قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية مسعودة القاسمي: “عابرون” بعنوان (صوت الضمير)
الناقدة د.آمال بوحرب
يُمثل الأدب النسوي في تونس نموذجاً فريداً للتفاعل بين التحرر الاجتماعي والإبداع الأدبي، حيث برزت مساهمة المرأة التونسية كما ونوع تفوق الرجال تقريبا في شتى الأجناس منذ الاستقلال، مدعومةً بإصلاحات مجلة الأحوال الشخصية عام 1956 التي منحت حقوقاً ثورية كمنع تعدد الزوجات والطلاق القضائي. فبدأت الكتابات النسائية البارزة بعد عقد من الاستقلال بمجموعات شعرية كـ”حنين” لزبيدة بشير (1968) و”صومعة تحترق” لليلى مامي، ثم ازدهرت في السبعينيات مع شاعرات كسميرة الكسراوي وفضيلة الشابي اللواتي انخرطن في جماعات الشعر الحديث. ولقد شهدت العشرية الأخيرة طفرة نوعية تميزت بالجرأة الإبداعية والتنوع الجمالي، حيث طغى الإنتاج النسوي على المشهد الأدبي بمواضيع الجسد والذات والوجود، متجاوزاً المصطلح النسوي نحو هوية إنسانية عميقة تجمع بين الرومانطيقية والحداثة، كما في تجارب "نافلة ذهب" في إصدارها هارون يأخذ المنعطف وحياة الرايس في (“ليت هنداً”، “بغداد وقد انتصف الليل فيها”)وسلمى السرايري ومنية جلال وروضة بوسليمي والأسماء عديدة .
في هذا السياق تنبثق قراءتنا النقدية لقصيدة “عابرون” من سياق الأدب النسوي التونسي الذي يحول التجربة الأنثوية إلى خطاب إبداعي يتجاوز الذاتي نحو الكوني، مستلهماً التراث الصوفي والحداثة في آن واحد وتكشف مسعودة القاسمي، ضمن هذا التيار، عن صوت ضمير يمزج الرمزية الوجودية بالبوح النفسي، مما يجعل النص مفتاحاً لاستكشاف مغاليق اللغة الشعرية السهلة الممتنعة.
الشعراء شموع الأدب والشمعة رمز التضحية فهي تحترق من أجل إنارة طريق الآخرين والشبه بين الاثنين واضح لايحتاج تفسير. ” إذا الشّعر ُ لا يُولد ُ آنيا ً كأوراق الشّجر،فمن الأفضل أن لا يولد أبدا.. (جون كيتس)
هكذا تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيد
للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار،وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”عابرون”. حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص،إذ يمثل علاقة دالة تكثّف البنية الكلية للنص،تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور. ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة،فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.
تعميق الإطار النظري
تزداد قراءة قصيدة “عابرون” عمقاً عند ربطها بتقليد الشعر التونسي الحديث، الذي يجمع بين الرومانطيقية والحداثة كما في تجارب أبي القاسم الشابي ومنور صمادح، حيث تتجاوز الشاعرة الإحياء التقليدي لتؤسس صوتاً نسوياً يمزج الاستبطان النفسي بالرمزية الوجودية. العنوان “عابرون” يعمل كدال ميتافيزيقي يفتح مغاليق النص، مشابهاً لكيفية استخدام الشعراء التونسيين للعنوان كمفتاح إجرائي يتجاوز اللغة المعجمية نحو الدلالة الشعرية المتعددة الطبقات، مما يعزز التصاعد الدرامي من “أيام السفر القصير” إلى “خيط العبور” كرمز للانتقال الروحي.
تحليل البنية الشعرية
تنقسم القصيدة إلى مقاطع مترابطة تعكس حركة الوعي: بداية سردية في “وأيام السفر/ القصير/ لا شيء جديد” تتطور إلى رمزية تجريدية في “تلك الحروف المحلِّقة/ حول ثغر فنجاني”، ثم ذروة استفهامية فلسفية “كيف يتدثر/ رمل مسجى/ تحت لهيب شمس حارقة؟”، وتنتهي بتأكيد وجودي “إجابة بيضاء/ تمزق الطين”. هذا التسلسل يعتمد على إيقاع السهل الممتنع، حيث تتحول اللغة من المباشر إلى الإيحائي، مشكِّلة حواراً داخلياً يشبه مونولوج الضمير الهيجلي، الذي ينفصل فيه الوعي عن الذات ليشهد على تضاده. الرموز كـ”واحة صبر” و”النوارس المهاجرة” تدمج الطبيعة بالنفس، مستلهمة تراثاً صوفياً تونسياً يتجاوز الظاهر إلى الباطن، مما يجعل النص لوحة سريالية تعبر عن الانتظار كـ”انتصار على انتظار”.
الدلالات النفسية والوجودية
يبرز “صوت الضمير” كمحور نفسي يعكس صراع الذات مع العبور، حيث “تصدأ كل المعادن/ تحت الطين/ إلا الثمين” ترمز إلى نقاء الجوهر وسط الفناء، مشابهاً لفلسفة كيركيغارد في “القلق” أو سارتر في “الغثيان”، لكن بلمسة نسوية تونسية تؤكد على الصمود الأنثوي. الاستعارات كـ”رائحة انتظار” و”مدّ اليقين” تخلق دفقاً إحساسياً يمزج الحواس، مما يعمق البوح العاطفي ويحول القصيدة إلى مرآة للنفس الإنسانية العابرة، متجاوزة السياق الشخصي نحو كوني. هذا العمق يتجلى في قدرة الشاعرة على “استبطان اللغة”، حيث يصبح اللفظ لبنة بنائية تكشف أسرارها عبر الاجتماع، كما في نظرية باكتين للحوارية.
الإسهام في الشعرية التونسية
ما أريد أن أقول؟
للشاعرة التونسية المتميزة مسعودة القاسمي قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ماتريده وكأنما قد ألينت لها العربية.. واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة .. وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع،لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم … ولتكون القراءة شاملة وكاملة لابد من استعراض أعمدة ومقاطع القصيدة كما دونتها الشاعرة. اعتمدت الشاعرة-مسعودة القاسمي-أسلوب بسيط ومتميز. والشعر ليس في تعقيد اللغة. بل أجمل وأفضل الالوان الشعرية تلك المكتوبة بلغة يفهمها الجميع. ورغم ان الشعر لايستعمل اللغة المباشرة فتأمل الكلمات ولألفاظ الواردة في القصيدة تظهر الرمزية واضحة بين مقاطعها ومعبرة بشكل أفصح عن مواقف ظاهرة. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الشاعر فنان يرسم لوحة تشكيلية بالكلمات لن يتذوق جمالها إلا عاشق الجمال. والناقد مرآة من زجاج مجهري يظهر ذلك الجمال لضعاف البصر في شاشة الشعر. والقصيدة كهف من الكنوز،والنقد الادبي مفتاح ابوابه. وبواسطته يمكن للقارئ الولوج إلى مخازن القصيدة والاغتراف من معادنها النفيسة.
تُعمق القصيدة مكانة مسعودة القاسمي ضمن مشهد شعري تونسي غني، يتجاوز الشابي ليشمل تجارب الطليعة والكونية، حيث تمزج بين السرد التعبيري والتجريد لتكشف عن “ضمير الفرد” كما عند أودن، مع لمسة تأملية تشيللية ترى الشعر “سجلاً لأروع الدقائق”. اقتباس كيتس يعزز فكرة اللحظوية الصوفية، مما يجعل النص تناصاً حياً يتجدد. على سبيل الخاتمة: القصيدة-في تقديري-هي عبارة عن حلم عميق لا شعوري،يجب قراءة هذا الحلم بما يتناسب مع كمية الجمال المنبعث من داخله،وتقديمه بصورة تكشف للمتلقي جميع مغاليقه،وتشير الى مواطن الجمال فيه،والإمساك بيد المتلقي وأخذه الى ضفاف هذا الحلم. لذا على الناقد ان يقوم بتفكيك وإعادة تركيب وقراءة الأفكار فيه حتى يصل الى معرفة الغايات التي جعلت من الشاعر يصرّح بمكنونات ذاته،والغوص في اعماق هذه الذات. وإذن؟ تناورت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية مسعودة القاسمي لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري،وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة،فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق. هنا حيث تتسع العبارة في أعلى معانيها بأتساع الرؤيا كتأويل وكنسق أبداعي،وهذا يجعلنا نتساءل هل القصيدة هي ذات الفكرة على وجه اليقين أم هي تناص لها،أم هي افتراضات لا متناهية في امتداداتها متجاوزة الفكرة ذاتها،الشاعرة وحدها التي ستجيبنا عن هذا التساؤل وستجد متعة كبيرة،وهي تحاول أن تشعرنا بنقاء روحها عبر تجلياتها،فالشعر كما يقول أودن هو مستودع لضمير الفرد،و الشاعرة-صباح- تجعلنا في أوج لحظتها الإبداعية نستوعب أفكارها و هي تتدفق بجمل قصيرة تفيض عن أصلها،تكفينا لمعرفة حركة الزمن داخل القصيدة ومونولوجها الداخلي فهي تحيي صيرورتها من خلال ما ابتكرته مخيلتها الصورية،و هي لا تسأل بل تحاول أن تتوقع الإجابة لذا تحول الزمن الى فكرة تشبه كلماتها تماما.. من هنا،نجد القصيدة لديها في مبتدئها انتشاء في بعدها الميتافيزيقي الذي يحاكي صفاءها في اصطفاء اللحظة سواء بصوفيتها أو سرياليتها ساعة الكتابة،و الكلمات بطاقتها الإيحائية هي استعادة لتلك اللحظة لإنجاز المعنى.. يقول الشاعر جون كيتس ( إذا الشّعر ُ لا يُولد ُ آنيا ً كأوراق الشّجر،فمن الأفضل أن لا يولد أبدا ً). والناظر إلى شاعرية الشاعرة مسعودة القاسمي سيجد أن الذائقة الشعرية لديها تعبر عن بعدٍ جمالي ومعرفي يكشف عن ميولاتها الإبداعية الى الابتكار والتجديد،و سيجد كلماتها مشرقة وعميقة وقوية تحاكي زمانها بطريقة باهرة،مؤكدة وجودها لأقصى اتجاهها وهي تتدفق نحو أعماق الروح متحررة تماماً من الوهم والمثالية اللامعة: إن ما يعمّق التجربة الشعرية هو المزج بين الكتابة الإبداعية شعراً وروايةً من جهة والتأمل الشعري من جهة أخرى “الشعر هو سجل لأروع الدقائق وأسعدها في أسعد العقول وأروعها ” (شيللي) وما أجمل هذا التعبير إذا كانت الرمزية تغلب عليه فتتحول الحالته النفسية الى صور شعرية يسقط فيها نفسه خلف رموز الطبيعة والوجود ذاته. وأخيرا أتمنى مزيدًا من العطاء والإبداع والتألق المتواصل للشاعرة التونسية مسعودة القاسمي ولها مني باقة من التحايا..مفعَمَة بعطر الإبداع.
نص القصيدة
وأيام السفر
القصير
لاشيء جديد
قد تتغير تصفيفة
النوايا
تلك الحروف المحلِّقة
حول ثغر فنجاني
هاهي تتوسد أشرعة
صخب السكون
واحة صبر هي
ورائحة إنتظار
إنتصار على إنتظار
ماؤها
بين كف السطور
يعرج بين طياتها
أوجاع
تتبعها آمال العبور
كل الارقام والصور
تمتد مدّ اليقين
تشهد تلون أنفاسها
وهي تراود فكرة
ثم اقوال
فافعال
جاست بها المعاني
تصدأ كل المعادن
تحت الطين
الا الثمين
الثمين
كيف يتدثر
رمل مسجى
تحت لهيب شمس
حارقة..؟
كيف تتدفأ النوارس
المهاجرة
في عمق البحار
في ليلة مثلجة… ؟
الجمر صار مناسبا
والوشم ذاكرة
لسع الطين الرقيق
وخيط العبور
إجابة بيضاء
تمزق الطين
أو تنحته
حكاية للعابرين

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق