الاثنين، 24 نوفمبر 2025

قراءة نقدية : "القصيدة بين التوتر اللغوي والتوتر الوجودي" التفريغ النصي " لهيب الكفاح " القصيدة:" حين تنادمني الجراح" الشاعر : طاهر مشي (تونس) الناقدة : جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية : "القصيدة بين التوتر اللغوي والتوتر الوجودي"

التفريغ النصي " لهيب الكفاح "

القصيدة:" حين تنادمني الجراح"

الشاعر : طاهر مشي (تونس)

الناقدة : جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية: "القصيدة بين التوتر اللغوي والتوتر الوجودي"

1- عتبة العنوان "حين تنادمني الجراح"

استهل الشاعر طاهر مشي العنوان بظرف زمان (حين) مصحوبا بجملة فعلية في صيغة المضارع الدال على الدوام والاستمرارية(تنادمني).

والفعل نادم له دلالة المشاركة في مجلس شراب وما يتبعه من لذة ومتعة.

بيد أن الشاعر طاهر مشي قد استخدم توترا لغويا فقلب المعنى وجعل الجراح تنادمه بما فيها من ألم ووجع فتحوّل فعل المنادمة من متعة ولذة الى ألم ووجع.

وعبارة "تنادمني الجراح" حسب المختصين في علم المعاني تعني أن الجراح(جسدية او نفسية) تذكّرُ الشخص بآلامه أو مآسيه القديمة وكأنها صديق يلازمه ويحدثه عن أحزانه مما يعيد اليه الشعور بالألم والحزن القديم.

هذه العبارة استعارة توحي بأن الألم لا يزال حاضرا وله أثر مستمر في حياة الشاعر.

ولعل تقديم ظرف الزمان(حين) على الجملة الفعلية الدالة على الاستمرارية في ملازمة الجراح له لها دلالتها في دوام الملازمة على امتداد الزمان.

وبالتالي فان الماضي المؤلم يعود ليؤثر في الحاضر واذا الجراح لم تندمل أبدا بل وتتراكم الجراح على الجراح.

ولعل الشاعر طاهر مشي يتناص مع المتنبي حين تراكمت الأرزاء عليه فيقول:

رماني الدهر بالأرزاء حتى// فؤادي في غشاء من نبال

فصرت اذا أصابتني سهام// تكسّرتِ النّصال على النّصال

وفي هذا الاطار قد يتدخل القارئ بفضوله متسائلا:

- أي جراح  يعيشها الشاعر على مرّ الزمن؟

- اذا كانت الجراح تلازم شاعرنا على مرّ الزمان فما طعم وجوده؟؟

2- التحليل: "القصيدة بين التوتر اللغوي والتوتر الوجودي"

استهل الشاعر قصيدته باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الاستفهام (أهكذا تنادمني الجراح؟) الدال على حيرته واستغرابه من ملازمة الجراح له .

والجراح هنا هي جراح نفسية ومعاناة ( قد تكون بسبب الفقد أو الهجر والفراق أو الأذى الذي يلاحقه من الآخر..).

هذه الملازمة للجراح النفسية قد لازمه فيها النحيب حتى جفت مقلته من البكاء فيقول:

وقد استبد بي النحيب وأثلجت مقلتي

توارت العبرات

وانثال على خدي

لهيبك ياكفاح

وعبارة "انثال على خدي" محمولة على المجاز حسب علماء البلاغة  فتعني أن المشكلات تتابعت وانهالت عليه ولم يستطع التعامل معها.

والشاعر بين معاناة جسدية(استبد بي النحيب/ اثلجت مقلتي/ توارت العبرات) ووجدانية وبين مقاومة وكفاح لهذه المعاناة.

انه لم ينهزم ولم يستسلم لتراكم الجراح على الجراح بل سيكافحها ويناضل من أجل وجوده.. انها قضية وجود.

ان جراح الماضي وهي تؤثر على جراح الحاضر التي بدورها تذكره بجراح الماضي جعلته يواجه" لهيب الكفاح".

ولهيب الكفاح حسب المختصين في البلاغة هي تعبير مجازي يفيد شدة النضال والكفاح. والعديد من الشعراء خلدوا "لهيب الكفاح" لشعوبهم بأشعارهم.

- أيّ كفاح شديد سيخوضه شاعرنا لمواجهة هذه الجراح النفسية التي تنادمه؟

- هل هو قادر على خوض "لهيب الكفاح" لمواجهة الجراح؟

ان الشاعر باستخدام أسلوب التوتر اللغوي القائم على المجاز (تنادمني الجراح/ انثال على خدي/ لهيب الكفاح) والقائم على الانزياح التركيبي من تقديم وتأخير  واستفهام وعلى الانزياح الدلالي من استعارة وتشخيص وتجسيد وعلى الانزياح الايقاعي من خلال تكرار محتوى العنوان بالاستهلال (تنادمني الجراح)..

كل هذا التوتر اللغوي الذي يُخرج لغة القصيدة من المألوف الى غير المألوف  والذي يُرْبك القارئ يعكس التوتر النفسي الذي يعيشه الشاعر بسبب ملازمة الجراح له.

ان هذا التوتر النفسي ليس توترا عابرا بل أصبح معاناة وجود .

فهل أنّ قدَر الشاعر أن تتراكم الجراح على الجراح عليه؟

ولعل الشاعر ب"لهيب الكفاح " هنا يطرح المعادلة التي تقول:" أكون أو لا أكون" و هي من أشهر المناجاة في الأدب العالمي والتي قالها الأمير هاملت في مسرحية وليام شكسبير(هاملت):

- ان الشاعر يرفض أن تنادمه الجراح. وهو بذلك يرفض" ألا يكون"

- انه يواجه هذه الجراح التي تنادمه ب"لهيب الكفاح" حتى "يكون"

ان الشاعر في صراع داخلي بين حياة مؤلمة يرفضها ولهيب الكفاح الذي يقتضي نضالا شديدا ليثبت وجوده.

والشاعر بين الوجود واللاوجود يثير ثنائية متضادة أخرى .انها ثنائية الشك واليقين فيقول:

أأدري أم أضل على الطريق

وقد أضناني المسير وشق صدري الاحتراق؟

ان الشاعر بين شك ويقين لمواصلة "لهيب الكفاح" لوضع حدّ لمنادمة الجراح له وتراكم الجراح على الجراح .

ان ثناية الشك واليقين لمواصلة "لهيب الكفاح" تخلق لديه ثنائية أخرى بين مسير مُضْنٍ واحتراق شق صدره وقد يتدخل القارئ يحدوه فضوله متسائلا :

- هل يواصل المسير المضني بلهيب الكفاح؟

- هل يطفئ احتراق صدره بلهيب الكفاح للانتصار على الجراح؟

وفي هذا الاطار يأتي الجواب من الشاعر قائلا :

ومذ رحلت مواسم صبري

عاد في أنحائي الصدأ

وتكسرت في راحتي الأشواق

ان الشاعر يُعْلن نفاد صبره لأن لهيب الكفاح طويل وشاق.

ونفاد صبره دليل على أنه ناضل طويلا لمقاومة الجراح التي تنادمه وعاش المعاناة بلهيب الكفاح:

وبين نضال ومعاناة خانه صبره  و"لهيب الكفاح" صبرٌ أو لا يكون.

وبالتالي فان الشاعر يقف على محدودية الصبر عند الانسان الذي لن يكون له "صبر النبي أيوب".

لقد جسّم هذه المعاناة باستخدام تقنية التشخيص والتجسيد التي خلقت توترا لغويا بالقصيدة أدّى به الى توتر نفسي أفقده صبره الجميل رغم صبره الطويل والذي تواتر عبر الزمن(مواسم صبري).

وكأني به يريد أن يقنع القارئ بوصف حالة المعاناة فمواسم الصبر كأنها شخص خانه ورحلتْ , والصدأ كأنه سوس عاد ينخر أنحاءه والاشواق تكسرت في راحته.

ولعل القارئ هنا يتعاطف مع الشاعر الذي أدرك محدودية صبره وجهده في "لهيب الكفاح " وحده مستحضرا ما قاله أحد شعراء المقاومة في محدودية الصبر:

تنوّعت الجراح فلا اصطبار//  يواجهها ولا قلب يطيق.

ان هذا المشهد الأليم جعل الشاعر يستفهم مستغربا وكأني به يتوجّه الى القارئ الذي يتابع معاناته فيقول:

فكيف أجاهد الأحزان وحدي

وكل جرح في دمي

ينبيك اني قد تفرق بي الرياح؟.

انه مرة أخرى يقف على محدودية قدرة الانسان في النضال وحيدا لمقاومة جراحه التي تنهش كيانه .

وفي هذا الاطار من تواتر الثنائيات المتضادة نرى الشاعر في صراع داخلي بين الشك واليقين وبين النضال والمعاناة وبين محدودية الصبر ومحدودية القدرة على مواجهة الجراح بمفرده وبالتالي بين الوجود واللاوجود.

 والذات الشاعرة بين كل هذه الثنائيات تبحث عن التوازن وحاجتها لإعادة بناء معنى للحياة ومواجهة المصير المؤلم.

وبالتالي فالشاعر هنا يطرح قضية وجودية تتمثل في عجز الانسان على مواجهة الجراح التي تنادمه لمحدودية الصبر والعجز عن المقاومة بمفرده.

بيْد ان القارئ  الذي أربكه التوتر اللغوي وفي المقابل قد يشحذ عزيمة الشاعر لمزيد الصبر والثقة في قدرته على المقاومة المتواصلة لتحدي محدودية الانسان وعجزه مستحضرا قول المتنبي:

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر// وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبْر

تمرّست بالآفات حتى تركتها تقول // أمات الموت أم ذعر الذعر.

وخلاصة القول فان الشاعر طاهر مشي قد طرح قضية التوتر الوجودي للانسان بامتياز باستخدام التوتر اللغوي الذي غطى تقريبا كامل القصيدة ولعله بذلك ارتقى بقصيدته الى الأدب العالمي الوجودي.

سلم قلم الشاعر طاهر مشي هذا القلم الذي أربك القارئ أسلوبا وفكرا.


بتاريخ 24/ 11/ 2025

القصيدة: (الشاعر طاهر مشي)

حين تُنَادِمُني الجراح

ااااااااااااااااا ااااااااااااااااا

أهكذا تُنَادِمُني الجراحُ

وقد استبدَّ بي النحيبُ وأثلجَتْ مُقلتي

توارتِ العبراتُ،

وانثالَ على خَدّي

 لهيبُك يا كِفاحُ

أأدري أم أضلُّ عن الطريقِ،

وقد أضنانِي المسيرُ، وشقَّ صدري الاحتراقُ؟

ومذ رحلتْ مواسمُ صبري

عاد في أنحائي الصدأُ،

وتكسّرتْ في راحتي الأشواقُ.

فكيف أُجاهدُ الأحزانَ وحدي،

وكلُّ جرحٍ من دمي

يُنبيك أني قد تفرّق بي الرياحُ؟

ااااااااااااااااا

طاهر مشي 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق