قراءة نقدية: "لعبة الثنائيات وعمق المعنى"
التفريغ النصي:" رفيق الدرب"
القصيدة: "ما في الدرب غير أنا"
الشاعر :طاهر مشي (تونس)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
المقدمة:
تندرج القصيدة "ما في الدرب غير أنا" للشاعر طاهر مشي ضمن أدب الثنائيات.
ويرى بعض الدارسين ان أدب الثنائيات (أو الثنائيات الضدية) "هو استخدام أزواج من المفاهيم المتضادة مثل الخير والشر أو الحياة والموت في النصوص الأدبية لخلق التضاد والتناقض وإضفاء الحيوية على النص وتعميق معانيه.. تظهر هذه التقنية بكثرة في الشعر ,حيث يبْرعُ الشاعر في الموازنة بين اللفظين المتضادين لخلق تأثيرات جمالية ودلالية قوية".
وفي هذا الاطار أين تتجلى تقنية الثنائيات بالقصيدة؟
* القراءة النقدية :لعبة الثنائيات وعمق المعنى":
1- عتبة العنوان :ما في الدرب غير أنا"
منذ عتبة العنوان " ما في الدرب غير أنا" يحيل الشاعر القارئ الى طرفين: مفردة الدرب تعني كما ورد في قاموس النور" الطريق أو المسلك خاصة المضيق في الجبال أو المدخل الضيق".
وقد اقترنت كلمة الدرب بكلمة "رفيق" فيقال "رفيق الدرب"
ورفيق الدرب كما يقول الكاتب المغربي عمر هشام مغربي عبارة تعني" أن رفيق الدرب هو من يجعلك دائما متماسكا في الأوقات الصعبة, يكون كالعمود الفقري لهَيْكلك, كالبوْصلة التي توجهك للصواب, تجعلك تتجنب المشاكل, فرفيق الدرب هو كل شخص يقف بجانبك في المواقف الصعبة, في الأزمات المستعصية , يساندك كالأب" *.
بيد ان الشاعر قد نفى وجود رفيق درب له (ما في الدرب غير أنا) و هو بذلك يثير ثنائية "أنا والآخر" وثنائية "الحضور والغياب" وثنائية "الوصول والضياع"..:
فلئن كان الشاعر حاضرا فالآخر كان غائبا.
وان كان الشاعر حاضرا وحده دون الآخر في هذا الدرب هل سيصل الى مبتغاه ايمانا بالقولة "من سار على الدرب وصل" أم أنه قد يضيع ويتيه بانعدام وجود "بوصلة الرفيق" التي توجهه للصواب؟
ان الشاعر يعيش صراعا وغربة:
- فهو الحاضر والآخر الغائب.
- وهو الذي يواجه صعوبات الدرب بضيقه دون بوصلة رفيق يوجهه لصواب السير.
- انه الغريب الذي قد يكون مصيره الضياع.
- لعلها غربة الذات التي يواجهها الشاعر والانسان بصفة عامة.
ان ثنائية "أنا والآخر" وهي ثنائية متلازمة في الوجود والزمان:
- هل ستضفي الديناميكية والحيوية على قصيدة الشاعر طاهر مشي مما يجعلها أكثر جاذبية؟
- هل ستجسد الصراع الداخلي والخارجي في نفس الشاعر؟
- هل ستساعد تقنية الثنائيات على انتاج معان ودلالات أعمق من خلال التضاد والتفاعل بين الافكار وهو ما يسمح بفهم أعمق للموضوعات المطروحة؟
- هل أن تقنية الثنائيات ستخلق الدهشة والمفاجأة عند القارئ؟
لعلنا سنقف على جواب لهذه التساؤلات عند تحليل القصيدة:
2- تحليل القصيدة :
استخدم الشاعر بالمقطع الأول من قصيدته جملا فعلية دالة على الحركة وقد تراوحَتْ بين الزمن الماضي (ألقيت) والزمن الحاضر(أسكنه/ أغفو/أستفيق)
وثنائية الماضي والحاضر تدعم حركة السرد القصصي بالقصيدة وبالتالي تعالق الشعر بالسرد فيقول:
ألقيت روحي بحلم غير منتثر
أسكنه في صقيع الصمت والوتر
أغفو على أمل مكسور محترق
وأستفيق على صبر بلا سمر.
ان الشاعر استخدم الجمل الفعلية لتصوير الحدث بطريقة متغيرة فحدث القاء روحه بحلم تبعته أحداث أخرى (السكنى/ الغفوة/ الاستفاقة) وهذه التغيرات في الأحداث تعكس التغيرات في عاطفة الشاعر.
لئن كان الشاعر مسكونا بحُلمه (حلم اليقظة طبعا) صامتا ووحيدا ( في صقيع الصمت والوتر) فهو يعيش تغيرا في عاطفته بين الغفوة والاستفاقة.
وبين الغفوة والاستفاقة تتسلل لعبة الأمل واليأس.
هل أن ثنائية الأمل واليأس تدعم ثنائية أنا والأخر التي وشى بها العنوان؟
هل هذا الحلم يقتضي حضور الآخر ليبعث الأمل أكثر؟
ويستأنف الشاعر مع لعبة الثنائيات التي تعكس مقابلة معنوية بين النار والسحاب/ الاخضرار وانعدام الشجر .يقول الشاعر:
لا نارَ في كفي المثقوبة اشتعلت
ولا سحاب رواني آخر السحر
مخضوضر حلمي لكن بلا شجر
والماء يبعده عني كما المطر
ان الشاعر يريد من يؤجج فيه حماس التشبث بالحلم ومن يروي ضمأه لهذا الحلم الذي هو في رأيه حلم خصب ويانع ويبشر بالخير لكن هذا الحلم لم يكن مثمرا لأنه بلا شجر. والشجر شيء محسوس وواقع مادي.
وكأني بالشاعر مستخدما لا النافية للجنس(لا نارَ/ لا سحابَ..) ينفي وجود الأمل فيُسِرّ الوجع لأن حلمه لن يتحقق.
انه يبحث عن رفيق درب يؤجج حماسه ويحرك عزيمته لتحقيق حلمه, بيْد أنه يقابل بالماء الذي يخمد نار حماسه ليقبُر حلمه ويدفن أمله المكسور.
انها ثنائية الحلم والواقع:
ان الحلم قد يصدم بعراقيل الواقع التي تقبُر الحلم في المهد.
بالتالي قد يتدخل القارئ متسائلا :
- هل حلم الشاعر فردي شخصي؟
- هل هو حلم مفرد بصيغة الجمع ؟ هل هو حلم فرد ويعني حلم المجموعة ؟
- لماذا يسرّ الشاعر الوجع وهو في الدرب وحيد يُراوده اليأس والانكسار ويتحول الأمل ألمًا والحلم انكسارا والتفاؤل تشاؤما.
انها ثنائيات تجعل القارئ يتأمل ويؤول وينتج معاني أعمق.
لعل القارئ هنا يتعاطف مع الشاعر ويدعم تلقائيته والقاء روحه في حلم مستحضرا عبارة "الحلم يصنع الانسان".
*وقد يثير القارئ عدة ثنائيات:
-الحلم والواقع
- الحلم والرغبات
- الحلم وتأثيره فقد يكون الحلم مصدر أمل وسعادة وقد يكون مصدر ألم ومعاناة
* قد يثير القارئ قضية تأرجح الانسان بين الكمال(تحقيق الحلم) وبين النقص(الاصطدام بالواقع المؤلم).
* قد يلخص القارئ عبارة "الحلم يصنع الانسان" في ما قاله بعض الدارسين في انّ عبارة "ان الحلم يصنع الانسان" تعني أن الأحلام تصوغ هُويتنا من خلال رغباتنا, مخاوفنا وطموحاتنا وهذا ما يدفعنا ما نطمح اليه في الواقع".
وبالتالي هل الانسان قادر على تحقيق حلمه بمفرده؟
باستخدام اسلوب انزياحي ايقاعي قائم على التكرار يعيد الشاعر ما قاله بالعنوان(وما في الدرب غير أنا) وهو تناصّ داخلي مع العنوان لتأكيد الشاعر على وحدته وقد يكون تأكيدا لعجزه على تحقيق حلمه الذي قد يكون حلم المجموعة وهنا قد يثير القارئ ثنائية الفرد والمجموعة وان الفرد مستطيع بالآخر.
وكأني بالشاعر يرثي وحدته وعجزه على تحقيق حلمه في هذه النبرة الباكية في قوله:
"أمشي إليّ وما في الدرب غير أنا"
لا من يجيب , ولا طيف على الأثر
متخشب وجعي لأ سيف يقطعه
والحرف عاجز عن الافصاح بالصور
ما زلت أخلعني عني وألبسني
ان ثنائية الخلع واللباس التي شخص بها الوجع وجسّده بها تشي بصراع الشاعر بين اليأس والأمل, بين الثبات والتردد ...
انه وجع شديد متخشب فلا السيف قادر على قطعه ولا الحرف قادر على وصفه.
انه في صراع بين تحمل الوجع وعدم تحمله فهو بين الخلع واللباس:
- انه يخلع وجعه أو يُعرض عنه كلما راوده الأمل.
- انه يلبس وجعه كلما استبدّ به اليأس.
ان الشاعر باستخدام تقنية الثنائيات (أنا والآخر- الفرد والمجموعة- الأمل والألم- الحلم والواقع- الحضور والغياب- الغفوة والاستفاقة – الماضي والحاضر...) قد رسم للقارئ صراع الانسان الوجودي بين جملة المتناقضات ومأساة الانسان ازاء عجزه وهو بين النقص والكمال.
ويختم الشاعر بقفلة كسر بها أفق انتظار القارئ حين قال:
وأكره الحبّ ان أمسى من الغير
ما خانني قلبي بل كنت أرفقه
لكنه ما احتمى من نقطة الكسر
باستخدام أسلوب ضرْب المثل ضرَب الشاعر للحلم دون رفيق في الدرب مثل الحب الذي يتلاشى اذا كان القلب رفيقا مكسورا.
وخلاصة القول فان الشاعر بقدر ما لعب على تقنية الثنائيات بقدر ما أتاح للقارئ الغوص في لعبة التأويل بما تنتجه من عمق المعنى.
سلم قلم الشاعر طاهر مشي الذي "ورّط " القارئ في لعبة التأويل الممتعة.
لقد أتممت قراءتي النقدية ونبع لعبة الثنائيات ومتعة التأويل وعمق المعنى لم ينْضبْ بعْدُ.
بتاريخ:18/ 10/ 2025
المراجع:
*عمر هشام مغربي ..كيف تختار رفيق الدرب المناسب؟ 30/ 11/ 2021عربي بوست.
القصيدة : (الشاعر طاهر مشي)
ما في الدربِ غيرُ أنا
ااااااااااااااااا ااااااااااااااااا
ألقَيتُ روحي بِحُلمٍ غيرِ مُنتثر
أسكُنهُ في صقيعِ الصمتِ والوتَرِ
أغفو على أملٍ مكسورِ مُحتَرقٍ
وأستفيقُ على صبرٍ بلا سَمَرِ
لا نارَ في كفّيَ المثقوبةِ اشتعلتْ
ولا سحابٌ رَوَاني آخرَ السّحَرِ
مَخضوضرٌ حلمي، لكنْ بِلا شَجرٍ
والماءُ يُبعِدُهُ عنّي كما المَطَرِ
أمشي إليَّ، وما في الدربِ غيرُ أنا
لا من يُجيبُ، ولا طيفٌ على الأثَرِ
مُتَخشّبٌ وَجعي، لا سيفَ يقطَعُهُ
والحرفُ عاجزُ عن الإفصاحِ بالصُوَرِ
ما زلتُ أخلعُني عني وألبسُني
وأكرهُ الحُبَّ إنْ أمسى من الغِيرِ
ما خانَني قلبي، بل كنتُ أرفُقُهُ
لكنّهُ ما احتمى من نُقطةِ الكَسَرِ
ااااااااااااااااا ااااااااا
طاهر مشي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق