قراءة نقدية سجالية: "الإرسالية والردّ المُذهِل"
التفريغ النصي: "انتصار التفاؤل على التشاؤم"
الجنس الأدبي: إرساليات قصيرة جدا..
العنوان : "وما أعذب الكلام على الكلام"
الإرسالية عدد (1) الشاعر: عمر دغرير (تونس)
الارسالية عدد (1) الشاعرة :آمال بوحرب (تونس)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
المقدمة:
ان هذا السجال بين الشاعر عمر دغرير والشاعرة آمال بوحرب يندرج ضمن أدب الرسائل في ثوب جديد .
لقد بوّب الشاعر هذا السجال ضمن الإرساليات القصيرة جدا وهو بذلك يواكب:
- الرسائل الالكترونية على شبكات التواصل الاجتماعي.
- الأدب الوجيز(ارساليات قصيرة جدا).
- ارتقاء أدب الرسائل الى أدب السجال الشعري.
ان هذه الملامح الثلاثة تجعل أدب الرسائل يرتدي ثوب العصر ويخلع جلباب القديم.
لقد اختار الشاعر عمر دغرير ولعله باتفاق مع الشاعرة آمال بوحرب عنوانا لهذه الارساليات القصيرة جدا " وما أعذب الكلام على الكلام"
ولعل هذا العنوان يشي بالامتاع والمؤانسة لهذه الارساليات القصيرة جدّا.
ولعل هذا يعود الى علاقة الارساليات بفن الردّ.
وفن الرد حسب الدارسين هو" القدرة على تقديم ردود مناسبة وفعالة في المواقف المختلفة ...ومن مهارات فن الرد:
- فهم السياق.
- التمهل والتأني في الرد.
-الهدوء ".
*القراءة النقدية :"الإرسالية والردّ المُذهِل"
أ- المشترك بين القصيدتين (الارساليتين (1):
- التراسل.
- التناص المعجمي
- التناغم بين الإرساليتين : الحديث حول المرأة/ القصيدة/ الوطن.
ب - المختلف بين الارساليتين (1):
1- الارسالية القصيرة جدا للشاعر عمردغرير:
استهل الشاعر إرساليته بخطاب المرأة في المطلق وقد وصفها بالمذهلة.
ولعلها المرأة الأسطورة.(أيتها المرأة المذهلة في كل عصر).
والشاعر يقابل بين جنة مقفلة وابداع مفتوح فيقول:
"قد لا تجمعنا الجنة المقفلة كما يجمعنا عرق الكلمات في الشعر"
- أية امرأة أسطورة قد يحدثنا عنها الشاعر؟
- أيّ جنة مقفلة وأي تعويض قد يحدثنا عنه الشاعر؟
يبدو ان الشاعر يسرّ الوجع من عدم التمتع بهذه الجنة التي رآها مقفلة.
والجنة هي مكان من النعيم الكامل والسرور والسلام.
والشاعر بين حنين(جنة) وحرمان (مقفلة) يجد غايته في ابداعه وفي القصيدة التي يتعب من أجل ولادتها (كما يجمعنا عرق الكلمات في الشعر)
والشاعر يعيش معاناة بين جنة مقفلة قد لا يطولها لتجمع بينه وبين هذه المرأة الاسطورة وبين قصيدة تنهكه تعبا ورقابة.
وفي هذا السياق من العجز والضعف والوهن يجود عليها بقبلة أخيرة ودافئة على الشفتين لتبعث فيها الحرارة والحيوية.
وقبلة الشفاه حسب علماء النفس تعبر عن مشاعر الحب, العاطفة والرومانسية
ان الشاعر بين يأس وعاطفة ورومانسية يلتمس من هذه المرأة الأسطورة ان تترشف عبير هذه القبلة فيقول:
هذه قبلتي الأخيرة أضعها على شفتيك في هذا العمر
فترشفي عبيرها قبل أن يندثر في الهناك ويحضنني القبر يا وطني.
ان الشاعر قد استخدم تراسل الحواس فيحول متعة القبلة من حاسة الذوق الى حاسة الشم(ترشفي عبيرها).
لعل الشاعر عمر دغرير قد جعل حبّ هذه المرأة الأسطورة يتماهى مع حبّ الوطن الاسطورة الذي هو جنته ونعيمه وراحته.
بيد أنه قد حُرِم من حقه في هذا النعيم الذي حالت دونه الأقفال وجعلته مغلقا لا يستطيع أن ينعم فيه.
انه التجأ الى القصيدة رغم المعاناة الى التعبير برومانسية العاشق لوطنه.
ان الشاعر لا يخفي عن القارئ خوفه لا من الموت بل خوفا من حرمانه نعيم وطنه المحاصر وسلبه حق الوطنية.
ان الشاعر يسرّ وجع الوطن المسلوب والمحاصر والمغلق بالأقفال...
انه يسرّ وجع الواقع الأليم الذي يعيشه في آخر العمر مما أفعم قلبه بالتشاؤم والخوف من الموت قبل أن يعيش نعيم الوطن.
في هذا الاطار من تماهي الوطن مع المرأة والقصيدة وما يشعر به الشاعر عمر دغرير من تشاؤم ماذا سيكون ردّ الشاعرة آمال بوحرب؟
2- ارسالية الشاعرة آمال بوحرب وردّها المذهل:
لئن كان الشاعر عمر دغرير متشائما خائفا من الموت قبل أن يعيش نعيم الوطن واعتبر الجنة مقفلة فقدّم القبلة الاخيرة فان ردّ الشاعرة آمال بوحرب كان في منتهى الهدوء ومطبوعا بمسحة من تفاؤل الأنثى فاستخدمت معجمية لغوية معارضة تماما لمعجمية الشاعر عمر دغرير فتقول:
أيها العاشق المنفي في تضاريس الجمل
أما زلت تظن الجنة مقفلة؟
وللشعر حدود حين يرسمه حبر امرأة مذهلة؟
أنا التي ترشف قبلتك
كأنها قبلة الحياة الأولى
وأردها اليك
نارا لا تخبو
وذاكرة لا تذبل
ان الشاعرة باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي قائم على الاستفهام الاستنكاري فهي تنكر عليه تشاؤمه بالجنة التي اعتبرها مقفلة وبحدود الشعر الذي يرسمه حبر امرأة مذهلة.
وكأني بالشاعرة عمدت الى مساءلة الشاعر عمر دغرير لتحكّم القارئ بمدى تشاؤمه بالحب وبالحياة وبالوطن وبالقصيدة فتتفاءل بكل ما تشاءم به:
- انها ترفض ان تكون الجنة مقفلة.
- انها ترفض حدود الشعر
- انها ترفض القبلة الاخيرة.
لعل الشاعرة تنتصر للأنوثة على حساب الذكورة لتجعل ارساليتها مفعمة بتفاؤل الأنثى التي تريد الحياة فكان ردها مذهلا.
وهل أكثر من أنها تبث فيه الحياة بردّ قبلتها اليه تشتعل نارا وتؤجج شوقه من ناحية (نارا لا تخبو) وتحيي حنينه من ناحية أخرى(ذاكرة لا تذبل).
ان الشاعرة تبث فيه الروح الوطني و توقظ فيه العشق الأبدي له الذي يتحدى الموت والفناء.
وباستخدام ثنائية الأمر والنهي(دعني/ فلا تودعني)
- انها تأمره أن يقتنع بأن الأرض هي الوطن الأبدي للموتى.
- انها نهته أن يودعها كأنها زفرة أخيرة إيمانا منها باستمرارية الحياة حتى بعد الموت .
والشاعرة لا تخفي على القارئ المسحة الصوفية التي تعتبر الموت حياة أخرى فتقول:
دعني أهمس
ان الأرض التي أحبت
تمنح الموتى وطنا أبديا
فلا تودعني كأنني زفرة أخيرة
ولعل القارئ هنا يستحضر ما قاله الشابي في العلاقة مع الارض:
وقالت لي الارض لما سألت// أيا أمّ هل تكرهين البشر:
أبارك في الناس أهل الطموح// ومن يستلذ ركوب الخطر
وفي هذا الاطار كأني بالشاعرة تدعو الشاعر عمر دغرير الى كسْر قفل جنته للولوج اليها وعدم الاستسلام للقيود التي كبلته وحالت دونه ودون النعيم بوطنه
وكأني بها تردد قول الشابي:
ولا بد لليل أن ينجلي // ولا بد للقيد أن ينكسر
وها هي تبث فيه حماسها وطموحها وتشبثها بالحياة وبأبدية الحبّ الذي لا يُدْفن
فتقول:
أنا التي كلما أوشكت على الرحيل
نثرت دمعي وردا على قدميك
لا تخف من القبر
فالحب لا يُدْفن
والعطر الذي سكبته
مازال على شفتيّ
ينام بين سطر وسطر
ويغفو كلما ناديتني
يا وطني
سأبني لك سماء من ياسمين
ومن تراتيل الشوق
ومن أنين المقامات الدمشقية
أجعلها قبلتي الابدية إليك
فلا تندثر
ولا تقل وداعا
أيها الساكن في حروفي
وفي فوضى قلبي المشتعل.
ان الشاعرة بروح العاشقة المتصوفة تجعل من الشاعر العاشق الأبدي المتماهي مع الوطن .
و باستخدام أسلوب النهي (لا تندثر/ ولا تقل وداعا) تبث فيه روح التعلق بالحياة باعتباره ساكنا حرفها وقلبها :
- حرفها الذي يقاوم القيود لكسرها.
- قلبها المؤمن بالشعور بالانتماء الوطني.
وبالحرف والحب تنتشل الشاعرة آمال بوحرب الشاعر عمر دغرير من شعور بالخوف واليأس والتشاؤم.
وأختم وأقول بأن ردّ الشاعرة آمال بوحرب على إرسالية الشاعر عمر دغرير القصيرة جدّا كان ردّا يستجيب وفنّ الردّ باعتباره مناسبا وفعّالا في المواقف المختلفة بل كان ردّا مُذهلا قد يجعل الشاعر عمر دغرير يعيد النظر في ارساليته.
سلم القلمان ارسالية وردّا عليها.
بتاريخ 15/ 10/ 2025
الارساليتان :
عمر دغرير :
أيتها المرأة المذهلةْ في كل عصر .
قد لا تجمعنا الجنة المقفلةْ كما يجمعنا عرق الكلمات في الشعر
هذه قُبلتي الأخيرة أضعها دافئة على شفتيكِ في هذا العمرْ.
فترشفي عبيرها قبل أن يندثر في الهناك .ويحضنني القبر يا وطني ...
أمال بوحرب :
أيُّها العاشقُ المنفيُّ في تضاريسِ الجُمل،
أما زلتَ تظنُّ الجَنّةَ مقفلة؟
وللشِّعرِ حدود حين يرسمه حبر امرأةٍ مذهلة؟
أنا الّتي ترشفُ قُبلتكَ
كأنّها قُبلةُ الحياةِ الأولى،
وأردّها إليكَ
نارًا لا تخبو،
وذاكرةً لا تذبل
دعني أهمس
إنّ الأرضَ التي أحبّتْ
تمنحُ الموتى وطنًا أبديًا
فلا تودّعني كأنّني زفرةٌ أخيرة،
أنا التي كلّما أوشكتَ على الرحيل،
نثرتُ دمعي وردًا على قدميك
لا تخف من القبرِ…
فالحبُّ لا يُدفن،
والعطرُ الذي سكبتَه
ما زالَ على شفتيّ…
ينامُ بين سطرٍ وسطر،
ويغفو كلّما ناديتني:
“يا وطني…”
سأبني لك سماءً من ياسمين،
من تراتيلِ الشوق،
ومن أنينِ المقامات الدمشقية،
أجعلها قُبلتي الأبدية إليك…
فلا تندثرْ،
ولا تقلْ وداعًا
أيّها الساكنُ في حروفي
وفي فوضى قَلبي المُشتعل ...

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق