تحليل وقراءة أدبية بقلم الصحفي الشاعر محمد الوداني
نص "خريف العمر" للشاعرة عائشة ساكري يفيض بحرارة الشعور وبوح القلب الذي يكتب وهو مثخن بالألم، لكنه ما يزال يحتفظ بقدر من العناد الجمالي، ذلك العناد الذي يجعل الحرف يقف منتصباً رغم تعب الروح. شكراً للشاعرة على هذا النص العميق، الذي يمزج بين الغنائية والدرامية، ويقدّم تجربة إنسان يقف على حافة العمر متأملاً ما مضى وما بقي.
يبدأ النص بنبرة تحمل طابع الاعتراف المُرّ، وكأن المتكلم يتذكر كل مرة خرج فيها من معارك الحياة محملاً "بجوائز الآلام والآهات"، فالغربة الداخلية تلتف حوله حتى وهو وسط الاحتفال، وبين سطوع الأضواء، تظل الجراح هي الحقيقة الوحيدة التي لا تُمحى. هناك قدرة لدى الشاعرة على جعل المشهد الخارجي—قاعة، نساء، سهرة—مرآة تعكس اضطراب البطل وتيهه الداخلي، حتى إنّ أفكاره نفسها تصبح "حائرات" مثلما هو تائه.
يتجلّى شعور الانكسار في قول المتكلم إنه خاطب لا يرى قيمة للأوسمة ولا للظهور، مادام القلب مطعوناً، والروح معلّقة في "سابع سماوات". هنا تتكشف نبرة التناقض بين حضور الجسد وغياب الروح، بين ما يبدو للناس وما يعيشه الإنسان في عمقه.
ثم يتحوّل النص إلى نبرة اعتراف أكثر عرياً، حين ينتهي الحفل ويعود المتكلم إلى ذاته، حاملاً "داءً" لا يُشفى، كأن الحب صار خمراً لا يداوي إلا إذا قُدم من يد ساحرة، ما يدل على أن العشق عنده ليس مجرد شعور بسيط بل قوة خارقة تقوده وتخيفه في آن واحد. حتى الطبيعة نفسها تُستدعى لتجسيد حالته: ليلة سوداء، رعود قاصفة، نبض خائف… لتصبح الطبيعة انعكاساً مباشراً لقلق الروح.
ويبلغ النص ذروته حين يعترف المتكلم بأن رسالة من أنثى واحدة كانت كفيلة بأن تُحييه من عمق تعبه، وبأن "الحرف تجمد" أمام حضورها. يعترف بعجزه بعدما ظن أنه عبر بحور النساء واعتزل الحسناوات، فإذا برسالة واحدة تعيده إلى ساحة الافتتان. وهنا يظهر جمال المفارقة: رجل مخضرم في الحب يهزمه حرف أنثى واحدة.
وتستمر الصور الشعريّة في اتساعها حين يجعل عينيها أنهاراً تُغرق "الجن والإنسان"، وهي مبالغة لغوية جميلة تكثّف تأثير الأنثى في عالمه كله. لكنه يعود ليواجه الحقيقة التي يريد الاعتراف بها: أنه في خريف العمر، وأن الربيع جاء متأخراً. هذا الاعتراف يفتح النافذة على نبرة هادئة من الحكمة، تستسلم قليلاً للزمن، لكنها ما تزال تحمل بصيصاً من عشق لا يموت.
ويختم النص ببيت بالغ الدلالة، يجعل من الحب عطراً لا يمكن إخفاؤه، تماماً كحامل المسك، ليظهر أنّ الشاعر مهما حاول الاختباء خلف كبريائه أو حكمته، إلا أن العشق يفضحه دائماً.
إن نص الشاعرة عائشة ساكري نص ناضج، يحمل ثراءً تصويرياً وعمقاً إنسانياً، ويمتلك تلك القدرة على مزج الاعتراف بالألم مع فتنة اللغة. شكراً لها على هذا البوح الذي يجمع بين صدق التجربة وجمال التعبير.
مع تحيات ادارة مجلة غزلان.
**خريف العمر**
وفي كل مرة حصدت
جوائز الآلام والآهات
على سفينة الأشواق
وفي قاعة الإحتفال
إحتشد الجميع
والأعصاب مشدودات
كلماتي..حاكت..نادت..
صدحت..سمت..
فاختصرت الأمسيات..
جميع النسوة لبسن أثواب السهرة
فكنّ، في الحسن فاتنات..
بين الهرج والمرج،
أفكاري تاهت حائرات..
أنا خاطب..أنا ما نفع
الأوسمة البراقات..
مادام قلبي أثخنته الجراحات،
جسدي حاضر على مسرح الشعر
وروحي في سابع سماوات!!!!
انتهى الحفل والجمع أثمل
وثملي عشقي ككأس طابت أوائله
ومجت أواخره بالفاتنات.....
عدت أدراجي وريب نفسي
داء أعياني شفاؤه كسم في جسدي
بسرّي يستحيل دواؤه إلا بكأس
نبيذ من يدي ساحرات.......
اشتد سواد اللّيل..فأضحى الجوّ
أكثر قتامة، والسحب سوداوات...
وجلجلت الرعود قاصفات...
فخاف قلبي واختلجت النبضات...
كلمات مكتوبة أرسلَتهَا أنثى
فقلبي لها أذعنٌٌ مزخرفة، فيها نقش..
فيها فن..فيها رقص..وفيها ما هو أثمن.
ابتسمتُ متعجرفاً مزهواً
لا أبالي ببعض الثرثرات..........
أنا عبرت بحوراً، ومحيطات
حتى اعتزلت كل الحسناوات....
جاوبتها، يا غادة الحب لن أستسلم،
فأنا في الحب مخضرم ماذا عسايَ...أفعل؟
فالحرف تجمد والكلُم تاهت في غياهبٍ
واستلم لشغف الشقراواتِ...
تجردت من سلاحي
فلا حول ولا قوة لي يا لشقاوة
قلب تائه في سراب النسيان..!!
فالشوق أقحمَ ما عاد في
جعبتي رغبة في الكلمات...
ولا حروف أبارز فيها
بغي قلوب الحسناوات.........
عيناها أنهر حبّ فاضت فاغرقت
الجن والإنسان في كلّ الأكوان..!!!
أيا قدر هلا تمهّلت في حكمك فأنا
الأنا باقٍ من عهد الطوفان.......
تأخرت يا حب في ربيعك
فأنا في خريف العمر ما عدت
قادرا على الافتتان......
دلائل الحب لا تخفى على الإنسان...
كحامل المسك كيف يواري عبقه بأمان....
عائشة ساكري تونس🇹🇳

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق