السبت، 4 أكتوبر 2025

القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الإسلامي بقلم الأستاذ والباحث الفاضل الطاهر عسيسلة تعقيب الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الإسلامي:

هل هي طريق إلى الكونية أم عائق أمامها؟"
*تنويه : وفانا الأستاذ والباحث الفاضل الطاهر عسيسلة ( أصيل جهة تطاوين متخصص في العلوم الأسلامية) ببحث مستفيض موجه أساسا لتلاميذ البكالوريا،موسوم ب"
القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الإسلامي:
هل هي طريق إلى الكونية أم عائق أمامها؟"
ومن باب الإفادة وإنارة دروب المعرفة أمام براعمنا التلمذية،ارتأينا نشره بمؤسسة الوجدان الثقافية الرائدة تعميما للفائدة،علما أن هذه المسألة تحمل وجهات نظر متعددة تستحق النظر المتأني..
*نص الأستاذ الطاهر عسيسلة
هذا البحث موجه الى تلاميذ البكالوريا
القطيعة المعرفية مع تراث الفكر الإسلامي:
هل هي طريق إلى الكونية أم عائق أمامها؟
يُطرح سؤال القطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي في قلب النقاشات الكبرى التي شهدها الفكر العربي المعاصر منذ بداية القرن العشرين. فقد وجد المفكرون المسلمون أنفسهم أمام تحدٍّ مزدوج: من جهة ضرورة الانخراط في الكونية التي فرضتها الحداثة الغربية بما تحمله من قيم عقلانية وحقوقية وعلمية،ومن جهة ثانية الحاجة إلى الحفاظ على الجذور التاريخية والهوية الثقافية التي تشكّل رصيد الأمة ومصدر معناها. في هذا السياق برزت الإشكالية المركزية: هل تمثّل القطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي شرطاً للكونية،أم أن الكونية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر استيعاب التراث وإعادة قراءته في ضوء معطيات العصر؟
ظهر مفهوم القطيعة المعرفية أولاً في فلسفة العلوم عند غاستون باشلار الذي بيّن أنّ العلم لا يتقدّم عبر التراكم الكمي للمعارف،بل من خلال لحظات انقطاع حاسمة يَتجاوز فيها الباحث العقبات الإبستمولوجية الكامنة في الفهم الحسي والعادي.وقد انتقل هذا المفهوم إلى الفكر العربي من خلال مشاريع مثل مشروع محمد عابد الجابري الذي دعا إلى الفصل بين البنية البيانية والعرفانية التي هيمنت على العقل العربي، وبين البنية البرهانية التي ينبغي أن تُستعاد بوصفها شرطاً لبناء عقل حديث.أما محمد أركون فقد ذهب إلى أنّ الفكر الإسلامي لا بد أن يخضع لتفكيك جذري عبر مناهج العلوم الإنسانية الحديثة، بما يسمح بكسر الأسوار الدوغمائية وإعادة فتح النصوص على أسئلة الحاضر. غير أنّ هذا النقل لمفهوم القطيعة من حقل العلوم الطبيعية إلى حقل الدراسات الدينية لا يخلو من إشكالات، لأن التراث ليس مجرد معرفة، بل هو أيضاً حامل للهوية ومصدر للشرعية الرمزية،ومن ثم فإن الدعوة إلى القطع معه تثير حساسيات تتجاوز الجانب المعرفي إلى البعد الثقافي والوجودي.
التراث الإسلامي في حد ذاته يتسم بتعددية لافتة،فهو يضم الفقه وأصوله،وعلم الكلام بمذاهبه المختلفة،والفلسفة التي حاولت التوفيق بين العقل والنقل،والتصوف الذي عمّق البعد الروحي للنصوص.وقد عرف هذا التراث لحظات إبداع وانفتاح بارزة،كما في حركة الترجمة العباسية أو الفلسفة الرشدية التي تركت أثرها في الفكر الأوروبي الوسيط.إلا أنّ فترات الانغلاق والجمود لم تكن أقل حضوراً،حيث تحوّل التقليد إلى آلية مهيمنة وأُغلقت أبواب الاجتهاد.وفي العصر الحديث، انقسم المفكرون بين من رأى في هذا التراث عائقاً ينبغي تجاوزه،مثل نصر حامد أبو زيد الذي نقد الخطاب الديني بوصفه سلطة مقيدة، وبين من رأى فيه إمكانات قابلة للتجديد مثل حسن حنفي وطه عبد الرحمن اللذين أكدا أنّ التراث يمكن أن يُعاد بناؤه من الداخل عبر مقاربة نقدية وتأويلية.أما الكونية،فهي مفهوم يستبطن تجاوز الخصوصيات المحلية نحو أفق إنساني مشترك يقوم على العقل والحرية والعدالة. والتاريخ يشهد أنّ الحضارة الإسلامية أسهمت في بناء كونية سابقة من خلال علومها وفلسفتها التي نقلتها أوروبا واستفادت منها في نهضتها.لكن السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن للفكر الإسلامي أن يشارك مجدداً في صياغة كونية جديدة،لا تقوم على مركزية غربية أحادية،بل على تعددية حوارية تضمن التوازن بين الخصوصية والانفتاح؟
الجواب على هذا السؤال ينفتح على خيارين متقابلين: فمن جهة يرى أنصار القطيعة أنّ الانفصال عن التراث شرط لازم للتحرر من قيود الماضي والانخراط في قيم الكونية الحديثة.ومن جهة ثانية يرى أنصار الاستيعاب النقدي أنّ القطيعة المطلقة تعني فقدان الهوية والاغتراب الثقافي،وأن الطريق الأجدى هو إعادة قراءة التراث في ضوء حاجات الحاضر،وانتزاع عناصره الحية القادرة على الإسهام في مشروع كوني جديد.ولعل المقاربة الأكثر توازناً هي التي تميّز بين التراث بوصفه دينامية متجددة والتراث بوصفه جموداً مغلقاً: الأولى تُستعاد وتُفعَّل، والثانية يُتجاوز ويُنتقد.
يتضح في النهاية أنّ الكونية لا تتحقق بالقطيعة المطلقة ولا بالانغلاق،وإنما عبر حركة مزدوجة تقوم على النقد التاريخي من جهة،وعلى الاستمرارية الإبداعية من جهة أخرى.فالقطيعة ضرورية مع أشكال التكرار والجمود التي كبّلت -تاريخه قوة دافعة للمعرفة العالمية.وبهذا المعنى،فإن الطريق نحو الكونية يمرّ عبر جعل التراث مورداً معرفياً متجدداً يخاطب الحاضر ويشارك في صياغة مستقبل إنساني مشترك.
*الأستاذ/ الباحث الطاهر عسيسلة
**تعقيب محمد المحسن
الكونية لا تتحقق بالقطيعة المطلقة ولا بالانغلاق،وإنما عبر حركة مزدوجة تقوم على النقد التاريخي من جهة،وعلى الاستمرارية الإبداعية من جهة أخرى.فالقطيعة ضرورية مع أشكال التكرار والجمود التي كبّلت -تاريخه قوة دافعة للمعرفة العالمية.وبهذا المعنى،فإن الطريق نحو الكونية يمرّ عبر جعل التراث مورداً معرفياً متجدداً يخاطب الحاضر ويشارك في صياغة مستقبل إنساني مشترك.
وخلاصة القول،ما يطرحه الأستاذ الطاهر عسيسلة،هو فلسفة للتعامل مع التراث تجعله "حواراً مع الماضي من أجل المستقبل". إنها دعوة لتفعيل الذاكرة الثقافية دون أن نكون أسرى لها، والانفتاح على العالم دون أن نذوب فيه.إنها رؤية تبحث عن الخصوصية التي تثري العالمية، والعالمية التي لا تلغي الخصوصية.
هذه الرؤية تتجلى بوضوح في فكر العديد من المفكرين المجددين في العالمين العربي والإسلامي،الذين سعوا إلى تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة في آن واحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق