طاهر مشي صوت شعري يعبر كينونة الجرح ويؤسس الجماليات
يستمد الأدب التونسي وهجه من تنوع الأصوات وتعدد المسارات التي تشكل نسيجه الثقافي، فهو ينطلق من المدارس الكلاسيكية التي أرستها الأسماء المؤسسة وصولاً إلى الأصوات المعاصرة التي توسع الأفق الجمالي وتفتح باب التجريب والابتكار، وقد تشكلت الملامح الأولى لهذا الحراك عبر تاريخ طويل بدءاً من مرحلة مجتمع المشافهة، حيث كانت الحركة الفنية تقتصر على طقوس الخطاب والتواصل في التجمعات البدوية وحلقات الرواة في المقاهي الحضرية.
ساهمت المجلات الثقافية في تونس في بناء فضاء يفيض بالحيوية الفكرية والجمالية، فهي بمثابة الورشات الكبرى التي تتشكل داخلها اللغة الجديدة وتولد الرؤى المتجددة. تفتح مجلة الحياة الثقافية ومجلة الوجدان الثقافية وغيرها أبواباً رحبة أمام النصوص كي تعبر ذاتها وتختبر حدودها، وتتيح لها أن تتنفس في فضاء عام يتفاعل معه القراء والنقاد والمبدعون.
تتحرك داخل هذه المنابر أسماء فاعلة تشكل أعمدة للمشهد، من الناقدة «مفيدة الجلاصي» التي تعيد عبر قراءاتها هندسة النصوص بوعي حداثي عميق إلى «كوثر بلعابي» التي تمنح النقد نبرة فلسفية تعبر الآفاق السيميائية والدلالية. وتتعانق هذه الحيوية مع إسهامات الكاتبة «حياة الرايس» التي تمنح السرد طاقته الأنثوية المتوهجة، والشعراء والفاعلون في الساحة الأدبية مثل «بوبكر عموري» صاحب الأفق النقدي الذي يعيد قراءة الظواهر الأدبية من مسافة رؤيوية، و«كريمة الحسني» التي تمنح القصيدة حرارة الوجدان، و«روضة بوسليمي» التي ترفد المشهد بحساسية لغوية متألقة، و«داوود بوحوش» الذي يساهم في إثراء المشهد الشعري بحساسية لغوية عميقة ويمنح النصوص بعداً إنسانياً وفكرياً وكذلك «محمد المحسن» الناقد المتمكن والمتميز الذي يعيد بناء القراءة النقدية بنضج وعمق
والناقدة جليلة المازني التي تحيي النص من جديد ، تشكل بالإضافة إلى أسماء وقامات عديدة شكلت جزءاً أساسياً من البناء الثقافي والفني للأدب التونسي هذه الأصوات كونت معاً جسراً يعبر فوقه النص التونسي نحو تجاربه الجديدة، فتتوطد داخل هذا التفاعل ملامح حوار يحمل طابعاً جمالياً وفلسفياً، ويمنح المشهد الثقافي تنوعاً يكتب به الأدب التونسي امتداده وتفرّده، ويحرك الشعر نحو فضاء يستعيد فيه الإنسان صوته الكوني.
كما يساهم اتحاد الكتاب التونسي تحت قيادة الناقد «بوراوي بعرون» في صوغ فضاء حيوي للمشهد الأدبي والفكري، إذ يرسخ هذا الاتحاد دور المنابر الثقافية في تقديم النصوص ومناقشتها، ويتيح للأدباء والشعراء التبادل المستمر للأفكار والتجارب.
ومن خلال هذا الحراك الأدبي، يبرز الشاعر «طاهر مشي» بتجربة شعرية متفردة جديرة بالاهتمام والتحليل، إذ تجسد نصوصه انسجاماً فريداً بين العمق الوجداني والابتكار الفني. تتيح قصائده للقارئ الانغماس في مسارات متعددة من العاطفة والتأمل، حيث يتحول الألم والحنين والحب إلى عناصر بنيوية تشكل عالمه الشعري.
ولقد انعكس هذا الزخم بشكل مباشر على تجربة الشاعر «طاهر مشي»، التي تتشكل في ظل بيئة نقدية ومؤسساتية تدعم الإبداع، فتتجسد قصيدته كرفيف لغوي متحرك يفتح أبواب العودة إلى الذات عبر بوابة الوجدان، فتتحول اللغة إلى جسور تنقل القارئ إلى أعماق الروح، وتتيح له تجربة حضور الألم والحنين والحب في آن واحد داخل فضاء يثري الوعي ويعيد تشكيل الفهم الإنساني للشعر والتجربة الجمالية فهي مشروع شعري يفتح فضاء للحوار مع الذات والآخر، ويؤكد دوره كأحد الأصوات البارزة في المشهد الثقافي التونسي المعاصر، القادر على تحويل اللغة إلى جسور تعبر بالمتلقي نحو أعماق الروح.
الرؤية الوجوديةو استجواب الكينونة:
تتوجه قصائد «طاهر مشي» نحو الإنسان في جوهره فترتقي بالألم إلى مستوى التجربة الوجودية التي تحتضن الكينونة يتجاور عنده الجرح والحنين والحب في حركة تؤسس معنى جديداً للوجود لأن الذات لديه تتحول إلى مرآة لوعي ممتد يتجاوز حدود اللحظة يقدم الشاعر رؤية تضع الإنسان داخل صراع دائم بين الرغبة في الاحتفاظ بالعالم والرغبة في تحرير الروح من أثقالها يشكل هذا الصراع لبنة فلسفية قريبة من رؤى هايدغر حول مقام الكينونة داخل العالم حيث تصبح اللغة مقام الوجود الأول يأخذ هذا البعد طابعاً إنسانياً عابراً للحدود يلتقي مع ملامح عميقة في الأدب الروسي عند دوستويفسكي حين يضع الروح البشرية في مواجهة قدرها الداخلي ويقدم صراعاتها كتجربة مطلقة للبحث عن النور
المقاربة السيميائية وعوالم العلامات والدلالات
تتحرك القصائد داخل فضاء سيميائي غني بالعلامات فالجُرح علامة والليل علامة والذكريات علامة والمحبوب علامة والمطر علامة وكل عنصر يصوغ في تشكيله بنية دلالية تفتح المعنى يستخدم «طاهر مشي» صوراً تتخذ شكل إشارات تنسج شبكة من العلاقات بين الذات والعالم فيتحول الألم إلى رمز يتجاوز حدوده المباشرة ويتحول الحنين إلى بنية لغوية تشير إلى حضور متجدد داخل الذاكرة تنفتح العلامات لديه على حقل دلالي يقترب من تصور «فوكو» للخطاب كفضاء يعيد ترتيب السلطة والمعنى لأن القصيدة تصبح سلطة رمزية تمنح الذات قدرة على إعادة تشكيل جراحها كما يقترب من تصور «هيغل» للروح وهي تبني وعيها عبر مسار التوتر والتحول لأن المعنى يتشكل من حركة جدلية تجمع بين الألم والضياء.
قصيدة “حين تنادمني الجراح”سردية الوجع الفلسفية:
تبدأ هذه القصيدة بارتجاج داخلي يفتح باب المواجهة مع الجراح فيتحول الوجع إلى شريك حميم كأن الألم أصبح كياناً حياً يرافق الذات في رحلتها الجراح تتنادم مع الشاعر تتسلل إلى أعماقه وتستقر في تفاصيله الدقيقة وتأتي الصور محملة بلهيب واحتراق وصدأ تتراكم فوق ذاكرته فتشكل كثافة وجودية تقود الذات نحو أفق يشبه الرؤية الهيغيلية للروح التي تسعى نحو تمامها عبر صعود دائم في حركة جدلية مستمرة بين الظل والضياء بين الألم والتحول
يتجلى في هذه الصور التشابك بين الجرح والوجود حيث تتحول كل لحظة ألم إلى مؤشر فلسفي على تجربة الذات في مواجهة الحياة والمصير هذا الصراع الداخلي يقترب من فلسفة هايدغر حول الكينونة في العالم فالذات تدرك محدوديتها وحاجتها لإعادة بناء معنى الحياة عبر مواجهة ألمها كما تتماهى الصور الشعرية مع بلاغة «فيكتور هوغو» الذي كان يعيد خلق الجراح كينابيع نور في العتمة فيتحول الألم إلى مصدر تأمل ووعي فتعمل الكلمات كجسور بين التجربة الفردية والنور الداخلي تتحرك القصيدة كسرد داخلي يصوغ مسار الروح خطوة خطوة نحو منطقة من الصفاء حيث تتقاطع العلامات الرمزية للجراح والذكريات والصدأ والاحتراق في فضاء سيميائي غني يمثل الذات في حالة بحث دائم عن التوازن والاعتدال الداخلي.
أهكذا تُنَادِمُني الجراح
وقد استبدَّ بي النحيب وأثلجَتْ مُقلتي
توارتِ العبرات
وانثالَ على خَدّي لهيبُك يا كِفاحُ
أأدري أم أضلُّ عن الطريق
وقد أضنانِي المسير وشقَّ صدري الاحتراق
ومذ رحلتْ مواسمُ صبري
عاد في أنحائي الصدأ
وتكسّرتْ في راحتي الأشواق
فكيف أُجاهدُ الأحزانَ وحدي
وكلُّ جرحٍ من دمي يُنبيك أني قد تفرّق بي الرياح
قصيدة “قد غاب عني من أحب”سيميائية الحنين والغياب:
تقدم هذه القصيدة مشهداً شعورياً عالياً من الحنين والافتقاد حيث يتحول الغياب إلى قوة محسوسة تشعل القلب وتعيد تشكيل الليل داخل الذات تتجاوز رؤية الشاعر حدود الحزن لتخلق جمالاً داخلياً ينبثق من أثر الذكرى فتتحول الذاكرة إلى نور دائم يتجدد في قلب الشاعر مع كل لحظة ألم حاملة طابعاً وجودياً قريباً من فلسفة تولستوي التي ترى في الذكرى قوة داخلية تعيد ترتيب العالم وتجعل الإنسان يواجه مصيره بوعي أعمق
من مثل قلبي في الفراق تيتّما
لكن وجهي للأنام تكرّما
من مثل صدري في الأسى قد ضاق به
فكان رغم جراحه متبسما
قد غاب عني من أحب
فمزّقت أطيافه ليلي
وجفني أظلما
لكنني أبقيت ذكراه سناً
في القلب يُزهِر كلما أتألما
تتعالق الصورة الرمزية للغياب مع نور الذكرى فتخلق ثنائية متناقضة بين الظلام والنور بين الألم والحياة وبين الحزن والجمال هذه الثنائية تتحقق في النص عبر حركة سردية متسلسلة تجعل القارئ يعيش تجربة الحنين كما لو كانت رحلة وجودية نحو المطلق حيث يتحول الألم إلى زهرة متفتحة داخل الروح تحمل في طياتها طاقة التجدد والتأمل الدائم.
قصيدة “أنا الغريق”: سيمياء العشق والاحتراق:
تتحرك هذه القصيدة داخل فضاء شعوري تتلاقى فيه المتناقضات لتصوغ تجربة عاطفية وجودية متكاملة تتعانق النار بالمطر والحنين بالظمأ والصوت بالصمت فيصبح العشق عند «طاهر مشي» تجربة كونية داخل الذات حيث تتحول اللغة إلى مادة سائلة قابلة للانصهار والانسياب مع التدفق الشعوري للشاعر تأتي الصور الشعرية كأمواج متتالية تتقاطع مع الرغبة في معانقة الضوء فتتفاعل الحرارة بالعطر والحريق بالحب لتصبح القصيدة جسداً ممتداً من العلامات والدلالات الرمزية كل منها يحمل معنى يتجاوز سطحه المباشر
سأكتفي بحنين قد تُعانِقُه ذكرَاكَ تمطر في قلبي بلا خجل
وأرتوي من هواك العذب في شغف كأنني ظامئ في لجّة الأمل
دعني أذوب بعطر من أناملك
أنا الحريق فهل أخشى من الشعَل
تلتقي هذه العلامات مع رؤى «فوكو» إذ يصبح الجسد خطاباً متحرراً يعلن قوته عبر التجربة الحسية كما تتوافق مع روح الأدب الروسي في شعر بوشكين الذي يجعل من الحب قوة تتجاوز حدود الجسد فتفتح الصور نوافذ نحو العالم وتعكس قدرة اللغة على خلق مساحة تجريبية للروح والمشاعر
الوجودية والرمزية:
تتجلى مقاربات «طاهر مشي» الفلسفية في قصائده من خلال تحركه داخل فضاء وجودي رمزي حيث تصبح الكلمات بوابة لاستكشاف الذات ومكانها في العالم فتتقاطع مع رؤى الوجودية التي ترى في الألم والحنين تجربة مركزية لبناء معنى الحياة في نصوصه يتحول الجرح إلى علامة ونافذة للوعي والغياب إلى قوة تجبر الروح على مواجهة حدودها تماماً كما تتجلى فلسفة هايدغر في إدراك الذات لمقامها في العالم والبحث عن الحرية في ظل قيود الكينونة
يتماهى هذا البعد الوجودي مع الرمزية فيتحول كل عنصر شعوري إلى رمز يحمل دلالة أعمق من واقعه الظاهر كالنور الذي ينبثق من الألم والذكرى التي تشعل الروح والصمت الذي يعلن حضوره كصوت داخلي فتتداخل الصور لتصوغ سرداً يعكس تناقضات الحياة الإنسانية في تناغم مع الألم والرجاء تماماً كما فعل «فيكتور هوغو» في نصوصه حين حول الجراح والمعاناة إلى ينابيع نور داخلي تضيء الطريق أمام القارئ لتأمل الروح والعالم.
في هذا التمازج بين الفلسفة والرمزية يصبح النص الشعري تجربة معرفية ووجدانية في الوقت ذاته حيث يسافر القارئ بين الذات والكون بين الظل والضياء بين الألم والصفاء فتكتمل الرؤية الشعرية كمسار للوعي يتخطى حدود اللغة ليكشف عن الإمكانات الوجودية للروح ويؤكد أن الشعر هو مجرد تعبير عن المشاعر كما جسوراً تمتد بين القارئ والعالم بين الجرح والنور بين الذات والمطلق.
الناقدة والباحثة
د.آمال بوحرب
تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق