قراءة أسلوبية نقدية-متعجلة-في قصيدة الشاعر التونسي القدير -طاهر مشي"أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ"
"أعدّي لِيَ الأرضَ كي أستريحَ
فإني أحُّبّك حتى التَعَبْ..."
(محمود درويش)
(أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ)
أقف لعاشقة خذلتْهُا المواعيدُ
وتعثّرَ قلبُهُا في طرقِ الانتظارْ…
ألمُّ شتاتَ نبضِها،
وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً
كي لا يضلَّ الحلمُ
في ليلِ الأعذارْ.
أقولُ لها:
ما ضاعَ من الوقتِ
ليس خيانةً دائماً،
بعضُ المواعيدِ
تتأخّرُ
لتأتي
أصدقَ
وأجملَ
وأشدَّ التصاقاً بالقدرْ.
طاهر مشي
تستمدّ صورة الأنثى في النصوص-العشقية-بلاغة حضورها من غيابها.فهي الغائبة-الحاضرة أو الحاضرة-الغائبة بإمتياز ( بعضُ المواعيدِ/تتأخّرُ
لتأتي/أصدقَ/وأجملَ/وأشدَّ التصاقاً بالقدرْ..)بلاغة التجلي في التخفي أو التخفي في التجلي..فهي أنثى الشعر أكثر منها أنثى الواقع،أنثى الحلم أكثر منها أنثى الحقيقة،أنثى الماء أكثر منها أنثى الطين،أنثى الوله أكثر منها أنثى الإمتلاء،أنثى الأمنية المهدورة لا الأمل المبتغى..(ألمُّ شتاتَ نبضِها،وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً/كي لا يضلَّ الحلم/في ليلِ الأعذارْ..)
يوغل الشاعر التونسي القدير طاهر مشي-في استحضار طيفها إلى المدى الذي تتداخل فيه تخوم المكان وحدود الزمان،وكل عناصر الوجود المتقابلة:الحضور والغياب..القدوم والتأخر..
وهي الثنائيات المتقابلة التي تسهم مجتمعة في تعميق جراح الشاعر/المحب،والكشف عن خباياها الهاجعة في كيانه..وهي كذلك صور التشظي وقد تحوّلت إلى-لهيب-شعري يحرق،ويتعالى النداء ولا رجع لصداه..
من الجدير-في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة،وفي تحقيق قدرتها التأثيرية،فالملامح الصوتية التي تحدّد-هذا النص النثري المشحون بالعواطف-قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)،والبنية الصوتية للشعر،كما للنثر ليست بنية تزينية،تضيف بعضا من الإيقاع،أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر،بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري،تنفر منه،وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما،وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر وكذا النثر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف،فبلأصوات يستطيع -الشاعر-أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة،واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث،وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان (2).
ظاهر الأمر أن الحب الذي يستولي على النفس كلها هو أحرى بالدوام،وحقيقة الأمر أن الحب الذي يبلغ هذا المبلغ هو أقرب الحُبَّين إلى الخطر وأدناه إلى التبدُّل؛لأن النفس الإنسانية لا تدوم طويلًا على حالة الاستغراق أو الشبع والامتلاء،وقد يُضمن الدوام للحب الذي يستريح من جانب إلى جانب ولا يكلف الطبع جهدا عظيما في موالاته بالمدد والتجديد،ولكنه لا ضمان للحب الذي يحتاج أبدا إلى مدد يكفل له كل استغراق وامتلاء،ولا يصبر على فراغ بعضه إلا نزع إلى حالة أخرى من حالات الاستغراق والامتلاء..
وإذن؟
قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون -نصوص المبدعين-بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى الإبداع،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة للطاهر مشي التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول،فكان ما كان في هذه-القراءة المتعجلة-من مقاربة بدورها عاجلة،سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها،كما سعت إلى تلمُّس معالم الرؤيا في هذا الخطاب الشعري النثري الذي تراءت معالم رؤياه غربة-عاطفية-وحنين جارف لمعشوقة ينتشر عطرها بين ضلوع الشاعر..(ألمُّ شتاتَ نبضِها/وأعلّقُ للصبرِ قنديلاً/كي لا يضلَّ الحلمُ/في ليلِ الأعذارْ..)
هذه الغربة العاطفية العاصفة-تعاني وتعاين وتحلم،ولكنّها لا تهرب،بل تواجه بغير قليل من الصمود،وبغير قليل من المعاناة تماهيا مع وجدان تعتمل في داخله الأحاسيس وتحتدم المشاعر..ويندلق الحب في ثناياها المتعرّجة غزيرا بحجم المطر..
هذه القصيدة يمكن فهمها كحالة إنسانية عامة تجسد محاولة الشاعر للإمساك بتشتته الداخلي، والبحث عن نقطة ضوء في ظلام التبريرات والمماطلات التي قد تؤدي إلى ضياع الأحلام.إنها قصيدة مقاومة نفسية،حيث تحتدم المشاعر ويتحول الألم إلى فعل إيجابي (تعليق القنديل) لحماية الحلم من الضياع في دياجير الأعذار..
إنها لوحة إبداعية رسمت بمهارة نموذجاً متميزاً للشعر العربي المعاصر الذي يجمع بين إحساس الغزل العربي التقليدي و لغة التصوف في الصبر والانتظار عبر رؤية وجودية للزمن والمصير،ومن خلال أسلوب حديث في التعبير والتصوير..
ختاما أقول : لقد نجح الشاعر ( طاهر مشي )في تقديم رؤية متفائلة رغم نقطة البداية المؤلمة،فالشخصية الشعرية لا تستسلم بل تتخذ إجراءً وقائياً،مما يجعلها قصيدة أمل ينبجس من دهاليز الإحباط..
وقد لا أبالغ إذا قلت أن القصيدة تطريز إبداعي بأنامل شاعر-يعي ما يقول-،ويبدع في تحويل التجربة العاطفية الفردية إلى تأمل فلسفي في علاقة الإنسان بالزمن،وبذلك تتجاوز الغرض العاطفي المباشر إلى أبعاد فكرية أعمق،مع الحفاظ على دفء التعبير الإنساني وصدقه.
ومذ متى لم يكن شاعرنا ( طاهر مشي) صادقا في ملامسة وجدان الأنثى وابهارها بكلمات لطاف كلما اختمر عشب الكلام لديه..؟!
محمد المحسن
الهوامش
1-اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000
2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 1990

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق