**دراسة لقصيدة (بطالة)
دراسة: ((زهرة زميطة))..
في قصيدة "بطالة"، لا يتحدث الشاعر مصطفى الحاج حسين عن العوز المادي فحسب، بل يفتح جرحًا مفتوحًا في الجسد الجمعي العربي: البطالة باعتبارها عطبًا نفسيًا، وانهيارًا اقتصاديًا، ونتيجة مباشرة لمنظومة الفساد والاستبداد السياسي.
القصيدة لا تكتفي بوصف الحال، بل تؤرّخ لصوت المهمّشين، المقموعين، والعائدين من هاوية فقدان الكرامة. إنها ليست صرخة فرد، بل صدى جموع تنام في العراء تحت عتبة وطن بلا ذاكرة.
القصيدة مكتوبة بنَفَس سردي مفتوح، يغلب عليه استخدام التفعيلة الحرة، وينبثق من إحساس وجودي غائر بالضياع. تستهل القصيدة صورها بلغة مشبعة بالمجاز المكاني:
- "تلوكني الدروب، يزحمني الرصيف"
- "المدينة المغلقة"
- "قبضتي تلتحف جيوبي الخاوية"
هذه ليست استعارات للزينة، بل أدوات قاسية لتمثيل الاحتكاك اليومي بين الإنسان والواقع، بين الجسد والشارع، بين الجوع والمحيط.
تتشكّل في النص شخصية الشاعر كإنسان مهزوم لا بسبب الضعف، بل بسبب نظامٍ يفرّغ الناس من قيمتهم ويدفعهم إلى الانسلاخ عن ذواتهم. إنه يبحث عن "فضاء ليديه"، و"عمل لقلبه"، في عالم لا يعترف بوجوده.
- القلق
- التوتر الداخلي
- الذل الناتج عن الحاجة
- الغضب المكبوت
كلّها تتجلّى في النص، وتدفع القارئ إلى استشعار حجم الضغط النفسي الذي تعانيه الفئات المهمّشة، حيث يتحوّل الوطن إلى ساحة رفض لا حضن انتماء.
لا تمثّل البطالة هنا غياب العمل فحسب، بل هي نتيجة لمخطّط ممنهج من الفساد والتهميش. يتحدث الشاعر عن سرقة الأسماء، وبيع الأحلام، وتحويل الجماجم إلى طحين، وهذه ليست مجرّد تشبيهات أدبية، بل توصيف حرفيّ لمنظومة اقتصادية تنهش الفقير لإثراء الطبقة الطفيلية.
"باعوا مصير القادمين"
"يصنعون من جماجمنا طحينهم"
هي قصيدة عن الاحتلال الداخلي، لا الاستعمار الخارجي. العدو في الداخل: "المرابون"، "السارقون"، "الطاردون"، و"القتلة".
المدينة في القصيدة مغلقة على أهلها، مفترسة، مستعلية. والبلد "قتيل" رغم أنه "جميل". هنا يشتبك الشاعر مع الوعي الجمعي للمنتمين لوطن يقتل أبناءه:
"هل نطلب لجوءاً كالجرذان؟"
"هل نشتمُ الينابيع التي انبثقت من عروقنا؟"
إنها صرخة الوعي في وجه الخذلان. وهذا التوتر الداخلي بين الكفر بالوطن والحنين إليه يصنع التراجيديا المركزية في النص.
الخاتمة هي الذروة الفنية والوجدانية للقصيدة:
"يا بلدي القتيل.. يا بلدي الجميل".
التكرار هنا ليس ترفًا شعريًا، بل تأكيد على المفارقة المؤلمة: البلد الذي يقتل أبناءه هو ذاته الذي لا يزالون يحبونه، ويتغنون به.
هذا التلازم بين القتل والجمال، بين المأساة والانتماء، بين الجوع والكرامة، يشكّل جوهر القصيدة وروحها... فالوطن هنا ليس سلطة ولا علمًا، بل ذاكرة ومسؤولية ورؤية مستقبلية رافضة للركوع.
"بطالة" ليست قصيدة مناسبة لترف القراءة، بل لوجع المراجعة، لصرخة التوثيق، ولحشد الذاكرة. إنها وثيقة احتجاج، ومعلّقة جياع، ومزمور غضب إنساني نبيل.
بأسلوبها المتّزن والغاضب في آن، برمزيتها العالية، وبصورها الحيّة، تصلح هذه القصيدة أن تكون وثيقة أدبية عن البطالة العربية في زمن الانهيارات الاقتصادية والسياسية الكبرى.
إنها شهادة شعرية على عصر، ووثيقة كرامة لمن لم يملك إلا الكلمات.*
زهرة زميطة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق