الاثنين، 15 ديسمبر 2025

قراءة نقدية: "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي." القصيدة: " عودي كما أنتِ" الشاعر :طاهر مشي (تونس) الناقدة :جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية: "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي."

القصيدة: " عودي كما أنتِ"

الشاعر :طاهر مشي (تونس)

الناقدة :جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية : "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي".

1- عتبة العنوان "عودي كمل انت"

استخدم الشاعر بالعنوان "عودي كما أنتِ" أسلوبا انزياحيا تركيبيا قائما على الأمر الدال على الالتماس المدعوم بعبارة "كما أنتِ".

ان الشاعر يلتمس من حبيبته العودة دون شروط ..إنه سيقبلُها "كما هي".

ولعل الحبيب هنا يتقاطع مع حبيبة نزار قباني وهي تلتمس من حبيبها العودة اليها كما هو دون شروط فتقول:

ارجع كما أنتَ صحوا كنت أم مطرا// فما حياتي أنا إن لم تكن فيها

وفي هذا الاطار لئن كانت حبيبة نزار قباني تلتمس منه العودة كما هو لأن حياتها لا طعم لها بدونه فلماذا يلتمس الشاعر طاهر مشي عودة حبيبته اليه كما هي دون شرط؟

2- التحليل :قراءة نقدية "القصيدة والتناص الداخلي الايقاعي":

استهل الشاعر قصيدته باستخدام تناص داخلي مع العنوان "عودي كما أنتِ" وهو يضفي على الاستهلال ايقاعا يردده الشاعر على مسمعه قناعة منه بضرورة عودة حبيبته كما هي .

والتناص  الداخلي  حسب النقاد هو " تداخل النصوص ضمن النص الواحد(مفردات /عبارات/ افكار..) ويرتبط  بالايقاع الداخلي الذي يمثل البنية الموسيقية للنص من خلال ترتيب الأصوات, التكرار, والأنماط الصوتية التي تخلق لحْنا داخليا يتناسب مع التجربة الشعرية, ويُعدّ التناص الداخلي والايقاع الداخلي عنصرين أساسيين في إثراء النص وتعميق معانيه ودلالاته الجمالية عبر خلق توازيات و تناغمات بين الأجزاء المختلفة".

ان الشاعر يلتمس عودة الحبيبة دون شرط لأن غيابها بعثر حياته وبعثر أوراقه وشتت أنفاسه.

ان الشاعر يرسم مشهدا في انتظار الحبيبة وهو بين المتوقع وبين الواقع

لئن كان المشهد يشي بجماله الطبيعي في انتظار الحبيبة فإن غيابها

 قد بعثر جميع الحسابات فيقول:

عودي كما أنتِ

 تبعثرت جميع الحسابات

دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر كما لو أنه يغرق في حنينٍ أزلي، ورست جميع السفن على المرافئ، إلا أنتِ، أيتها النفس التائهة... ما زلتُ هائمةً على وجه الورق،

أوراقي مبعثرةٌ، وتئنُّ أنفاسي من فرط الشّتات

استخدم الشاعر التناص  بين "تبعثرت ومبعثرة " وله ايقاع  معجمي يشي بفرط معاناته التي تحولت فيها أنفاسه الى أنين (تئنّ أنفاسي من فرط الشتات).

ان هذه المعاناة تجعله يعود من جديد الى اعادة نفس الترديدة "عودي كما أنتِ" فتصبح الترديدة لازمة يلزم بها نفسه تأكيدا على رغبته الملحّة في عودتها كما هي.

انه يلتمس منها العودة بملامحها المألوفة وصوتها الذي يطمئن اليه.

ان في عودتها وجوده (دعيني ألملم ما تبقّى منّي) وراحته ( أعياني الترحال) ونجاحه(باتت حقابي تفيض بالخيبة).

وأكثر من ذلك فقد جرّب غيرها بحثا عنها لكنه لم يجد من يُشبهها(وبقايا وجوه مرت علي دون أن تشبهك) .

والشاعرهنا يتقاطع وقول نزار قباني:

وبين حبّ وحبّ أحبك أنتِ

وبين واحدة ودّعتني ..وواحدة سوف تأتي..

أفتش عنك هنا.. وهناك..

كأن الزمان الوحيد زمانك أنتِ

ان شاعرنا في غياب الحبيبة انقلبت لديه الموازين فيقول:

في غيابكِ، ضاقَ قلبي من اتساع الوقت، وصارت وطأة الأيام كوقع الخيول.

كَم خَذَلَني الصباحُ حين أشرَقَ دونَ ظلّكِ، تَذَكَّرَ أنّكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه

لا أَقوَى على ترتيب دَواتي، ولا على جَزِّ المسافاتِ  المُضَمَّخةِ  بالوَجَع. الأماكن كلها تشبهكِ... إلا أنكِ لستِ فيه

بغيابها تحول اتساع  الوقت ضيقا بقلبه وازدادت وطأة الأيام وتحول نور الصباح الى ظلام والقوة الى ضعف والاماكن فقدت طعمها الذي ألفه بحضورها  لانها الآن غائبة  .

ولعل قولة أحدهم عن الغياب تدعم وجعه:" غياب من نحب تماما كغياب اللون عن الصورة فالغياب لا يفقدنا الحياة بل يفقدنا طعم الحياة".

 ويعود الشاعر الى تلك الترديدة "عودي كما أنتِ" التي تخفي مزيجا من المشاعر, وهنا قد يتدخل القارئ بفضوله المعتاد متسائلا عن مشاعر الحبيب وهو يردّد ويكرّر هذه اللازمة الصوتية الايقاعية على مسمعه:

- هل الحبيب يسرّ ندما عما اقترفه مع الحبيبة جعلها تغيب عنه؟

- هل هو شعور بالذنب لأنه أساء إليها فجعلها تغيب عنه؟

- هل أن إلحاح الحبيب من خلال تكرار هذه اللازمة هو دعوة الى الحب اللامشروط  كما نظّر له ابن حزم في طوق الحمامة؟

ان القارئ  بهكذا أسئلة يكشف عن المسكوت عنه في القصيدة.

ولعل القارئ يدعم رأيه ويستحضر  رأي دوستويفسكي  في قسوة الغياب حين يقول: " ستبقى يتيما في غياب من تحب حتى لو عانقك العالم  بأسره.. الحب هو قرار داخلي يختار شخصا واحدا رغم كل البدائل".

وفي هذا السياق ما رأي شاعرنا طاهر مشي؟؟؟

يقول طاهر مشي:

 عودي، كما أنتِ

قبل أن يألفني الغياب، يلتهم ذاكرتي شبح النسيان

يعود الشاعر الى التناص الايقاعي  بتلك اللازمة التي تكررت بالقصيدة خمس مرات فطبعت القصيدة بايقاع الحز ن والوجع والاستسلام.

انه ايقاع يشبه الرثاء , وكأني به يرثي ضعفه واستسلامه لعودتها اليه كما هي دون شرط او قيد وفي كل الظروف وانهزاميته أمام معاناته بسبب غيابها.

انه يلتمس منها العودة كما هي خوفا من أن يصبح غيابها مألوفا عنده ويصبح حبه ضحية النسيان.

وهنا يثير الشاعر قضية الغياب والنسيان والغياب والحضور:

هل الغياب سبب في النسيان؟

 وفي هذا الاطار يقول بعض المفكرين:

-" كنت أحسب أن النسيان سهل حتى علمت أن الذاكرة لا ترحم".

- "ليتني أملك القدرة على محو ما مضى لكنه محفور في الروح"

- وداعا فقد حاولت أن أنساك لكن الذكرى أبقتني أسيرا"

ويرى بعض الفلاسفة في النسيان:

"يهددنا النسيان, ينقض ما نفعل, ويلاحق ما نكون وبموجب هذا بالتأكيد نحن نفكر فيه غالبا بصيغة سلبية بوصفه من جهة اخرى" فقدانا ونقصانا ومحوا والتباسا ونكرانا واضطرابا واهمالا وافتقارا وهفوة وتقصيرا.. ان النسيان من جهة اخرى يواسينا ويهيّئنا للمستقبل ويعيدنا الى الجديد..

النسيان هدام يكرهنا على يقظة مضنية.. واذا كانت الذاكرة  تسمح لنا بالتعرف على العالم فالنسيان  يعطينا قفزة الى عالم جديد وقدرة على الولادة من جديد"(1)

و في المقابل يقول فيودور ديستويفسكي:"لا يبقى في الذاكرة سوى ما نريد نسيانه"(2).

وفي غياب الحبيبة هل يمكن ان يكون الغياب حضورا موازيا فالغياب هو نوع آخر من الحضور..انه حضور يترك بقاياه في المكان والقلب لا يملؤه أحد.

وبالتالي فان الذاكرة تقاوم النسيان.

وخلاصة القول فان الشاعر طاهر مشي وباستخدام التناص الداخلي الايقاعي المثير لوجدان القارئ فهو يدعو الى الحب اللامشروط  لتعود الحبيبة كما هي تجنبا لمعاناة الغياب وخوفا من النسيان وهو بذلك يطرح قضية الحب اللامشروط  كقضية وجود مما جعل القصيدة ترتقي الى العالمية لتعانق نزار قباني والاديب المفكر الروسي  دوستويفسكي.

سلم قلم الشاعر طاهر مشي  هذا القلم المتمرد على المألوف.

بتاريخ 15/ 12/ 2025

المراجع:

(1) فلسفة النسيان: الوجود والعلاقة مع الماضي-جان لومبار- ترجمة: عبد الوهاب البراهمي.

(2) النسيان في فلسفة دوستويفسكي

 القصيدة: "عودي كما أنتِ"

ااااااااااااااااا ااااااااااا

عودي كما أنتِ

 تبعثرت جميع الحسابات

دَنَت السماء حتى خِلتُها ستفصح، وازدادَت زرقةُ البحر كما لو أنه يغرق في حنينٍ أزلي، ورست جميع السفن على المرافئ، إلا أنتِ، أيتها النفس التائهة... ما زلتُ هائمةً على وجه الورق،

أوراقي مبعثرةٌ، وتئنُّ أنفاسي من فرط الشّتات

عودي كما أنتِ،

بملامحكِ التي ألفتها، بصوتكِ الذي يشبه طمأنينة المطر

عودي، ودعيني ألملم ما تبقّى منِّي، فقد أَعْيانِي الترحال، وباتت حقائبي تفيضُ    بالخَيبة، وبقايا وجوهٍ مرّت عليَّ دون أن تُشبهكِ

في غيابكِ، ضاقَ قلبي من اتساع الوقت، وصارت وطأة الأيام كوقع الخيول. كَم خَذَلَني الصباحُ حين أشرَقَ دونَ ظلّكِ، تَذَكَّرَ أنّكِ لستِ هنا، ففَقدَ شُعاعَه.

لا أَقوَى على ترتيب دَواتي، ولا على جَزِّ المسافاتِ المُضَمَّخةِ بالوَجَع. الأماكن كلها تشبهكِ... إلا أنكِ لستِ فيها.

عودي، كما أنتِ

قبل أن يألفني الغياب، يلتهم ذاكرتي شبح النسيان

ااااااااااااااااا ااااااااااا

طاهر مشي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق