ

أرضَ الصُّمودِ بِأعْلى ……الهِضابْ


أراكِ العظيمةَ فوْقَ الجِراحِ

تُعِدِّي الرّجالَ …بِدينٍ مُهابْ


وَتَسقِي الرّضيعَِ بماءِ الحياةِ

وَدينِ الأُباةِ،لِقَهْرِ…الصِّعابْ


وقهْرِ العدوِّ  بِجيلِ الكتابِ  

بِجُنْدٍ أُباةٍ...وَجَمِّ الثًًّوابْ


تعالَوْا تعالَوْا  فكانوا مِثالاً

لِحُرِّ الشُّعوبِ بِأسمى …خِطابْ:


"فَكُلٌّ ينادي بِدحْرِ اليهودِ

وَنصْرٍ (لِغزّةَ)، …فَرْضِ الِعقابْ


ومِنهُمْ  تَباهى بإيمانِ( غزّا)

وَدانوا بِدينِها ، ……علُّوا الجَوابْ"


هنيئاً  لِحافظِ وَعْداً بِنَصرٍ

فوعْدُ السّماءِ…إليكُم مُجابْ!


هذه القصيدة الرائعة تقدم رؤية ملحمية لحدث تكريم حفظة القرآن في غزة رغم الظروف القاسية،حيث تلتقي عدة محاور من ضمنها صمود إرادة الإنسان ضد القهر إذ تُصوّر (القصيدة) انتصار الإرادة الإنسانية والدينية على الدمار المادي.وتجسد التمسك بالهوية العربية والإسلامية كأداة للمقاومة الوجودية،وهنا تتجلى الثنائية الضدية حيث تتعارض صور الدمار

(الحصار،المجاعة،الدماء،الموت السافر..والقتل الكافر..) مع صور النقاء الروحي (الثياب البيضاء، الترتيل المهيب) ثم تشير الشاعرة في سياق إبداعي خلاب إلى الأمومة الرمزية،فتُصوَّر غزة بريشة فنانة ذات عبقرية،كأم تعيد إنتاج الحياة والقيم رغم الجراح.أما الطباق فيبرز جليا بين "صغاراً/كباراً"، "الدمار/الحفظ"، "الذل/العزة".

تتخذ القصيدة موقفاً واضحاً من خلال التعريف بالمقاومة كفعل ثقافي وديني وليس عسكرياً فقط،إذ تنجح الشاعرة في توظيف الموروث الديني كإطار للمقاومة الوجودية وخلق أسطورة مكانية ترفع غزة من جغرافيا محاصرة إلى رمز صمود..كما تميزت القصيدة بـالانزياح الدلالي المتمثل في تحويل حفل ديني إلى فعل مقاومة،

وكذا  التكثيف الدرامي حيث الانتقال من صور المعاناة إلى مشهد التكريم المهيب،ثم  الربط العضوي بين الفردي والجماعي،بين الروحي والسياسي..

وهنا أشير إلى أن العدد 581،ليس مجرد رقم،بل رمز للكم النوعي الذي يتحدى منطق القوة.

أما الكتاب،فهو يمثل الثابت الحضاري في مواجهة التغيير القسري،والماء في أرض الحصار،يشير إلى استمرارية الحياة رغم محاولات التجفيف.

ورغم أن القراءة لا تحل محل العمل لوقف الظلم والمعاناة،إلا أنها تظل مصدراً روحياً وأخلاقياً يساعد المؤمنين على الحفاظ على إنسانيتهم وإيمانهم في أصعب الظروف..

على سبيل الخاتمة :

تنجح القصيدة في تحويل حدث محلي إلى ملحمة إنسانية،حيث تتحول طقوس التكريم الديني إلى بيان مقاومة ثقافية.وهي تمثل نموذجاً للشعر المنخرط في هموم أمته دون أن يفقد بعده الجمالي،حيث وظفت التقنيات الشعرية الكلاسيكية والمعاصرة لنقل رسالة تتجاوز الزمان والمكان.

ختاما أقول : هذه القصيدة وثيقة فنية-تاريخية تثبت أن المقاومة ليست بالسلاح فقط،بل بالذاكرة والهوية والإرادة التي تصنع الحياة وسط الموت.


محمد المحسن