الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

الراقصة تحت مجهر نقد الأستاذ الفذ محمّد بسام العمري بقلم الكاتبة هادية آمنة //تونس

 الراقصة تحت مجهر نقد الأستاذ الفذ محمّد بسام العمري

الراقصة برقصتها المجنونة، تلك التي تخترق الأعراف وتتمرد على القيود، لم تكن مجرد شخصية في النص، بل صارت همزة وصل حيوية بين الكاتب والناقد. عبر حركاتها المكثفة، وجسدها الذي يروي الحلم والجنون، تكشف الأسرار المخبوئة

هادية آمنة

القراءة النقدية

يتكوّن هذا النص من فسيفساءٍ أدبية شديدة الكثافة، تتداخل فيها الأساطير، والرموز، والحركة الراقصة، والنار، والعشق، والموت… وكأن اللغة نفسها تتحوّل إلى جسدٍ يرقص في ليلٍ طويل. إنّه نصّ يُكتب كما تُعزف الأجساد، لا كما تُسطر الكلمات. ولأجل ذلك، يتيح لنا تحليلًا أدبيًّا منفتحًا على مدارس متعدّدة، وعلى تناصّات عالمية، تُعيد قراءة الراقصة بوصفها كائنًا وجوديًّا، ثائرًا، مأساويًّا، متمرّدًا على قَدَره، ومستسلمًا له في اللحظة ذاتها.

لم تولد هذه الراقصة في الواقعية، بل في العتمة التي خلقتها الرمزية حين جعلت من الزنبقة، والنار، والأفعى، والثلج، والحنّاء… علاماتٍ لا تشير إلى ذاتها، بل إلى ما وراءها. هي ابنة بودلير حين قال إنّ الطبيعة “غابة من الرموز”، وابنة رامبو حين ألقى بنفسه في “الخلود عبر فوضى الحواس”. وكلّ شيءٍ في النص يشهد على ذلك: الزنبقة التي لا تزهر إلا في ضوء القمر، هي ذاكرةٌ للحبّ قبل أن يكون الحب، وهي مرآة الروح حين تبحث عن خلاصٍ خارج الجسد. تتخذ من “حافة النهر” طريقًا، كما لو أنّ الماء آخر ما تبقّى من الوعي قبل أن يغرق في جنون النار. إنها شبيهة بـ أوفيليا في هاملت، تمشي نحو الماء لتغسل عقلها المكدود، لكنها هنا تمشي نحو اللهيب لتغسل روحها من البرودة.

وليس عبثًا أن تخاطَب الراقصة بجملةٍ تهددها وتبشّرها في آن: «إذا لم تخافي من الضياع، فخافي من السباع خلف عتمة الأكمة.» إنّ الخوف هنا ليس نقيض الشجاعة، بل بوابتها السرّية؛ وهذا ما يجعل النص متصلًا بـ الوجودية، كما عند سارتر وكامو, حيث المعنى يولد فقط حين تواجه الشخصية عريها أمام العبث. فالرقص هنا ليس حركة، بل احتجاج على الصمت الكونيّ… لقد رقصت كما يفكّر الفلاسفة: لا لتُعرف، بل لتتطهّر.

ولأن النص منح جسدها وظيفة النار، فقد انفتح أيضًا على السريالية: فهي لا تلتزم قوانين الطبيعة، بل قوانين الحلم؛ الأحراش تتأمّل جسدها، والثلوج تستجيب للنداء، والكروم تسكب بين شفتيها خمرًا بطهارة الماء… هذا الحوار بين الطبيعة والراقصة يحيلنا إلى لوركا حين جعل القمر كائنًا حسيًّا في مسرحيته عرس الدم، وإلى كافكا حين اعتبر أنّ العالم يمكن أن ينقلب إلى حشرة بمجرد يقظةٍ خاطئة. هكذا تتورّط الراقصة في الوجود… لا تعيشه، بل تعيش ضدّه.

وإذا كانت الأفعى تتقدّم في المشهد الأخير ككاهنةٍ مهووسة تبحث عن “السرّ”، فإنّها تكشف عمق المدرسة الديونيزية التي تحدّث عنها نيتشه: إنّ الخلق لا يبدأ إلا من لحظة الانفجار، والانفجار لا يولد إلا من العشق، والعشق لا يتجلّى إلا حين يرقص الجسدُ عاريًا في قلب النار. الأفعى لا تريد قتلها فقط، بل تريد امتلاك لغزها… وكأن الراقصة ليست امرأة، بل كتاب مغلق يبحث الكون عن طريقةٍ لقراءته.

تتجلّى هنا أيضًا ظلال أنتيغون من التراجيديا الإغريقية: تلك التي فضّلت الموت على أن تتنازل عن حريّة الروح. وهنا أيضًا، تبقى الراقصة وحدها في الوهاد القاحلة… كما لو أن العالم تخلّى عنها، ليبقى احتمال الخلاص مرهونًا بصوتٍ قادم من “العلاء”. فتسير رغم العرج، وتغلق الماء البارد، وتلتف بالبرنس الورديّ… وكأنها عادت إلى الجسد بعد أن جرّبت الموت. هذه النهاية لا تُنهي النص، بل تعيد بدءه… مثل دورة الحياة في الأساطير الشرقية وطقوس التجدد في جلجامش وعشتار.

إن قوة هذا النص أنّه لا يكتفي بأن يكون سردًا، بل يتحوّل إلى طقسٍ وجوديّ يضع الأنثى في مركز الأسطورة والحدس. هنا تتداخل فلسفة الجسد مع فلسفة الروح، وتتحوّل اللغة إلى مرآة تحترق كي تُضيء.

إنه ليس قصّة راقصةٍ فقط، بل شهادةٌ على أن الخلاص لا يجيء عبر النجاة… بل عبر الاحتراق الكامل.

فالرقص في جوهره ليس فنًّا حركيًّا…

بل اعترافٌ صارخ بأن الإنسان قابلٌ للاشتعال.

وأن اللغة يمكن أن تصبح لهيبًا حين تبلغ حدودها القصوى.

وهنا تحديدًا،

تبدأ الأدب…

وتبدأ الحياة.

محمد بسام العمري

الراقصة

زنابقُ بيضاءُ لا تزدهرُ إلّا في ضوءِ القمر.

تذوي إذا مستها الشمس.

هي التي كانت تُحبّها وتعرفُ أماكنَ وجودِها، تسيرُ إليها حافيةً عند اكتمال البدر.

تُدميها الأحراشُ وإِبَرُ الصنوبر.

تُجِدُّ في الذهاب إلى حافة النهر، مُتناسيةً الأصواتَ التي تصيحُ فيها، تمنعها، تُهدّدها، تُثنيها.

«إذا لم تخافي من الضياع، فخافي من السباعِ المُترصِّدة خلف عتمة الأكمة.»

روحٌ مُتنطّعةٌ كروحها لا تُدركُ معنى الخوف والخطر.

كان أمنُها الغريرُ يَكبُرُ فيها مع حفيفِ أشجارِ الصفصاف، وهي تضمُّ إلى صدرها أزهارَ الزنابقِ القصيرةِ العُمر.

حِنكتُها هزيلةٌ، وميراثُ الطبيعةِ المتوحّشِ فيها كبير.

أيقنتْ أنّها في حاجةٍ إلى انعتاقٍ سحريٍّ لروحها،

في حاجةٍ إلى نغمٍ حالمٍ صاخبٍ كنفسها المتقلّبة،

في حاجةٍ إلى طفرةٍ هائلةٍ من العشق.

«طريقُكِ مُلتويةٌ كالثعابين، وكلّ جنونٍ منكِ هو لدغة.

تتباعد الأزمنةُ والأمكنةُ، وتتوحّدُ اللدغات.»

في جنونٍ تتقافزُ ألسنةُ النار أمامها، فتنزعُ عنها كلَّ أثوابِ الغواية… تتعرّى تمامًا.

قد تُستثارُ النارُ وتغرسُ مخالبَها فيكِ.

تتطلّعُ الأحراشُ إلى جسدِ الراقصةِ المتوهّجِ وهو يغوصُ في اللَّهبِ المُستعر.

انبعثتْ موسيقى من الكائناتِ المحيطةِ بها المُحدِّقةِ فيها.

خفَّتِ الرياحُ من عويلها لتتأمّلَ وجهَ الراقصةِ وهي تتطلّع بعيدًا خلف ستائر الزمن.

«أنتِ تُنشدين اللعنات، تتعرّين، ترقصين وسط النار على إيقاع الجنون.»

ماذا تُفيد النصيحةُ مع من تلبّسته شياطينُ العشق؟

لقد احتلّ التمرّد كلَّ ذرّةٍ فيها ليهبَها الحريةَ والانطلاق.

ملأتِ الوهادَ والسهولَ داخلها وخارجها بالقتلى،

فكانت تضحكُ وتبكي بلا سبب.

يا بؤسها… هي عاشقةٌ ولا تدري من عشيقُها.

طاردتها الأصواتُ، وأهاجتها النغمات.

توسّلتِ الزنابقُ من أجلها كثيرًا كي لا تُغافلها النارُ وتلتهمها بين أحشائها.

توسّلت إلى القُوى الخارقة في مُخيّلة البشر أن تجعل النارَ بردًا وسلامًا على راقصةِ القمر.

توسّلت إلى الشموس، إلى الأقمار، إلى الوهاد، والأدغال، إلى الجبال، والأنهار أن تنتشلَها من بوتقةِ أتونِ الجحيم.

توسّلت الزنابقُ وجدّت في التوسّل، فهي قصيرةُ العمر، وحبيبتُها داميةُ القدمين على نصال الشوك تسيرُ.

تناهى للثلوجِ البيضاءِ توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فكان لراقصةِ القمر ساترًا باردَ الهواء.

تناهى لطحالبِ البحارِ السمراء توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فعجنت لجروحِ الأقدام الحنّاء.

تناهى للكرومِ توسُّلُ الزنبقةِ والنداء،

فسكبتْ بين شفتيها خمرًا لها طُهرُ الماء.

لم تَكفَّ الزنبقةُ عن لمسِ الراقصة، تتحسّسُها، فعمرُها قصيرٌ وهي تخشى الفناء.

أينعتِ الزنبقةُ عندما لامست العُريَّ الراقصَ، فامتلأت بعصارةِ الخلدِ وتجدُّدِ التكوين.

تنسحب أفعى بين الأحراش، وتُطلق صوتَها فحيحًا:

«الخلد… الخلد… ما أشدَّ ضعفَ ذاكرةِ الزنابق، مع عدم إدراكِهم لدورةِ الموتِ والحياة.»

لم تُخلق راقصةُ القمر على شاكلة العامة.

هُم خائفون إلى درجةِ الخنوع،

لا يسألون، لا يفكّرون.

فما سرُّها؟

هرست الأفعى الأعشابَ، ومزّقت الأغصان، واقتحمت الدَّغل، ومرّغت وجهَها في الرماد تحت أقدام الراقصة.

وقالت: «لقد بحثتُ عنكِ طويلًا، وقتلتُ من أجلكِ كثيرًا، حتى أظفرَ بسرّك.»

انطفأت النارُ وانسحبتِ الزنابق.

واستسلمت الراقصةُ للمساتِ اللزجةِ للأفعى وهي تنزلق على جسدها المرتعش.

كشّرت على أنيابها وهمّتْ بلدغها، ثم قالت:

«خرقتِ الأعرافَ والأوامر… تجرّأتِ على الرقص عاريةً وسط اللهيب، وما احترقتِ…

ولّدتِ أعمارًا لقصيرةِ العمرِ الزنبقةِ… فما سرّك؟»

«إنّه العشق… العشقُ الكبيرُ الذي مسَّ قلبي…»

«سرّكِ منقوص… مشبوه…»

ثمّ صاحت مقهقهة:

«العشق؟ العشق؟

انصرفي… ابتعدي… انفجري!»

لم تتوقع الراقصةُ الخلاص، فأخذت تعدو بلا وجهةٍ تعرفُها.

قالت الغربانُ في أعالي الأشجار،

والضفادعُ على ضفاف الأنهار:

«الأفعى لا تتركُ حسنًا سالمًا.»

كانت الزنبقةُ تستمعُ متألّمةً إلى كلماتهم:

«آه لو تستطيع راقصتي التغلّب على كلّ هذا الثورانِ البريّ داخلها، وتستنكفُ بالخضوع كغيرها.»

بكت الزنابقُ، وانتحبت الأشجار.

ضاعتِ الراقصةُ في العتمة.

رحل الجميع، وبقيت وحيدةً في الوهادِ القاحلة.

حينها أدركت أنّها تحتاجُه رغم التباس طقوسِ الولاء.

كانت تراه من حيث يراها.

«قال من عليائه: اتبعيني.»

فسارت مضطربةَ القدمِ في الحُلْكَة، في المنحدر الوعر، تخشى الزَّلَق وتخاف الوحشة.

صرخت وصاحت، وسقطت على أديم الأرض ممسكةً بكاحلها، وقد بدأت البرودةُ والزرقةُ تغزو جسدها.

انتفضت، ثم مدّت يدَها إلى مكبَحِ الدُّوشِ البارد، تُغلقُ زخّاته.

التفّت ببرنسها الورديّ، واستلقت تُنشدُ الاسترخاء بعد رقصتها

الصباحية اليومية وهي عارية

هادية آمنة //تونس

Hedia Emna



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق