قراءة نقدية: "القصيدة وثنائية الدين والدنيا"
القصيدة: "سقط الخمار"
الشاعرة آمال بوحرب (تونس)
القراءة النقدية: "القصيدة وثنائية الدين والدنيا"
استهلت الشاعرة أمال بوحرب قصيدتها بجملتين فعليتين وفق تركيب عطفي (سقط واعترض) وقد ورد الفعلان في صيغة الماضي فحصول الحدث قد وقع (السقوط/الاعتراض).
والشاعرة قابلت بين الخمار وبين الهوى وبين السقوط والاعتراض.
لئن كان الخمار له دلالته الدينية الشرعية فالهوى قد يكون ميل النفس الى ما يُخالف الشرْع والدّين ويورد صاحبه موارد الهلاك والضلال.
والخمار قد ذكر بالقرآن في سورة النور الآية (31)" وليضربن بخمرهن على جيوبهن" فالله أمر نساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاء محكما على المواضع المكشوفة وهي الرأس والعنق والصدر.
والهوى كما ورد بالقرآن الكريم غالبا ما يستخدم الهوى للإشارة الى ما تميل إليه النفس وتشتهيه ولكنه غالبا ما يأتي في سياق الذم والتحذير من اتباعه.
والله قد نهى عن اتباع الهوى لأنه يفضي الى الضلال عن سبيل الله كما في قوله تعالى في سورة "ص" الآية (26)" ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله".
ان هذا الاستهلال يشي للقارئ أن الشاعرة بين الشرع (الخمار) واللاشرع (الهوى).
بمجرد سقوط الخمار اعترضها الهوى ..هما حركتان متوازيتان لن تلتقيا أبدا:
فإما الشرع وإمّا اللاشرع . ليست هناك منطقة وسطى ما بين الجنة (الخمار) والنار (الهوى).
وفي هذا الاطار ستدخل بنا الشاعرة وفق أسلوب بديعي قائم على الطباق(يمين /شمال) الى مقابلة معنوية لا تخفي عن القارئ انتماءها الديني في مواجهة بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.
وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال يمثلان قسمين رئيسيين من البشر في الآخرة:
- القسم الأول هم أهل الجنة. واليمين دال على اليُمْن والبركة والميمنة.
- القسم الثاني هم أهل النار والشمال دال على الشؤم والمشأمة.
هذا التقسيم يعتمد على أعمال الفرد في الدنيا فمن يعمل الخير ويتبع الهدى يكون من أهل الجنة ومن يعمل الشر ويكذّب بالحق ويتبع الهوى يكون من أهل النار.
وقد حذر الله من أصحاب الشمال في سورة الواقعة(41)"وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال".
وفي هذا الاطار سيتساءل القارئ بفضوله المعهود:
- هل أن الشاعرة ستكون من أصحاب اليمين أم من أصحاب الشمال؟
- هل أن الشاعرة ستسلّم بسقوط الخمار وتتبع الهوى؟
تقول الشاعرة:
فشغل يمينه بجمع طرفي
على الارض مسكوبا
وشماله شغلت
بعناق يذيب ما بقي من رحيقي
ان هذا الطباق اللفظي(يمين/ شمال)وهذه المقابلة المعنوية(أصحاب اليمين/ أصحاب الشمال) يعكسان صراعا تعيشه الشاعرة بين الدين والدنيا.
انه قلق وجودي تجسده الشاعرة ليعكس القلق الوجودي للمرأة ككلّ وللانسان في المطلق.
ان الشاعرة استخدمت توترا لغويا حين جعلت سقوط الخمار "مسكوبا" على الأرض والمسكوب ينسب للماء والمسكوب على الأرض يستحيل جمعه,
وبالتالي فهي بين استحالة جمع الخمار وبين مغريات الحياة (بعناق يذيب ما بقي من رحيقي).
ان هذا الوضع المأساوي بين الاستحالة ومغريات الحياة دعمته الشاعرة باطار زماني ساعدها على اتباع الهوى وهو الليل بظلامه وضلاله مما جعلها في أسر الهوى.
بيْد أن هذا يحز في نفسها في غياب الشرع(الخمار) وحضور اللاشرع (الهوى)..
انه ضياع يفقدها الاتجاه وغربة تشعرها بالوجع فتقول:
أرخى علي الليل حتى غشاني
فأصبحت في أسر الهوى كالغريب
ما عاد لي الا أنين صغير
يوشوش في صدري ويذوي
فأشعلت من دمعي قناديل صبر
خمدت في الزحام
وضاع اللهيب
انها تعود بنا الى استخدام التوتر اللغوي حين تسعى الى مقاومة أسر الهوى بالليل بقناديل صبرها من خلال حسرتها وبكائها الذي يشي بعدم رضاها على اتباع الهوى الذي أفقدها هويتها الدينية.
بيْد أن هذه المقاومة للهوى قد فشلت في هذا الظلام والضلال بالمجتمع(الزحام).
وكأني بالشاعرة ترى أن هذه المقاومة بالليل مزيفة ولا بد من فجر ينجلي به أسر الهوى
فتقول:
حتى اذا أفضت خطاي الى
الفجر
سكنت في حضن همس عجيب
انها سكينة الفجر بنوره وبضيائه بيْد أنها لم تستطع أن تجهر بما يخالجها من هذا الصراع الذي تعيشه فلاذت بالهمس الذي يرمز الى اخفاء حديث النفس على الآخرين.
والشاعرة قد عبرت عن هذا الصراع الوجودي للمرأة بين دينها ودنياها باستخدام تقنية الثنايات المتضادة (سقوط/ اعتراض- الخمار/الهوى- اليمين/ الشمال- أشعلت/ خمدت- الليل/ الفجر- قناديل / ضاع اللهيب..)
وفي هذا الاطار من الصراع الوجودي :
- هل ان شاعرتنا أمال بوحرب تتوق الى المرأة المتوازنة التي "تعمل لدنياها كأنها تعيش أبدا وتعمل لآخرتها كأنها تموت غدا " على حد قول الرسول والله قد خلقنا أمة وسطا؟
- هل أن شاعرتنا تتوق الى المرأة الفضيلة كما يراها الفيلسوف مونتسكيو؟
- هل أن شاعرتنا تلمّح الى المرأة المزدوجة الحاملة للخير والشر معا وفي آن واحد كما عند نيتشه؟
- هل ان شاعرتنا ترفض ان تكون المرأة الجحيم كما يراها سقراط؟
- هل أن شاعرتنا ترفض أن تكون المرأة منبع كل شركما يراها شوبنهاور؟
انها تساؤلات ترتقي بالقصيدة الى العالمية و قد يجيب عنها المتلقي وفق وجهة نظره الثقافية والدينية والانسانية.
سلم قلم الشاعرة المتمرّد الذي لا يشبه الا نفسها حيث طوّعت قلمها لتطرح هكذا قضايا فكرية شعرا..
بتاريخ08/ 09/ 2025
القصيدة : د. أمال بوحرب
سقط الخمار واعترض الهوى
طريقي
فشغل يمينه بجمع طرفي
على الارض مسكوبا
وشماله شغلت
بعناق يذيب ما بقي من رحيقي
أرخى عليّ الليل حتى غشاني
فأصبحت ُفي أسر الهوى كالغريب
ما عاد لي الا أنين صغير
يوشوش في صدري ويذوي
فأشعلت ُمن دمعي قناديل صبر
خمدت في الزحام
وضاع اللهيب
حتى إذا أفضت خطاي إلى
الفجر
سكنت ُفي حضن همس عجيب
د/آمال بوحرب
تونس


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق