الاثنين، 10 نوفمبر 2025

قراءة فنية في قصيدة “درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش بعنوان العلامة بين الغياب والتجلّي في نبض الخطاب الشعري بقلم د. آمال بوحرب

 قراءة فنية في قصيدة “درب الحياة” للدكتورة زينب علي درويش بعنوان العلامة بين الغياب والتجلّي في نبض الخطاب الشعري 


في فضاء الشعر الحديث تجاوز  فكر الوجود الإنساني مجرّد مماثلة العالم أصبح سؤالًا مفتوحًا يجد في اللغة مسكنه الأكثر إشعاعًا وقلقًا في آن واحد ومن هذا العمق تنبثق قصيدة درب الحياة للشاعرة زينب علي درويش بوصفها خطابًا يضيء منطقة التماس بين الألم والوعي وبين البحث عن الهوية وقدر الإنسان في وجه المصير فهو يتخذ هيئة عبور وجودي يعيد للإنسان معنى الحضور عبر اللغة ويمنح الوجدان قدرة على مواجهة العدم بالجمال.


جدلية الرؤية واللايقين

تبدأ التجربة من مرآة تتحول إلى أفق للتفكّر والكشف. حضور المرآة في قولها لعلّي في مرآتي أرى نفسي جليّة عابرًا بين الحقيقة والأمنية يفتح النص على جدلية الرؤية والكشف حيث تتوزّع الذات بين حقيقة تتبدّى وأمنية تتوارى بين ضوء مرئي وظل ميتافيزيقي.

المرآة هنا لم تكن انعكاسًا للملامح ولكن انكشاف للعمق الداخلي تأخذ دور الفضاء الفلسفي الذي يتأمل فيه الإنسان ذاته لينشئها من جديد متجاوزًا الثبات نحو الحركة والتحول.


 الشعر كتحدٍ للعبث

حين تقول الشاعرة أسير في درب الحياة بثبات لا أنحني لرياح عاتية تنقل التجربة من مجرّد معايشة الواقع إلى فعالية المقاومة. الدرب يتحول إلى طريق امتحان تتجدّد فيه الإرادة والرياح إلى مجاز عن القوى التي تتهدّد الكائن في رحلته الوجودية.

في هذا الاختيار اللغوي تتجسّد فلسفة سارتر في الحرية كمسؤولية إذ تصبح الإرادة شرطًا للوجود الأصيل فالثبات هنا حركة داخلية تمنح الذات معناها الخاص وتحوّل السير على درب الحياة إلى ممارسة شعرية ترفض الامتثال وتؤكد الخلق من قلب الفوضى.


البعد الأنثوي والاجتماعي وانفتاح الذات على الجماعة

ينفتح النص على صراع بين الانتماء والتحرّر بين الصوت الفردي وصدى الجماعة فقولها أنا النور حين يحل الظلام والصوت حين تخفت الأصداء يعبّر عن حضور أنثوي مشعّ يتجاوز الهامش إلى الفعل.

صوت الشاعرة يقارب مفهوم المثقف العضوي بمعناه الغرامشي لكنه هنا يتخذ شكل مقاومة داخلية تناضل ضد قوالب المجتمع والجندر والقيود الثقافية. المرأة في النص قوة معرفية وروحية تُعيد تعريف العلاقة بين الذات والعالم بين الصوت والسكوت بين الانتماء والتحقّق.


من الألم إلى التشكّل

في قولها أحمل بين ضلوعي قلبًا شجاعًا وقصة خطّتها الأيام القاسية تنبثق الذات من الألم إلى الشجاعة. القصيدة هنا تعبير عن التحوّل النفسي كما يصوغه فيكتور فرانكل في فكرة المعنى في المعاناة.

الألم  عادة  ما يكون  معيقًا  للخلق فالشاعرة تمارسه كطقس تطهيري يحوّل السلب إلى طاقة حياة وتصير الكتابة علاجًا وتطهّرًا من قسوة العالم لتكشف مرونة الكائن أمام جراحه وقدرته على إعادة تشكيل كيانه من رماد الوجع.


الصورة والإيقاع بوصفهما خطابًا وجوديًا:

تتكشف البنية الجمالية للقصيدة في توازن الصورة والإيقاع. تعتمد الشاعرة على جمل فعلية متتابعة تؤسس ما يمكن تسميته بالإيقاع الحركي للنص فالأفعال أسير أزرع أكتب لا تصف بل تولّد حركة حياة مستمرة،أما الصور فهي تقوم على ثنائيات متقابلة: المرآة والقلب النور والظلام الأرض الجرداء والخصب الرمزي. هذه التوازيّات تخلق مجالًا تعبيريًا يعطي لكل دالّ كثافة شعورية ومعرفية واللغة نفسها تتحول إلى فاعل تسهم في صنع المعنى بقدر ما تعبّر عنه. الإيقاع يصير انبعاثًا داخليًا للذات وهي تقاوم الخفوت فيما التكرار يتخذ وظيفة انبعاثية تؤكد الوجود وتعيد بناء التوازن النفسي والجمالي. إن شعر زينب درويش هنا يبرهن أن الموسيقى  هي خطاب وجودي يتحرك بالمعنى.


الإبداع والخلود: الحرف كفضاء للمُطلق:

حين تقول أكتب نفسي بحروف من ذهب وفي كل سطر أترك بصمتي الأبدية تبلغ التجربة ذروتها الخالدة. الكتابة فعل بقاء يقاوم الفناء تخلق فيه الشاعرة عالمًا يتجاوز الزمن.والحرف يصبح معبدًا للذاكرة والكتابة تحقق ما يسميه دريدا أثر الحضور المؤجَّل حيث تتجدد الذات في غيابها وتستمر عبر الأثر. الشعر هنا يسكن بين الوجود والزمن بين الذاكرة والنسيان فيخلق خلوده الخاص بوصفه فعلًا من أفعال الروح.


اللغة شبكة من الرموز:

يتبدّى البناء الرمزي للنص في تشابك الإشارات الدالة المرآة للوعي النور للتحوّل والرياح للقَدر. كل رمز يتجاوز ذاته نحو فضاء تأويلي يقبل التعدد والانفتاح.

وفق نموذج رولان بارت تنتمي القصيدة إلى النص المفتوح الذي يشرك القارئ في إنتاج المعنى فيغدو الشعر حوارًا لا يُغلق. الصور هنا ليست كنايات  بقدر ما هي طاقات تأويلية تشحن اللغة وتهيئها للتجاوز.

الذات في هذا التصور لا تستقرّ في هوية أحادية غالبا ما  تتحوّل إلى محور تأويلي يجمع الأضداد ويعيد تركيبها جمالياً.


البعد الجمالي الأنطولوجي :

في أعمق مستوياتها تطرح القصيدة سؤال الكينونة داخل اللغة نفسها فالكلمة ليست وسيلة للتعبير بل فضاء للوجود. اللغة هنا تُولد من جوف الوعي وتخلق كائنها في كل استعارة. النور يصبح استعارة للوعي والدرب يتحول إلى مصير تتخذه الذات طريقًا نحو اكتمالها والشعر في هذه الرؤية ممارسة وجودية تخلق توازنًا بين الداخل والعالم وتعيد الإنسان إلى مركزه الأنطولوجي. إنه كما يقول هايدغر بيت الكينونة والمسكن الذي يُقيم فيه الإنسان ليجد نفسه في معنى القول من هنا يغدو الشعر عند  زينب درويش دعوة للإنسان كي يكون لا كي يبدو وبهذا تتجاوز اللغة حدودها إلى جوهر الخلق نفسه.


 الشعر  وعي  متحوّل بالوجود:

تكشف قصيدة درب الحياة عن لقاء الفكر بالشعور والفلسفة بالوجدان فهي نصّ يتحدث عن الإنسان في لحظة وعيه بالذات والمصير وعن الكلمة كوسيلة خلاص من العبث وهذا النص يمزج بين الجمال والفلسفة بين الحلم والفعل ليمنح القارئ تجربة وجودية كاملة تذكّره بما قاله بول ريكور: نعيش لنروي لأن الشعر ممارسة للحياة وعبور في الدرب نحو الخلود بالكلمة.


د. آمال بوحرب

باحثة وناقدة 

تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق