قراءة لقصيدة " السَّعْيُ إلَى أُمْنِيّةٍ " للبروفيسور الأستاذ لطفي منصور.
القصيدة:
السَّعْيُ إلَى أُمْنِيّةٍ
- أُمْنِيَةٌ كانَتْ تُكَلِّلُني
- ذِكْرُها كانَ يُعَلِّلُني
- تَطْفُو عَلَى الْفِكْرِ تُؤَرِّقُنِي
- لا أَدْرِي أَخَيالٌ أَمْ وَهْمٌ يُعاوِدُنِي
- شَبَحُها فِي الْقَلْبِ يُزْعِجُني
- وَفي الرُّقادِ تَمُرُّ فَتُرْعِبُني
- تَتَقَرّاها أَنامُلِي فَتُخْذِلُنِي
- أُمْنِيَتي قُوَّةٌ تَدْفَعُني
- في جَهالاتِ الْحَياةِ تَقْذِفُنِي
- خارَتْ قُوايَ وَهِيَ تَرْمُقُني
- بِعَيْنَيْ ذِئْبٍ تُذْهِلُني
- رَبّاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحالي فَأَقِلْنِي
- مالي غَيْرُكَ مِنْ سَنَدِ أَغِثْنِي
- فَرِّجْ همِّي وَارْفَعِ الْغَمَّ عَنِّي
- فَإذا بِصَوْتٍ رَخيمٍ يُناجِينِي
-مانُهُ الْقَلْبُ: عَبْدي أَخْبِرْنِي
- مِمَّ تَشْكُو وَأَنْتَ تَحْتَ عّيْني
- رَبِّي لي أُمْنِيَةٌ خَضْراءُ تطارِدُني
- لا أَدْرِي ماهِيَ فَإلَيْها يَسِّرْنِي
- وَعادَ الصَّوتُ ثانِيَةً يُواسيني
- يا عَبْدِيَ لَقَدْ مَنَحْتُكَ فّافْهَمْنِي
- أُمْنِيَتَ بَيْنَ يَدَيكَ بِها تدْعُونِي
- جَواهِرُ مِنَ الْألْفاظِ بها تَعْبُدُنِي
- ضَرَبْتُ جَبِينِي بِيَدِي مَنْ لِي يُعْذِرُنِي؟
- إنَّها عَرَبِيَّتي في سِحْرِها تُنْجيني
بروفيسور لطفي منصور
*************************
القراءة:
إنني أقف بين يدي هذه القصيدة وقفة المتأمل الخاشع، والمتبتل المتذوق، التي كتبها الأستاذ الدكتور لطفي منصور، الذي شُهِدَ له بالريادة في مجال اللغة العربية وآدابها.
لقد جاءت هذه القصيدة لترسم بريشة الفنان الماهر رحلة الروح الإنسانية في سعيها نحو أمنيتها، فتارةً تعلو بها إلى عنان السماء، وتارةً أخرى تتردى بها في حفر اليأس والقنوط، حتى تبلغ المنحة الإلهية التي تجعل من هذه الأمنية سبيلاً للخلاص.
أولاً: في بنية القصيدة ونسيجها الفني
لقد نسج أستاذنا خيوط قصيدته في ثلاث مراحل متتابعة:
المرحلة الأولى: التيه والضياع يبدأ برسم صورة للإنسان الذي تسكنه أمنية تتلاعب به، فتارةً تُكَلِّله وتارةً تُعَلِّله، وتارةً تُقلقه وتارةً تُرعبه، فيقول:
أُمْنِيَةٌ كانَتْ تُكَلِّلُني ذِكْرُها كانَ يُعَلِّلُني
وهنا نلمس الانزياح البلاغي في استخدام الفعل "تُكَلِّلُني" الذي يوحي بالتفوق والنجاح، بينما "يُعَلِّلُني" يوحي بالتسكين والتخفيف. ثم ينتقل إلى وصف حالة القلق والاضطراب التي تسببها له هذه الأمنية:
تَطْفُو عَلَى الْفِكْرِ تُؤَرِّقُنِي لا أَدْرِي أَخَيالٌ أَمْ وَهْمٌ يُعاوِدُنِي
فالتمييز بين "الخيال" و"الوهم" يشي بحيرته وتردده، وكأنه لم يعد يملك القدرة على التمييز بين الحلم والحقيقة.
المرحلة الثانية: الالتجاء إلى الله عندما تبلغ الحيرة ذروتها، وتنضب قواه، وتصبح أمنيته ترمقه "بِعَيْنَيْ ذِئْبٍ"، يلتجئ إلى ربه متضرعاً:
رَبّاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحالي فَأَقِلْنِي مالي غَيْرُكَ مِنْ سَنَدِ أَغِثْنِي
وهنا نجد الانزياح التركيبي في تقديم الجار والمجرور "مالي غيرك" للدلالة على الحصر، مما يعكس اليقين بأن الله هو الملجأ الوحيد.
المرحلة الثالثة: الوحي والاكتشاف تأتي الاستجابة الإلهية سريعة، فيصبح النداء الإلهي صوتاً رحيماً يناجيه:
يا عَبْدِيَ لَقَدْ مَنَحْتُكَ فّافْهَمْنِي أُمْنِيَتَ بَيْنَ يَدَيكَ بِها تدْعُونِي
فالأمنية لم تكن بعيدة عن أستاذنا، بل كانت بين يديه، لكنه كان يبحث عنها في كل مكان. ثم يأتي الكشف الحقيقي:
جَواهِرُ مِنَ الْألْفاظِ بها تَعْبُدُنِي
فالألفاظ الجوهرية هي سبيل العبادة، وهي الوسيلة للتقرب إلى الله. وهنا تبلغ القصيدة ذروتها باكتشافه لحقيقته وهوية خلاصه:
إنَّها عَرَبِيَّتي في سِحْرِها تُنْجيني
ثانياً: في مضامين القصيدة ورموزها
لقد استخدم أستاذنا مجموعة من الرموز العميقة:
رمز "الأمنية الخضراء": فاللون الأخضر يرمز إلى النماء والحياة والخصب، مما يدل على أن هذه الأمنية مصدر حيوية وإبداع.
رمز "عيني ذئب": الذي يرمز إلى الخطر والتهديد، وكأن الأمنية تتحول إلى مصدر رعب عندما تفقد معناها الحقيقي.
رمز "الجواهر من الألفاظ": الذي يرمز إلى الكلمات المختارة بعناية، والتي تحمل في طياتها معاني سامية وجميلة.
ثالثاً: في السياق الشخصي
لا يمكن فصل هذه القصيدة عن شخصية كاتبها، الأستاذ الدكتور لطفي منصور، الذي عُرف بدقته النحوية وشغفه باللغة العربية. فالقصيدة تعكس رحلته الشخصية مع اللغة، وكيف أصبحت مصدر خلاصه وفخره. إنها قصيدة عن الهوية والانتماء، عن اكتشاف الذات من خلال اكتشاف اللغة.
إن هذه القصيدة لتعد نموذجاً رفيعاً للشعر العربي الأصيل، جمعت بين عمق المضمون وجمال الشكل، بين صدق العاطفة وقوة التعبير. فهي ليست مجرد كلمات تنظم في أبيات، بل هي رحلة إنسانية عميقة، تبدأ بالحيرة والتساؤل، وتنتهي باليقين والاكتشاف.
فالحمد لله الذي مَنَّ على أستاذنا بهذه البصيرة، وجعل من اللغة العربية منجاة وملاذاً.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
6/10/2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق