الخميس، 2 أكتوبر 2025

**(( مئذنة المطر: الموت كظلٍّ داخلي في القصيدة الحديثة )). ((قراءة رمزية نفسية في قصيدة "مئذنة المطر)) (لمصطفى الحاج حسين). *بقلم:(( زهرة زميطة ))..

 **(( مئذنة المطر: الموت كظلٍّ داخلي في القصيدة الحديثة )).

((قراءة رمزية نفسية في قصيدة "مئذنة المطر)) 

(لمصطفى الحاج حسين).   

*بقلم:(( زهرة زميطة )).. 


في قصيدته "مئذنة المطر"، يكتب الشاعر، 

مصطفى الحاج حسين، في هذه القصيدة، لا يرثي ((خالد خليفة)) فقط، بل يرثي عالمًا بأكمله. رثاء يتجاوز الشخص إلى الفكرة، والذات إلى الجماعة، والوجدان إلى المصير.


قصيدة «مئذنة المطر» إذًا، ليست نصًا عابرًا في دفتر الحزن، بل قصيدة تنتمي إلى التيار الأعمق من الشعر العربي الحديث

، ذلك الذي يزاوج بين التجريب والرؤية، بين الصدق والعذوبة، وبين الموت والحياة. 


مرثية حداثية لصديقه الراحل ((خالد خليفة))، لكنها تتجاوز طابعها الشخصي لتتحول إلى تأملٍ وجوديّ في معنى الموت، وتجسيد شعريّ لحالة جماعية من الانكسار الروحي، في ظل واقع عربي مأزوم، مثقل بالفقد والقمع والخراب.


القصيدة تُفتتح بصورة صادمة:  

«الموتُ يلبسُ أيامَنا / وينطلقُ»  

هذه العبارة تشي بموتٍ ليس لحظة بيولوجية، بل كينونة مرافقة للزمن المعيشي، تتسلل في الضحك والحلم والشهوة. إنّ الموت هنا حالة، ومشهد، وطقس من طقوس الحياة. يتحول إلى "جرس"، "سمك"، "تفاح"، و"نافذة"؛ وكلها صور ترتبط بالمعيش واليومي، ما يجعل الحضور الوجودي للموت أكثر اختراقًا ودهشة.


النص مشبع بعاطفة الأسى والخذلان، لكنه لا يستسلم للنوستالجيا أو البكاء على الأطلال. بل يواجه الموت عبر لغة ذات بُعد معرفي وجمالي، يشي بكثافة الوعي وحرقة التجربة. فالموت هنا لا يُجابه بالصراخ، بل بالشعر، بالكشف، وبالمجازات الصوفية مثل:  

«الموتُ سجادةُ صلاةِ الكافرين»  

«مئذنةُ المطرِ الشّاردِ عن بحارنا»  

وهذا الجمع بين الدين والمدنس، النور والعتمة، الطقوس والانتهاك، يعكس توازنًا نفسيًا هشًا، لكنه عميق


المدينة/البلد حاضرة في خلفية النص كمساحة للغياب، ومكان للخذلان. الموت ليس طارئًا بل مقيمٌ في الذاكرة والمرآة:  

«مختبئًا في عيونِ مرآتنا المهشّمةِ». 


في قصيدته الموسومة بـ"مئذنة المطر"، يهدي الشاعر مصطفى الحاج حسين نصَّه إلى روح الصديق الراحل "خالد خليفة"، لكنه لا يكتفي بالرثاء كطقس عاطفي، بل يحوّله إلى تجربة تأمل كونية شاملة في معنى الموت، وعلاقته بالحياة والذاكرة واللغة والزمن. هذه القصيدة تُعتبر واحدة من النصوص الشعرية التي تنقل الفقد من المستوى الشخصي إلى الوجودي، ومن الحزن الفردي إلى الخراب الجماعي.


منذ السطر الأول:  

"الموتُ يلبسُ أيامَنا / وينطلق"  

يقدم الشاعر الموت باعتباره شيئًا يوميًّا، مُلتصقًا بالنفس والذاكرة، لا بوصفه نهاية، بل كمكوّن من نسيج الوجود ذاته. يمشي الموت مع الخطى، يسكن الضحكات، ويصاحب الأحلام.


"يزهو بانكسار أرواحنا"  

هنا نجد قلب الصورة: الموت ليس فقط غيابًا، بل يمتلك وعيًا وبهجةً مَرَضية، فهو يفرح بانكسار الإنسان، ويتغذى على انطفائه.


تمتاز القصيدة باستخدام رموز مركّبة تنفتح على أكثر من طبقة:

- "جرس على أبوابنا": الموت لا يقتحم، بل يقرع بلطف، منتظرًا أن نفتح له أبوابنا طواعية.


"سمك في مائنا" / "تفاح في شهواتنا": إنه حاضر في الحياة، في اللذة، في ما نأكله ونشتهيه.  

- "سجادة صلاة الكافرين": صورة عميقة تستفز المتلقي، إذ يُحوَّل الموت إلى معراجٍ معاكس، إلى فعل روحاني بلا قداسة.


كل تلك الصور تؤسس رؤية مقلقة ومؤلمة: العالم قد تصالح مع موته الداخلي، حتى أصبحت أدوات النور (المئذنة، المطر، البحر) رموزًا للتيه.


يعبّر النص عن حالة اغتراب عميق يعيشها الشاعر، ليس فقط لفقد الصديق، بل لفقد المعنى ذاته.  

القصيدة مليئة بالتناص الداخلي:  

"نراه يطل من أيادي أحبابنا" 

الموت هنا خيانة صامتة، يظهر من بين أقرب الناس، ليس على هيئة موت جسدي بالضرورة، بل كخذلان، كتحوّل، كتآكل داخلي.


تأتي آخر صورة:  

"مختبئًا في عيون مرآتنا المهشّمة"  

كخلاصة لكل الانكسارات السابقة:  

الذات لم تعد ترى صورتها إلا عبر مرايا محطّمة.  

الموت لم يعد ضيفًا، بل أصبح سكَنًا دائمًا داخلنا، لا يظهر في الخارج، بل يرانا من الداخل.


"مئذنة المطر" ليست مرثية لصديق فقط، بل هي مرثية لوطن، لجيل، لزمن، لإنسان يشعر أن الموت بات خلف كل نافذة.  

في هذه القصيدة، تتجلّى قوة اللغة عند مصطفى الحاج حسين: إذ يحوّل الكلمات إلى مرايا، والصور إلى صرخات مكتومة، والغياب إلى صدى لا يتوقّف.  

إنه نص لا يواسي، بل يوقظ.  

لا يهدئ، بل يواجه القارئ بمرآته المُهشّمة.*


  الأستاذة: زهرة زميطة ..


**(( مئذنةُ المطر ))


إلى روحِ صديقي المُبدع:

  

    (( خالد خليفة )).. 

 

   أحاسيس: مصطفى الحاج حسين. 


المَوْتُ يَلْبَسُ أيّامَنا  

ويَنْطَلِقُ  

إلى رِحابِ ضَحِكاتِنا  

وآفاقِ أَحْلامِنا الصّاخِبَةِ  

يَزْهُو بانْكِسارِ أَرْواحِنا  

ويَمْضي  

فَوْقَ أَعْمارِنا  

مُحَمَّلًا بِشُعاعِ ذِكْرَياتِنا  

الحُبْلى بالنَّدى الوَرْدِيِّ  

وأَعْشابِ قَصائِدِنا الشّاهِقاتِ  

المَوْتُ جَرْسٌ على أَبْوابِنا  

سَمَكٌ في مائِنا  

تُفّاحٌ في شَهَواتِنا  

نافِذَةٌ تُطِلُّ على ظُلْمَتِنا  

وشُموسُ خُطانا  

هو جُدْرانُ رَبِيعِنا الشّائِبِ  

أَغْصانُ الدَّمارِ النّابِتِ  

مِفْتاحُ العَدَمِ الرَّؤومِ  

سُنْبُلَةُ أَصْواتِنا الهائِمَةِ  

في بَراري سَنَواتِنا القاحِلَةِ  

المَوْتُ سِجّادَةُ صَلاةِ الكافِرينَ  

مِئْذَنَةُ المَطَرِ الشّارِدِ عن بَحارِنا  

نَراهُ يُطِلُّ من أَيادي أَحِبّائِنا  

مُخْتَبِئاً في عُيونِ مِرْآتِنا المُهَشَّمَةِ.* 

  

  مصطفى الحاج حسين.  

         إسطنبول



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق