الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

قراءة نقدية:" القصيدة بين الشعور بالانتماء العربي وشعر الحماسة" القصيدة: "فل.س.طين التي في القلب" الشاعر:طاهر مشي(تونس) الناقدة :ليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية:" القصيدة بين الشعور بالانتماء العربي وشعر الحماسة"

القصيدة: "فل.س.طين  التي في القلب"

الشاعر:طاهر مشي(تونس)

الناقدة :ليلة المازني (تونس)

قراءة نقدية :" القصيدة بين الشعور بالانتماء العربي وشعر الحماسة"


أ- عتبة العنوان :" فل.س.طين التي في القلب"

اختار الشاعر طاهر مشي عنوانا لقصيدته "فل. س. طين التي في القلب" وهو عنوان يشي بعلاقة وجدانية بين الشاعر و فل.س .طين .

ان فل.س.طين في مقام الحبيبة التي تسكن  قلب الشاعر ايمانا منه بمدى عشقه لها.

وفي هذا السياق أي عشق يُكِنّه الشاعر لهذه الحبيبة فل.س.طين؟

ب- التحليل: تجليات العشق لفل.س.طين الحبيبة:


استهل الشاعر قصيدته باستخدام أسلوب انزياحي ايقاعي قائم على التكرار للعنوان للتأكيد على مدى قيمة علاقته بحبيبته فل.س.طين التي شبه عشقه لها بالنار التي تسري على الهشيم فلا تبقي ولا تذر منه شيئا وبالتالي فعشقه لها بلا حدود (فلسطين التي في القلب سرت كنار على الهشيم مستديم).

ان الشاعر طاهر مشي كالعديد من المبدعين قد يجمع في قصيدته الذاتي والموضوعي:

- الذاتي: ان هذه القصيدة نابعة من ضمير الشاعر وما احتشد في نفسه  وفي وجدانه من مشاعر وأحاسيس تحرك وجدانه وعليه أن يخرجها بحبره ليتنفس الراحة والطمأنينة خاصة ومشاعره مشاعر عشق لهذه الحبيبة فل.س.طين.

- الموضوعي: ان القصيدة نابعة من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وأحاسيس  وانفعالات الآخرين الذين لا يستطيعون الكتابة لأنهم ليسوا شعراء ولا مبدعين.

ولعل الشاعر هنا يتقاطع مع شعراء من أبناء فلسطين البررة:

يرى بعض النقاد ان محمود درويش لم يكتب قصيدة كاملة مخصصة لغزة فقط  ولكنه وصفها في مقالات ونصوص نثرية بانها مدينة " الأسطورة" و"كابوس العدو" و"نموذج عمل وإعلان إرادة "

+ يقول محمود درويش شاعر الانتفاضة (1):

ان سألوك عن غزّة قل لهم:

بها شهيد

يسعفه شهيد

ويصوّره شهيد

ويودعه شهيد

ويصلي عليه شهيد


انها الشهادة المستمرّة التي آمن بها درويش حتى النصر.

+ يقول سميح القاسم شاعر المقاومة الفلسطيني في قصيدته "تقدموا" (2):


لا خوذة الجندي

لا هراوة الشرطي

لا غازكم المسيل للدموع

تقدموا

من شارع  لشارع

من منزل لمنزل

من جثة لجثة

تقدموا

غزة تبكينا..لأنها فينا

ونحن في متاهة الإحساس بالذنب

نقول غزة ونقصد فلسطين

+ يقول ابراهيم طوقان الشاعر الفلسطيني من قصيدة "فلسطين مهد الشهداء"(3)

منذ احتلال الغاصبين ونحن نبحث في السياسة

شأن الضمير مع السياسة كالرقيق مع النخاسة

فإلى متى يا ابن البلاد. وأنت تؤخذ بالحماسة

والى متى (زعماء )قومك يخلبونك بالكياسة

ولكم أحطنا خائنا منهم بهالات القداسة

 ولكم أضاع حقوقنا الرجل الموكل بالحراسة

والله ليس هناك الا كل قناص الرئاسة

تأتيه من بيع البلاد وما إليه من الخساسة

واذا اتقاك(فبالجرائد) فالنجاسة للنجاسة

+ يقول غسان كنفاني شهيد المقاومة الفلسطينية بالحرف في كتابه" عائد الى حيفا" وهو يخاطب حبيبته غادة السمان في رسالة :

" لا تكترثي ولا تقولي شيئا. إنني أعود اليك مثلما يعود اليتيم الى ملجئه الوحيد, وسأظل أعود :أعطيك رأسي المبتل لتجفيفه بعد أن اختار الشقيّ أن يسير تحت المزاريب.. هذا العالم يَسْحق العدل بحقارة كل يوم.. سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي" (4).

وفي هذا الاطار وبعد الحديث عن عشقه لفل.س.طين بصفة خاصة  ماذا يقول شاعرنا طاهر مشي في فل.س.طين وهو في تناغم مع شعرائها وشعورا منه بالانتماء العربي؟

ها هو باستخدام ضمير المتكلم المفرد (أراها) يتدخل ويفصل ليبدي رأيه للآخر ليتعاطف مع فلسطين الجريحة والشهيدة :

لقد اختار الشاعر موضعين من رؤيته لفلسطين :

- يراها في دم الأحرار نارا, والأحرار حسب بعض الدارسين هم "من يمتلكون الحرية والاستقلالية  ولا يخضعون لسلطة أو قيد".

ولعل الشاعر لا يخص أحرار فلسطين فقط  بل يقصد الأحرار في المطلق أينما كانوا ...انه يتوجه الى أحرار الانسانية.


ان الشاعر يجمع بين الدم والنار فلئن كان الدم حياة فالنار موت وفناء وبالتالي فحياة الأحرار توازي موتا وفناء لا يبقي ولا يذر لمن يحاول أن يسيطر على الاحرار وان يخضعهم لارادته

ومن هنا تدخل القصيدة ضمن الشعر الحماسي وهو يفخر بالأحرار ويمجّد موقفهم من العدو.

والشاعر يستخدم الشعر الحماسي  لحشد الانصار والمتطوعين من الأحرار للقتال وتعزيز الانتماء والشعور بالكرامة والعزة.


ولئن شبه الشاعر عشقه لفل.س.طين بالنار المستديم التي تسري على الهشيم فانه يحوّل هذه النار لتتماهى مع دم الأحرار.

وكأني بالشاعر يعمد الى إثارة الحماس وتأجيج الروح في المستمع أو القارئ.

- يرى الشاعر فل.س.طين أيضا :

 في عيني طفل مستهيم

هي الأرض التي هي للحق تصحو

وتوقظ في المدى حلم اليتيم


والطفل المستهيم هو الذي يهيم  ويشغل بالهوى ..انه يهيم بأرضه التي هي حق له وهي حلم اليتيم الذي فقد الوالدين بسبب الحرب الي يشنها  العدو على أرض فلسطين.

ان الشاعر بقدر ما تحدث في المطلق عن الأحرار أينما كانوا فهو يخص أطفال فل.س.طين .


انه بين حشد للأنصار واستعطاف لهم لاقناع القارئ بان القضية ليست فحسب هي شعور بالانتماء العربي بل شعور بالانتماء الانساني فدلالة الاحرار بالقصيدة تشمل الانسان في مطلقه لينتصر للطفل الفلسطيني في نسبيته لأن قضية الطفل الفلسطيني قد تطول أي طفل مضطهد في العالم.

وفي هذا الاطار يتحول الشاعر من ضمير المتكلم المفرد (أراها) الى ضمير المتكلم الجمع(تنادينا) شعورا منه بالانتماء العربي لكل عربي غيور عليها:


- انه نداء الوطن و الكرامة لأن الارض من العِرض. ولا يستحق الحياة من لا يدافع عن كرامته.

- انه نداء الصبر و كأني به يلمّح الى الآية الكريمة "وبشر الصابرين الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون"

ان هذا الصبر يجعله يلوذ ويستجير بالكريم وهو اسم من أسماء الله الحسنى وهو اسم ثابت ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى:" فتعالى الله الملك الحق لا اله إلا هو ربّ العرش الكريم"(سورة المؤمنون 116).


يقول شاعرنا  (وان ضاقت دروب  الحزن فيها// تفتح في الظلام يد الكريم)

وكرم الله يسع كل شيء وقد يكون كرمًا بنصر مبين .

ولعل القارئ هنا يدعم قول الشاعر مستحضرا الآية الكريمة (160) من سورة آل عمران "أن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي  ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المتوكلون"

- وكأني  بالشاعر يقوم خطيبا مناديا بالكرامة وداعيا الى الصبر والاستنصار بالله

- وكأني بالشاعر وهو في حماسه  يردد قول الله تعالى الآية42 من سورة ابراهيم" ولا تحسبن الله غافلا عمّا يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار"

ويستأنف الشاعر"الخطيب" في خِطابه الخَطابي  الحماسي:

- تمجيد دور المبدع في شحذ العزائم وشحنه بالحماس للمقاومة ( نراها في الجراح قصيد مجد/ وفي التكبير تسري كالنسيم).

- الشعور بالفخر : فلسطين البطولة في حماها / وتعلينا على لهب الجحيم .

ان فلسطين بلد الأنبياء هي شافعة وحامية من الجحيم.

- تمجيد جند فلسطين لنبذ اليأس وشحن المقاومة بالأمل والايمان:

ويأبى اليأس أن يدنو اليها

وتدفعه الخطى رغم الحطام

ففيها من ربى الايمان جند

يقاوم بالصدى وعد الرغام


وأكثر من ذلك يراها حلم أرواح شعبها لتجعل المقاومة مستمرة حتى النصر:

تبث الحلم في أرواح شعب

يجدد في الدنى عهد السقيم

وتكتب بالمقاومة ارتقاء

على الأفق فوق الغمام


و لعل الشاعر عمد الى شعر الحماسة لعدة أسباب:

- تعزيز القيم البطولية لجند المقاومة لترسيخ قيم العزة والكرامة والشرف في الذاكرة الجماعية للمقاومين.

- تعزيز الانتماء والهوية بتعزيز الشعور بالانتماء للهوية العربية والانسانية والتاريخ.

- تقوية النفسية والتوعية بتحفيز المقاومين  والهاب مشاعرهم وتعبئتهم عسكريا وسياسيا وانسانيا.

- تجسيد القيم الاخلاقية من خلال التغني بجند المقاومة  لتشكيل الخطاب الشعري

الداعي للاتحاد ضد الك. يا. ن الص. ه. يوني المغتصِب للحق الفل.س.طي.ني.

ولدعْم هذا النفَس الحماسي استخدم الشاعر معجمية حماسية  دينية تحرّك الضمير الجمعي فلسطينيا وانسانيا ( أراها في دم الأحرار نارا/ توقظ في المدى حلم اليتيم/  تعبّد بالكرامة والنعيم/  وفيها الصبر/ تفتح في الظلام يد الكريم/ في الجراح قصيد مجد/ في التكبير تسري كالنسيم/ فل.س.طين البطولة/ تعلينا على لهب الجحيم/ فيها من ربى الايمان جند/ يقاوم بالصدى/ تبث الحلم/ يجدد في الدنى عهد السقيم/ تكتب بالمقاومة ارتقاء/ على أفق العلا فوق الغمام).


لعل الشاعرطاهر مشي بهكذا  قصيدة يُحْيِي شعر الحماسة  الذي نبغ فيه المتنبي وأبو تمام وابن هانئ كفنّ مستقل و متطوّرغيرة على بلد الأنبياء فل.س.طين وعشقا لها لتحريك الشعور بالانتماء العربي  في نفس كل عربي غيور على فل.س.طين  ومنتصرا لقضيتها الانسانية.

سلم قلم الشاعر طاهر مشي الذي زاوج بين الشعور بالانتماء العربي وشعر الحماسة .


بتاريخ30/ 09/ 2025


المراجع:

(1) من محمود درويش الى نزار قباني..اجمل القصائد الت كتبت عن غزة(30/10/ 2023))عربي بوست)

(2) أحمد ابراهيم الشريف(16/ 12/2014) سميح القاسم..."غزة تبكينا..لأنها فينا ونحن في متاهة الاحساس بالذنب..

(3)  الديوان" فلسطين" ابراهيم طوقان "اخواننا أهل الوفاء"

(4) غسان كنفاني  كتاب (عائد الى حيفا)

 فلسطينُ التي في القلب ( الشاعر طاهر مشي)

ااااااااااااااااا ااااااااااااااااا ااااااااا

فلسطينُ التي في القلبِ أُسرتْ

كنارٍ في الهشيمِ مستديمِ

أراها في دمِ الأحرارِ نارًا

وفي عينيّ طفلٍ مستهيمِ

هي الأرضُ التي للحقِّ تصحو

وتُوقِظُ في المدى حلمَ اليتيمِ

تُنادينا لنمضي في دروبٍ

تُعبّدُ بالكرامةِ والنعيمِ

وفيها الصبرُ يمشي غيرَ هَزلٍ

كأنّ الصبرَ مِن نسلِ العزيمِ

وإنْ ضاقتْ دروبُ الحزنِ فيها

تفتّحَ في الظلامِ يدُ الكريمِ

نراها في الجراحِ قصيدَ مجدٍ

وفي التكبيرِ تسري كالنَّسيمِ

فلسطينُ، البطولةُ في حِماها

وتُعلينا على لهبِ الجحيمِ

ويأبى اليأسُ أن يَدنُو إليها

وتدفعُهُ الخطى رغمَ الحُطامِ

ففيها من رُبى الإيمانِ جُندٌ

يُقاومُ بالصّدى وعدَ الرَّغامِ

تبثُّ الحلمَ في أرواحِ شعبٍ

يُجدِّدُ في الدُنى عهد السقيم

وتكتبُ بالمقاومةِ ارتقاءً

على أفقِ العُلا فوقَ الغمامِ

ااااااااااااااااا ااااااااااااااااا

طاهر مشي



الاثنين، 29 سبتمبر 2025

قراءة نقدية: "القصة القصيرة جدا والأدب السياسي" القصة القصيرة جدا:(ق.ق.ج "استهانة" نموذجا) الكاتبة:فوزية الكوراني(سوريا) الناقدة:جليلة المازني(تونس)

 قراءة نقدية: "القصة القصيرة جدا والأدب السياسي"

القصة القصيرة جدا:(ق.ق.ج "استهانة" نموذجا)

الكاتبة:فوزية الكوراني(سوريا)

الناقدة:جليلة المازني(تونس)

القراءة النقدية:"القصة القصيرة جدّا والأدب السياسي"

لقد اختارت الكاتبة فوزية الكوراني عنوان ق.ق.ج" استهانة".

وردت مفردة  استهانة  مفردة نكرة وهي بصيغة المصدر من فعل مزيد استهان .

والمصدر يقتضي الحديث عن اسم الفاعل المستهين واسم المفعول المستهان به.

فمن المستهين ومن المستهان به وفيما تمثلت الاستهانة؟سنقف على ذلك  أثناء التحليل.

استهلت الكاتبة قصتها بتقديم الاطار الزماني (بعد نصف قرن ونيف)لما يكتنفه من ثقل وطول ولعل هذا الزمان الطويل يجسّد حياة فلسطين المحتلة مع الكيان الصهيوني الذي اضطهدها وانتهك أرضها وكرامتها بين الدول لان الارض من العرض.

لهذا السبب أزهقت الكاتبة كل مافي رحمها من نطاف.

 وفعل أزهق فعل مزيد على وزن أفعل ويُفيد المطاوعة ودلالته "أمات وهلك"

ونقول أزهق الله روحه اي خرجت وهلكت وماتت(معجم اللغة العربية).

وارتبط فعل أزهق بالنص القرآني بالباطل:

يقول تعالى في ازهاق الباطل:"وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا"(سورة الاسراء/الآية 81)

ان الكاتبة بعد طول هذا الزمن وثقله أزهقت كل ما في رحمها من نطاف ..انها جمعت بين المعنوي والمادي. وازهاق كل النطاف هو قراربعدم الولادة والانجاب..انه قرار بالعقم القاسي على النفس.

هل ان الكاتبة بازهاقها كل ما برحمها من نطاف هو ازهاق للباطل؟ وأيّ باطل؟

استخدمت الكاتبة ضمير المتكلم المفرد(أزهقت) لتقحم نفسها في هذه الماسأة شعورا منها بالانتماء العربي لقضية عربية .

 ثم هي باسم المفرد تعبّر عن الجمع انها تتكلم باسم الامة العربية التي حكمت على نفسها بالعقم والله وحده من" يجعل من يشاء عقيما".( سورة الشورى 50)

ان الكاتبة لا تخفي عنّا حزنها فهي تُسرُّ الوجع والألم لهذا العقم العربي.

أي عقم عربي تُلمّحُ اليه الكاتبة؟

هل هو العقم الفكري الثقافي العربي؟ أم العقم السياسي العربي؟

1- العقم الفكري الثقافي العربي:

يرى الباحث الدكتورعبداللطيف قصاب في كتابه العقم الفكري الثقافي العربي ان هذا النوع من العقم أشدّ خطورة من أيّ عقم آخر فيقول:

ولا بدّ أن تتمكن شعوبنا" من الخروج من أزمة عقمها الفكري وادراك خطورة ما يُنسج لها من مؤامرات تحاول سلبها كل شيء ابتداء من السيطرة على العقل العربي بكامله مرورا بالمشاريع الصهيونية كاعْلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني وانتهاء بمحاولة تخفيف أعداد العرب المواجهين للمشروع الصهيوني"

وللخروج من أزمة العقم الثقافي الفكري العربي لا بد من"تحقيق وجودنا وعدم السماح باختراقنا من الآخرلان الغزو الثقافي والفكري الذي تهندسه أمريكا والصهيونية العالمية خطر لا يشبهه خطر فهو يهدف الى ترويضنا أمام ثقافة الاستسلام والانهيار وعدم التمسك بأي قيمة ترسخ ثوابتنا".(1)

ان هذا العقم الثقافي هو في الحقيقة عقم يعشّش تحت مظلة العقم السياسي.

2- العقم السياسي العربي:

يقول الكاتب يوسف ابو لوز:"العقم السياسي يشبه عملية التصحّرفهو رمال متحركة وأسوا ما في هذا العقم أن الواقف في بحر الرمل يظن انه في حقل من النرجس وذلك هو العناد السياسي بعينه..أن يذهب ببعض السياسيين الى الاعتقاد

بامتلاكهم الحقيقة هم وحدهم أمّا الاخر فليذهب الى الجحيم كما يقول سارتر"

ويضيف:"انظرالى خرائطك العربية في فلسطين والعراق ولبنان في ارخبيلات التجاذب والتشرذم والانقسام"(2)

ان هذا العقم الفكري الثقافي العربي وهذا العقم السياسي العربي هوباطل لابدّ من  ازهاقه .

هذا ما جعل الكاتبة تبحث عن حل فوجدت الحل في التسوّل دون أخذها بعين الاعتبار بالمثل القائل"كل عمل شريف الا السرقة والتسوّل"فتقول:


"اعتليْت المنبر أتسوّل"

ان الكاتبة تستخدم مفارقة عجيبة لان من يعتلي المنبر عادة ما يكون خطيبا في الناس ليستفيدوا من خطبته لكن هذا الاعتلاء كان للتسوّل .

انها نبرة من التهكم والسخرية والكاتبة باستخدام صيغة المتكلم المفرد فهي تقحم نفسها مرة أخرى مع  الشعوب المُستجْدية والمُتسوّلة والتي تعيش على رحمة أرباب نعمتها .

والكاتبةلا تخفي عنا هذا الوجع الذي يَسْلبُ الشعوب المستضعفة كرامتها وحريتها واستقلاليتها لتعيش مستسلمة لامريكا والغرب مطبّعة مع الكيان الصهيوني ومقابل هذا التطبيع تبيع سيادتها الداخلية والخارجية.

وفي هذا الاطار نفهم معنى "استهانة "التي اختارتها الكاتبة عنوانا لقصتها فالقضية الفلسطينية مستهان بها والشعوب العربية مستهينة لا تكترث لها لانها محكومة بمصالحها شأنها شأن كل الدول المستضعفة في العالم.

أمام هذا الاستضعاف للأمة العربية وذلّ السؤال والاستجداء الذي رضيت به فهي

تُقابلُ بقطع اليد .

انها قفلة مدهشة للقارئ لم يكن ليتوقعها وكسرت أفق انتظاره وانتهكت حرمة جسده حين قالت الكاتبة "رُدّت اليّ يدي مقطوعة".والفعل ورد في صيغة المبني للمجهول فلا نعرف من قطعها.

وهنا قد يتدخّل القارئ ليمارس حقه في التأويل وقد يتساءل:

كيف رُدّت هذه اليد مقطوعة؟

من قطع هذه اليد ولماذا؟

- قد يعتبر القارئ أن أحرار الشعوب العربية التي بنفوسهم بعض الأنفة والكرامة ايمانا منهم بأن" اليد العليا أفضل من اليد السفلى"قد قطعوا هذ اليد الممدودة المُسْتجدية وناضلوا ضدّ حكامهم الانتهازيين لينتشلوا كرامتهم .

- قد يعتبر القارئ وهو الأدهى والأمرّ أن أرباب نعمة الشعوب المستضعفة هم الذين قطعوا هذه اليد الممدودة اذلالا لصاحبها مرّتين مرة وهو يستجدي ومرة ثانية ويده مقطوعة وفي بتر يده اعاقة له هذه الاعاقة التي تحُدّ من حركته وقد تلجمُ لسانه ليكون بصفّهم كالقطيع التابع لهم وفي ذلك تخفيض لعدد المواجهين لهم وامكانية السيطرة أكثر على الذين يعيشون على فتات موائدهم.

وبناء على ما سبق فان هذه ق.ق.ج تندرج ضمن الأدب السياسي بامتياز وهو ما

يُحسبُ للكاتبة  المسكونة بهموم الأمة العربية المستضعفة.

و"الادب السياسي هوالتاريخ الحقيقي للأمة والشعب والوطن والقيم وليس ما يكتبه المؤرخون الذين يستمدّون مادّتهم من الوثائق الرسمية بما فيها من كذب

وتزوير وتضليل"(3)

وبالتالي فان ق.ق.ج "استهانة" تضع اصْبعها على هموم الامة السياسية وتشرّح الجسد السياسي بكل حيادية لا ن التاريخ السياسي يكتبه المنتصرون وفي ذلك تشكيك في مصداقيته.

ان القارئ أيضا قد يندهش لهذه المسحة المتشائمة بالقصة وقد دعمتها الكاتبة بحبكة ممتازة جعلت كل مفاصل القصة تقوم على الادهاش فبعد تحديد الاطار

الزماني يجد القارئ نفسه أمام دهشة تكسر أفق انتظاره(أزهقت كل ما في رحمي من نطاف) وهذا العقم الذي فرضته على نفسها كان القارئ ينتظر دواء له لكن الكاتبة قدّمت له حلّا فيه انتهاك لكرامته (اعتليت المنبر أتسوّل) وأكثر من ذلك فان دهشة القارئ تتضاعف حين تذهله الكاتبة بردّ يدها مقطوعة(رُدّت اليّ يدي مقطوعة).

ان القارئ هنا قد يظلم الكاتبة بوصفها متشائمة بيْد أنّها كانت واقعية نقلتْ لنا الواقع المرير والأليم الذي تتخبط فيه الأمة العربية خاصة حكّامها.

 وهل أكثر من أن الكاتبة تحدّثت بصيغة المتكلم المفرد ايمانا منها بأنها مفرد في صيغة الجمع(الامة العربية) وهي تُسرّ الحزن والوجع.

ان مانقلته لنا الكاتبة يستحيل نقله من طرف المؤرخ المتواطئ و "المُتسيّس".

ان الكاتبة فوزية الكوراني قد حمّلت جنس القصة القصيرة جدّا مسؤولية الزواج بالأدب السياسي هذه القصة التي تستجيب الى خاصية ثنائية الايجاز والتكثيف:

ايجاز في اللفظ بدون عجز وتكثيف في المعنى يدعمه الايحاء.

انه ما يعبّر عنه الكاتب والمبدع المغربي عبد الله المتقي ب"تجويع اللفظ واشباع المعنى".

أشدّ على يديْ المبدعة فوزية الكوراني التي أتاحت لي فرصة الاستمتاع بقراءة ق.ق.ج"استهانة"قراءة نقدية هذه القصة ق.ج التي جعلت الكاتبة لا تشبه الانفسها.

بتاريخ:22/05/2024

=== نص القصة ق.ج. ===(المبدعة:فوزية الكوراني)

بعد نصف قرن ونيّف أزهقت كل ما في رحمي من نطاف.

اعتليت المنبر أتسوّل...رُدت اليّ يدي مقطوعة.


المراجع:

 (6 juin 2012) https://thawra.sy>(1(

العقم الفكري الثقافي العربي جديد الدكتورعبد  اللطيف قصّاب

https://www.alkhleej.ae>(2)

مقالات العقم السياسي ايوسف أبو لوز

 https://ar.wikipedia.org>wiki>..(3)

أدب سياسي- ويكيبيديا



هل بإمكان الشعراء..صياغة تجليات الثورة التونسية. في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث؟! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

هل بإمكان الشعراء..صياغة تجليات الثورة التونسية. في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث؟!
"ليس بين الدّم.. والدمع مسافة..هذه تونس التي تتحدّى..وهذا الوعي نقيض الخرافة..” (مظفر النواب.بتصرف)

ثمة سؤال أبله يدور في خلدي،قد يصلح ليكون بداية،وإن كانت فجة،للملامسة المقصودة هنا : لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا، عن الثورة؟ !
هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية،وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة،أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.
والوجوب المفترض عن الشعراء-أو المفروض عليهم !-هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه،من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة،لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق،أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة..وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرض-الثورة. وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الأخرون،صوت أمته،وضميرها الحي،الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها،المعدّد لمناقبها،الممجّد لإنتصاراتها،الرائي لقتلاها،الشاتم لأعدائها…
وربما هو كذلك،أو كان كذلك،في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)، قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ،وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات،فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته،وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام..حتى علماء الكلام !.
لكن الناس ينتظرون من الشاعر،الشاعر وحده، أن يقول ويكتب !
وهو في داخله يحس أنها مهمته هو،دون غيره ! وكأنه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ، وسيرورة الواقع، ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف،هذه المرة،لا المحفوظ ! وكأننا ما نزال ننظر إلى وجودنا نظرة شاعرية، تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي، بإنثيالات عاطفية،وتهويمات مدغدغة،وبلاغات لفظية،لا تعمل على تحويل الدم إلى حبر فحسب،بل أيضا على تحويل الشهادة إلى رمز،والألم البشري إلى مجاز،والفجائع اليومية إلى استعارات .. !
والسؤال الأبله السابق يلد أسئلة أخرى ليست أقل بلاهة:هل تعد قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في الثورة،أم أنها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها..؟
وبسؤال مغاير أقول : هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في التأسيس للديموقراطية،الحرية والعدالة الاجتماعية،أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس باللا نفع، وإراحة ضمائر متلقيه من الرهق الذين يرين عليها،بسبب ما تعانيه من شلل شامل؟ !
وحين يستعمل أحدهم لغته لتصوير رمية حجر أو نظرة غضب أو مصرع شاب أو نواح أم…هل يكون في روعه أنّ صوره أصدق وأبلغ وأبعد أثرا من صورة الحقيقة التي رآها عيانا،أو عبر ما بثته أجهزة الإعلام إبان المد الثوري الخلاّق..؟ !
وهل في ظن أحدهم أنّ أولئك البسطاء الواقعيين،ولا أقول الأسطوريين،الذين ثاروا على القهر، الظلم والظلام، قرؤوا قصائده، أو فهموها، أو اتخذوا من تكاثرها وتراكمها ذخيرة لهم في مواصلة نضالهم، وهم الذين ما انتظروها حين أشعلوا الثورة التونسية الخالدة واشتعلوا بها؟ ! وإذا كانت هذه القصائد موجهة إلى بقية الشعب والجماهير والحكّام العرب وصنّاع القرار، أن’تنبهوا واستفيقوا أيها…
فلماذا لم تصل رسالتها بعد، على الرغم من تلال القصائد المتلّلة، التي تكرّر الفحوى ذاتها دون هوادة، بالألفاظ ذاتها دون هوادة، عبر عشر سنوات ونيف من عمر الثورة التونسية..وأقل بقليل من عمر ما يسمى “بالربيع العربي..”؟ !
أما إذا كان يراد من هذه القصائد والكتابات أن تكون أعمالا فنية جمالية، تسعى، بأدوات دقيقة ومحترفة، إلى استلهام الحدث لتخليده، وجعله عبرة وراقة وجدانية أصيلة، تنفعل بها وتتعلّم منها الأجيال القادمة، فلعمري ألا تكفي قصيدة جيدة واحدة،أو بضع قصائد لتلبية هذا المطمح؟
أجل،إنها أسئلة بلهاء،لا أظنها ترد على خاطر كثير من الشعراء وغيرهم من ممتهني الحرف،وهم يحاولون صياغة تجليات الثورة في قصيدة شعرية ترقى إلى حجم الحدث..؟
ولعل هذه أن تكون احد شؤون الثورة التونسية وغاياتها،أن تكشف فنيا بلاهتنا، وتفضح ادعاءاتنا وأكاذيبنا على صفحة مرآة صدقها الجارحة،وتثير فينا شهية،الثورة،بدورنا،على ما تواتر واستتب حتى أصبح أعرافا وتقاليد،وتحرّك فينا ما أسن من أفكار وأساليب،علها تتنفّس هواءها الطازج..

محمد المحسن


قراءة فنية بعنوان “تمزقات الهوية وصراعات الأنا “ لشعر نعيمة المديوني ‎ قصيده “أكره أن لا أكون أنا” بقلم الناقدة د أمال بوحرب

 قراءة فنية بعنوان “تمزقات الهوية وصراعات الأنا “

لشعر نعيمة المديوني ‎

قصيده “أكره أن لا أكون أنا”

‎في عالم يعج بالأسئلة الوجودية ومحاولة فهم الذات، تُعتبر الهوية إحدى القضايا الأساسية التي شغلت العديد من المفكرين والكتّاب. وقد عبّر الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف عن هذا الصراع بقوله: “إننا نعيش حياتين الحياة التي نعيشها بالفعل، والحياة التي نحلم بها”ومن خلال هذا الإطار، تتناول الشاعرة التونسية نعيمة المديوني تساؤلات حول ماهية الهوية في قصيدتها الرائعة “أكره أن لا أكون أنا”.

‎ظهر كلمات الشاعرة صراعها الداخلي مع القوالب الاجتماعية والقيود التي تُعد حجر عثرة أمام تحقيق الهوية الحقيقية حيث تنطلق على خطى الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر القائل: “اللغة هي بيت الوجود.” وبهذا، تُعبر اللغة في شعر المديوني بشكلٍ جلي عن تجارب إنسانية مشتركة، وتمازج المشاعر والأفكار التي تؤدي إلى رحلة نحو فهم الذات والحقيقة سنحاول في هذه القراءة من تحليل الأفكار والأبعاد�تبدأ القصيدة بتعبير قوي عن الكراهية لفقدان الهوية، حيث تُعبّر بشكلٍ صريح عن مشاعرها المتضاربة فتقول

‎أكره أن لا أكون أنا�إذا خلا المكان من غيرنا�إذا داعبنا أوراق الشجر وتجلّى القمر�أكره أن أضع عصابة تحجب عنّي السيول والرّبا�أن أبتسم والدّمع يسكن المقل�أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل�تمثّل هذه الألفاظ الصراع العميق مع الأقنعة التي يرتديها الناس، مما يعكس العصبية تجاه فقدان الذاتً تتجلى هنا فكرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر القائلة: “الوجود يسبق الجوهر”، حيث تبرز الشاعرة هذا الصراع من خلال تصوير المشاهد الطبيعية كالهواء والأضواء القمرية، التي تُظهر تناقض الحالة الداخلية المظلمة التي تعيشها.�وتستمر في استكشاف تفاصيل الحياة اليومية، محذّرةً من القيود المفروضة من قبل التقاليد الاجتماعية إذ تعبر عن ذلك بقولها: “أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل”، مما يُبرز الفجوة بين المظاهر الخارجية والهواجس الداخلية.

‎الأسلوب والإيقاع�ما يميز هذه القصيدة هو وجود عدة عناصر فنية تجعلها لافتة ومؤثرة؛ فالبناء والهيكل يتكونان من مقاطع تعكس تجربة الشاعرة ومعاناتها. يُستخدم التكرار في عبارة “أكره” بشكلٍ جيد لخلق تأثير درامي وزيادة الانفعالية كما تمتاز اللغة بالثراء والعمق، حيث تستخدم الشاعرة الصور الشعرية لاستحضار مشاعر معقدة، مما يعكس الحوار بين العناصر الطبيعية والعواطف الداخلية وهي تحقق تنوعًا في الأسلوب والإيقاع، مما يعزز مشاعر التأمل والقلق بإيقاع متنوع، ليجسد التوتر الداخلي الذي تشعر به. تتحدث مباشرة إلى قلبها وفكرها، مما يزيد من تفاعل القارئ.�البعد الوجودي في القصيدة�في إطار الحيرة الوجودية، تُعتبر تجربة نعيمة المديوني جزءًا من تيار شعري أوسع تظهر فيه مشاعر الشك والقلق بصور مختلفة الشاعر محمود درويش، في قصيدته “جواز السفر”، يعبر عن التوتر الذي يعيشه الفرد تحت ظروف مُهجرّة، مما يكشف عن مخاوف الفقد والعزلة. كما يتناول الشاعر المصري أمل دنقل، في قصيدته “لا تصالح”، مشاعر القلق والاغتراب في مواجهة واقع مأساوي أما الشاعرة الأردنية مها العتوم، فتطرح مفهوم الهوية من خلال الصراعات الثقافية والتقاليد الاجتماعية.�تتقاطع هذه التجارب الشعرية مع تجربة المديوني، حيث يُظهر الشعر الحديث كيف يتعامل الشعراء مع مسألة الهوية وصراع الأنا يعكس هؤلاء الكتاب تجارب إنسانية مشتركة تتداخل فيها المشاعر والتجارب الحياتية، مما يساهم في ثراء الأدب الحديث. ومن خلال هذه الأصوات، نرى كيف يمكن للشعر أن يكون وسيلة للتعبير عن صراعات وجودية عميقة، تسلط الضوء على حاجة الإنسان إلى التفاهم مع نفسه وسط تعقيدات الواقع الذي يعيشه.�القراءة النفسية للقصيدة

‎تقول الشاعرة:�أكره أن لا أكون أنا�إذا خلا المكان من غيرنا�إذا داعبنا أوراق الشّجر وتجلّى القمر�أكره أن أضع عصابة تحجب عنّي السيول والرّبا�أن أبتسم والدّمع يسكن المقل�أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل�أن أقول ما لا أحبّ أن أقول ساعة تحتضننا آلسّماء�ساعة تهب السّواقي أريجها�أكره أن تدمع الرّوح والوجه باسم�أن تذرف آلسّماء مدامعها وتراقص الأرض رماحها�أكره أن يتجمّل الفؤاد وجيده بالأسى صارخ�أكره أن أسير مكبّلة بأصداف التّقاليد العمياء�أن أصافح الرّياح�أن أغرس الياسمين فينبت الشّوك جارحًا�أكره لسعة الصّقيع والدّفء منّي غير بعيد�كيف لي أن أكون أنا والأقنعة من حولي مغرية؟�كيف لي أن أسبح في اليمّ وحيتانه آثمة؟�أكره أن لا أكون أنا�ساعة ترسل الشّمس ضفائرها�ساعة يكبّر للصّلاة في محراب الهوى�أيّها الفؤاد صافح الغيوم�ٱبسط كفّك�تعود إليك جذلى�أيّها السّاحر هاتني برعشة قاتلة لحظة مجون خالدة�لا أكون إلا أنا إذا صفّق الطّير مسبّحًا�ساعة تسكن تجاويفي لاهثًا�ساعة أصير منك الحياة�ساعة تصير مني أنفاسي وكلّ آهاتي�ساعة يشهق الهوى شهقته المزلزلة�وأشرب من كأسك�ساعة أداعب وجه السماء�وأدرك منتهى المنتهى�الصراع الداخلي�تظهر المشاعر المتناقضة فتتراوح بين الرغبة في الظهور كذات حقيقية والرغبة في انصهار هذه الذات مع العالم الخارجي.واستخدام عبارات مثل “أكره” يعكس رفضا داخلياً، ويشير إلى معاناتها مع القيود التي تخلقها التقاليد والمجتمع وهي معاناة شعب�التمزق بين الواقع والرغبة�تشير الشاعرة إلى مشاعر الحزن والتظاهر من خلال رغبتها في “ابتسم والدّمع يسكن المقل” تبرز هذه العبارة الصراع بين ما يُتوقع منها أن تشعر به، وما تشعر به فعلاً، وهو ما يتقاطع مع أفكار سارتر حول حرية الإرادة وعبء الاختيار.�الأقنعة الاجتماعية�تُبرز القصيدة كيف أن الضغوط الاجتماعية والتقاليد تُجبر الأفراد على ارتداء أقنعة، مما يؤدي إلى الشعور بالانفصال عن الهوية الحقيقية. يعكس هذا التوجه معاني عميقة من الفكر الوجودي الذي يتناول فكرة “ما هو الإنسان؟” و”معنى الوجود؟”�الوجود والبحث عن الهوية :تتساءل الشاعرة بشكل فني عن كيفية تحقيق الذات الحقيقية في ظل العالم الخارجي المؤذي. هنا نجد صدى لفكر سارتر حول ضرورة مواجهة الوجود وتحمل مسؤولية الخيارات التي نقوم بها، إلى جانب فكرة الحرية كمعاناة.�الجمال والآلام :تعني العبارات المتكررة حول الآلام والرغبة في التحليق والحرية أن الشعراء غالبًا ما يجدون الجمال في الألم تشير الشاعرة إلى رغبتها في التواصل مع الجوانب الحقيقية للحياة، حتى وإن كانت مؤلمة.

‎إن قصيدة “أكره أن لا أكون أنا” كما رأيتها تمثل تعبيرًا قويًا عن الصراع الوجودي ورغبة الإنسان في تحقيق هويته الحقيقية من خلال التألق افي استخدام اللغة والصور الشعرية، إذ تعكس القصيدة مشاعر معقدة وغنية، مما يجعلها عملاً فنيًا يتجاوز الزمان والمكان فتُظهر تجربة نعيمة المديوني تتداخل المشاعر مع الأبعاد الثقافية والفكرية، وتعزز رحلة القارئ نحو الفهم العميق للنفس وربما نكون قد ألقينا الضوء ليس حول تجربة الشاعرة فحسب، بل أيضًا على المساحات التي يحتلها الشعر في فهم قضايا الهوية والصراع الداخلي، وتوضيح الرؤية الإنسانية في مواجهة التحديات الوجودية ولكن مع كل هذه التجارب الشعرية العميقة يخامرني السؤال التالي هل يجوز القول إن هذه التجارب كفيلة لتشكيل الهوية الفردية والجماعية في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا وحضاريًا؟ أم تحتاج الساحة الأدبية إلى التكافل الفني والأدبي لصنع تاريخ يحمل هويتنا بكل فخر وامتنان؟

د.آمال بوحرب 

تونس



الأحد، 28 سبتمبر 2025

*"الأدب في زمن الفقد: (( دهاليز كشك الأدباء أنموذجًا ))* دراسة لقصة - (( دهاليز كشك الأدباء )) للأديب والشاعر السوري: (مصطفى الحاج حسين). بقلم الناقدة أمل حامد سالم

 *"الأدب في زمن الفقد: (( دهاليز كشك الأدباء أنموذجًا ))*

** (( أمل حامد سالم ))..   

      - دراسة لقصة - 

(( دهاليز كشك الأدباء ))

 للأديب والشاعر السوري:

(مصطفى الحاج حسين). 

 

* هي قصة تنتمي إلى الأدب السردي المعاصر، تجمع بين السرد المُقتضب والنفسي، وبين التأمل في الذاتيّة

والعلاقة الاجتماعية، بين الطموح والخسارة، بين الصداقة والخيانة، وتكشف صراعًا أخلاقيًا، وجدانيًا، نفسيًا، يستند إلى واقع اقتصادي واجتماعي يعيش فيه الشخصيّة الرئيسة. القصة تُروَى بصوت أوّلي، الراوي هو الشخصية التي تحكي تجربتها، تعرّضها للخداع، الخيانة في الثقة، التفوّق الذي يعقبه سقوط، الانكشاف، الألم، الأسئلة الأخلاقية. بنيتها في تصاعد درامي واضح: من البداية التي تَعَرّض فيها الراوي لسرقة، إلى علاقة الصداقة والأمل، إلى النُصح، إلى الانشغال، إلى الخسارة، ثم الانهيار والصدمة، وانسحاب الأصدقاء، وانتهاءً بالوحدة والخيبة.  


تصاعد الحدث والبناء الدرامي.. البداية، الصدمة والتحدي الأخلاقي.. تنهار العلاقة تدريجيا، ليس بانفجار، بل بصمت، بهجر الزيارات، بتغيّر أماكن الجلسات، بصمت الصديق

، بتجاهل، بغياب. هذا الانسحاب يُمثّل ذروة المأساة العاطفية بالنسبة للراوي.. والراوي هو شخصية ذاتية، تحمل في طياتها الانكشاف التام. نرى فيه الصراع بين الطموح والأخلاق، بين الرغبة في النجاح وبين الخوف من الفشل. الراوي مؤلم في صدقه مع نفسه، في ضعفه، في محاولاته الدفاعية. هو ليس شريرًا، بل إنسان يخطئ، يتعثر، يُعجب، يُخطط، يراقب الناس، يتألم، يحزن، يخشى السُمعة والاتهام.

(صلاح) صديق مركب، هو الذي وثق، الذي ساهم، الذي شارك، لكنه أيضًا شخص يتغيّر بمرور الزمن، تتبدّل أولوياته، وقد يُلقى عليه ضغوطٌ اجتماعية، أسرية، حتى نقاط ضعف يُظهرها. إنه رمز للآخر الذي يخسر شيء أيضًا.

الآخرون (طلال، زوجة صلاح، الجمهور، "أبو طاهر").. كل منهم يمثل وجهًا من وجوه البيئة الاجتماعية التي تُقوّض الطموح بالغيرة، النقد، السخرية، التملّق، المصلحة. الحوار بينهم صار وسيلة ليس فقط للكشف، بل للبناء السردي الذي يعمل على تأزيم وضع الراوي.

 

تبدأ القصةبحدث الصدمة

.. سرقة رأس مال الراوي، لكنه يدرك أن الاتهام المباشر مرفوض بسبب علاقته بأصدقائه. هذا الحدث هو الشرارة التي تُشعل صراع الهوية والمسؤولية، وتُفعّل فكرة الانعكاس على الذات ومساءلة الضمير.بعد ذلك، يُبرز الكاتب الصداقة مع صلاح، الثقة، الطموح – الأمل بأن يتحول الكشك إلى مشروع اقتصادي واجتماعي ناجح، بأن يُحقّق الاحترام والمجد وحتى الشهرة الأدبية. كما أن اشتراك الراوي في الجوائز الأدبية، مشاركته في الوسط الثقافي، الأمسيات، المسابقات – كلها طبقات تُكوّن سياق الطموح والهوية الأدبية, ورغبة في التقدير.

الشعور بالفشل، القلق من السمعة، الكذب الداخلي أو التبرير الذاتي.. النقد من الأصدقاء، الخيانة المتوقعة أو المفاجئة، صعود منافس أدبي (أبو طاهر)، الذي يُمثل رمزًا للزيف الأدبي حسب رؤية الراوي. في المقطوعات التي تحوي لقاءات مع طلال، مع زوجة صلاح، مع الانتقادات الموجهة، تتصاعد الدراما. صراع مصطفى فى ليس فقط مع الواقع، ولكن مع الذات ومع الآخر. يتخذ شكل المواجهة: "أنت المسؤول"

، "كنت تبطّل الصداقة"، "كنت تأجل الدفع"، "كنت تغالي في التصرفات"، وها هي الصداقة تنهار.

القصة تعكس واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا مأزومًا، معاملات اقتصادية ظالمة، قلة الثقة، الفقر الذي يدفع الإنسان للمجازفة، الخسارة التي لا تُحمّل فقط الفرد بل البيئة.  

 القصة تجمع بين الفرد والمجتمع، إذ أن تجربة الراوي هي خاصة جدًا، لكنّها تُمثّل تجربة الكثيرين الذين وثقوا، استثمروا، فرّطوا في سمعتهم، أو في صداقتهم، أو خسروا مشاريع بظروف خارجة عن إرادتهم.. الأخلاق في القصة.ِ. مفاهيم الحقّ والواجب والالتزام والعدل والمساءلة. كيف يكون الصدق الفني؟ كيف يكون الالتزام بالوعود؟ كيف تُفقد الثقة؟ 

القصة تنسج توترًا وجدانيًا بين الخوف من الفشل، الخجل، الذنب، والمسؤولية، الهلع، الشعور بالوحدة، الألم من الخيانة

، المرارة من التهم.

الكثير من المقاطع فيها حوار مباشر، مما يُعطي إحساسًا بالواقع والمواجهة، لا الانعكاسات طويلة فحسب. حوارات تكشف الشخصية، تفاعلها، خوفها، وجلّها. الأسلوب المحكي يُبقِي القارئ قريبًا من التجربة النفسية.. والأحداث تُروى بلا إطناب؛ وصف الدموع، الصراخ، الصمت، الأخبار، الاتهام، كلها مختزلة لكنها قوية، بلا تفصيلات غير ضرورية.. الصور  الجسدية (الكتلة الحمراء، العيون الجاحظة)، التضاد بين الصداقة والمشاعر الأدبية بين الأمس واليوم، بين الطموح والخيبة. هذا التضاد يُعطي انفعالًا، حرارة، صدقًا. القصة تراوحت بين الحاضر (المواجهة، الصمت، الألم) والماضي (الذكريات، بداية العلاقة، الجوائز، الأمل). هذا التناوب يُسهم في بناء المعنى، في إظهار الفقدان، في إشعار القارئ بما كان، وما لم يعد.

الشخصيات الرمزية، "أبو طاهر" ليس فقط شاعر مزعوم في القصة، بل رمز لزيف الألقاب، للمظاهر، للتملّق الأدبي؛ “الكِتابة المشهورة” بدون عمق، الدعاية، العلاقات الاجتماعية التي تُنافس القيم الحقيقية.

يمكن مقارنتها بقصة مثل "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي من حيث الصراع الأخلاقي والذنب، أو مع قصص لبيرم التونسي أو أحمد أباذيب أو غيرهم ممن يعالجون الصداقة الممزقة والأخلاق تحت الضغوط الاجتماعية.. كذلك مثل روايات غابرييل غارسيا ماركيز أو إرنست همنغواي التي تستعمل الصمت، والغياب، والتفكك العاطفي، والصراع النفسي. أو مع قصص صمويل بيكيت حتى من حيث النبرة المريرة.. مقارنة مع كتاب جيله: إن الكاتب مصطفى الحاج حسين يُظهِر إلمامًا بالميل نحو النفسية والأدب الواقعي الاجتماعي، يُمكن مقارنته مع روائيين وقاصين معاصرين ينتمون إلى تيارات الواقعية الجديدة أو ما بعد الواقعية التي تدمج التأمل بالأنا والمناخات الاجتماعية.

القصة تُعبّر عن وعي ذاتي مُتأخر: ليس وعيًا فحسب بالمأزق، بل وعيًا بالذوق، بالأسلوب، بالادعاء، بالهوية الأدبية. هذا إدراك حداثي.. التجديد في الأسلوب: قوة التكثيف، الاقتصار على الضروري، الحوار المكثّف، الصورة الجسدية، الصمت كعنصر سردي، التناوب بين الزمن الحاضر والماضي،التجديد في الموضوع: ليست فقط "قصة فشل" بل "قصة خيبة الأمل من الثقافة"، "قصة فقدان الصداقة"، "قصة وعي بالذات تجاه الآخر".

الفعل المضارع يُستخدم في الحوارات والحالة النفسية: "أشعر"، "أخاف"، "أرفض"، ما يُعطي النص حركة وتوترًا و الداخليّة الفعلية. الكاتب لا يغش في التعبير: الألم واضح، الأخطاء معترف بها، والطموحات مرسومة، ولكنها تتحطّم – لا تصنع المثالية. هذا صدق أدبي لا يلتجئ إلى المثالية الاجتماعية أو الشخصية.

الحرارة في اللغة، ليس لغة خطاب مُمجّد، بل لغة خجلة، مُتهدّجة، مُتكسّرة أحيانًا، لكنها حقيقية، تجعل القارئ يُلمس وجع الراوي. البراعة في التوازن، بين السرد والحوار، بين الأسلوب الشخصي والنقد الاجتماعي، بين التفاصيل اليومية والمواقف الكبرى، بين الذات والآخر.


(دهاليز كشك الأدباء)، ليست مجرد قصة عن الصداقة أو الفشل المالي، بل هي تأمل في العلاقة بين الإنسان والطموح، بين الثقافة والمصلحة، بين الثقة والخسارة.

الهدف من القصة: إنذار، بأن المظهر لا يكفي، بأن الثقة تُبنى ولكنها هشة، وأن الكاتبين الحقيقيين يُكتشفون بصوتهم الحقيقي، لا بما يدفع الناس مقابل الجلوس إليهم.. تدعو القصة إلى مساءلة الضمير، إلى الالتزام بالعهد، إلى محاسبة الذات أمام الآخرين، إلى إدراك أن النجاح لابد أن يكون مؤسسًا على الصدق، لا على التضليل أو المظاهر.

تعكس هشاشة الظرف الاقتصادي، أهمية النزاهة، خطورة الاحتيال داخل المجتمعات الصغيرة، تأثير المصالح الشخصية على الروابط الإنسانية.

ربما يُنتقد النص لكونه أحادي الصوت غالبًا، لا توجد شخصية تُعالج قضية "أبو طاهر" من وجهة نظره، أو لا توجد مساحات انتقالية تُظهر أن الآخر كذلك قد يعاني أو أنه ليس كله سلبي.

قد نرى أن التجسيد مبالغ فيه في التفاصيل (وصف المظهر الجسدي، السخرية المفرطة)، وقد يرى أحدهم أنه يقارب التحقير بدلًا من النقد البنّاء.


(دهاليز كشك الأدباء) لِكَاتبها تُشكّل إضافة قوية لأدب الأنا الواقعي الاجتماعي في الأدب العربي المعاصر. إنها قصة تؤكد أن الفن ليس مجال ترف، بل مرآة مريرة تُعرّي الذوات، تؤرخ للخيبة، للكذب، للتملّق، للمجاملات، وللأسف البشري. الكاتب أظهر إبداعًا لا من حيث الموضوع فحسب، بل من حيث الصيغة، الأسلوب، البناء الدرامي النفسي، والتناوب بين الأنا والمحيط، بين الواقعة والمجاز، بين الصمت والصراخ، في سياق الأدب المعاصر، تلتقي هذه القصة مع أفضل محاولات الكتابة عن الذات، عن الهامش، عن الخسارة، لكنها تبقى متميزة بصدقها، بجرأتها في مواجهة الواقع، بجرعة الوجدان التي تشعر بها في كل كلمة، وبأسلوب يحافظ على الكثافة، على الإيقاع الداخلي للصراع، على "الآن-الآن" الشعور بالرغبة والشك والخوف والمرارة.. إشارة واضحة وموضوعية إلى بُعدٍ مهم في شخصية الراوي، نزاهته، وابتعاده عن الجشع والطمع، ورغبته الحقيقية في مساعدة صديقه (صلاح)، بما يخالف ظنّ بعض الشخوص في القصة، ويكشِف أحد المحاور الإنسانية العميقة في النص. 

في قراءتنا النقدية السابقة، ركّزنا على التأزّم النفسي والانفعالي للراوي في مواجهة تداعيات الفشل والخيانة وسوء الظن. لكن من الضروري التوقّف عند المستوى الأخلاقي العميق لشخصيته، الذي يُقدَّم بطريقة غير استعراضية، بل متضمَّنة ضمن سردٍ تلقائي يبتعد عن التمجيد المباشر.

فالراوي، منذ بداية القصة، لا يُظهِر أي نَهم مادي، ولا رغبة في استغلال “البرّاكة” لمكاسب فردية أنانية. على العكس، هو من بادر بجعل المشروع مساحة تشاركية بينه وبين أصدقائه، خاصة (صلاح). ما يُضعِف أي قراءة تتّهمه بالجشع، أو اللهث وراء الربح. كان يمكنه أن يُقصي (صلاح) وغيره، لكنّه – بدافع من الصداقة وربما الشعور بالانتماء – فتح باب المشاركة والمساعدة، وهذا يكشف نزوعًا تضامنيًا حقيقيًا، وليس استثمارًا انتهازيًا.

بل إننا نلمس في حواراته ومواقفه ما يُشبه "الكرم الساذج" أحيانًا؛ كعندما يُنفق على الشلّة في المقهى، أو حين لا يُمانع بأن يستدين منه الآخرون

، أو عندما يصرّ على احترام طقوس الضيافة الشعبية (الشاي، القهوة، الكرم الريفي)، حتى على حسابه الخاص. وهذه الإشارات كلها تؤكّد أن الراوي لا يُفكّر بلغة الربح والخسارة، كما يظنّ صديقه، بل بلغة العلاقة والنية الطيبة.. والدليل الأكبر على ذلك، هو أن دافع استثماره في "البرّاكة" لم يكن مجرد ربح مادي، بل رغبة في النجاح الأدبي والمكانة المعنوية، أي أن الطموح كان ثقافيًا، رمزيًا، وجدانيًا، وليس ماديًا خالصًا. لذا، فإن خيبة الراوي حين خسر لم تكن فقط مالية، بل إنسانية، وشعورية.. كما أن مواجهته لصلاح، بعد اتهامه المبطن، لم تكن بردّ عنيف أو انتقامي، بل كانت مؤلمة، دفاعية، وذات نبرة مُحطّمة. وهذا ردّ الفعل يدل على أنه لم يكن ينتظر ردّ الجميل، ولا يعتبر نفسه صاحب فضل يجب الاعتراف به. هو فقط يشعر بالألم حين يُساء فهمه، حين تُفسَّر مساعدته على أنها استغلال.. وبذلك، نرى أن شخصية الراوي تتجلى كضحية مضاعفة، ضحية الاحتيال المالي (كغيره).. وضحية سوء الظن من أقرب الناس إليه، رغم نواياه الحسنة.. وهذا ما يجعل من الراوي شخصية "تراجيدية" بكل المعاني: يسعى لخير مشترك، فيُتهم بالسوء، يحاول أن يرفع صديقه، فينقلب عليه.

إن تضمين هذا البعد في قراءة القصة يُعيد توازن الحُكم الأخلاقي، ويؤكّد أن الراوي ليس نموذجًا للأنانية أو الطمع، بل على العكس، هو شاهد على كيف يُمكن للنوايا الطيبة أن تُساء قراءتها في مجتمع مأزوم، متوتّر، تعِبٌ من الخيبات.. وتلك مأساة الإنسان النبيل في زمن الشك.

دور (طلال) في القصة يستحق بالفعل قراءة خاصة، لأنه يُمثّل صوت التوازن والعقلانية، ويشكّل ثالثًا مُهمًّا، في المثلث الدرامي بين الراوي (مصطفى) وصلاح.. (طلال) صوت الحكمة، والمحبّة، والتوفيق..يظهر طلال في قصة دهاليز كشك الأدباء كشخصية ثالثة محورية، ليست فقط عنصرًا مكمّلًا في السرد، بل وسيطًا فاعلًا بين الطرفين المتخاصمين.. الراوي وصديقه (صلاح). طلال ليس شاهدًا صامتًا، بل شخصية ذات حضور أخلاقي وثقافي وإنساني.

(طلال) مُثقف واسع الأفق، مترجم، متذوّق، قارئ نهم، يملك حسًّا نقديًا حادًا، لكنه أيضًا لا يتحوّل إلى شخص نخبوي متعالٍ أو متفرّج. بالعكس، هو من القلّة الذين يُحاولون رأب الصدع، واحتواء الانفجار العاطفي والنفسي الذي يحصل بين صديقَيه، بل يُشاركهُما حوارات حميمية حول الثقافة، والكتابة، والمعيش، والفقر، والخيبة.. وحين يتأزّم الموقف بين مصطفى وصلاح بسبب تأخّر تسديد المال، لا يُنحاز طلال لطرف على حساب الآخر، بل يُحاول فهم الخلفيات العاطفية والاجتماعية لكليهما. نراه يُواسي مصطفى، ويشدّ على يد صلاح، ويعبّر عن موقفه دون تجريح أو تأليب.. فهو نموذج للصديق الذي يملك نضجًا عاطفيًا ومعرفيًا، يسمح له برؤية الأمور من زوايا متعدّدة.. منفتح ومحبّ لكلا الطرفين، لا يحكم عليهما إلا من منطلق معرفته العميقة بهما.

يحاول حماية الصداقة من الانهيار، وهو ما يُضفي عليه دورًا إنسانيًا كبيرًا، في وسط قصة متوترة بالأزمات الانهيارات. إن وجود (طلال) في القصة ليس تفصيلاً بسيطًا، بل هو عنصر اتّزان سردي وأخلاقي. هو العين الثالثة التي ترى الأمور كما هي، لا كما تُشوّهها الانفعالات والمصالح. ولعلّ غيابه في لحظات لاحقة من القصة يضاعف شعور القارئ بالخسارة: كأن ما فُقِد ليس فقط المال، بل جمال العلاقة الثلاثية التي كانت توازن بين الاندفاع والعقل، بين الحلم والواقعية.


سأتناول جانب الطيبة والبساطة المفرطة في شخصية الراوي (مصطفى)، والتي تشكّل أحد المحاور النفسية والدرامية العميقة في القصة، ويُبنى عليها الكثير من التأزمات والانهيارات لاحقًا.. طيبة الراوي: ما بين النقاء الإنساني والسذاجة الاجتماعية..منذ الصفحات الأولى لقصة (دهاليز كشك الأدباء)، يُقدّم لنا الراوي نفسه كشخصٍ محبّ، حالم، بسيط، يثق بسهولة، ويمنح دون حساب. هذه السمات الإنسانية النبيلة، التي تُضفي على شخصيته مسحة رومانسية أصيلة، هي في ذات الوقت مكمن ضعفه وانكساره.. ثقته المفرطة بعماله وزبائنه.. يُعامل الراوي عمّاله كأصدقاء وأهل، لا كأُجراء. لا يراقبهم بدقة، ولا يُدقق في الحسابات، يسمح لهم بالتصرف بحرية، يثق فيهم لدرجة أنه لا يشعر أن سرقة أو إهمالًا ممكن أن تصدر منهم. وحتى الزبائن، بمن فيهم الفقراء والطلاب، يسمح لهم بالتأخير في الدفع، أو التخفيض، أو حتى بالاستدانة، وأحيانًا بالسرقة دون ردّة فعل غاضبة.. هذا النوع من الطيبة، يتجاوز الرحمة ليتحوّل إلى ضعف إداري ومهني، ما يُفسّر خيباته المتكررة وتراكم ديونه، رغم رواجه المالي المفترض.. علاقته بصلاح

.. حتى حين يتأخر في تسديد ما اقترضه من صلاح، لا يكون ذلك نتيجة خيانة أو نية سيئة، بل لأنه حقًا يمرّ بأزمات مالية خانقة، ويُحاول تأجيل السداد بصراحة ووضوح. وحين يوقّع لصلاح على سند أمانة، يفعل ذلك ليطمئنه، لا مضطرًا، وكأن الصداقة بالنسبة له لا تحتاج لضمانات قانونية، بل تكفيها الثقة.. إنه لا يرى في المال سلطة، بل وسيلة للحياة والمشاركة والمحبّة. لكنه ينسى، أو يتناسى، أن الآخرين لا ينظرون للأمور بهذه الرومانسية.. هذه الطيبة تُصبح في لحظات كثيرة سذاجة قاتلة. فمصطفى لم يكن يجهل أن من حوله يمكن أن يخذله، لكنه تجاهل ذلك عمدًا، بدافع الحلم والنية الحسنة. لذلك، جاءت خيباته من صلاح، ومن عماله ، ومن الزبائن، موجعة مضاعفة.. لأنها لم تكن فقط مادية، بل وجدانية، تمسّ صورته عن العالم.

هذه السذاجة الممزوجة بالكرم، تكشف لنا عن شخصية غير مألوفة في أدب البساطة، فهي ليست فقط "ضحية"، بل واعية - دون اعتراف صريح - بأن العالم لا يُكافئ الطيّبين، لكنها تُصرّ على المضيّ في هذا النمط من العيش، كأنها تقاوم الخراب الداخلي والخارجي معًا.. في قصة (دهاليز كشك الأدباء)، لا يتعرّض الراوي مصطفى إلى الخسارة بسبب خطأ إداري أو سوء تخطيط فقط، بل بسبب استغلال متكرّر لطيبته وسذاجته من أطراف عدّة، تتنوّع بين القريب والغريب، الزبون والصديق، العامل والجار، حتى الشريك.

الراوي يذكر بوضوح سرقات الكتب، خاصة من الذين يُخفونها تحت الجرائد والمجلات. هؤلاء "لصوص مثقفون"، كما يصفهم، يعرفون ماذا يسرقون، ويستغلّون انشغاله أو انشغال إخوته. الغريب أن مصطفى لا يبدو غاضبًا منهم، بل يصفهم بدهشة وإعجاب ساخر، وكأنه يعتبر خسارته أمام ذكائهم "أمرًا مشروعًا"!.. هنا تتجلى الطيبة لحدّ التبرير الأخلاقي للسرقة.

يبدو أن بعض العاملين معه كانوا غير أمناء، أو على الأقل غير مسؤولين بما يكفي. كانوا يتركون المكان مفتوحًا أحيانًا، لا يراقبون البضائع، وربما كانوا يسرقون أو يسمحون بالسرقة، دون رادع، مستغلين ثقته الكاملة.. رغم أن صلاح ليس لصًّا بالمعنى التقليدي، فإن الرواية تُشير بوضوح إلى تغيّره بعد مشكلة المال. عندما خسر مدّخراته التي أودعها عند "الرواس"، حمّل الراوي مصطفى المسؤولية بشكل ضمني، أو على الأقل لم يدافع عنه حين اتهمته زوجته بذلك.. وهذا شكل من الخيانة العاطفية والمعنوية، أشد إيلامًا من السرقة المادية.

الراوي يتساءل بنفسه: "أين تذهب الألف الثانية التي أُوفّرها كل يوم؟ 

هذا السؤال يوحي بأن النهب كان جماعيًا، صامتًا، وممنهجًا. ربما هناك أكثر من يد امتدّت إلى أمواله دون علمه، أو بعض من سمح لهم بالتعامل المادي الحر، أو حتى الأصدقاء الذين يستفيدون من كرمه، دون أن يعترفوا بذلك.

الراوي ليس ضحية خداع واحد، بل ضحية شبكة من الاستغلال العاطفي والمادي، كان مركزها الدائم هو ثقة مفرطة، وطيبة بلا شروط، وسذاجة ترفض التعقّل.  

لكن في الوقت نفسه، القصة لا تُدين الراوي، بل تمنحه قيمة إنسانية عليا.. إنسان يقاوم قبح العالم بكرمه، وإن خسر.


ظهور الدكتور الناقد الكبير في "دهاليز كشك الأدباء" يُمثّل لحظة فارقة وعميقة الدلالة في مسار الراوي (مصطفى)، وتشكّل نقطة توازن في القصة، تعيد الاعتبار لشخصيته، وتُبرز قيمته الإبداعية والإنسانية.

هذا الدكتور لا يظهر بوصفه شخصية هامشية، بل يُجسّد الضمير العادل في المشهد الثقافي. هو ناقد محترف، مثقف حقيقي، لا يقف عند الألقاب أو الشهادات، بل عند القيمة الأصيلة للنصوص والإبداع.

رغم أن مصطفى لا يحمل شهادة جامعية، بل يبيع الكتب في كشك متواضع، فإن الدكتور اكتشف فيه قلمًا صادقًا، وأدبًا حقيقيًا ينبض بالحياة. لقد رأى في مصطفى ما لم يره معظم "المنتفخين ثقافيًا".. لم يكتفِ الدكتور بالإشادة به، بل وثق به على المستوى العملي، وأعطاه ماله ليقوم مصطفى بتشغيله، في علاقة تقوم على، الثقة المتبادلة، الاعتراف المتبادل بالقيمةالاستفادة المشتركة،وهذا الموقف هو نقيض صارخ لموقف صلاح، الذي رغم صداقته الطويلة لم يمنح مصطفى هذا الاحتضان المعنوي، ومال مع الزمن إلى التخلّي.

يمثّل الدكتور هنا عدالة رمزية، تعوّض مصطفى عن خيباته المتراكمة من العمال، واللصوص، وحتى الأصدقاء. هو صوت ثقافي نقيّ، يُثبت أن الثقافة ليست حكرًا على حملة الشهادات، بل على من يحملون الهمّ الإنساني، والرؤية، والموهبة.. في زمنٍ امتلأ بالاستغلال والانتهازية، يُجسّد الدكتور قيمة الوفاء، والنُبل، والإيمان بغير النمط التقليدي. إنه يعرف أن مصطفى، رغم فوضويته وبساطته، أمين، مخلص، ومبدع بالفطرة.. شخصية الدكتور تمثّل بُعدًا أخلاقيًا وجماليًا عميقًا في القصة. إنه نقطة الضوء التي تنصف البطل، وتُعيد التوازن لرؤيتنا له. هو نموذج للمثقف الحقيقي، الذي لا يُقيّم الآخرين بمظاهرهم أو شهاداتهم، بل بصدقهم وعمقهم وإبداعهم.


النصّاب (الرواس) في قصة (دهاليز كشك الأدباء) لا يظهر كشخصية عابرة أو تفصيل جانبي، بل يُجسّد ظاهرة اجتماعية سياسية مركّبة، تعبّر عن الفساد الممنهج المدعوم من السلطة، والتواطؤ العلني بين المال الحرام والسطوة الرسمية، في ضرب صريح لقيم العدالة والثقة والأمان المجتمعي.

(الرواس) ليس محتالًا فرديًا فحسب، بل هو رمز لاقتصاد الظلّ، ولسُلطة رأس المال غير المشروع، ولـ"مكاتب الاستثمار" التي تستقطب الضعفاء والطامحين، وتُغرِقهم في أوهام الربح السريع، لتنهبهم لاحقًا بغطاء سياسي أو بيروقراطي.ِ. هو صورة للنظام المتواطئ، الذي يسمح لبعض الفاسدين أن يكبروا، ويحتالوا، ويهربوا، بينما تُغلق ملفاتهم بحصصٍ تُدفع في الخفاء، ويُترك الضحايا يئنّون في العراء.


الرواية تُلمّح بذكاء إلى أن (الرواس) مدعوم من مسؤولين كبار، وهذا ما تؤكّده الإشاعات التي "انتشرت" عن تورّط أسماء من داخل الدولة في تهريب المال، و"أخذ حصصهم من المال المسروق"، وهي إدانة رمزية قوية للفساد البنيوي.. وبذلك، يصبح الرواس تجسيدًا لــ: عهر السوق والسلطة معًا، 

انهيار الثقة المؤسسات.. 

خيانة الطبقة الحاكمة للمجتمع. 

الكارثة لم تكن مادية فقط، بل إنسانية، حيث تُصوّر القصة النساء "الأرامل، والعجائز، والمطلقات"، اللواتي سلّمن أموالهن سرًا (للرواس)، في مشهد موجع من الخذلان والفضيحة الصامتة، تنفجر بالبكاء، والانهيار، والدموع على الأرصفة.. حتى زوجة (صلاح)، التي وثقت (بالرأس) بناءً على تأجيل مصطفى للديون، تحمّل مصطفى المسؤولية جزئيًا، في انعكاس لغياب الوعي الاقتصادي، وغياب الحماية القانونية.

(الرواس) هو الآخر المدمر الخفيّ في النص. ليس كائنًا من خارج المجتمع، بل ابن هذا النظام، ونتاجه.. يمثل، 

انهيار قيم الأمان الجماعي، تواطؤ الدولة، 

موت الضمير القانوني

ظهور (الرواس) في النص ليس تفصيلًا بل صرخة أدبية ضد منظومة كاملة من الفساد السياسي والاقتصادي. وقد وُظّفت هذه الشخصية بنجاح داخل بنية القصة كأداة لكشف عطب المجتمع من الداخل، وتحديدًا على مستوى السلطة، والمواطن، والثقة، والانهيار الأخلاقي. هذا الجانب الإنساني والنفسي في قصة (دهاليز كشك الأدباء) يُمثّل إحدى طبقاتها العميقة. الراوي مصطفى لم يكن جشعًا أو محتالًا، بل صادق النية، طيب القلب، مشغول بظروفه، وقد عرض على صديقه (صلاح) أن يُشغّل له ماله، ليضمن له دخلاً شهريًا إلى حين تسريحه من الجيش. ولم يتهرّب من المسؤولية، بل وقّع له سند أمانة، وبقي ملتزمًا بدفع الأرباح لأكثر من سنتين.. لكنّ (صلاح وزوجته) ، بدلاً من الاكتفاء بهذا النموذج الناجح، طمعا بالمزيد من الربح السريع، فانخدعا بكذبة (الرواس) التي اجتذبت شرائح مختلفة من المجتمع.ِ. (مصطفى) عرض خدمة لصديق، لا مشروع استثماري طامع.

(صلاح) لم يُجبر على وضع أمواله لدى(الرواس)

، بل قرر ذلك بعد تأجيل مصطفى سداد أصل الدين، فاختار أن يُربّح هذا المال بدل الانتظار.

ورغم ذلك، حين خسر (صلاح) أمواله، لم يلوم النصّاب، بل وجّه اللوم إلى مصطفى، وهو شكل من الإسقاط النفسي والإنكار، حيث يُفضّل الإنسان لوم من يعرفه ويثق به، بدل الاعتراف بجهله أو طمعه.. و

(زوجته)، بدافع الغضب، حمّلت مصطفى السبب، متناسية أنه لم يُدلّهم على (الرواس) ، ولم يشجّعهم على وضع المال عنده، بل كان فقط سببًا غير مباشر في تأخير دفع الدين. في هذا التوتر، يظهر مصطفى في قمة النبل الإنساني والخذلان العاطفي.. رجلٌ حاول أن يُحسن، فاتهموه بسوء النية.. وهنا تتجلّى مهارة الكاتب.. يجعل من مصطفى شخصية مركبة ليس قديسًا، ولا تاجرًا فطنًا، بل إنسانًا عاديًا، يُخطئ ويصيب، يعطي ويُخذل، ويجعل من (صلاح) الضحية-الجلاد، ضحية نصب، وجلاد لصديقه الوفي. الطمع هنا لا يُدين صلاح فقط، بل يُدين هشاشة الوعي الجماعي، وغلبة النزعة الاستهلاكية، وقصر النظر في إدارة المال.

تنطوي قصة (دهاليز كشك الأدباء) على جانب ساخر وناقد لاذع للمشهد الثقافي الزائف، يظهر بوضوح في شخصية (أبو طاهر)، الذي يُمثّل نموذجًا لما يمكن تسميته بـ (الشاعرور الانتهازي)؛ شخصٌ يفتقر إلى الموهبة

،لكنه يتسلّق عبر العلاقات النفعية، والادّعاء، والتمسّح بذوي النفوذ.

الراوي مصطفى، الذي يُدرك جيدًا التمييز بين الأصالة والزيف، يعرّي هذا النموذج بلغةٍ سخريّة مريرة، ذكية، ومشبعة بالتهكّم، كما في قوله:

أنا لا أتصوّر أن في الدنيا شاعرًا اسمه (أبو طاهر)!  

هو يكتب على أطراف الجرائد... يجمع جملتين خلال أسبوع، ويسمّيها قصيدة!. 

هذا النقد ليس موجّهًا فقط لـ (أبو طاهر)، بل إلى ظاهرة واسعة في الحياة الثقافية، حيث يُقدَّم الرديء بوصفه عميقًا، ويُهلَّل له من قِبل من لديهم مصلحة مباشرة معه.. (صلاح)، الذي كان يومًا الصديق الأقرب لمصطفى، يصبح مع الوقت جزءًا من هذه البنية المُزيّفة، يبتعد عن مصطفى حين يصيبه الإحباط والفقر. ويتحوّل إلى جليس (أبو طاهر)، ويُثني على شعره، قائلاً: السيد (أبو طاهر) شعره ممتلئ بالفكر، والفلسفة، والحكمة، والتأمل، والبصيرة!. وهو موقف يَشي بنوعٍ من النكاية العاطفية المقصودة؛ إذ يبدو أن صلاح يقرّب (أبو طاهر) ليغيظ به مصطفى، الذي طالما كان يرفض الاعتراف بأي موهبة لهذا المدّعي.. والانفصام هنا ليس في صلاح فقط، بل في الوسط الثقافي.

مصطفى يمثل الشاعر الحقيقي، البسيط، المهمَّش، الصادق، الذي لا يحمل شهادة جامعية، لكنه يكتب بإحساس وحرارة وتجربة. وأبو طاهر يمثّل المثقف الورقي، الذي يصنع مجده بشراء القهوة للآخرين، وتقديم الهدايا، وسداد الفواتير، لا بالموهبة أو العطاء الأدبي. وهنا تأتي المفارقة.. السلطة الثقافية تذهب غالبًا إلى من يملك النفوذ، لا من يملك الموهبة. وكأنّ مصطفى يُطلق صرخة احتجاج: لقد خسرنا حتى المقهى، وصرنا غرباء في أماكننا.

في هذا التفصيل، تغدو سخرية مصطفى مقاومة ناعمة ضد التزييف، وصوتًا لألم الشاعر الحقيقي الذي فقد أصدقاءه، ومكانته، لصالح زيف يتغذّى على المصلحة. 

الراوي في دهاليز كشك الأدباء، ومن خلال أسلوبٍ ساخرٍ تارة، ومُوجعٍ تارةً أخرى، يكشف القشرة البوليسية التي تغلّف المشهد العام في مدينة حلب، لا سيما حين يُسهب في وصف الأماكن المحيطة بـ"البرّاكَة"، ليرسم صورة خانقة عن تغلغل الأمن في كل زاوية من زوايا الحياة.ففي سردٍ واحد متواصل، يذكر عشرات المراكز والجهات الرسمية والأمنية «فروع الأمن: الأمن الجنائي، أمن الدولة، الأمن السياسي، الأمن العسكري، فرع حزب البعث، الشعب الحزبية...» هذا السرد الطويل ليس بريئًا، بل يحمل إيقاعًا مقصودًا من التكرار والتكثيف، يُشعر القارئ بالاختناق، وبأن المدينة بأكملها مراقَبة، خاضعة، مُحاصَرة بعين السلطة. والمفارقة أن هذه القائمة تأتي وسط حديث عن الأدب، والمقاهي، والثقافة،مما يُظهر التضاد الصارخ بين الحرية التي يفترضها الأدب، والرقابة التي تفرضها السلطة.

وبذلك، يوظّف الراوي الجغرافيا كشاهد سياسي وأمني، فيفضح القمع دون شعارات مباشرة، بل عبر وصف دقيق للمدينة التي لم تَعُد فضاءً ثقافيًا حرًّا، بل مسرحًا للمراقبة والمنع والتقارير.

يمكننا القول إن هذا المقطع يُجسّد بامتياز أدب ما بعد الرقابة، حيث تُصبح الجملة الوصفية، المكانية، أداة مقاومة وتعرية، تُوحي دون أن تُصرّح، وتدين دون أن تُسمي، وتتجرّأ دون أن تصرخ.

قصة دهاليز كشك الأدباء ليست  سيرة ذاتية لأديب يعاني شظف العيش والتهميش، بل هي مرآة مركبة لحياة المثقف العربي في فضاء اجتماعي واقتصادي وسياسي خانق. تُقدَّم بواقعية صادمة، وسخرية مريرة، وصدق فنيّ نادر، وبلغة تنبض بحرارة التجربة ووجعها، وتعكس أزمة وجودية وإنسانية وأخلاقية عميقة.

الراوي، مصطفى، ليس بطلاً كلاسيكياً، بل هو إنسان هشّ، بسيط، طيّب، مسكون بالحب، والجَمال، والمثاقفة، ومتورّط في دهاليز الحياة اليومية التي لا ترحم. أراد أن يرفع رأسه بالأدب والثقافة، فإذا به يُطعن من أقرب الناس: الزبائن، الأصدقاء، العاملين، وحتى السلطة غير المرئية التي تحاصر أحلامه. في العمق، القصة هي صراعٌ بين القيم والمصالح، بين الأدب والمال، بين الصداقة والخيانة، بين النقاء والابتذال. وهي أيضاً وثيقة اجتماعية عن مدينة (حلب) ، كمركز ثقافي مسلوب، وميدان لصراع الطبقات، وهيمنة الأمن، وانحطاط الذوق العام، وابتذال الإبداع.

كما تطرح أسئلة كبرى عن 

معنى الصداقة في زمن النفعية (علاقة صلاح بمصطفى وأبو طاهر)،  

ومعنى المثقف الذي لا يحمل شهادة لكنّه يكتب بموهبة أصلية ويُهمَّش،  

وأين يذهب المال في بلد تسرقه السلطة والنصابون تحت حمايتها، ولماذا يُحاسَب الطيّب وحده على نواياه الحسنة بينما ينجو الأشرار؟. 

في هذه القصة، الدهاليز ليست مكانًا فقط، بل استعارة شاملة للحياة كلها، للحالة الثقافية، للضمير الجمعي، وللتيه الذي يعيشه من لا يساير القطيع. والكاتب مصطفى الحاج حسين، يثبت هنا أنه ليس مجرد راوي تجربة شخصية، بل هو صوت من لا صوت لهم، وضمير المرحلة، ومؤرّخُ وجعٍ لم يُكتَب بعد.إنها قصة عن الأدب حين يُكتب بالدم، لا بالحبر.

"دهاليز كشك الأدباء" عنوان ذكي وكثيف الدلالة، يحيل مباشرة إلى العتمة، والتشعّب، والغموض، والتيه—لا في المكان فحسب، بل في العلاقات، والضمائر، والمصائر. "دهاليز" توحي بممرات معقّدة، ملتوية، يضيع فيها الداخل، تمامًا كما تاه الراوي مصطفى بين الأدب والتجارة، بين الطيبة والاستغلال، بين الوفاء والخيانة، بين الإبداع والخذلان، وبين الحلم والانكسار.  

"كشك الأدباء" يبدو بسيطًا ظاهريًا، لكنه يحتضن عالمًا متعدّد الطبقات: ملتقى مثقفين، واجهة ثقافية، وفي الوقت نفسه، فخّ للضياع الشخصي، والخذلان الإنساني، والتآكل الاقتصادي والأخلاقي.

العنوان يعمل كرمز وتشبيه ممتدّ للقصة كلها؛ فكل حدث في النصّ هو دهليز بحد ذاته، دهليز الصداقة المسمومة مع صلاح.. دهليز الفساد المالي والسياسي (الرواس وأمثاله)، دهليز الخيانة الثقافية (أبو طاهر وأشباهه).. دهليز الذات المتأرجحة بين الطموح والانهيار..دهليز البيئة الخانقة، والمجتمع المحبط، والسلطة المتوحشة.. وما دام الكاتب قد أخبرني أنه سيكتب دهاليز أخرى إذا ساعدته صحته، فإنّ هذا يوحي أن ما نقرأه الآن ليس سوى بداية سلسلة سردية فذّة، تتعمّق أكثر في الوجه الخفيّ للحياة الأدبية، والاجتماعية، والإنسانية في مدننا العربية، وخاصة في حلب.


نسأل الله الشفاء والصحة للأستاذ مصطفى الحاج حسين، فكل دهليز جديد ننتظره، هو ضوء إضافي نحتاجه في نفق أدبنا المعاصر.*


      أمل حامد سالم.



الضغط الإعلامي وسلطة المثقف المريض: حين تتحول العلل إلى رافعة للتأثير...-الكاتب الصحفي الحبيب بن فضيلة-نموذجا- بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 الضغط الإعلامي وسلطة المثقف المريض: حين تتحول العلل إلى رافعة للتأثير...-الكاتب الصحفي الحبيب بن فضيلة-نموذجا-

في المشهد الثقافي والسياسي المعاصر،ثمة ظاهرة لافتة تستحق التأمل: صعود مثقفين يعانون من أمراض أو علل جسدية أو نفسية إلى واجهة الحوار العام،مدفوعين بضغط إعلامي يحول معاناتهم الشخصية إلى رأس مال رمزي يؤهلهم لتوجيه الرأي العام ومخاطبة السلطات.


لم يعد المثقف اليوم هو ذلك الشخص المتعالي بمعارفه الأكاديمية فحسب،بل أصبحت "شهادة المعاناة" تمثل مصداقية جديدة في الخطاب العام. حين يتحدث مثقف عن آلامه المزمنة،أو معاناته مع الاكتئاب،أو تحديات الإعاقة،فإنه يقدم نفسه ليس كمحض ناقل للمعرفة بل كشاهد على تجربة إنسانية عميقة.هذه الشهادة الوجودية تمنح كلمته ثقلاً خاصاً في نظر الجمهور الذي يرى في تجربته الشخصية مصداقية تفوق أحياناً تلك التي يمنحها الإطار الأكاديمي التقليدي.


*الآليات الإعلامية لصناعة التأثير:


وسائل الإعلام،بدورها،تدرك جيداً قوة هذه القصص الإنسانية في جذب الانتباه وإثارة المشاعر.لذا تسعى إلى تسليط الضوء على هؤلاء المثقفين،لا لمحتواهم الفكري فقط،بل لقصص كفاحهم الشخصي مع المرض.هذا التركيز الإعلامي يخلق ضغطاً على السلطات للاستجابة لمطالبهم،حيث يصبح تجاهل صوت "المريض البطل" مجازفةً بسمعة السلطة وعلاقتها بالرأي العام.


اللافت في هذه الظاهرة هو كيف تعيد العلل والأمراض تشكيل موازين القوى بين المثقف والسلطة.فبينما كانت السلطة تقليدياً تحتكر وسائل التأثير،أصبح المثقف المريض قادراً على توظيف معاناته كوسيلة ضغط غير تقليدية.فكيف يمكن للسلطة أن ترفض مطالب مثقف يعاني من مرض عضال؟ وكيف يمكنها تبرير عدم الأخذ برأيه وهو الذي دفع ثمناً وجودياً لموقفه؟


وهنا أقول :رغم الجانب الإيجابي في إتاحة الفرصة لأصوات مهمشة،إلا أن هذه الظاهرة تحمل إشكاليات عميقة.فأحياناً يتم اختزال قيمة المثقف في مرضه بدلاً من فكره،ويتم توظيف معاناته بشكل انتقائي لتلميع صورة السلطة..!


في الختام، بينما يُعد الضغط الإعلامي أداةً هامةً لتمكين أصوات المثقفين المرضى،يظل التحدي قائماً في كيفية الحفاظ على جوهر الفكر دون اختزاله في المرض،وكيفية ضمان أن يكون الاستماع إلى هذه الأصوات أصيلاً وليس مجرد استجابة تكتيكية لضغوط إعلامية عابرة.فالقيمة الحقيقية لأي مثقف،سواء كان مريضاً أو سليماً، تظل تكمن في عمق فكره وقدرته على تقديم رؤى تثري الحوار المجتمعي.


أخيرا،صغنا هذا المقال،بعد أن استجابت سلط الأشراف بوزارة الشؤون الثقافية،للضغط الإعلامي الذي مارسناة-بكل نكران للذات-للأخذ بيد الكاتب الصحفي التونسي الحبيبةبن فضيلة،إذ تم ايوائه بالمستشفى العسكري للعلاج ( أنظروا مقالنا بصحيفة الشروق التونسية الصادر بالنسخة الورقية بتاريخ 25/9/ 2025 ,تحت عنوان : أين أنت ياوزارة الثقافة ؟! الحبيب بن فضيلة يمر بظروف صحية حرجة)..مع تمنياتي له بالشفاء العاجل..


ختاما أقول : في المشهد الثقافي والسياسي المعاصر،ثمة ظاهرة لافتة تستحق التأمل: صعود مثقفين يعانون من أمراض أو علل جسدية أو نفسية إلى واجهة الحوار العام،مدفوعين بضغط إعلامي يحول معاناتهم الشخصية إلى رأس مال رمزي يؤهلهم لتوجيه الرأي العام ومخاطبة السلطات..


والسؤال الذي نطرحه يتعلق بالدور الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية لوزارة الثقافة تجاه المثقفين الذين يعانون من الأمراض،سواء كانت نفسية أو جسدية.هذا موضوع بالغ الأهمية،حيث أن المثقفين هم رأس مال الأمة الفكري وروّاد نهضتها،وتأثرهم بالمرض لا يعني معاناة فرد فحسب،بل قد يشكل خسارة للمجتمع بأكمله.


وخلاصة القول :


دعم المثقف المريض ليس عملاً خيرياً فقط،بل هو استثمار في العقل الجمعي للأمة وحفظ لتراثها الفكري.المثقف الذي يقدم الأفكار ويحلل الواقع ويساهم في تشكيل الوعي، يستحق أن تجتمع جهود الدولة والمجتمع لحمايته عندما يكون في أمس الحاجة إليها.


وواجب وزارة الثقافة يتعدى تنظيم المهرجانات والمعارض،ألى بناء نظام متكامل للرعاية الاجتماعية والصحية يليق بهذه الشريحة التي تقدم الكثير لوطنها.الأخذ بأيديهم وعلاجهم هو تأكيد على أن الثقافة ليست ترفاً،بل هي قضية وجود وإنسانة،وأن الدولة التي تحمي مثقفيها تحمي في الحقيقة مستقبلها وذاكرتها وهويتها.


"إنَّ اللَّهَ لَيُعِينُ الْعَبْدَ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". دعم المثقف المريض هو تجسيد حي لهذا المعنى النبيل..وأرجو من السيدة الوزيرة ( وزيرة الشؤون الثقافية أن تستسيغ قصدي النبيل،وأن لا يقع إخراجه عن سياقه الموضوعي..!)


محمد المحسن


*ملحوظة تخص السيدة وزيرة الثقافة :


كاتب هذه السطور يعيش" معاناة إغريقية" أشرفت به على هوة العدم،وغدا منها على الشفير (  مرض عضال استنزف صحته وجيبه،وفاة إبنه مما غلب فتقه على رتقه..غربة واغتراب في وطنه..بعد مسير نضالية أدين فيها بكل عقوبات جهنم..استغاث بك مرات عديدة-بمنأى عن التسول والإستجداء-علك تساعدينه ظرفيا على تجاوز محنه وصعابه..ولكن صرخته،كانت كمن يزرع الورد في واد غير ذي زرع..وشكرا..



السبت، 27 سبتمبر 2025

رسالة إلى أبنائنا المتعلمين في بداية العام الدراسي، عن فضل العلم. بقلم د. سامي ناصف

 رسالة إلى أبنائنا المتعلمين في بداية العام الدراسي،

عن فضل العلم.

-------------

إن العلمَ أولُ العباداتِ، وثمراته هى التى تحقق خير الدنيا والآخرة.

والمتاجرة بالعلم أو إضاعة جدواه من شر الجرائم . 

فعن على "رضى الله عنه"  أنه ذَكر فتنًا تكون فى آخر الزمان فقال له عمر : متى ذلك يا على ؟ فقال : إذا تفقه لغير الدين، وتعلم العلم لغير العمل، والتمس الدنيا بعمل الآخرة .

ومن التمس الدنيا بعمل الآخرة يؤكد عليه حديث ابن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء ولا تختبروا به المجالس فمن فعل ذلك النار النار .

إن الميزة التى رجحت آدم على الملائكة هى العلم فقد عرف ما فى الحياة من جماد ونبات وحيوان وعرف آثار قدرة الله فيها - أى عرف الكون منسوباً إلى صاحبه لا مقطوعاً عنه - على عكس الحضارة الحديثة التى تعرف الأشياء ولا تعرف خالقها .

ومن تعاجيب الأيام أن المسلمين اليوم يعرفون الله ولا يعرفون آياته فى الكون وأن أوربا وأمريكا تعرفان الكون معرفة حسنة وتجهلان الله جهلاً مقيتاً.

ولكى يكون المسلمون على حق يجب أن يحسنوا الانتفاع به فى خدمة أنفسهم ونصرة دينهم ...كتبها /سامى ناصف



قراءة نقدية:" القصيدة بين تسريد الشعر والتناص الديني" القصيدة :"حدّ اليقين" الشاعرة الهام عيسى(سوريا) الناقدة :جليلة المازني(تونس)

  قراءة نقدية:" القصيدة بين تسريد الشعر والتناص الديني"

القصيدة :"حدّ اليقين"

الشاعرة الهام عيسى(سوريا)

الناقدة :جليلة المازني(تونس)


القراءة النقدية: "القصيدة بين تسريد الشعر والتناص الديني"


1- عتبة العنوان:


أسندت الشاعرة الهام عيسى لقصيدتها عنوانا (حد اليقين) له دلالة اسلامية تتمثل حسب علماء الدين في" الوصول الى درجة عالية من الاعتقاد الجازم والثابت الذي لا يخالطه شك أو ريب في القلب, وهو العلم التام والراسخ الذي ينعكس في سلوك المؤمن وطمأنينته النفسية.. اليقين هو أساس الايمان الكامل ودليل على الاحسان في العبادة ومن ثمرات الزهد في الدنيا والعمل الصالح, والسعادة في الدارين".


في هذا الاطار يقول تعالى "واعبُدْ ربك حتى يأتيك اليقين" (سورة الحجر الآية 99) وقد فسر علماء الدين هنا اليقين بمعنى الموت الذي لا شك فيه.


وعلى هذا الاساس ما الذي تعتبره شاعرتنا قد بلغ حد اليقين في القصيدة؟


2- التحليل: تسريد الشعر والتناص الديني بالقصيدة:


أ- مفهوم تسريد الشعر:


يرى النقاد أن تسريد الشعر هو استخدام العناصر والتقنيات السردية في النص الشعري أوتحويل القصيدة الى قصة أو حكاية بما فيها من مقومات السرد (الأحداث, الشخصيات والزمان و المكان ) وأركان السرد من وصف وحوار.


وتسريد الشعر هي ظاهرة أدبية تقطع مع الأجناس الأدبية وتنتهك حرمة أفضلية جنس أدبي على جنس أدبي أوفني آخر.


ب- تجليات تسريد الشعر بالقصيدة:


لقد كانت الشاعرة راوية عليمة بالأحداث فاستهلت المقطع الاول من القصيدة بمقابلة معنوية بين الأزمة وانفراجها:


فلئن كان الواقع متأزما وأليما بأحداثه (حرائق تلتهم الزوايا/ردم في الخسوف/ أينما تحل بقايا أطفال يملأ العيون) فان ساعة الانفراج قد تأخرت (تأخر الصباح على غير المألوف).


والصباح نور وضياء وحياة جديدة تتنافى ومشهد الموت المرسوم بألمه ووجعه


والراوية ليست راوية عليمة بالأحداث فحسب بل كان متدخلة في إبداء رأيها في الزمان(تأخر الصباح) الذي لم يكن في خدمة الأحداث وفي انتشال الشخصيات(الأطفال ) من الموت ولعل الشاعرة تلمح الى أطفال فل.س.طين الشهداء الابرياء ضحايا الك. يا.ن الصه. يو . ني.


ولعل القارئ هنا يستحضر الآية الكريمة81من سورة هود" إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب" ليطمئن الشاعرة التي تسرّ الوجع من تأخر الصباح الذي يرمز الى ساعة الانفراج لهلاك العدو الذي استباح دم الاطفال الأبرياء في كل مكان تماما كما كان الصبح موعدا لهلاك أعداء النبي لوط.


وبين صباح عادي وصباح غير مألوف وبين صباح جديد وصباح متأخر وبين أزمة وانفراج لها تعيش الشاعرة قلقا وجوديا انها مأساة عجز الانسان أمام الموت التي لم تبق من الأطفال ولم تذر(بقايا أطفال يملأ العيون).


والشاعرة تصف بامتياز كثرة الضحايا من الاطفال وبشاعة المشهد بصورة شعرية حسية تجعل بشاعة المشهد يثير الاحساس بالوجع.(بقايا أطفال يملأ العيون).


وكأني بالشاعرة سلطت الضوء على هلاك الأطفال لأنهم اللبنة الأولى للمجتمع ولأنهم مستقبل البلاد والعباد. وبهلاكهم  يتم القضاء على مستقبل البلاد لتنهار من الأساس وتذهب ريح العباد.


ازاء هذا المشهد الأليم من الهلاك الشامل لهؤلاء الضحايا والشهداء(من وراء بحار الآلام) لاذت الشاعرة الى إيمانها ويقينها بأنهم سيجازون عند الله بالجنة وبذلك كما تدخلت الراوية في الزمان ها هي تتدخل في المكان لتستبدل المكان الواقعي الاليم بمكان ميتافيزقي (الجنة) .


انها استدعت النص القرآني الآية34 من سورة ( ق) "ادخلوها  بسلام ذلك يوم الخلود" والآية 46 من سورة الحجر "ادخلوها بسلام آمنين".


وقد سخرت شخصية غير بشرية لتنادي في هؤلاء الشهداء ليدخلوا الجنة(نادى مناد).والمنادي الذي ينادي قد ذكره النبيّ (عليه الصلاة والسلام) بانه ملاك ينادي اهل الجنة .


وكأني بالشاعرة تعَزّي نفسها بخلود هؤلاء الهالكين من فلس.طي.ن بدخولهم الى الجنة(ادخلوها بسلام) آمنين خالدين في نور دائم (واسرجوا لياليكم بشعاع النور)


حيث لا ظلم ولا ظلام.


وأكثر من ذلك فان الشاعرة قد استدعت الشخصية الدينية المتمثلة في مريم العذراء (حيث أوت الى جذع نخلة) تقديسا للمرأة الفلس.طي .نية الشهيدة وهي مفرد في صيغة الجمع وهي رمز لكل النساء الفلسطينيات.


فلئن أوت مريم العذراء الى جذع نخلة هربا من كلام الناس أعداء الله فان هذه المرأة الفلس.طي.نية قد أوت الى مكان آمن وخالد بالجنة هربا من ظلم الظالمين


ومؤمنة بقدرها المحتوم الذي يحقق لها السلام والأمان(وابتهلت في صمت وأنين..اللهم آمين) .


ولئن كان حوار المنادي لأهل الجنة جهرا فقد استخدمت الشاعرة الحوار الباطني أو حديث النفس لهذه المرأة التي "ابتهلت في صمت وأنين..اللهم آمين"


 وكأني بها حين شبهتها الشاعرة بمريم العذراء "قد أنذرت لله صوما ألا تكلم اليوم انسيّا" فلاذت بحديث النفس الباطني.


 وتختم الشاعرة بمقطع هو من جنس المقطع الأول بالقصيدة ومن جنس العنوان:


فلئن تأخر الصباح على غير المألوف بالمقطع الاول" فالشمس تفتح ذراعيها بخجل لم تعهدها من قبل بهذا الوجل":


- وكأني بالشاعرة شاهدة عيان على مأساة هؤلاء فلا الصباح طلع عليهم لأنه تأخر ولا الشمس أشرقت لأنها لا تريد أن توقظهم فهي تخفض لهم جناح الذل


- كأني بالشاعرة  وهي راوية عليمة بما يحدث لهؤلاء الضحايا قدعبرت بامتياز عن الازمة وعدم انفراجها بان أخضعت الظواهر الطبيعية في خدمة المعاناة التي يعيشها هؤلاء الضحايا بان جعلت الصباح يتأخر  والشمس وجلة وخائفة من الشروق حتى لا توقظهم وتخفض لهم جناح الذل.


والشاعرة تستحضر مرة اخرى الاية24 من سورة الاسراء(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) التي تدعو الى البر بالوالدين والدعاء لهما  بالرحمة.


والشاعرة تشخص الشمس لتجعلها تتواضع وتتذلل لهؤلاء الشهداء لان الموت هو حد اليقين وقدرهم المحتوم ازاء الظلم والقهر (فسكرة الموت جاثمة حد اليقين) انه مشهد ابادة جماعية وشاملة. نقلته لنا الراوية العليمة بامتياز في تناغم بين العنوان والقفلة.


والشاعرة هنا تزاوج بين الشعري والفن التشكيلي وهي ترسم للقارئ لوحة تشكيلية تجسد مأساة ابادة جماعية بكل وحشية وبشاعة للاطفال من ناحية ودخول الشهداء للجنة خالدين آمنين.


وفي هذا الاطار استخدمت الشاعرة التناص الديني:


2- تجليات التناص الديني بالقصيدة:


أ- استحضار النص القرآني:


استحضرت القصيدة العديد من النصوص القرآنية:


سورة هود /سورة الحجر/ سورة (ق)/ سورة الاسراء.


ب- استحضار الشخصية الدينية:


- شخصية النبي لوط


- شخصية أهل الجنة


- شخصية مريم العذراء


وفي هذا الاطار من التناص الديني لا تخفي الشاعرة الهام عيسى عن القارئ مرجعيتها الدينية وتشبعها بالروح الدينية التي جعلها تستخدم القصة داخل القصة بان جعلت القصة القرآنية (قصة لوط/ قصة  أهل الجنة/ قصة مريم العذراء/)في خدمة القصة الواقعية (شهداء فلسطين).


وتقنية القصة داخل القصة لها دلالة الاعتبار بها لا سيما الاعتبار بالقصص القرآني .وتقنية القصة داخل القصة تقنية قديمة لضرب المثل اشتهر بها الأديب  القدير عبد الله بن المقفع في قصة كليلة ودمنة ولعل شاعرتنا تحْييها بتسريد الشعر لتجعل قصيدتها لا تقطع مع السرد لتجسد للقارئ مشهد ابادة جماعية لشعب مقهور داعمة ذلك  بتقنية الثنايات المتضادة (نور /ظلام- صمت/ أنين- جنة/ نار- حياة/ موت –أزمة/ انفراج..)


 سلم قلم الشاعرة الذي تفرّد لوجه الحرف سلاحا مقاوما.


بتاريخ 27/ 09/ 2025


القصيدة(د.الهام عيسى)


حد اليقين ..


الهام عيسى


تأخر الصباح على غير المألوف ..


الأمنيات تعبر فوق الحواجز بهجس وخوف ..


حرائق تلتهم الزوايا وردم في الخسوف ..


أينما تحل .. بقايا أطفال يملأ العيون


***


من وراء بحار الآلام


منادٍ ينادي -ادخلوها بسلام ..


واسرجوا لياليكم بشعاع النور


حيث آوت إلى جذع نخلة


هربا من ظلام العالمين


وابتهلت في صمت وأنين ..


اللّهم آمين ..


***


الشمس تفتح ذراعيها بخجل


لم أعهدها من قبل بهذا الوجل


وحتى لا توقظهم


تخفض جناح الذل


فسكرة الموت جاثمة حد اليقين…



الجمعة، 26 سبتمبر 2025

دور الشاعر المؤمن بقضايا إنسانية نبيلة ( فلسطين )..في ظل مشهد عربي قاتم ومترجرج بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

دور الشاعر المؤمن بقضايا إنسانية نبيلة ( فلسطين )..في ظل مشهد عربي قاتم ومترجرج

-إن الشعر يستطيع كل شيء،حتى عندما لا يستطيع شيئاً..-


*ملحوظة هامة: هذا المقال جاء في شكل تحية إجلال وإكبار إلى شاعرين عربيين بارزين،الأول الدكتور طاهر مشي من تونس،والثانية شاعرة فلسطينية مغتربة الأستاذة عزيزة بشير..هذان الشاعران آمنا بقضية فلسطين وناضلا بقصائدهما لنصرتها،وتحولا بالتالي إلى صوت للضمير الجمعي،يعبران عن مشاعر الأمة بأكملها تجاه الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني،مما يجعل القضية حية في الوجدان العربي.

كلا الشاعرين-نحتا-بصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب العربي من خلال إتقانهما للشعر ولغته،وانتصارهما المطلق للقضايا الإنسانية العادلة،وعلى رأسها-القضية الأم-فلسطين..ويُكرم هذا -المقال المتواضع-الإبداع الشعري تقديراً لجهودهما في إثراء اللغة والثقافة العربية.والتأسيس لغد مشرق ترفرف فيه رايات النصر المبين في سماء فلسطين..


الفعل الثوري العربي الذي تحقق في السنوات الأخيرة إبان إشراقات ما يسمى ب”الربيع العربي” لم يكن معزولا عن خطاب الشعر،مثلما لم يكن معزولا عن الخطاب الذي تنتجه وسائل الإعلام.لقد كانت القصيدة كامنة في وجدانات هؤلاء الشباب فعلى سبيل المثال كان الشباب يرددون أثناء الثورة قصائد محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وغيرهم،كما استعادت الثورة التونسية وبعدها الثورات العربية الأخرى قصائد شاعر عظيم بقيمة أبي القاسم الشابي،حيث صدحت الحناجر في ساحات وشوارع وميادين مدن عربية عدة “إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب للقدر”. فما هو دور الشعر في ثورات "الربيع العربي"؟

وهل ساهم في تأجيج مشاعر الثوار،أم أن الثورات قد شكلت مصدر إلهام للشعراء ولو على حساب القيمة الشعرية؟

وسؤال مغاير أقول: لماذا يجب على الشعراء (وأزعم أني واحد منهم) أن يكتبوا شعرا أو نثرا، عن الثورة؟ !

هو سؤال أبله كما ترون،ولكنه،ككل أبله،يلح في طلب إجابة شافية،وككل أبله لن ترضيه الإجابات المخاتلة،أو تلك المبنية على الركون إلى البدهيات والأعراف.

والوجوب المفترض عن الشعراء-أو المفروض عليهم !-هو إما نابع من ضمير الشاعر نفسه،من ضيقه بما احتشد في وجدانه من مشاعر وانفعالات صاخبة،لن تهدأ حتى يخرجها كلمات على الورق،أو أنه نابع من إحساس الشاعر بواجبه في التعبير عن مشاعر وانفعالات الآخرين ممن حرموا القدرة على الكتابة،وفي كلتا الحالتين يراد منه أن يكون اسهاما في الفعل الذي جرى على الأرض-الثورة.

وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الأخرون،صوت أمته،وضميرها الحي،الحامل لهمومها وأفراحها وآلامها،المعدّد لمناقبها،الممجّد لإنتصاراتها،الرائي لقتلاها،الشاتم لأعدائها…وربما هو كذلك،أو كان كذلك،في جاهلية انقضت (أو هكذا حسبناها !)،قبل أن تخرج الأمور عن مجرد نزاعات قبلية بالسيف والرمح عن مرعى وكلأ، وقبل أن تتعقّد العلوم والإختصاصات،فيتولى آخرون فيما بينهم تلك المهام التي كانت منوطة بلسان الشاعر وفصاحته،وأعني بهم علماء الإجتماع وعلماء السياسة وعلماء الإقتصاد وعلماء التاريخ وعلماء الحرب وعلماء النفس وعلماء الإعلام..حتى علماء الكلام !.

حضور الشعر في الثورات العربية:

يقول الشاعر المصري جرجس شكري عن حضور الشعر في الثورات العربية:”الشعر بصورته المباشرة كشعر وكقصائد،ربما لم يكن حاضرا بشكل مباشر.الأقوى من وجهة نظري هو حضور الشعرية في التجمع أو في ممارسات الثوار. الأفعال التي كان يمارسها هؤلاء،هي الشعر من وجهة نظري”. غير أن الشاعرة اليمنية ابتسام متوكل،رصدت حضورا شعريا قويا خلال الثورة اليمنية سواء أكان الشعر فصيحا أو عاميا أو شعر تفعيلة أو شعرا عموديا.

ويبدو أن قصيدة النثر لم تكن حاضرة بنفس شكل القصيدة الإيقاعية،وتقول الشاعرة اليمنية:” المجتمع اليمني مازال مجتمعا سماعيا ولهذا السبب،الإيقاع والعبارات الحماسية تحرك فيه الكثير،لذلك كانت الثورة اليمنية حافلة بالإنتاجات الشعرية،على مستوى الأغاني والقصائد والإصدارات أيضا”. وتضيف:” في تاريخ الثورات العربية كان الشعراء دائما في طليعة من قادوا الفعل الثوري التوعوي،ومازال هذا الفعل حاضرا في اليمن إلى اليوم ومنذ ثورتي 1962 و 1963″.

على سبيل الخاتمة:

أثارت الثورات العربية وخاصة الفلسطينية الكثير من الأسئلة حول دور الشعر والشاعر،وكيف يمكن لشاعر أن يصطف مع قاتل أو يتغاضى عن صرخات الضحايا ويغوص في كتابته إلى عالم الأحلام بعيدا عن الواقع؟

كما يثار سؤال آخر عن وسائل الإعلام التي صدّرت إلى الواجهة شعراء بعينهم لمجرد الموقف بعيدا عن السوية الشعرية.

ويشكك البعض في مستوى كثير من القصائد التي كتبت في لحظة الانفعال،ويبدي موقفه إزاء ضحالتها الفكرية وافتقادها للشاعرية،ويذكر أن القصيدة المنددة بالقتل لا توجب السباب أو الشعاراتية المباشرة.

وفي هذا السياق،هل يمكن للشعر أن ينهض بأي دور في زمن الثورة،وفي أزمنة الغمة؟

أي دور ذاك الذي يتأمّله المرء من الشعر في زمن الرغبة عن القراءة وتهميش الثقافة؟

هل للشعراء أي تأثير يذكر في العالم العربي؟ وهل ما زال الشاعر يمثل ضمير قومه ولسان حال شعبه،أم أن هناك مستجدات تفترض آليّات التعامل معها؟

تحية للنص المدهش الذي يعكس وجه الحياة المتجدّد،تحية للقصيدة المتشبثة بهويتها كقصيدة،فمكانها ومكانتها بقامة أبجديتها،وليس بمهارتها في استرضاء السلطة وتملقها،وإن كانت سلطة شعبية..

إن التطلعات كلها مشروعة أمام”ثورة الشعر” لتحلّق القصيدة في فضاء الحرية بأجنحتها وأسلحتها وجمالياتها الخاصة كظاهرة فنية أصيلة..

وهنا أقول : في ظل غياب موازين القوى العسكرية،تصبح القصيدة سلاحاً للمقاومة،تحافظ على الذاكرة،وتفضح الاحتلال،وتُحرّض على الثورة..( قصائد الشاعرين د-طاهر مشي ( تونس) والشاعرة الفلسطينية الأستاذة عزيزة بشير-نموذجا)..هذان الشاعران-كما أشرت-نقلا بقصائدهما الثورية تفاصيل المعاناة والتهجير والاستشهاد،مما يضمن أن تبقى قضية فلسطين حاضرة عبر الأجيال ولا تُنسى.

وباختصار،قصائد هذين الشاعرين الثوريين،في هذا السياق ليست مجرد كلام جميل،بل هي فعل مقاومة حقيقي،تساهم في المعركة لا بالسلاح،بل بالوعي والروح والمعنى.

ختاما،لا ينبغي أن نظلم الشعر،إذ من المؤكّد أن الأبيات الشهيرة لأبي القاسم الشابي وجدت سياقها الطبيعي في الشعب الذي أراد الحياة،فأستجاب القدر،وفي القيود التي انكسرت بمجرد الانتصار على الخوف،وإجبار طاغية على الفرار خوفاً من الشعب،لكننا سنظلم الشعر كثيراً إذا اعتبرناه مجرد حطب للثورة،إن الشعر يستطيع كل شيء حتى عندما لا يستطيع شيئاً..وقد قال الشاعران د-طاهر مشي،والشاعرة الفلسطينية الفذة الأستاذة عزيزة بشير،ما يجب أن يقال..وتحول شعرهما* إلى رصاص ينطلق من الفم،والعقل،والقلب والدم..ليلهب المشاعر، ويوحّد الشعوب،ويبعث الأمل ويحفز على العمل والدعم..والإنتصار..


محمد المحسن


نماذج من قصائد الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير:

كلٌّ يُقاطِعُ يا (غزّا ) فلا تَهِني

(وجدانُ) تونسَ رأسُ الكلِّ، تنتَصِرُ

كم قد صبرْنا على الأعداءِ تنهَشُكُم

يا صبر َغزّةَ ! نارُكِ في الحَشا شرَرُ

يا أمّةَ الأعرابِ هل جفّتْ مَوانِئنا؟


*************

أرَى نصْرَ( غزّةَ) قادِماً..وستَنْجَلي 

أرَى نصرَ غزّةَ والهزيمةُ لِلعِدا

والنِّتنُ يُقهَرُ  والبِلادُ..تعودُ لي

(غزّا )تُحاسِبُ كلَّ  مُجرِمِ  دَكَّها

وتقولُ للدّنيا انظُري..وَتأمّلي :

"أللهُ معْنا ناصِراً  عَلى (نِتْنِهِمْ)


***********

"بعد أن قذف النّمرودُ سيّدَنا إبراهيم عليهِ السّلامُ في النار كان طيرٌ يملأ مِنقارَهُ ماء ويُلقي بهِ على النار فهل يَعتقدُ أنَه سيُطفئُها ؟ لا..ولكن لِيعملَ شيئاً يقدرُ عليه لإنقاذه..!

ألطّيْرُ فكّرَ أن يُساعِدَ مُبتَلًى

يَصْلى بِنارٍ علّهُ…………….....يتَقرّبُ!


كيفَ السبيلُ ويعرُبٌ ملءُ الفضا

والنّار تعصِفُ والدّماءُ ……..تُخَضِّبُ ؟!


كلٌّ (بغزّةَ) يستغيثُ لِنجْدَةٍ

والدّمُّ يُسفَكُ والأسارَى ……….. تُعَذَّبُ


**نماذج من شعر الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي عن فلسطين

( نموذج من قصيدة بالعامية التونسبة)


فلسطين عربية وتبقى هي

رغم الخائن والرجعية

غزة من لوجاع تنين

وقلبي حزين

على حال عربنا راقدين

قنابل دفاقة

زرعوها في البر وهادة

كيف الصيادة

حتى م الجعبات ثنين..


*********************


نموتُ اليومَ في حرْبٍ ضروسٍ/وصدرُنَا في الوَغى قد بات دِرْعا/نلاقي الموت لا نَنْأى بِدربٍ

ونتلو مِن كتابِ اللهِ سَبْعا( 1)/رأيتُ الأهل يمشون الهُوَيْنا

لحَتْفٍ قادَهُمْ صُهيونُ جَوْعى/أبادوا طفلَنا معهُ نِساءٌ..


**********************


أقصَى*يُدنَّسُ والأرواحُ تُقتَتَلُ!

ألعيدُ يُقبِلُ والأحزانُ تَتّصِلُ

تكبيرُ،تسبيحُ والأخلاقُ وَالمُثلُ

أذكارُ للّهِ عند الصّبحِ تسمعُها

تُحيِي الفؤادَ وتُبْري مَن بِهِ عِلَلُ

ندعو الإلهَ ونَسْتجديهِ يحفَظُنا

يُحْيي قلوباً بِها الأوجاعُ تعْتَمِلُ

موْتٌ لوالِدِي والأعيادُ قد سَطعتْ

(غزّا) تُبادُ وفيهَا الخَطبُ يكتَمِلُ

رُحماكَ ربّي لتَرفقْ فيهما أبَداً

نصرٌ لغزّا،أبِي الجنّاتُ مُدّخَلُ



"حين يمشي الشعر بكعبه العالي" قراءة عاشقة في نص "طقطقة كعب" للشاعرة هادية آمنة بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد: مراد اللحياني

 "حين يمشي الشعر بكعبه العالي"

قراءة  عاشقة في نص "طقطقة كعب" للشاعرة هادية آمنة

بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد: 

مراد اللحياني


  "طقطقة كعب" ليست مجرد نص شعري تقليدي، بل عالم حيّ متكامل للحواس والروح، تجربة متفجرة بالوعي والحس، بالإيقاع والخفة والغواية والحنان، حيث تتحول كل صورة إلى جسد، وكل حركة إلى موسيقى، وكل لحظة إلى صوفية مكتوبة تنطق بالحبّ والشهوة والحنين والوجود. من العنوان وحده، يعلن النص عن حضوره: الطقطقة ليست وقع كعب على الأرض فحسب، بل جرس، نداء مبكر، إشارة لشروع الطقس الشعري، دعوة للقارئ أن يسير بخطوة واحدة في قلب الغواية، ثم يغرق في بحر الحواس واللغة والروح، كل صدى للكعب يقرع الأرض والوجدان معًا، كل خطوة هي فعل شعري لا ينسى، يترك أثراً في ذاكرة القارئ وفي إحساسه الداخلي.


الخطوة الأولى للنص هي إشعال الحواس: العطر الباريسي يغمر الأعطاف، المساحيق تذيب الملامح في ضباب الغواية، العيون تتلألأ ببراءة المكر، والخدود تتفتّح ورودًا تُشرق كما لو أنّ الضوء نفسه يقبلها. كل حركة، كل لمسة، كل نظرة تتحوّل إلى استعارة مشحونة بالمعنى، واللغة نفسها تصبح جسدًا يتنفس فيه المعنى والحب والغواية. هنا يطالب النص القارئ بأن يعيش التجربة بكل كيانه: أن يسمع، يرى، يشمّ، يلمس، ويشعر في آن واحد.


لكن النص لا يقف عند الغواية الحسية، بل يغوص في أعماق القلق والوعي والتأمل الأبوي والوجودي: "طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة، فكيف الحال إن صرتِ كبيرة؟" الصوت هنا مزدوج: صوت القلق الأبوي، وصوت الحب العاشق. الخوف من عبث الزمن، من مجون السنين، من هشاشة الفتنة أمام العالم. الأنثى هنا ليست مجرد موضوع للشهوة، بل كيان هشّ يجب حفظه بالشعر، تحويله إلى لحظة مكتوبة خالدة، منهل للتجلّي، طقس يحمي جمالها من الفناء، ويحوّل الحضور إلى لغة أبدية.


ويبلغ النص قمّته الروحية حين تقول: "سكبتُ فيكِ من روحي شعري / منهل للحرف في لحظة التجلّي". هنا ينصهر الحسيّ بالروحاني، والجسد بالقصيدة، واللغة نفسها تتحول إلى جسد حيّ، الأنثى تصبح لغة، والشاعر عاشق موحّد مع النص والمعشوقة في وقت واحد. القصيدة ليست مجرد وصف، بل روح تتنفس عبر الكلمات، نور يسطع في كل تفصيلة، نص يشتعل كاحتفال صوفي للحواس والوجدان.


الصور تتدفّق بانسجام مذهل، كل صورة تكمل الأخرى، كل حركة حسية تمثل حالة وجودية: الطقطقة توقظ الإيقاع الداخلي، العطر يملأ الفضاء ويغمر الروح، الرياحين تلمس المكان بخفّة، الورود على الخدود تشرق بالضوء، الحروف تُطلق عسلاً يلامس الذوق كما يلامس العين. كل هذه التفاصيل تجعل النص احتفالًا شعوريًا كاملًا، تجربة تُعاش بكل كيانات القارئ، كطقس شعري متكامل.


الخيط الأبوي في النص يظهر جليًا: "هام أبوها بطلق هواها". الأب ليس رقيبًا على الغواية، بل عاشق معها، شاهداً على ضياء ابنته، متماهياً مع سناها، يمنح النص صدقًا وجدانيًا إضافيًا، ويجعل الحب والفتنة متوافقين مع الرعاية والحنان. الأب في النص رمز للحماية والرعاية المشتركة مع الحب، حضور يُثري النص عاطفيًا ويمنحه عمقًا نفسيًا استثنائيًا.


وتتوسّع الدائرة في الخاتمة حين يُهدى النص إلى روح الأب الزيتونيّ، ثم إلى تونس "هادية آمنة". النص هنا يتحوّل من تجربة فردية إلى تجربة جماعية، من الأنثى إلى الوطن، من وقع كعب أنثوي إلى نبض الأرض، من الغواية الشخصية إلى أيقونة للانتماء. الطقطقة التي بدأت همسًا فرديًا تتحول إلى نشيد جماعي، موسيقى وطنية، تجربة كونية للحواس والروح، حكاية شعرية مكتملة.


الإيقاع الداخلي للنص يعتمد على تكرار الصور والأنغام الحسية والروحية: تكرار الخطوات، تكرار العطر، تكرار الحواس، كل تكرار لا يعيد نفسه حرفيًا بل يعيد البناء، يعيد فعل الحضور الشعوري، يخلق موسيقى داخلية متواصلة. اللغة قصيرة أحيانًا، حركية دائمًا، تمنح النص تنفّسًا سريعًا كما تتحرك الأنثى بخفة ورشاقة، وتمنح القارئ شعورًا بالتحليق في فضاء النص الشعوري.


البنية الرمزية للنص متعددة الطبقات: الكعب العالي رمز للحضور والسلطة الأنثوية والغواية، الطقطقة رمز الإيقاع والطقس والذاكرة، الورود والرياحين إشراق وحساسية وغواية، الأب الزيتونيّ الحنان الأبوي والمراقبة العاشقة، تونس الانتماء والحماية والأفق الكوني للتجربة. كل عنصر متشابك، كل كلمة مرتبطة بالأخرى، كل صورة تعيد تشكيل معنى النص وتوسّع دائرة قراءته.


النص يمشي بالكعب العالي كما تمشي صاحبتها: فاتنًا، مدوّيًا، مشعًّا بالحب والفن والروح، متشابكًا، متماسكًا، ممتلئًا بالإيقاع الداخلي واللمسة الصوفية، موسيقيًا في الصور، شاعريًا في الحب، متعاليًا في الروح، حسيًا في الواقع. إنه نص يُعاش ولا يُقرأ فقط، يترك أثرًا ممتدًا في القلب والذاكرة، طقسًا شعريًا كاملًا يجمع بين الفرد والوطن، بين الغواية والقداسة، بين الرقة والحضور، بين العشق والحنان الأبوي، بين الروح والجسد.


"طقطقة كعب" نص متفرّد، عميق، موسيقي، وجداني، متماسك، تجربة شعرية كاملة تمشي في الذاكرة كما تمشي صاحبتها بالكعب العالي، فاتنة، مشرقة، متألقة، مشبّعة بالحبّ والفنّ والوجود، نص يظلّ رنينه في الروح بعد آخر وقع للكعب، بعد آخر همسة للحرف، بعد آخر عبير للورود، بعد آخر ومضة من الضوء في العيون. إنه نص يمشي بين الغواية والقداسة، بين الحضور والغموض، بين الجسد واللغة، بين الأنوثة والوطن، بين الحبّ والحنان الأبوي، بين الرقة والقوة، بين الشعر والحياة، بين اللحظة والخلود.


النص تجربة شعورية متكاملة، موسيقى صوفية حية، ملحمة للحواس والروح، رحلة متصلة من البداية إلى النهاية، حيث يصبح القارئ عابراً للزمن، شاهدًا على الضوء، على العطر، على الخطوة، على الطقطقة، على الورود، على الحروف، على صوت الأب، وعلى نبض الوطن، تجربة تمتد مع كل كلمة، مع كل نفس، مع كل انعطافة في الخطى، مع كل ومضة من الضوء في النص. إنه نص يمشي في القلب والذاكرة والروح كما تمشي صاحبتها بالكعب العالي: فاتنة، متألقة، حية، خالدة.

النص :

طقطقة كعب


بكعبها العالي جاءته تُطقطق

بمساحيق الغواية وجهها يغرق

بالعطور الباريسية  أعطافها تعبق

براءة المكر من عيونها تُدهق

قبلات الورود على خدودها تُشرق

فاتنة في حبّها الكثير يغرق

على نخبها طهر السلسبيل يُهرق

بيادر الرياحين من مجالها تعبق

حروف الأبجديّة بالكاد تنطق

حرف الراء بلكنة عسل

غين تُطلق

ينظر إليها الزيتونيّ و يضحك

شهد فيها  ضياء سناها

وهام أبوها بطلق هواها

ظرف القطط في رسم خطاها

هويدتي

أخاف عليك  مجون السنون

وعبث الدنيا فأنتِ فُتون

طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة

فكيف الحال إن صرتِ كبيرة ؟

سكبتُ فيك من روحي شِعري

منهل للحرف في لحظة التجلّي

علقتِ خواطري أمانة 

احكيها

ترانيم شوق على أهداب قصيدة

غّنيها

هديّة إلى روح والدي  الزيتونيّ

هادية آمنة تونس



الخميس، 25 سبتمبر 2025

العودة إلى هليليكي بين الذاكرة والهوية قراءة فنية وسيميائية موسعة بقلم د. آمال بوحرب

 العودة إلى هليليكي بين الذاكرة والهوية

قراءة فنية وسيميائية موسعة

بقلم د. آمال بوحرب

باحثة وناقدة


فلسفة العودة في الأدب:

العودة في الأدب تتجاوز الفعل المكاني لتصبح رحلة وجودية داخل النفس والزمان ومسعى لإعادة بناء الذات عبر استعادة العلاقة بالمكان والجذور الثقافية والاجتماعية. فلسفة العودة تقوم على فكرة أن المكان والزمن ليسا مجرد خلفية بل فضاءات حاملة للذاكرة والهُوية ووسائل لاستعادة الذات بعد محاولات الطمس والنسيان. هذا الفعل ليس مجرد إعادة للالتقاء بالماضي بل فعل مقاومة يعيد للذات حضورها ويتيح لها مواجهة القيود المفروضة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. في الأدب المعاصر تصبح العودة أداة فلسفية وسيميائية حيث يتحول كل بيت شارع أو زاوية إلى رمز يربط بين التجربة الفردية والذاكرة الجماعية ويتيح للقارئ الانخراط في فهم عميق لمفاهيم الهوية والمقاومة والحرية. ومن منظور فلسفي آخر يمكن ربط هذه العودة بفكرة هايدغر عن المكان والوجود حيث يصبح المكان منزلًا للوجود وفعل العودة اكتشاف للذات في علاقتها بالزمان والمكان.


الهوية في مواجهة الطمس:

كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على هويته وذاكرته في مجتمع يسعى إلى إلغاء جذوره وطمس تاريخه؟ هذا السؤال يشكّل المدخل الأساسي للقراءة العميقة لرواية «العودة إلى هليليكي». البطلة ئالا تمثل الإنسان الباحث عن ذاته في بيئة تمارس القمع الاجتماعي والسياسي وتطرح الرواية العلاقة بين الحرية الفردية ومسؤولية الاختيار ضمن هذه القيود. انتقالها إلى دمشق للدراسة يمثل محاولة لإعادة تعريف الذات والانفتاح على المجتمع الأوسع في حين تكشف العودة القسرية بعد انتفاضة 2004 وتجريد آلاف الأكراد من جنسيتهم هشاشة الهوية أمام السلطة وصعوبة الحفاظ على الذات وسط محاولات الطمس السياسي والثقافي. الشخصيات الأخرى في الغرفة 196 مثل حنين المسيحية نور العلوية وفاء الدرزية تكشف تعددية المجتمع السوري وصعوبة التعايش بين الهوية المهمشة وهويات الأغلبية وهو ما يعكس الصراع الوجودي بين الحرية الفردية والقيود الاجتماعية كما يؤكد سارتر في فلسفته على مسؤولية الفرد أمام ذاته ومجتمعه. ويمكن قراءة الرواية أيضًا من منظور فلسفة بول ريكور الذي يرى أن الوعي بالذاكرة شرط أساسي لبقاء الهوية وأن فعل استدعاء الذاكرة هو فعل مقاومة ووجودي في مواجهة النسيان القسري.


المكان ذاكرة حية:

الحي هليليكي في الرواية يتحول إلى شخصية حية تحمل ندوب القمع والنسيان الرسمي وتعمل كأداة لإحياء الذاكرة الجمعية الكردية. ذكريات البطلة عن موت الأب وكفاح الأم وأحداث الانتفاضة تتدفق بحرية عبر التداعي الحر ما يجعل الماضي حاضرًا حيًا في وعي البطلة ومتصلًا بالحاضر. هذا التصور للزمن متوافق مع فلسفة بيرجسون حول الزمن كمدة متشابكة وليست مجرد لحظات منفصلة. الرواية تؤكد أن الذاكرة ليست مجرد تذكر بل فعل مقاوم يعيد تشكيل الذات ويعزز وعيها بالظلم والمقاومة ويحوّل المكان إلى شاهد حي على التاريخ الفردي والجماعي. في هذا السياق تتحول البيوت القديمة الأزقة الضيقة والشوارع المعبّدة بالغبار إلى علامات دلالية تعكس ندوب القمع الاجتماعي والسياسي وتؤكد وظيفة الأدب كسيمياء مقاومة للطمس. ويمكن مقاربة ذلك مع الأدب المعاصر الذي يعيد صياغة المدن كفضاءات ذاكرة مثل أعمال جبران خليل جبران في تصوير المدن اللبنانية أو أعمال الطيب صالح في السودان حيث يصبح المكان شاهدًا حيًا على الذاكرة الفردية والجماعية.

جدلية الوجود بين الهوية والذاكرة:

الرواية تكشف أن الهوية ليست ثابتة بل هي عملية مستمرة من التفاعل والمقاومة. 

البطلة ئالا تحافظ على هويتها الكردية في دمشق من خلال استدعاء ذاكرة هليليكي والانتفاضة وتحويل تجربتها الفردية إلى فعل مقاومة جماعي. يتقاطع سؤال الهوية مع سؤال الذاكرة لتشكيل جوهر الوجود الإنساني ويطرح تساؤلًا فلسفيًا حول قدرة الإنسان على تثبيت ذاته في عالم يسعى إلى نسيانه. المقاومة في هذا السياق ليست مجرد رفض سياسي بل فعل وجودي يعكس حرية الاختيار ومسؤولية الفرد أمام ذاته ويؤكد أن التفاعل مع الآخر والحوار هما أدوات أساسية للحفاظ على الوعي الذاتي والهوية. كما يمكن مقارنتها بأعمال أدبية معاصرة أخرى تتناول الهوية والذاكرة مثل روايات توني موريسون التي تؤكد دور الذاكرة الجماعية في مقاومة الطمس الثقافي.


تعدد الأصوات والحرية الحوارية:


الرواية تمنح الشخصيات أصواتًا متعددة بما يتوافق مع مفهوم باختين عن الحوارية حيث تتشكل الحقيقة من تفاعل الأصوات المختلفة. صوت الطالبات يعكس تعدد الهويات الدينية والقومية في المجتمع السوري بينما صوت البطلة الكردية يبرز كصرخة ضد التهميش السياسي والثقافي. هذا التعدد الصوتي يحول الرواية إلى فضاء لتشكيل معنى حر للحقيقة ويجعل الحرية ممكنة من خلال الحوار والمشاركة في الفضاء الاجتماعي والنفسي. الحوار بين الشخصيات ليس مجرد تبادل كلمات بل عملية فلسفية تكشف عن صراع الفرد مع المجتمع وعن قدرة الإنسان على مقاومة الطمس الثقافي والاجتماعي من خلال الفعل الكلامي والمشاركة الرمزية. 

ويمكن ربط هذا الأسلوب بالحداثة الأدبية التي تتبنى تعددية الأصوات في كشف الحقائق الاجتماعية والنفسية كما في روايات فيكتور هيغو أو في أعمال أدبية عربية معاصرة مثل هالة رمزي.


الشعرية والرمزية في الكشف عن الوجود


اللغة الشعرية في الرواية تحول المكان والزمان والأحداث إلى أدوات للتأمل الفلسفي. البيوت القديمة الأزقة الضيقة الأشجار العتيقة تتحول إلى رموز تعكس علاقة الإنسان بذاكرته وهويته وتجربته الوجودية. الشعرية تكشف عن البعد النفسي العميق للبطلة وتجعل من الرواية تجربة شعورية معمّقة وفق فلسفة هايدغر التي ترى أن الكشف عن الوجود يتم من خلال التجربة المباشرة والوعي الشعوري بالمكان والزمن. الرموز الأدبية في الرواية تعمل كوسائل لاستدعاء الذاكرة ومقاومة الطمس وتعكس التفاعل المستمر بين الذات والمجتمع والتاريخ. ويمكن ربط هذا بالتيار السيميائي في الأدب المعاصر الذي يجعل من الرموز وسيلة لفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع كما في أعمال أمبرتو إكو أو رولان بارت.


الرواية فعل مقاومة وجودية


رواية العودة إلى هليليكي تؤكد أن الوجود هو فعل مقاومة مستمر حيث الذاكرة لا تموت والهوية تتحدى الإلغاء. تعدد الأصوات اللغة الشعرية والتأمل الفلسفي يكشف أن الذاكرة شرط لبقاء الهوية وأن الهوية فعل مستمر في مواجهة القمع. الرواية تقدم رؤية واضحة أن الإنسان عبر استعادة ذاكرته وفهم جذوره يمكنه أن يؤكد وجوده وأن سؤال الرواية عن الذاكرة والهوية هو سؤال عن معنى أن نكون في عالم يحاول نسياننا. بهذا الشكل تصبح الرواية شهادة على قدرة الأدب على تحويل التجربة الفردية إلى فعل جماعي مقاوم وتثبت أن المكان والذاكرة واللغة أدوات فلسفية وسيميائية متشابكة لإعادة بناء الذات والوجود.