قراءة نقدية: "القصة وأدب المذكرات"
( تجليات أدب المذكرات بقصة "الخطوة الأولى لابن الريف")
القصة:" الخطوة الأولى لابن الريف"
الكاتب: د. علي الجراي (تونس)
الناقدة جليلة المازني (تونس)
تندرج القصة" الخطوة الاولى لابن الريف " ضمن أدب المذكرات:
أ- انطلاقا من العنوان يتحدث الكاتب عن:
- زمن محدّد(الخطوة الاولى).
- مكان محدد (الريف)
- شخصية محددة (ابن الريف ).
ب- انطلاقا من مقدمة القصة :يقول الكاتب" عاد عمر الى الريف الذي نشأ فيه وقد تجاوز الستين من عمره...فعادت به الذكرى الى عهد الصبا والى العهود المليئة بالأحداث التي تلته.."
يعتبرالباحثون ان أدب المذكرات جنسا أدبيا جديدا في الأدب العربي فقد بدأت الكتابة في هذا الشكل الابداعي في القرن العشرين.
* القراءة النقدية: "القصة وأدب المذكرات"
( تجليات أدب المذكرات بقصة "الخطوة الأولى لابن الريف")
أ- تعريف أدب المذكرات:
يرى الدارسون ان أدب المذكرات "يتضمن التركيز على حدث محدد أوفترة معيشة من حياة الكاتب بدلا من سرد حياته كاملة وبذلك تختلف المذكرات عن السيرة الذاتية:
انها فترة عهد الصبا يقول الكاتب "بعد جلسة مسائية ذات يوم اتفق كل أفراد العائلة على اصطحاب حسان لأخيه عمر الى منطقة الساحل".
ب- سمات أدب المذكرات بقصة "الخطوة الأولى لابن الريف":
+التركيز على الذات والقصة الشخصية :تروي المذكرات قصة حياة الكاتب مع التركيز على جانب محدد منها كفترة معية او حدث مفصلي يترك بصمة في حياته.
ان الكاتب في هذا السياق يروي لنا فترة خروج الطفل عمر من ريفه العزيز عليه الى منطقة الساحل وقد كان بصمة منقوشة في ذاكرته.
+الصدق والواقعية تسعى المذكرات لتقديم رؤية صادقة وواقعية وقد تجلّى ذلك في القصة من خلال:
- الأصوات المتعددة لأفراد العائلة أثناء حوارهم حول إمكانية مرافقة عمر لأخيه حسان الى منطقة الساحل.
- التساؤلات التي طرحها عمر على نفسه وعلى أفراد العائلة:
(هل سأعود الى أمي بعد يومين او ثلاثة كما كنا عندما نذهب الى أخوالي؟/ هل ستشتاقين لي يا أمّي؟/ هل هناك أطفال مثلي هناك؟/ هل لديهم كلب اسمه "مس" مثل كلبنا؟/ أمي عندما نرجع هل سأجد البسرة التي في النخلة القبلية العالية قد نضجت وحضرت؟/ يعني لن أرجع قبل أن ينضج التمر ؟..أليس هذا كثيرا يا أمّي؟....)
ان كل تساؤلات عمر الطفل تشي بصدق مشاعره وواقعية الأحداث.. انها الهواجس التي كانت تضجّ بذهنه.
+ السرد القصصي: تكتب المذكرات بلغة أدبية وبأسلوب سردي قصصي وغالبا ما تستخدم صيغة المتكلم المفرد (أنا)لتوفير احساس شخصي للقارئ :
ان الكاتب على الجراي راوح بين ضمير المتكلم المفرد وردود أفراد العائلة عن تساؤلاته وبين رَاوٍ يروي تفاصيل هذه التجربة للطفل عمر..
ان الكاتب علي الجراي قد استخدم الى جانب المتكلم عمر رَاوِيًا عليما بكل التفاصيل ليروي هذه الفترة التي عاشها عمر..
ولعل الكاتب عمد الى ذلك ليجعل هذا الراوي العليم شاهد عيان عليما على هذه الفترة التي عاشها عمر.
ان هذا الراوي العليم على علم بكل ماخامر ذهن الطفل عمر من تساؤلات وهواجس وهو على علم بكل ردّ لكل فرد من أفراد العائلة.
والكاتب باستخدام هذا الراوي العليم يضفي بذلك شيئا من المصداقية على واقعية الاحداث بالمذكرة الشخصية.
+ التعبير عن المشاعر والانطباعات فالمذكرات لا تقتصر على سرد الأحداث بل تعبر عن المشاعر والانطباعات العاطفية والنفسية التي تصاحب تلك الاحداث:
ان الكاتب لم يخف عن القارئ:
- دموع الام وهي تشعر بالحزن لفراق طفلها(جلست الام في زاوية الغرفة تمسح دموعها بطرف منديلها).
- دموع عمر وشعوره بالحزن(نظر عمر بعينين دامعتين ثم قال بصوت خافت:" أمي اذا اشتقت اليك هل يمكنني ان أراك كل جمعة؟..)
- اطمنان حسان وهو يبث الشعور بالاطمئنان في قلب أمه ( لا تقلقي يا أمي سيكون معي في كل لحظة سأعْتني به كما لو كنت أنتِ معنا).
- تضارب مشاعر الطفل عمر: يحمل مزيجا من المشاعر المتضاربة منها الخوف من المجهول والحنين لأمه والفضول الطفولي لما ينتظره دون ان يدرك تماما معنى السفر..)
- حكمة الأب : يبعث بحكمته الطمانينة في قلب عمر(ستبقى هناك لتدرس وتلعب.. وستعود بعدها لتخبرنا بكل ما شاهدته وعشته وحفظته...)
- الأخ أحمد وهو يشعر بالقلق على اخيه الصغير عمر( لو تركتموه يكبر قليلا فيصبح له 7/ او 8 سنوات...)
+ الدقة في تحديد التفاصيل فالمذكرات تشمل التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو ثانوية والتي يمكن أن تكشف عن جوانب مهمة من شخصية الكاتب وعلاقته بالعالم الخارجي :(يحيط به عالمه الصغير من العلب الفارغة وبقايا الاطارات المطاطية وادوات بعينين تلمعان بالحماس ويدين لا تعرفان الكلل..شرع في قص وتجميع اجزاء سيارة وعربة مجرورة..اوصل العربة المجرورة بكلبة العائلة..ركضت الكلبة والعربة خلفها تتمايل بينما كان عمر يجري بجانبهما ضاحكا).
ان هذه التفاصيل من مشاغل الطفل عمر تدعم تحميل العائلة لعمر الطفل مسؤولية سفره وكأني بها تراهن على شخصيته الاستثنائية.
وخلاصة القول فان كل هذه الخصائص تجعل من قصة الكاتب علي الجراي تندرج ضمن أدب المذكرات.
قد تكون مذكرات الكاتب موجهة الى نفسه بالدرجة الاولى كما في اليوميات الشخصية أو موجهة الى القارئ في صيغة كتابية أدبية ليبثه رسالة فكرية واجتماعية للاعتبار بها.
سلم قلم المبدع علي الجراي الذي طالعنا باحدى مذكراته من مجموعته القصصية "أحن الى خبز نرجس" والتي قد ترتقي بابداعه نحو عالمية أدب المذكرات.
بتاريخ 10/ 10/ 2025
"الخطوة الأولى لإبن الرّيف"( الكاتب:د. علي الجراي) .:.القصة.
عاد عمر إلى الرّيف الذي نشأ فيه، والذي انطلق منه إلى ميدان التّعليم، وقد تجاوز السّتين من عمره. راح يتأمّل أرض أجداده وزيتونها، فعادت به الذّكرى إلى عهد الصّبا، وإلى العهود المليئة بالأحداث التي تلته...
عمرٌ طفلٌ صغير ينحدر من أسرة ريفيّة عريقة، مقيمة في ريف الجنوب التّونسي، حيث لا كهرباء ولا ماء إلا ماء "الماجل". تتكوّن عائلته من أب وأمّ وخمسة أبناء ذكور وبنت واحدة.
لم يحذق للأولاد أي مهنة سوى رعي الأغنام، والإبل، وحصاد الشعير، والقمح. يحفظ والدهم القرآن ويعلمه لأبنائه. عمر هو الطفل الأصغر في العائلة، والكلّ يسمونه "مصّاص الكرشة"، سريع الحفظ للقرآن ويتمتع بقدرة عالية على الكتابة بخط جميل... وخطّاطا من الصغر.
تسكن العائلة ريفًا نائيًا لا مدرسة قريبة منه ولا دكاكين ولا سوقَ ...، ويبعد مسكنهم عن الطّريق المعبّدة ثلاث كيلومترات ونصف. كبر عمر في أحضان ورعاية كلّ العائلة إلى أن أشرف على سنّ الخامسة وبعض الأشهر، وقرّر أفراد العائلة أن يَدخل عمرٌ المدرسة. لكن أين؟ وأقرب منطقة عمران كانت تبعد عنهم حوالي 25 كيلومترًا، وليس لهم فيها من الأقارب من يستقبله ويقيم عنده.
حسّان هو أحد إخوته الذي اهتم كثيرًا بالدراسة بدايةً عند والده، ثم التحق بالفرع الزيتوني في المدينة القريبة منهم وكان من المتفوقين في مجموعته فمنحوه مواصلة دراسته بجامع الزيتونة بالعاصمة وتحصّل بعد بضع سنوات على شهادة الأهليّة التي تسمح له حينها بالالتحاق بالتدريس في المدارس الابتدائية. عُيّن حسّان في جهة تبعد أكثر من مئتين وخمسين كيلومترًا عن مسقط رأسه. أمضى سنته الأولى في التربّص في مدينة بالجنوب الغربي للبلاد ثمّ وقعت نقلته إلى مدينة ساحليّة أقرب إلى الجنوب من الأولى، ولكنها تبقى بعيدة جدًا ليتنقّل إليها طفل لم يبلغ السادسة من عمره بعدُ.
بعد جلسة مسائيّة ذات يوم اتّفق كلّ أفراد العائلة على اصطحاب حسّان لأخيه عمر إلى منطقة السّاحل، رغم ما يمكن ان ينتج عن ذلك من حزن أمّه على فراقه وبقائه بعيدًا عنها لمدة طويلة حتى تحين العطل. جلست الأم في زاوية الغرفة، تمسح دموعها بطرف منديلها.
خلال جلسة شاي في يوم من الأيّام وفي صمت عام لكل الحاضرين بعد ان ذكّر أحدهم بما يترقب عمر، نطقت الأم بصوت متهدّج: "ثلاثة أشهر يا حسّان حتى تأتي العطلة؟! كيف سأتحمّل غيابه كل هذه المدّة؟ إنه لا يزال صغيرًا..." أجابها الأب بلطف وحنان ورصانته المعهودة، وقد كان هادئًا ومتزنًا رغم صعوبة الموقف الذي يعيشه: "أعلم أن الأمر صعب عليكِ، لكنّ عمرا بحاجة إلى هذه التجربة. سيكون مع حسّان، ولن يكون وحده. إنها فرصة ليتعلّم ويعتمد على نفسه. اقترب حسّان من والدته، وجلس بجانبها ممسكًا بيدها، ومبتسمًا وقال: «لا تقلقي يا أمي، سيكون معي في كل لحظة. سأعتني به كما لو كنتِ أنتِ معنا" .كان عمر يُقلّب ناظريه بفضول ودهشة، ويتأمل الوجوه والأشياء من حوله، وخاصة أدواته التي يصنع بها كل لعبه واختراعاته، وما بقي من حطام سيارته والجرّار والعربة المجرورة التي حطّمها بدوس رجليه منذ أن سمع أنّه سيذهب بعيدًا عن عالمه الصّناعي وعن أمّه وأبيه وأخته وأخوَته الذين لا ينقطعون عن دلاله وإحضار كل ما يطلبه، الذي كان قليلا جدًّا وكان قنوعًا كثيرًا بهه... ظهر بينهم كمن يبحث عن تفسير لما يحدث، وهو يحمل في داخله مزيجًا من المشاعر المتضاربة، منها الخوف من المجهول، والحنين لأمه، والفضول الطفولي لما ينتظره. دون أن يدرك تمامًا معنى السّفر، لكنه شعر بأن شيئًا كبيرًا على وشك أن يحدث. قلبه الصغير ينبض بسرعة، وعيناه تلمعان بخليط من الترقّب والقلق. وفجأة نطق بصوت عال: "هل سأعود إلى أمّي بعد يومين أو ثلاثة كما كنا عندما نذهب عند أخوالي؟ هل ستشتاقين لي يا أُمّي؟ هل هناك أطفال مثلي هناك؟ ... هل لديهم كلب اسمه "مس" مثل كلبنا...؟".
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسه، ولا يملك لها إجابات. كلّ ما يعرفه أنه سيبتعد عن حضن أمه، المكان الذي يشعر فيه بالأمان. ورغم كل ذلك، كان هناك شيء في عيني حسّان، يمنحه بعض الطمأنينة. ربما لأن حسّانا وعده أن يكون معه، أو لأن صوته بدا واثقًا حين قال: "لا تخف يا عمر، ستكون معي دائمًا وبخير وستصحبني أينما حللت."
فجأة قفز عمر في حضن أمّه ببراءة وصاح بصوت عال: «أمّي، عندما نرجع من السفر، هل سأجد البسرة التي في النّخلة القبليّة العالية قد نضجت وحضرت؟".
نظرت إليه الأمّ بحنان، وابتسمت رغم ألمها وقالت: «إن شاء الله يا روحي، لكن هذه المرّة السّفر أطول قليلا... ستبقى هناك الى أن تأتي العطلة. وسأحتفظ لك بنصيبك من التّمر حتى تعود". ردّ عمر باستغراب: "يعني لن أرجع قبل ان ينضج التمر ... أليس هذا كثيرا يا أمّي؟"
قال الأب (مقاطعًا بلطف): لا يا بُني، ستبقى هناك لتدرس وتلعب وتتعلم أشياء جديدة، وستعود بعدها لتخبرنا بكلّ ما شاهدته وعشته وحفظته. رفع عمر رأسه ببطء، وكأنه يحاول أن يفهم، ثم قال: "طيب... لكن هل سيحكي لي حسّان كل ليلة حكاية قبل النوم...؟" نظر عمر إلى أمّه بعينين دامعتين، ثم قال بصوت خافت: "أمّي... إذا اشتقت إليكِ، هل يمكنني أن أراك كل جمعة؟" ابتسمت الأم وسط دموعها، وربّتت على رأسه. "بالطبع يا حبيبي، آآآآه إن شاء الله. وسأعُدّ الأيّام حتى تعود لي". كان حديث والده وتشجيعه للذهاب مع حسّان حافزًا له للدّخول إلى المدرسة التي لا يعرف عنها شيئًا، وطمأنينة لأمّه لتسكن وتطمئن عليه. في لحظة امتزج فيها القرار بالعاطفة، اتفق أفراد العائلة على اصطحاب حسّان لأخيه الصغير عمر إلى منطقة السّاحل، حيث سيقيم هناك ولأوّل مرّة قرابة ثلاثة أشهر حتى تحين العطلة المدرسية الأولى. كلّ أفراد العائلة يهوّنون هذه المغامرة لح ليلتحق بالمدرسة وبزيد شغفه بها، وهو لا يعرف عنها شيئًا بعدُ. لم يكن هذا القرار سهلًا على قلب الأم التي تخفي دموعها خلف ابتسامة باهتة، وكأنها تودّع قطعة من روحها تُنتزع منها برفق مؤلم.
فجأة، قال أخوه أحمد وهو يضرب كفّه على ركبته: أمَا وجدتم شيئًا آخر تشغلونه به؟ لم يدخل السوق يومًا في حياته، ولم يفارق أمّه قطّ. لماذا كل هذا التسّرع؟ لو تركتموه يكبر قليلًا، ولو سنة أو سنتين، فيصبح له 7 أو 8 سنوات، وعلّمته كيف يرعى ويسُوس معي الغنم والإبل، لكان خيرًا مما تفعلونه به الآن. الدُّنيا لن تهرب، والطّفل لم يشبعْ بعد من حضن أمّه.
سكت الجميع لحظة بعد ما تكلّم أحمد ، وكأنّ ما قاله نزلَ على الجالسين كالحجر. رفع الأب، الذي كان ساكتًا طوال الوقت، عينيه من الأرض وقال بصوت هادئ لكن فيه حزم: "أعلم أنكم تريدون الخير لأخيكم، بينما الوقت لا تنتظر، وينبغي للولد أن يتعلّم منذ صغره. السّوق ليس وحشًا، وهو ذاهب مع أخيه، لا وحده." ثم أضاف، وعيناه تلمعان بثقة: وحتى إن كان صغيرًا، فهو ذكيّ، وعيناه تبرقان كلما سمع النّاس يتحدّثون عن البيع والشّراء. وربما يفتح له التعلّمُ بابًا لم نكن نحلم به." أحمد لم يصمت، قد كان قلبه ممتلئًا بالكلام، فقال: "لم أقل لكم لا ولا أمانع قطعا، لكنّه لا يزال صغيرا ويحب اللّعب، والركض في الزريبة، والنوم في حضن أمّه... ههههه...، وسماع حكاياتها قبل أن تغمض عيناه. المدرسة تعلّمه، نعم، إلا أن حضن أمّه هو الذي يربّيه." في تلك اللحظة، كانت الأم تستمع إليهم من بعيد وهي تعجن الخبز. مسحت يديها في المنديل، وتقدّمت نحوهم بخطى بطيئة، ثم وقفت أمامهم وقالت: "كلكم على صواب، فهو لا يزال صغيرًا، وهو ابني وكبدتي، وأنا أكثر من سيتألم لفراقه. أعلم أنه سيفتقدني منذ اليوم الأول، رغم أن حسّان يعامله بحنان كبير، أسأل الله أن يمنحني الصبر، لكنّي أحب أن أراه يتعلّم مثل أقرانه، ويصبح معلّمًا مثل حسّان، لا أن يكون مصيره رعي الشويهات.
ثم جاء حديث الأب، المليء بالحكمة والطمأنينة قائلا: «الخير لا يُنتظر، ومن الحكمة أن يتعلّم المرء منذ صغره، فالحياة لا تمهل المتأخرين "، كان بمثابة البلسم الذي هدّأ به الأم من روعها وعادت الى عجن الخبز. كما أن تشجيع حسّان له جعله يتحمّس لخوض هذه التجربة الجديدة. إلا أنّه كيف لطفل لم يتجاوز بعد عتبة الطفولة الأولى أن يواجه الغربة وحده؟ كيف له أن ينام ليلته الأولى بعيدًا عن حضن أمه، وأن يستيقظ في بيت لا يحمل رائحة دفئها؟ كما أنّ البُعد عن الوالدين، خاصة في هذا العمر الحساس، قد يترك في النّفس الصغيرة فراغًا يصعب ملؤه. فمشاعر الحنين، والخوف من المجهول، والبحث عن الأمان في وجوه جديدة، قد تثقل قلب عمر الصّغير ذو الست سنوات. دخوله إلى المدرسة لأول مرة، في بيئة غير مألوفة، قد يزرع في نفسه شيئًا من القلق والتردّد، خاصّة إذا لم يجد من يفهم مخاوفه أو يشاركه مشاعره. وقد يجد نفسه مضطرًا إلى الاعتماد على ذاته قبل الأوان، فيتحمّل مسؤوليات لم يعتد عليها بعد، كتنظيم وقته، والتعبير عن احتياجاته، والتعامل مع معلمين وأقران لا يعرفهم. وإذا ما اختلف الوسط الذي عاشه في المنطقة الجديدة عن تلك التي نشأ فيها في الجنوب التونسي، قد يشعر بالغربة أو يجد صعوبة في الاندماج، مما قد يؤثر على ثقته بنفسه. لكن، وسط هذه التحديات، يظل وجود أخيه حسّان المدرّس الجادّ والطّموح والشّغوف بالتربية والتّدريس إلى جانبه، شعاع أمل يخفّف من وطأة الغربة. فالأخ الحنون مثل حسّان سيكون الحضن البديل، والرفيق الذي يربّت على كتفه حين يشتاق، ويشجّعه حين يتردد. كما أن كلمات والده المشجعة، وحنان أمه الذي سيظل يرافقه في قلبه، قد يكونان دافعًا له لاكتشاف قدراته، وبناء شخصيته، وتجاوز هذه المرحلة بثقة وأمل.
إنها تجربة صعبة، نعم، لكنها قد تكون أيضًا بداية لنضج مبكر، وتعلم دروس لا تُنسى في الاستقلالية، والصبر، والاعتماد على النفس. فالغربة، وإن كانت قاسية، قد تكون المعلّم الأول في دروب الحياة، حين تُخاض بقلب صغير، لكنه شجاع. لم يكن عمر طفلًا عاديًا يكتفي باللعب بما يُمنح له، بل كان مخترعًا صغيرًا يرى في كل قطعة مهملة فرصة لصنع شيء مدهش.
ذات صباح، وبينما كانت الشّمس تتسلل بخجل بين أغصان الزيتون، جلس عمر في ظل شجرة الزيتون التي كان يلجأ إليها حين يطرده أخوته من البيت أو من الكوخ القشّي لكثرة هوشته وهرجه ومرجه ورفض استسلامه لقيلولة حلوة كبقية أفراد العائلة، يحيط به عالمه الصغير من العلب الفارغة وبقايا الإطارات المطاطية وأدوات. بعينين تلمعان بالحماس، ويدين لا تعرفان الكلل، شرع في قصّ وتجميع أجزاء سيارة صغيرة كالتي رآها يوما تمرّ غير بعيدة عنه وعربة مجرورة كالتي يستخدمها أخوه عبد السّلام عندما يذهب للاشتغال عند أخواله ويسمونها: "الكريطة"، مستخدمًا أدوات بسيطة، لكنها بين يديه تتحول إلى تحفة ميكانيكية مصغرة. لم يكتفِ عمر بالمجسّمات، بل قرّر أن يختبر اختراعه على أرض الواقع، أوصل العربة المجرورة بكلبة العائلة المدللة "سو"، صديقته الوفية ورفيقة مغامراته اليومية. ركضت الكلبة والعربة خلفها تتمايل، بينما كان عمر يجري بجانبهما ضاحكًا، يصفق ويهتف وكأنه في سباق حقيقي. كانت لحظة مدهشة، جمعت بين الخيال والواقع، وأثبتت للجميع أن هذا الطفل يملك عقلًا يسبق سنّه، وخيالًا يستحق أن يُرْوَى. وسَرى الخبر بين كل أفراد العائلة وأغلب الأقارب: عمر يصنع "كريطة" للكلبة.
لم يكتفِ عمر بالمجسّمات الأرضية، بل أطلق خياله نحو الماء، فصنع سفينة صغيرة من "كرناف النّخيل" — ذلك الليف الطبيعي الذي اختاره بعناية لما يتميّز به من سهولة التشكيل وخفة الوزن، مما يجعله مثاليًا ليطفو فوق الماء. جهّز عمرالقارب بأعمدة وقطعة قماش بيضاء قصّها من قميص بالٍ فبدت وكأنّها قطعة من أسطول أوروبي كما شاهدها في احدى صور المنجد الكبير الذي يمتلكه حسّان. وضع السفينة في قصعة صابون قديمة، وراح يراقبها وهي تبحر بهدوء فوق سطح الماء، كأنها تلبّي نداء مغامرته البحرية الأولى. كانت لحظة ساحرة، جمعت بين براعة اليد وخيال الطفولة. أثبتت أن عمرا لا يصنع أشياء فحسب، بل يخلق عوالم كاملة من لا شيء. غير أنّه حين رأى أفراد العائلة ما فعله عمر، لم يكن هناك مجال للتردد: هذا الطفل يجب أن يدخل المدرسة. ليس فقط لأنه صنع شيئًا بيديه، بل لأنه أظهر تفكيرا مبدعا، وذكاءً عمليًا، وبهجة لا تُقاوَم.
بقلم الدكتور علي الجراي من مجموعته القصصية بعنوان
"أحن الى خبز نرجس..."

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق