الاثنين، 15 ديسمبر 2025

الكتاب اللامتناهي: قراءة وجودية وسيميائية لرواية "الوراق "للكاتب الشاعر"مروان يوسف عواد” بقلم الباحثة والناقدة الدكتورة آمال بوحرب تونس

 الكتاب اللامتناهي: قراءة وجودية وسيميائية لرواية "الوراق "للكاتب الشاعر"مروان يوسف عواد”

‏‎

‏‎في الفلسفة الوجودية علاقة الإنسان بالبحث والتحليل   علاقة وجودية  خالصة إذ  يصبح البحث عن الذات والتحليل الداخلي ضرورة أساسية لفهم الوجود البشري، كما يؤكّد جان بول سارتر في قوله “الوجود يسبق الماهية” أي أن الإنسان لا يولد بجوهر محدّد مسبقاً، بل يصنع نفسه خطوة بخطوة من خلال اختياراته الحرّة والتأمّلات اليوميّة. هذا البحث يتحوّل إلى مواجهة مباشرة مع “الفراغ” أو اللا-وجود، حيث يصف مارتن هيدغر “الكينونة هناك” كحالة الإنسان الذي يتساءل دائماً عن معنى حياته وسط عالم يغرق في الروتين اليوميّ السطحيّ

في رواية “الوراق” لمروان يوسف عواد (2025)، يُحوّل الكتاب من أداة تسلية إلى مرآة تحليليّة تعكس علاقة الإنسان بذاكرته ونفسه، مُحوّلاً القراءة إلى رحلة لا متناهية نحو “الأصالة” أو الوعي الحقيقي، مستلهماً ألبير كامو في رفض العبث بالتمرّد، وسورن كيركغور في “القفزة” نحو الإيمان بالمعنى الذاتي .

‏‎الوراق: الرمز الأول للبحث الوجودي

‏‎يبدأ النص بتقديم الوراق كشخصيّة مركزيّة في الفصل الأوّل: “في آخر زقاقٍ لا يدخله الضوء إلا ببطاقة إذن، كان هناك دكّانٌ ضئيل لا لافتة له، لا إعلان، لا رفوف براقة”، مما يُجسّد حالة الإنسان الوجودي المعزول في عالمه الداخلي المظلم، محاصراً بالعدم واللامعنى الأساسي للحياة اليوميّة. عندما يقول المارّة “إن أردت أن تجد نفسك… فادخل على الوراق”، يصبح الدكّان دعوة صريحة لمواجهة الذات، كما في “القصديّة” السارتيريّة حيث يُدرك الإنسان حريّته من خلال النظر إلى داخل نفسه. وجهه “المطوي كشعر قديم” وعيناه “غائرتان في الماضي” تُشير إلى الذاكرة كمصدر وحيد للكينونة الحقيقيّة، بينما إجابته “في قلبك” عن سؤال “أين كتب الفلسفة؟”

 تُؤكّد أن البحث الوجودي داخلي تماماً، يتطلّب شجاعة الحرّيّة لا الاعتماد على كتب خارجيّة، ممهّداً بذلك تسلسل الفصول كرحلة تحليليّة تدريجيّة نحو الوعي .

‏‎الوراق رمز للعدمية والحرّيّة السارتيريّة

‏‎يستمرّ دور الوراق كمرشد وجوديّ عبر الفصول، حيث يُناول الزائرين كتباً يصفها بـ”لا تعرفها، هذا أنت حين كنت نفسك”، مُعلناً أن الكتاب ليس سلعة بل مرآة تعكس الذات المفقودة في أعماق “كائن ولا شيء” لسارتر، حيث يُدرك الإنسان فراغه الجوهريّ ومسؤوليّته الكاملة عن تشكيل حياته. هذا التسلسل المنطقيّ من الفصل الأوّل يُظْهِر الدكّان كمساحة آمنة لكشف “الفراغ” الداخليّ، مشابهة لـ”الغثيان” الذي يصيب روكوين في رواية سارتر عندما يفقد الثقة في العالم الماديّ السطحيّ فالوراق هنا يُعيد الإنسان إلى نقطة البداية مسؤوليّته الشخصيّة عن وجوده، مُحوّلاً كلّ زيارة إلى لحظة تحوّل وجوديّ يُعيد ترتيب الأولويّات من الخارجيّ إلى الداخليّ .

‏‎القارئة والكتاب: الكينونة ومواجهة الذات

‏‎في فصل “القارئة” تدخل امرأة برائحة “ورقٍ قُرئ كثيراً” وعيناها “تطرح السؤال قبل أن تنطقه الشفاه”، تبحث عن كتاب “يشبهني”فيُعطيها الوراق واحداً يحذّر منه بأنّه “يقرأك أكثر ممّا تقرئينه” مُحوّلاً عمليّة القراءة من استهلاك سلبيّ إلى مواجهة جذريّة تعكس هيدغر في “الكينونة والزمان” حيث يصبح الكتاب “دعوة” للكشف عن الذات المخفيّة تحت طبقات “اليوميّ” أو السلوك الجماعيّ السطحيّ اختفاؤها بعد ذلك، مع رؤية الوراق “عينيْها” في كلّ كتاب يفتحه، وهو يرمز إلى التحرّر الأصيل أو الاندماج الكامل في النص، كما في “الطاعون” لكامو حيث يُولَد المعنى الحقيقيّ من المواجهة المباشرة مع الموت والعبث، مُعْلِماً القارئ أنّ القراءة الحقيقيّة تُغيّر الوجود نفسه لا تُضيف إليه مجرّد معارف .

‏‎الرسالة والكتاب اللامتناهي بين شجاعة كيركغور وكامو

‏‎تصل الرسالة الصفراء بدون اسم أو تاريخ إلى الوراق في مساء خريفيّ: “لقد فهمت… لكنّني تأخّرت” بخطّ مهتزّ، مما يدفعه لإغلاق دكّانه ثلاثة أيّام، ثمّ تعليقه ورقة “الفهم لا يحتاج وقتاً… بل شجاعة”، يُبرِز هذا تأخّر الوعي الوجوديّ كما في “المرضى” لكامو حيث يُدرك الإنسان عبثيّته متأخّراً جداً. أمّا الكتاب اللامتناهي في الركن الأيمن، فهو رمز للوجود المفتوح دون ختام: “كلّ من جهل نفسه وسعى ليعرفها… إنّه كتاب”، مستحضراً كيركغور في “الخوف والرعب” بـ”القفزة الإيمانيّة” أمام اللامعقول، وكامو في “أسطورة سيزيف” حيث يستمرّ الصراع الدائم مع العبث كدليل على الحياة الأصيلة، مُعْلِماً أنّ النهاية وهميّة والكتابة عمليّة لا متناهية .

‏‎مقاربات فلسفية سرديّة الذاكرة كينونة مستمرّة

‏‎يربط النص مقاربات فلسفيّة سرديّة عبر فصوله حيث تتحوّل الذاكرة إلى “كينونة مستمرّة” كما عند هيدغر، فالفتى في “من يعيش في الورق” يقول “أنا لا أقرأ الكتب… أنا أعيش فيها” مُجسّداً اندماج الذات مع النص كفعل أصيل يتجاوز القراءة السطحيّة. 

الفتاة ذات الدفتر الأحمر تنبّئ “غداً سيمرض الوراق… وسيبيع آخر كتبه يوم الجمعة” مُحوّلة الكتابة إلى قدر سيزيفيّ كامويّ يُعيد إنتاج العبث، بينما الرجل في “الكتاب الكاذب” يعود بعد سنوات قائلاً “الآن فقط… فهمت العنوان”، مستحضراً سارتر في اكتشاف الحرّيّة المتأخّرة اما  الحلم بالمكتبة “بلا سقف” حيث “كلّ كتاب يحمل اسم شخص عرفه” يُكثّف كيركغور بالقفز نحو الذات الجماعيّة مُوحِداً الفصول في نسيج سرديّ يُعيد قراءة الوجود ككتاب لا يُغْلَق، حيث “أنت لم تكن تبيع كتباً… أنت كنت تُكْتِبُ من خلالهم” .

‏‎تحليل سيميائي: الإشارات والدلالات في “الوراق”

‏‎يعمل النص سيميائياً كبنية دلاليّة مترابطة، حيث يُشكّل الزقاق المظلم علامة رئيسيّة تشير إلى اللاوعي الجماعيّ والعزلة الوجوديّة “في آخر زقاقٍ لا يدخله الضوء إلا ببطاقة إذن”، مستلهماً رولان بارت في “ميتامورفوزات الكتاب” حيث تتحوّل الكلمات إلى رموز حيّة. الوراق علامة مركزيّة تشير إلى “بائع الذاكرة” كميتافور للذاكرة الثقافيّة الجماعيّة، ودكّانه بدون رفوف براقة يُقاوم ثقافة الاستهلاك السطحيّ. الكتاب اللامتناهي في “الركن الأيمن” – رمز المقدّس تقليدياً – يُنتِج دلالات لا متناهية: “صفحة تفتح أخرى”، إذ يُؤلَّف من “كلّ من جهل نفسه” كما في نموذج سوسير حيث الدليل غير مستقرّ، يُعيد إنتاج الذات مع كلّ قراءة جديدة. الرسالة الصفراء بدون اسم تُشكّل إشارة ميتافيزيقيّة للتأخّر الوجوديّ، بينما الفتاة ذات الدفتر الأحمر تُحَقِّق تنبؤاً سرديّاً: “غداً سيمرض الوراق”، يُحوّل الكتابة إلى قدر محتوم، مُعَزِّزاً ثنائيّة الحبر/الذاكرة كمحور يربط الفصول، ليصبح الوراق في الختام “المكتبة” محافظاً على “عطر الحبر” كباقٍ أبديّ للبحث الإنسانيّ .

‏‎الوراق مرآة وجوديّة أبديّة

‏‎تُكثّف رواية “الوراق” الصراع الوجوديّ في رحلة تحليليّة سيميائيّة عميقة، حيث يتحوّل الكتاب من سلعة مادّيّة إلى مرآة حيّة للذات، مُدْعِياً القارئ إلى شجاعة الوعي أمام العبث اليوميّ من خلال تسلسل فصولها الدقيق  لتُؤَكّد أنّ البحث عن النفس  عملية تستمرّ ككتاب لا متناه   تاركة “عطر الحبر” في الزقاق كشاهد حيّ على إمكانيّة الأصالة والمعنى في عالم يبدو مليئاً باللامعنى .

الباحثة والناقدة 

الدكتورة آمال بوحرب 

تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق