الأحد، 21 سبتمبر 2025

من نـار العشق إلى صفاء الرؤيـة قراءة بقلم الأديبة فائزه بنمسعود في قصيدة (أنين الرحيل) للشاعرة التونسية: كوثر غانم

 🖌️📖من نـار العشق إلى صفاء الرؤيـة


قراءة في قصيدة (أنين الرحيل)

للشاعرة التونسية: كوثر غانم

Kawthar Ghanem

————————-

تــصــديــر


القصيدة (أنين الرحيل)تنبني على ثنائية -الحضور /والغياب، الفقد /والبحث ،العشق /والخذلان—وتتحرك في فضاء وجداني يفيض بالشوق والحنين— على السطح يبدو النص غزليـا يصور تجربة حب إنساني مرير حيث يتألم المتكلم من غياب الحبيب وقسوته— لكن عند التعمق في بعض الصور والرموز، نلمح خلف هذا العشق البشري بعدا صوفيـا عميقـا إذ يتحول الحبيب من شخص بعينه إلى رمز للمطلق- للحقيقة الكبرى أو للحضور الإلهي الذي يسعى العاشق لبلوغه

وفيما يلي قراءة تحليلية تكشف هذا البعد

———

في رحـــاب القصـيدة 


أ—قراءة عامة للقصيدة


تفتتح القصيدة بتكرار عبارة

(أشتاق إليك… أشتاق إليك…)

هذا التكرار يرسخ حالة الانفعال العاطفي، ويضع القارئ مباشرة أمام تجربة وجدانية متوهجة. التشبيه بــ(شوق الكون لحبات المطر) يوسع دائرة المعنى، فالشوق لم يعد شعورا فرديـا بل هو شوق كوني شامل  يوحي بأن اللقاء بالحبيب يشبه التقاء الأرض بالماء- أي التقاء الحياة بالوجود ذاته-

ثم تتصاعد الحالة الشعورية عبر:

 **تصوير الغياب بالسفر الطويل (طال الغياب… طال السفر)

 **والإرهاق بالشوق (أنهكني الشوق وجف القلم)

 **وصـولا إلى الانكسار والاحتضار (كمن كان يئن ويحتضر)

وفي هذا السياق يصبح النص أقرب إلى مرثية للحب والروح في آن واحد


-ب—البعد الرمزي والصوفي

القصيدة تحمل ملامح صوفية بارزة يمكن كشفها عبر تتبع بعض الصور والمعاني—

-1-الحبيب كرمز للمطلق

في النص الحبيب ليس مجرد شخص بل يتجاوز حدوده البشرية ليصبح رمـزا للذات العليا والحقيقة الغائبة التي يسعى العاشق للوصول إليها

(فليس لي غير عينيكَ موطنًا أو مستقرًّا)

هنا تتحول (العينان)إلى مرآة للحقيقة— فهي  رمز لنور الهداية أو المعرفة وهو تعبير شائع في الشعر الصوفي حيث يُرى المحبوب كوجه الحق.

 -2–الشوق كمعراج روحي

الشـوق في النص ليس مجرد عاطفة بل حركة صعودية روحية

(ذاب القلب شوقًا وصار كلهيب نار لا تبقي ولا تذر)

أنّــا النار هنا ليست نار الفقد فحسب  وإنما  هي نار العشق الإلهي التي تصهر الروح لتصفو مثلما نجد عند رابعة العدوية أو الحلاج حيث يتحول العشق إلى وسيلة للفناء في المحبوب…

3-رمزية البحر والخطر

(عانقت أمواج البحر دون شراع ونازلت الخطر)

البحر في النص يرمز إلى مجاهدة النفس، والرحلة عبر الموج دون شراع تمثل التوكل التام على المطلق، كما يفعل السالك الصوفي الذي يترك نفسه بين يدي القدر في طريق الفناء الروحي


4-ثنائية الفناء والبقاء

(تنهار الكلمات رويدًا… وتنتحر)

انهيار الكلمات يرمز إلى عجز اللغة أمام التجربة الروحية-كما في قول الصوفية(من ذاق عرف ومن عرف صمت) هنا يتجلى البعد الفلسفي حيث تذوب حدود الذات وتتلاشى ولا يبقى إلا المعنى الأسمى…


—ج--البنية الإيقاعية والعاطفية

النص يعتمد على التكرار المكثف:

 ** تكرار (أشتاق إليك)يخلق إيقاعا متصاعدا يعكس الوجد الصوفي الذي لا يهدأ ولا يكِنّ

 **الأفعال الماضية والحاضرة والمستقبلية تمتزج في النص وكأن الزمن كله ينهار في لحظة العشق(انتظار/شوق/احتراق/فناء)

كما أن الصور الحسية (البحر/القمر/الحجر/النار) تتحول إلى رموز معنوية-وهو ما ينسجم مع اللغة الصوفية التي تبدأ بالمحسوس لتصل إلى المجرد


-د— النص بين العشق الأرضي والروحي

يمكن قراءة القصيدة على مستويين متداخلين:

 1- المستوى الظاهر (الحب الإنساني) تجربة عاشقة تتألم من هجر الحبيب وقسوته وتصف مشاعرها بلغة مباشرة وصور رومانسية

 2-المستوى الباطن (العشق الإلهي) حيث يمثل الحبيب المطلق أو الحقيقة الغائبة ويصبح (الرحيل)رمــزا للبعد عن النور و(اللقاء) رمــزا للوصول إلى مقام الرضا والسكينة

بهذا المعنى(أنين الرحيل)قد يُفهم كأنين الروح وهي تبحث عن خالقها تماما كما في أشعار ابن الفارض والحلاج  حيث يختلط الحب الدنيوي بالحب الإلهي…

أخــتــم 

قصيدة (أنين الرحيل)تمثل نصا مفتوحا يجمع بين صدق التجربة العاطفية وعمق الرمز الصوفي -هي نص يحكي ألم الفقد لكنه في الوقت ذاته يلمح إلى رحلة روح تبحث عن الخلاص -فالقصيدة تبدأ بـ(الشوق)وتنتهي بـ(الخذلان) لكنها لا تغلق أفق المعنى -وتترك القارئ مع سؤال وجودي ألا وهو (هل كان الحبيب إنسانـا أم كان رمزا للروح وهي تشتاق إلى أصلها الأول؟

بهذا المعنى يتحول النص من مجرد خطاب غزلي إلى تجربة صوفية تتجاوز حدود الجسد والزمن- وتفتح باب التأويل على مصراعيه…

————-

نــصّ الـقـصـيـدة 

أنين الرّحيل 


أشتاق إليك ...

أشتاق إليك ...

شوق الكون لحبّات المطر...

أشتاق إليْك...

وأنقش حروف اسمكَ ..

بنبض قلبي على وجه القمر...

طال الغياب ...

طال السّفر ...

أنهكني الشّوق ...

وجفّ القلم ...

كمن كان يئنّ ويحتضر ...

تنهار الكلمات رويدا ..

وتنتحر...

تتهاوى كموسم الخريف ...

كأوراق الشّجر ...

تتحطّم المشاعر...

فيذوب الحجر ...

فليس مع غيرك يحلو الحديث...

وليس لغيرك يحلو السّهر ...

وما هذه الدّنيا من دونك ...

كعيون لا تحسن البصر ...

عانقت أمواج البحر ...

دون شراع ...

ونازلت الخطر...

علّني ألقاكَ...

فليس لي غير عينيكَ...

موطنا أو مستقرّ...

أتعلم كم من ليال مضت...

وأنا طول سنين العشق أنتظر...

ذاب القلب شوقا...

وصار كلهيب نار..

لا تبقي ولا تذرّ ...

كيف أنساك ...

وأنتَ لي السّمع والبصر...

ما أمرّ هجرك ...

قلبك أقسى من الحجر ...

تُجيد قتل روحي ...

وتأتي لتعتذر ...

كيف لي أن أصفح ...

وذنبك عندي لا يغتفر...


بنبض قلم الشاعرة كوثر غانم


فائزه بنمسعود



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق