الأحد، 26 أكتوبر 2025

**((يظة شرف)).. قصة: مصطفى الحاج حسين.

 **((يظة شرف))..

قصة: مصطفى الحاج حسين.


- سلسلة قصص عن أبي -


جدّتي (صبريّة) من أقوى النّساء، إلّا أنّها تنصاعُ لرغباتِ وأوامرِ جدّي؛ فهي تخافُه وتحبُّه، منذ اللحظة التي تعرّفتْ عليه فيها، يوم الحصاد.

 

أشفقت عليه، ساعدته، وعلّمته، وأُعجبت به، بل فُتِنَت بجماله وأحبّتْه.  


وجدّي (سامي) لا يُغيّر من طبعه؛ فهو ابن (الأغا)

، الذي يفرضُ إرادته على كلّ الناس.


في بداية شبابها، تزوّجتْ من ابن عمّتها، في بلدها (حماة)، التي هرب منها والدُها، بعد أن ارتكب جريمة قتل، ولجأ إلى قريتهم (أبو طلطل) البعيدة، بعد أن تنكّر، وغيّر اسمه، كي لا يعرفه أحد، ولئلّا يقع بيد (الدرك)، الذين يبحثون عنه في كلّ البلاد السّوريّة.


والدها (قدري) اشتغل عند جدّها، والد أمّها (ليلى)، مزارعًا في أرضه الشّديدة الخصوبة، والعظيمة العطاء، بعد أن صارحه بحقيقة أمره، ووضعه الحقيقي؛ فهو مجرم عند (الدرك)، لكنّه أمام الله، بريء، وشهم، وقبضاي، ورجلٌ شريف، وحرّ.

 

فقد أُجبِر على ارتكاب جريمته بدافع المروءة، والنّخوة، والشّهامة، وكان ذلك في الزّمن (العثماني)


كان (قدري)، والدُ جدّتي، في أيّام صباه، له أصدقاء وأصحاب، يلتقي بهم، ويمضي وقته بصحبتهم، لكنّهم كانوا يعانون من ضيق الحال؛ فلا عمل عندهم، ولا (مصاري) يشترون بها ما يحتاجونه، وخاصّة التّبغ، الذي أدمنوا عليه.


فقال (فارس) احد أصحابه:


- ما رأيكم أن نتسلّل، في عتمة الليل، ونسطو على مسكن رئيس (الركون)

؟!.. فهو مليء بالذّهب، و(المصاري)!


أُعجِبوا بفكرة (فارس)، وراحوا يُراقبون مسكن رئيس (الكركون). وحين يغادره ليلًا، يُداهمونه، وهم خمسة شبّان، مسلّحين بالخناجر.


وحين حانت الفرصة، وتأكدوا أنّ رئيس

(الركون) ليس في مسكنه

،تسلّلوا ملثّمين في العتمة

، وبأياديهم الخناجر.

 

توزّعوا على الغرف لتفتيشها، والبحث عن الذّهب و(المصاري).


دخل والدُ جدّتي، وصديقه المقرّب (فارس)، إلى غرفة النّوم. 


أوقد (فارس) شمعةً كانت معه، وضعها على طرف النّافذة. 


كانت هناك امرأة تغطّ في نومها على السّرير الواسع، ويرقد إلى جانبها طفلها الرّضيع. 


اقترب والدُ جدّتي من السّرير، وراح (فارس) صديقه، يفتّش في الخزائن والأدراج.


وصَحَتِ المرأةُ على الأصواتِ الخافتةِ التي صدرت عن فتحِ الأدراج، ولمحت (قدري) والدَ جدّتي، الملثَّم، والقابضَ على خنجرِه فوق رأسها، فصدرت عنها صرخةُ رعبٍ.

 

أسرع والدُ جدّتي لإسكاتها، واضعًا يدَه على فمِها، ودمدم بصوتٍ مرتعش:


– أخرسي! واحذري أن تُصدري أيَّ صوت، وإلّا قتلتُكِ وقتلتُ ابنكِ! نحن لن نؤذيكِ، إنْ أعطيتِنا الذّهبَ و(المصاري) التي عندكم.


انكمشتْ... شدّت نحوها اللحافَ لتستر صدرَها المكشوف، وقالت، ودقّات قلبِها تسبقُ صوتَها الخائف:


– أرجوك... لا تقتلني، ولا تقتل ابني... سأُعطيكم ما تريدون.


– اطمئنّي، ولا تخافي... لن نؤذيكِ،لا أنتِ ولا ابنكِ

.لكن أعطِنا، وبسرعة، ما عندكِ.


توقّف (فارس) عن البحث

، وترك الخزائنَ والأدراج، واقترب من السّرير، في حين هرع رفاقُهما الثّلاثة إليهم.

 

وفي هذه الأثناء، صحا الطّفلُ، وفغر فاهُ باكيًا، فخاطبته أمُّه:


– اصمت يا بُنَيّ، واصبر، حتّى أُعطي أخوالك الذّهب و(المصاري)، ثمّ أُرضِعك.


حين سمع (قدري)، والدُ جدّتي، هذه المرأةَ تقول لابنها عنهم: "أخوالك"، خجل من نفسِه، وصحا على أمره، وتراجع عن السرقة، وقال:


– يا شباب، بما أنّ هذه المستورة تقول عنّا لابنها: "أخواله"، فقد تحرّم عليّ سرقتُها، ولن أسمح لأحدٍ أن يسرقَها.

  

هي بعهدِ الله، صارت أختي، وأمانةٌ في رقبتي، هي وابنها، منذ هذه اللحظة.


صرخ (فارس)، وكأنّه مجنون، وقد صدمه ما سمع من صاحبه (قدري):


– ماذا تقول؟!.. أبعْدَ أن نجحت خطّتُنا، تريد التراجع؟!.. لأنّها قالت عنّا لابنها "أخواله"؟!.. فلتَحمد ربَّها، أنّنا لم نغتصبها، أو نؤذِ ابنها!.

 

صاح والدُ جدّتي (قدري)، محتدًّا:


– اصمت يا (فارس).. وارجع من هنا!


فأماط (فارس) اللثام عن وجهه، وعلَا صوتُه:


– هل صِرتَ شريفًا الآن يا (قدري)؟!.. من أين جاءك هذا "الشّرف" فجأة

؟!.. إن كانت أعجبتك، فاغتصبْها وارتَوِ منها، ونحن ننتظرُك خارج الغرفة!


زعق (قدري)، والدُ جدّتي، وكان الغضب قد تملّكه:


– اخرس يا حقير!.. أنا نعلُ رجلي أشرفُ منك ومن عائلتك!


وكانت المرأة مرعوبة، منكبّةً على نفسها، تحاول ستر جسدها، بينما ولدها غارق في بكائه، وبدأ رفاقهم الثلاثة يتدخّلون، ويحاولون تهدئة الوضع.


وَهَجَمَ (فارس) على السَّرِير، وَانْقَضَّ على الطِّفْلِ الصَّغِير، مِن جِوارِ أُمِّهِ، الجَزِعَةِ، وَالبَاكِيَةِ، وَالمُنْهَارَةِ... تَضَاعَفَ بُكَاءُ الصَّغِير، أَحَسَّ بِيَدٍ مُتَوَحِّشَةٍ، شَرِسَةٍ، خَلَعَتْ قَلْبَه، وَأَطْبَقَتْ على أَضْلُعِهِ، بِعُنْف:


- أَعْطِنِي الذَّهَبَ... قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَهُ لَكِ!


وَجَأَرَتِ المَرْأَةُ، مِن شِدَّةِ خَوْفِهَا:


- أَرْجُوكَ... أَتْرُكِ ابْنِي... وَأَنَا أُعْطِيكَ كُلَّ مَا تُرِيدُه!


وَانْبَعَثَ صَوْتُ رَفِيقِهِمُ الثَّالِث:


- تَوَقَّفْ يَا (فَارِس)... دَعْنَا نَتَفَاهَمْ مَعَ (قَدَرِي)!


صَاحَ (قَدَرِي)، وَكَانَ في قِمَّةِ غَيْظِهِ:


- قُلْتُ لَكُمْ... هَيَّا بِنَا نَذْهَبْ، قَبْلَ أَنْ يَعُودَ زَوْجُهَا!


وَلَكِنَّ (فَارِس) صَاحَ مُوَجِّهًا كَلامَهُ إِلَى المَرْأَةِ العَاجِزَةِ، عَنْ فِعْلِ أَيِّ شَيْء:


- اخْلَعِي ذَهَبَكِ، وَأَعْطِينِيهِ

، بِسُرْعَة!


وَبَدَأَتِ الأُمُّ، تَنْزِعُ الأَسَاوِرَ مِنْ يَدَيْهَا، بَيْنَمَا كَانَ (قَدَرِي) يُنَبِّهُه، وَيُحَذِّرُه، وَيُهَدِّدُه. 


و(فَارِس) مُصِرٌّ على أَخْذِ مَا عِندَهَا، مِن ذَهَبٍ وَ(مَصَارِي)... حَاوَلَ (قَدَرِي) الاقْتِرَابَ مِن صَدِيقِهِ، المُتَأَهِّبِ لِخَطْفِ رُوحِ الطِّفْلِ، دُونَ أَيِّ تَرَدُّد.


صَاحَ (فَارِس) بِغَيْظٍ شَدِيد:


- ارْجِعْ يَا (قَدَرِي)... ابْتَعِدْ عَنِّي... وَإِلَّا...


وَهُنَا... كَانَ الخِنْجَرُ، قَدِ انْغَرَزَ في قَلْبِ (فَارِس)، وَ(قَدَرِي) لَا يَدْرِي كَيْفَ؟! اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْتَرِبَ مِن (فَارِس) وَطَعَنَه؟!


سَقَطَ الطِّفْلُ، مِن بَيْنِ أَيْدِي (فَارِس)، وَتَمَكَّنَ... وَبِسُرْعَةٍ فَائِقَةٍ... (قَدَرِي) مِنِ الْتِقَاطِ الطِّفْلِ، لَمْ يَتْرُكْهُ، يَسْقُطْ عَلَى الأَرْض.


وَانْبَعَثَ أَنِينٌ صَادِرٌ، عَنْ أَلَمٍ هَائِلٍ، وَتَدَفُّقِ دَمٍ غَزِيرٍ، مِن صَدْرِ (فَارِس)... تَرَنَّحَ، وَتَحَرَّكَ نَحْوَ البَابِ، قَبْلَ أَنْ يَرْتَمِيَ عَلَى الأَرْضِ.


وَتَعَالَى صِيَاحُ المَرْأَةِ، وَصَرَخَاتُ الرِّجَال المندهِشةُ ممّا حدث، بهذهِ السُّرعةِ الخاطفة، صاحت:


- ماذا فَعَلْتَ يا (قدري)

؟!.. لقد قتلتَ (فارس)، صديقَ عُمرك، وأخاك!!  


وخرجوا من الغرفةِ، هاربين.


لكنَّ (قدري) التفتَ إلى المرأة، وطلب منها أن تهدأ، وتُرضِعَ ابنَها، الذي فَرَط قلبُه من كثرةِ البكاءِ، ثم قال لها:


- سامحيني يا أُختي، عليّ أن أهرب، قبلَ مجيءِ زوجِكِ.


وقبل أن يخرج، صاحت من خلفِه:


- توقّف يا أخي (قدري).. أرجوك!


استدارَ إليها، وعيناهُ تلمعانِ من كثافةِ الدّمع، فقالت:


- ألا تتعرّفُ الأُختُ على وجهِ أخيها؟!.. انزعِ اللثام، لأرى وجهك، وأحفَظَ ملامِحه، وتقاسيمه، إلى آخرِ لحظةٍ من حياتي.


نزع (قدري) لثامَه، وعاد نحو المرأةِ خطوتين، وردّد:


- سامحيني.. أنا لستُ حراميًّا، لكنّ الشيطان، والظروفَ الصعبة، كانتا السّبب.


مدّت يدها إلى طرف السّرير، وأخرجت كيسًا فيه (مصاري)، وناولته لـ(قدري)، الذي انتفض، ورفض، وقال:


- لا.. أنا قتلتُ رفيقي، لأجلِ ألّا يسرقك أحد، فكيف آخذ منكِ الآن؟!.. هذا مستحيل!


- إلى أين ستذهب الآن؟


- سأهرب.. إلى بلدٍ بعيد.


- لهذا أعطيتك (المصاري)

، ستحتاجها.. خذها أرجوك، أنت ابنُ حلال، وشهم.. سأطلب من زوجي أن يُسامحك، وأن لا يبحث عنك.. ألم تقل إنّي أختك؟!.. وهل الأخ يرفض عطاءَ أُخته؟!


أخذ (قدري) (المصاري)، وتسلّل.. وهرب.*


 مصطفى الحاج حسين*



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق