السبت، 18 أكتوبر 2025

قراءة نقدية لمقطع من رواية الكاتبة هدى حجاجي(همسات في السفر) بقلم الاستاذ عم حاجي __تونس

 قراءة نقدية لمقطع من روايتي (همسات في السفر)  

القراءة بقلم الاستاذ الناقد عمر حاجي __تونس

نصّ هدى حجاجي "ما بعد الصمت" هو قطعة أدبية متكاملة، تُجاور الشعر في لغتها والتأمل الفلسفي في مضمونها.

في ظاهرها، هي حكاية امرأة تتصالح مع  ماضيها عبر الكتابة.

لكن ما بين السطور، هو نص عن التحوّل — عن رحلة النفس من الألم إلى الحكمة، من الحنين إلى السلام، من الوجع إلى الكتابة بوصفها شكلاً من أشكال النجاة الهادئة.

المعنى العميق (ما وراء القصة):

هالة يوسف ليست فقط شخصية، بل رمزٌ للإنسان الذي عاش الفقد وتعلّم كيف يُعيد صياغة نفسه.

حين كتبت “حين صمتت الرسائل”، لم تكن تروي قصة حب، بل كانت تمارس طقسًا من طقوس التحرّر من الذاكرة.

هي لم تعد تكتب "إليه"، بل كتبته هو من خلالها — وهذه جملة محورية، تكشف أن الكتابة هنا ليست تواصلاً بل تحويلاً: تحوّل الشخص الغائب من "جرح" إلى "نصّ"، ومن "وجع" إلى "فنّ".

 الرمزية والإشارات:

النافذة: رمز الانفتاح بين الداخل (الذات) والخارج (العالم/الذكريات). حين تركتها مفتوحة، لم تعد تهرب من الماضي، بل سمحت له بالمرور دون أن يجرحها.

الكتاب على الرف بجانب الصندوق الخشبي: الصندوق هو الذاكرة القديمة، المغلقة على الوجع؛ الكتاب هو الذاكرة التي تمّت مصالحتها وتهذيبها بالحبر.

الضوء الذهبي في المساء: دلالة على نهاية مرحلة وبداية أخرى — لحظة الغروب التي تسبق السلام الداخلي.

 الأسلوب والتعبير:

هدى حجاجي تكتب بلغة رقيقة لكنها مشبعة بالعمق النفسي.

كل جملة تحمل تأملًا في معنى الفقد والنضج.

مثلًا:


> "كلنا نكتب عن شخص غاب، لكننا في الحقيقة نكتب عن أنفسنا بعده"

هذه العبارة تختصر فلسفة النص كله: أن الغياب ليس عن الآخر، بل عن الذات التي كانت قبل الفقد.

القصد الأساسي في ما بين السطور:

النص يقول لنا — دون أن يصرّح — أن الكتابة ليست اعترافًا بالهزيمة، بل إعلان ولادة جديدة.

هي شكل من أشكال المقاومة الهادئة ضد الاندثار، ومحاولة لتدوين سلام ما بعد العاصفة.

هالة (وبالتالي الكاتبة) لم تعد تكتب لتُشفى من الحب، بل لتتذكّر أنها ما زالت حيّة رغم كل ما فقدته.

 الخلاصة:

"ما بعد الصمت" ليس عن امرأة كتبت كتابًا،

بل عن امرأة صارت كتابًا —

تحوّلت من أن تكون حكاية في ذاكرة أحدهم، إلى أن تصير ذاكرةً مكتوبة للعالم كله.

وهذا هو المعنى الأسمى الذي تزرعه هدى حجاجي فينا:

أن الوجع يمكن أن يصبح جمالًا إذا كُتب بصدق.

ما بعد الصمت


كان المساء ساكنًا،

والمدينة تغرق في ضوءٍ ذهبيٍّ يذكّرها بمساءاته البعيدة.

جلست أمام النافذة ذاتها التي شهدت بكاءها الأول،

لكنّ ملامحها اليوم مختلفة — أكثر هدوءًا، أكثر نضجًا،

كأنها تعلّمت كيف تُرمّم نفسها دون أن تنتظر يدًا تمتدّ من الماضي.


على الطاولة كتاب صغير،

غلافه بسيط بلون الرمل،

وعنوانه بخطٍّ عريض:


 "حين صمتت الرسائل" – هالة يوسف.


نعم، كان أول كتابٍ لها.

مجموعة من النصوص المأخوذة من دفاترها القديمة،

أعادت ترتيبها بعنايةٍ كأنها تُعيد بناء ذاكرةٍ مكسورة،

لكنها هذه المرة لم تكتب إليه…

بل كتبته هو من خلالها.


في حفل التوقيع،

تقدّمت فتاة شابة تحمل نسخةً من الكتاب وقالت بخجل:


 "نصّك عن الغياب جعلني أبكي…

شعرتُ أنكِ تكتبين عني."


اتسمت هالة، وفي عينيها ضوءٌ يشبه العزاء الجميل:


 "كلنا نكتب عن شخصٍ غاب،

لكننا في الحقيقة نكتب عن أنفسنا بعده."

حين عادت إلى غرفتها تلك الليلة،

وضعت نسخة من الكتاب على رفٍّ صغير بجوار الصندوق الخشبي القديم.

مرّرت أصابعها على الغلاف وقالت بصوتٍ خافت:


"ها أنتَ الآن كتاب، لا ذكرى."


ثم أغلقت الضوء،

وتركت النافذة مفتوحة على نسمةٍ دافئةٍ من الخارج،

كأنها تسمح له أن يمرّ من جديد —

لا كفقدٍ هذه المرة، بل كسلام.

وفي دفترٍ جديدٍ كعادتها،

كتبت أول سطرٍ من فصلها القادم:


 "الكتابة لا تُنقذنا من الموت،

لكنها تُعلّمنا أن نحيا رغم الغياب."



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق