الأربعاء، 22 أكتوبر 2025

الغموض في تعزيز جمالية القصيد: رؤية الناقدة التونسية سهيلة حماد في قصيدة الشاعر التونسي طاهر مشي

 الغموض في تعزيز جمالية القصيد:

رؤية الناقدة التونسية  سهيلة حماد في قصيدة الشاعر التونسي طاهر مشي: 


قفي حيث أراك

ااااااااااااااااا اااااااااا

أرتّبُ صمتي على مهلٍ

كأنّي أزرعُ الريحَ في الحقول

وأنتظرُ أن يورقَ الغياب

تمرّ اللحظة...

تحملُ وشوشةً

من زمنٍ

لم أُخلقْ فيه بعد

تسقط في قلبي

كنجمةٍ تائهة

ترشدني

إلى طريقٍ لا يؤدي إلا إليّ...

ألهو بخيوطِ الغيم

أخبئ فيها وجهَ القصيدة

وأعقدُ حول معصمي

وشاحًا من دفءٍ راحل

من حنينٍ

باردٍ

كما لو أنه

ينامُ على عتبة اللقاء

أشدّ المدى نحوي

أخيطُ من صدى العيونِ

نافذةً

وأغلقها

فوق طاولتي

كوبُ قهوةٍ

لم يشربه أحد

سوى الذكرى

ووجهي الآخر

حين يبتسمُ لي من مرآةٍ

تشبهني

ولا تقول اسمي

يا من تعبرُ مواسمي

كحلمٍ ينكسر

عند أول انحناءةِ ظلّ

كُنْ كلّ الجهات

حين تتعب الريح

وأنا أغفو

على زندِ المسافة

افتحْ نوافذك

دعني أذوبُ

وأحكي لك

كيف صار آدمُ ظلًّا

وصارت حواءُ

قلبًا

لا يُحتمل

ااااااااااااااااا

1/7

المدخل: 


قصيدة "قفي حيث أراك" تتقد بلهيب الشعر والشاعرية، حيث يهيم صاحبها بحبيبة حاضرة بالغياب بقوة. وقد أخفى عنا السبب الحقيقي لفقدها، مما خلق لدى القارئ فضولًا وتسبب في فتح صنبور تأويلات شتتت ذهنه وذهبت به في اتجاهات مختلفة.

ما يهمنا ليس معرفة السبب في حد ذاته، ولكن ما يشدنا هي تقنية التعبير التي توخاها مرسل الخطاب الشعري، للتعبير عن مشاعر إنسانية بعمق وإبداع مبتكر. القصيدة تنسج لوحة فنية على غاية من الجمال، حيث غزل المتكلم "الأنا" المعاني، ونفخ فيها بريشة الحرف، فحركها بمجاز اللوعة والتشبيه والرموز في عالم مكتظ بالغموض والضياع.


العنوان: ورد في صيغة الأمر "قفي حيث أراك" 

فعل الأمر "قفي"، ولد حالة من الحزم والقوة في الخطاب، استفزت القارئ وجرته للتساؤل عمن عساها تكون هذه التي يتوجه لها الشاعر بالخطاب. ثم تأتي العبارة "حيث أراك" لتزيد من الغموض.


الاستهلال والقفلة :

على مستوى الشكل:


يتكرر حرف الألف في السطر  الذي يلي العنوان، وكذلك في الخاتمة  (اااااااا)  مما يخلق صورة بصرية مبتكرة. هذا الشكل المبتكر يرمز إلى روح الخطاب الشعري، مشكلًا بذلك مساحة الصمت المرتب بصريًا التي يحاول الشاعر جاهدًا أن يرتبها بداخله شكلًا.

.

الموضوع:


الموضوع الرئيسي للقصيدة هو الشوق واللهفة للحبيبة. القصيدة تعبر عن حالة من الفقد والاشتياق، حيث يشعر الشاعر بالوحدة والفراغ بدون حبيبته.


تحليل القصيدة:


القصيدة تعكس رؤية فلسفية لذات تائهة تشعر بغربة وجودية، وتحاول أن تتعرف على نفسها من خلال مرآة الذكريات. الشاعر يستخدم لغة شعرية مبتكرة ليعبر عن مشاعره وتجربته.


2/7

الزمن في القصيدة: "تمرّ اللحظة... تحملُ وشوشةً من زمنٍ لم أُخلقْ فيه بعد تسقط في قلبي كنجمةٍ تائهة ترشدني إلى طريقٍ لا يؤدي إلا إليّ... ألهو بخيوطِ الغيم أخبئ فيها وجهَ القصيدة وأعقدُ حول معصمي وشاحًا من دفءٍ راحل من حنينٍ باردٍ كما لو أنه ينامُ على عتبة اللقاء".


يواصل الشاعر حلمه الآن لحظة الكتابة باللقاء المستحيل الذي شبهه "كما لو أنه ينتظر اللقاء المستحيل"، بعد أن تسلح بوشاح حنين حيث يقول: "ألهو بخيوط الغيم، أخبئ فيها وجه القصيدة وأعقد حول معصمي وشاحا من دفء راحل من حنين". إن استخدام الشاعر لصيغة "راحل" بدلا من "رحل" توحي بأن الفعل لم ينته بعد، مما يعكس حالة الشاعر النفسية التي لا تزال متعلقة بالأمل في اللقاء.


العبارة "تمر اللحظة" لها أكثر من تأويل. قد تعني سرعة مرور الأوقات السعيدة التي قضاها الشاعر مع الحبيبة، أو سرعة مرور شريط الذكريات في ذهنه، أو مرور أشهر وأعوام على الفراق. وتحمل هذه اللحظة همسة بصوت المفقودة، هذا الصوت الخافت يشبه وشوشة، يوشوش في حياء ورقة، يأتيه من بعيد من زمن الذكريات.. أو ربما يأتيه من عل من الجنة من زمن لاحق: "لم أخلق فيه بعد".


هذه الوشوشة تخلق جوًا من الغموض والدهشة لدى القارئ، وتُربك كل من القارئ والشاعر، فتسقط في قلبه كشهاب أو نيزك كـ"نجمة تائهة" أضاعت مسارها. كأنها أتته خصيصا كي ترشده أين توجد حبيبته، ولكن باقتفاء أثرها في القصيدة ندرك أن هذه النجمة تفشل في إيصاله إلى عنوان حبيبته، إذ تعيده إلى عنوانه، وهكذا تفشل شأنها شأن نجمة تائهة: "ترشدني إلى طريق لا يؤدي إلا إلي". العبارة "إلي إلي" تترك في النفس صوتا غنائيا يذكرنا بمقطع أغنية لنجاة الصغيرة "إرجع إلي إلي"، ليستبدل يأسه. وفي الوقت نفسه، فإن عبارة "النجمة التائهة" خلقت صورة لرمزية عميقة أضفت جمالا على المتن، حيث كشفت حالة الضياع التي يشعر بها الشاعر في رحلة بحثه المضنية عن حبيبته.


يعمد الشاعر إلى عملية تعويض عبر اللهو بغزل خيوط أمل من الغيم يخبئ: "فيها وجه القصيدة" لتمطر حبات وجد تسقي بها زرعه الوهم عل الغياب يورق من جديد.


3/7

آلية حرف النداء ودورها في القصيدة:


يستخدم الشاعر حرف النداء "يا" لاستجداء طيف الحبيبة، حتى يخلق حالة من الشوق والتمني التي تجذب القارئ وتشعره بعمق الحزن والأسى الناتج عن البعد عن الحبيبة. في قوله "يا من تعبرُ مواسمي"، يخاطب الشاعر الحبيبة بلهفة وشوق، ويطلب منها أن تكون بجانبه في كل الأوقات.


دور حرف النداء في القصيدة:


- خلق حالة من الشوق والتمني: يعبر الشاعر عن شوقه وحنينه للحبيبة، ويطلب منها أن تكون بجانبه.

- التعبير عن الحزن والأسى: يظهر الشاعر حزنه وألمه بسبب البعد عن الحبيبة.

- جذب القارئ: يخلق حرف النداء حالة من الاهتمام والتفاعل مع القصيدة.


4/7

-للغة الشعرية:


اللغة الشعرية في القصيدة غنية بالصور والرموز، مما يخلق جوًا من الشوق واللهفة. إن استخدام الشاعر للاستعارة والكناية يضيف عمقًا وجمالًا للقصيدة


صورة رائعة في وصف الشوق: 


يخاطب الشاعر حبيبته ويطلب منها أن تفتح نوافذها ليشكو لها ما أصابه في غيابها. يستخدم الشاعر صورة رائعة لوصف حالة الشوق واللهفة، حيث يقول "يا من تعبرُ مواسمي كُنْ كلّ الجهات حين تتعب الريح وأنا أغفو على زندِ المسافة افتحْ نوافذك دعني أذوبُ وأحكي لك كيف صار آدمُ ظلًّا".


5/7

الرمز في القصيدة:


الرمز في القصيد اتسم بالمخاتلة ونحت الكلمات في سياقات تستجيب لإبداع الشاعر في تشكل المعنى ورؤيته الفلسفية. الشاعر يعي ما يقول، ويستخدم الرموز لتعزيز المعنى والدلالة في القصيدة.

من ذاك استخدام الشاعر لرمز "الريح" يرمز إلى التغيير والتحول كما سنراه لاحقا.


تأويل رمز آدم وحواء في القصيدة:


- استخدام الشاعر لرمز آدم وحواء يضفي عمقًا وجمالًا للقصيدة.

- قصة الخيبات بين آدم وحواء هي قصة تتكرر منذ خلق آدم وحواء ولن تنتهي إلا بانتهاء العالم.

- تصبح القصيدة قصيدة كونية تنفتح على كل الأزمنة والأمكنة.


الغرض من استخدام أنواع خيوط مختلفة:


- ابتكار الصور الشعرية التي تنسج من غير الملموس خيوط غزل في رؤية فلسفية عجائبية.


- جمع الخيال بالواقع: عبر غزل الماضي البعيد، مع ترتيب تدفق ذكريات وغزلها بخيط رفيع مع الزمن الحاضر.

- الرؤية العجائبية تتمثل في جمع المستحيل بالممكن.


تفسير الريح في القصيدة:


- الريح الطيبة يمكن أن تعيد له الحبيبة، مثل عودة يوسف إلى والده.

- الرياح حمالة غيث ونفع، والريح الطيبة يمكن أن تجلب الخير والنماء.

- المكن هو السحاب الحامل لغازات منتجة للمطر بإذن خالق الأرض والسماء.

- غير الممكن هو كيفية غزله لخيوط من هذه الغازات المتبخرة التي تتشكل من تبخر الماء كالحلم المتبخر لحظة اليقظة.

6/7

الخاتمة: 


قصيدة "قفي حيث أراك" تعتبر لوحة فنية رائعة، تعبر عن مشاعر إنسانية بعمق وإبداع. الشاعر يستخدم لغة شعرية قوية مبتكرة، مكنته من خلق رؤية؛فلسفية لذات تائهة. فالقصيدة تركت للقارئ مساحة للتأمل والتفكير في المعاني والرموز المستخدمة. وإن ساهم الغموض في تعزيز الجمالية الأدبية للقصيدة بقوة، إلا أن هذا الغموض قد يعيق فهم المقصود من حياكة العبارة لدى البعض. فقوله مثلا: "أزرع الريح في الحقول" قد لا ينجح البعض في بلوغ معناها، والتي يقصد بها الشاعر كمن يحفر في الماء حفرة، إشارة إلى استحالة اللقاء غير الممكن في الظاهر، ولكن قد تصبح إمكانية اللقاء ممكنة بروح التحدي والأمل، لو حفرنا في معنى مفردة الريح كما أشرنا إلى ذلك آنفا، وجمعناها بفعل "أزرع" الذي يعكس تفاؤل ذات تأبى الانهزام. وتعترضنا أيضا عبارة "أخيط من صدى العيون نافذة"، هي الأخرى تبدو أكثر تعقيدا، وهي يمكن تأويلها بأن الشاعر يرغب التواصل معها عبر إيجاد معبر يمكنه من الوصول إلى عينيها أو يستقدمها إليه. 

للتذكير فإن الغموض رافقنا مذ العنوان  ففي "قفي حىث أراك" حذف لتحديد المكان مع تركيز على المشاعر  فالمكان مبهم وغير محدد، وهذا مهد لنوع من الغموض المكاني والتشويق وهكذا يدفعنا العنوان نحو تكهن مشاعر المتكلم

ويفتح مجال التأويل.


وبناء على ما سبق تحليله يحسب لناظم القصيد قوة حياكة العبارات في صياغة أدبية إنشائية ساهم في تكثيف وتوليد  صور شعرية  ذات أثر فاعل لدى القارئ.  هذا إلى جانب 


ملاحظة:  إن تحليلي هذا كان نتاج إنصات  إلى القصيد النثري   وتفاعل  مباشر انفتح انفتاحا على مختلف التاويلات والمناهج 

النقدية بما يتناسب مع الخطاب المعروض ومراعات ميزاته..


المراجع المؤثرة في التحليل بصفة غير مباشرة: خطاب الحكاية جرار جينات 

لذة النص رولان بارت 

أساليب السرد في الرواية العربية، دكتور صلاح فضل 

 السيمياىيات مفاهيمها وتطبيقاتها سعيد بن كراد 


7/7

الناقدة الأستاذة سهيلة حماد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق