الجمعة، 26 سبتمبر 2025

"حين يمشي الشعر بكعبه العالي" قراءة عاشقة في نص "طقطقة كعب" للشاعرة هادية آمنة بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد: مراد اللحياني

 "حين يمشي الشعر بكعبه العالي"

قراءة  عاشقة في نص "طقطقة كعب" للشاعرة هادية آمنة

بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد: 

مراد اللحياني


  "طقطقة كعب" ليست مجرد نص شعري تقليدي، بل عالم حيّ متكامل للحواس والروح، تجربة متفجرة بالوعي والحس، بالإيقاع والخفة والغواية والحنان، حيث تتحول كل صورة إلى جسد، وكل حركة إلى موسيقى، وكل لحظة إلى صوفية مكتوبة تنطق بالحبّ والشهوة والحنين والوجود. من العنوان وحده، يعلن النص عن حضوره: الطقطقة ليست وقع كعب على الأرض فحسب، بل جرس، نداء مبكر، إشارة لشروع الطقس الشعري، دعوة للقارئ أن يسير بخطوة واحدة في قلب الغواية، ثم يغرق في بحر الحواس واللغة والروح، كل صدى للكعب يقرع الأرض والوجدان معًا، كل خطوة هي فعل شعري لا ينسى، يترك أثراً في ذاكرة القارئ وفي إحساسه الداخلي.


الخطوة الأولى للنص هي إشعال الحواس: العطر الباريسي يغمر الأعطاف، المساحيق تذيب الملامح في ضباب الغواية، العيون تتلألأ ببراءة المكر، والخدود تتفتّح ورودًا تُشرق كما لو أنّ الضوء نفسه يقبلها. كل حركة، كل لمسة، كل نظرة تتحوّل إلى استعارة مشحونة بالمعنى، واللغة نفسها تصبح جسدًا يتنفس فيه المعنى والحب والغواية. هنا يطالب النص القارئ بأن يعيش التجربة بكل كيانه: أن يسمع، يرى، يشمّ، يلمس، ويشعر في آن واحد.


لكن النص لا يقف عند الغواية الحسية، بل يغوص في أعماق القلق والوعي والتأمل الأبوي والوجودي: "طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة، فكيف الحال إن صرتِ كبيرة؟" الصوت هنا مزدوج: صوت القلق الأبوي، وصوت الحب العاشق. الخوف من عبث الزمن، من مجون السنين، من هشاشة الفتنة أمام العالم. الأنثى هنا ليست مجرد موضوع للشهوة، بل كيان هشّ يجب حفظه بالشعر، تحويله إلى لحظة مكتوبة خالدة، منهل للتجلّي، طقس يحمي جمالها من الفناء، ويحوّل الحضور إلى لغة أبدية.


ويبلغ النص قمّته الروحية حين تقول: "سكبتُ فيكِ من روحي شعري / منهل للحرف في لحظة التجلّي". هنا ينصهر الحسيّ بالروحاني، والجسد بالقصيدة، واللغة نفسها تتحول إلى جسد حيّ، الأنثى تصبح لغة، والشاعر عاشق موحّد مع النص والمعشوقة في وقت واحد. القصيدة ليست مجرد وصف، بل روح تتنفس عبر الكلمات، نور يسطع في كل تفصيلة، نص يشتعل كاحتفال صوفي للحواس والوجدان.


الصور تتدفّق بانسجام مذهل، كل صورة تكمل الأخرى، كل حركة حسية تمثل حالة وجودية: الطقطقة توقظ الإيقاع الداخلي، العطر يملأ الفضاء ويغمر الروح، الرياحين تلمس المكان بخفّة، الورود على الخدود تشرق بالضوء، الحروف تُطلق عسلاً يلامس الذوق كما يلامس العين. كل هذه التفاصيل تجعل النص احتفالًا شعوريًا كاملًا، تجربة تُعاش بكل كيانات القارئ، كطقس شعري متكامل.


الخيط الأبوي في النص يظهر جليًا: "هام أبوها بطلق هواها". الأب ليس رقيبًا على الغواية، بل عاشق معها، شاهداً على ضياء ابنته، متماهياً مع سناها، يمنح النص صدقًا وجدانيًا إضافيًا، ويجعل الحب والفتنة متوافقين مع الرعاية والحنان. الأب في النص رمز للحماية والرعاية المشتركة مع الحب، حضور يُثري النص عاطفيًا ويمنحه عمقًا نفسيًا استثنائيًا.


وتتوسّع الدائرة في الخاتمة حين يُهدى النص إلى روح الأب الزيتونيّ، ثم إلى تونس "هادية آمنة". النص هنا يتحوّل من تجربة فردية إلى تجربة جماعية، من الأنثى إلى الوطن، من وقع كعب أنثوي إلى نبض الأرض، من الغواية الشخصية إلى أيقونة للانتماء. الطقطقة التي بدأت همسًا فرديًا تتحول إلى نشيد جماعي، موسيقى وطنية، تجربة كونية للحواس والروح، حكاية شعرية مكتملة.


الإيقاع الداخلي للنص يعتمد على تكرار الصور والأنغام الحسية والروحية: تكرار الخطوات، تكرار العطر، تكرار الحواس، كل تكرار لا يعيد نفسه حرفيًا بل يعيد البناء، يعيد فعل الحضور الشعوري، يخلق موسيقى داخلية متواصلة. اللغة قصيرة أحيانًا، حركية دائمًا، تمنح النص تنفّسًا سريعًا كما تتحرك الأنثى بخفة ورشاقة، وتمنح القارئ شعورًا بالتحليق في فضاء النص الشعوري.


البنية الرمزية للنص متعددة الطبقات: الكعب العالي رمز للحضور والسلطة الأنثوية والغواية، الطقطقة رمز الإيقاع والطقس والذاكرة، الورود والرياحين إشراق وحساسية وغواية، الأب الزيتونيّ الحنان الأبوي والمراقبة العاشقة، تونس الانتماء والحماية والأفق الكوني للتجربة. كل عنصر متشابك، كل كلمة مرتبطة بالأخرى، كل صورة تعيد تشكيل معنى النص وتوسّع دائرة قراءته.


النص يمشي بالكعب العالي كما تمشي صاحبتها: فاتنًا، مدوّيًا، مشعًّا بالحب والفن والروح، متشابكًا، متماسكًا، ممتلئًا بالإيقاع الداخلي واللمسة الصوفية، موسيقيًا في الصور، شاعريًا في الحب، متعاليًا في الروح، حسيًا في الواقع. إنه نص يُعاش ولا يُقرأ فقط، يترك أثرًا ممتدًا في القلب والذاكرة، طقسًا شعريًا كاملًا يجمع بين الفرد والوطن، بين الغواية والقداسة، بين الرقة والحضور، بين العشق والحنان الأبوي، بين الروح والجسد.


"طقطقة كعب" نص متفرّد، عميق، موسيقي، وجداني، متماسك، تجربة شعرية كاملة تمشي في الذاكرة كما تمشي صاحبتها بالكعب العالي، فاتنة، مشرقة، متألقة، مشبّعة بالحبّ والفنّ والوجود، نص يظلّ رنينه في الروح بعد آخر وقع للكعب، بعد آخر همسة للحرف، بعد آخر عبير للورود، بعد آخر ومضة من الضوء في العيون. إنه نص يمشي بين الغواية والقداسة، بين الحضور والغموض، بين الجسد واللغة، بين الأنوثة والوطن، بين الحبّ والحنان الأبوي، بين الرقة والقوة، بين الشعر والحياة، بين اللحظة والخلود.


النص تجربة شعورية متكاملة، موسيقى صوفية حية، ملحمة للحواس والروح، رحلة متصلة من البداية إلى النهاية، حيث يصبح القارئ عابراً للزمن، شاهدًا على الضوء، على العطر، على الخطوة، على الطقطقة، على الورود، على الحروف، على صوت الأب، وعلى نبض الوطن، تجربة تمتد مع كل كلمة، مع كل نفس، مع كل انعطافة في الخطى، مع كل ومضة من الضوء في النص. إنه نص يمشي في القلب والذاكرة والروح كما تمشي صاحبتها بالكعب العالي: فاتنة، متألقة، حية، خالدة.

النص :

طقطقة كعب


بكعبها العالي جاءته تُطقطق

بمساحيق الغواية وجهها يغرق

بالعطور الباريسية  أعطافها تعبق

براءة المكر من عيونها تُدهق

قبلات الورود على خدودها تُشرق

فاتنة في حبّها الكثير يغرق

على نخبها طهر السلسبيل يُهرق

بيادر الرياحين من مجالها تعبق

حروف الأبجديّة بالكاد تنطق

حرف الراء بلكنة عسل

غين تُطلق

ينظر إليها الزيتونيّ و يضحك

شهد فيها  ضياء سناها

وهام أبوها بطلق هواها

ظرف القطط في رسم خطاها

هويدتي

أخاف عليك  مجون السنون

وعبث الدنيا فأنتِ فُتون

طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة

فكيف الحال إن صرتِ كبيرة ؟

سكبتُ فيك من روحي شِعري

منهل للحرف في لحظة التجلّي

علقتِ خواطري أمانة 

احكيها

ترانيم شوق على أهداب قصيدة

غّنيها

هديّة إلى روح والدي  الزيتونيّ

هادية آمنة تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق