قراءة في غلاف.
شدّني غلاف زيّن دفّتيْ كتابِ صادر حديثا لصاحبته ريحان بوزقندة.
ولأني لم أقرأ الكتاب بعد ، ستكون الزاوية التي سأنظر منها إلى هذا الغلاف منفتحة أكثر.. حرة أكثر.. لأن الإبحار في النص يضيق دائرة التأويل إذ أنك كلما غصت في النص أكثر وتلاعبت أصابعك بالأوراق أكثر.. كان التعامل مع المضمون في حالة اقتراب إلى الانحسار.
فدعنا ننعم بهذه المساحة من الحرية قبل الإطلاع، بعد إذن صاحبة الكتاب. مشكورة على هذا الاختيار.
نتناول الصورة من خلال هذا المنجز، لا باعتبارها شكلاً يتضمن
أبعادا جمالياً فحسب، بل كذلك ظاهرة متداخلة القراءات فغالبا ما تكون الصورة عتبة تتعقد فيها الرؤى فهي متعددة الأبعاد. فالصورة، لا تعكس عناصر توجد في واقع اختاره الكاتب أو نتاج للخيال، بل هي من الوسائط التي ندرك بها العالم ونتواصل معه بشكل مختلف اختلاف العمل الادبي عن بقية الكتابات والكتب، والصورة ايضا وسيط لصناعة المعنى، وكيفية الولوج إلى عالم الكاتب ومستويات عمله بالربط بين الواجهة( الصورة) والنص.
فاستنطاق الصورة يدخل في صلب التجربة الإنسانية والمعارف الثقافية بشتى مستوياتها.
سنحاول الوقوف عند بعض صدى ذلك في هذه القراءة لصورة غلاف كتاب " في حضرة النسيان".
فإلى جانب العنوان، أول ما يسطع ناظر المطّلع هي عناصر الصورة التي تنقل رسمة لمكان ذي طابع هندسي عربي إذا تأملنا الأقواس والفانوس وبقية الزينة. وهو ما يجعل علاقة هذه العناصر بالعنوان علاقة تحصر التفسير والبحث عن فهم المتن داخل إطار تقليدي عربي.
"في حضرة النسيان" ...
عنوان توسط صفحة الغلاف فاحتلّ المركز منها وبذلك حاز أهميّة بالغة. ومازاد بروزه اللون الذي كتب به وهو الأسود مقارنة باللون الورديّ الذي طغى على الغلاف ..فإن الوردي الزاهي ملأ سطح الغلاف فغذى فيه الجانب الجمالي الذي يتسم عادة بملامح الطفولة والبدء والجمال الطبيعي، هذا ملمح ينقل صورة البراءة باعتبار ما يوحي به هذا اللّون من عطر الورد الذي لم يغب في الصورة وقد بدا متناثرا تناثر الذكريات في المخيلة.
أمام هذا الدفء الطفوليّ والجمال الطبيعي يبرز لنا عنصر اصطناعيّ يحوّل كل تلك الملامح من طابعها الرومنسي إلى الواقع. ظهرت عناصر صنعها الإنسان ليعيشها ويعيش بها ...
يمكن اعتبار لفظة "حضرة" في استعمال دال على الجلال والتقدير.. فيكون النسيان بذلك قد رفعه الكاتب إلى منزلة الملوك والمحترمين... ولنا أن نتقابل: ألهذا الحد بلغت سلطة النسيان على الفرد وخضوعه له؟ وما يجعلنا نستبعد هذا التأويل هو حرف الجر الذي يسبق اللفظ، إذ لا يمكن أن يستعمل هذا الحرف مع لفظ حضرة " في حضرة" ويبقى دالا على ما ذهبنا إليه.
إذا يبقى أمامنا ترجيح القراءة الثانية والمتمثلة في الآتي .
هنا نبدأ بالربط بين اللفظ الأول من العنوان وهو " في حضرة"، والكرسي الشاغر الموجود في الرسمة. كيف نتبين الحضور في غياب؟ من هذا الذي يمكن أن يتخذ الكرسي مقعدا؟ كيف يكون الغياب والحضور مجتمعين في رؤية أدبية انبنت على مخيلة إبداعية.. فهنا للمطّلع أن يسارع بالقراءة عساه يجد ما يملأ الفراغ ويتعطر بالورد المنثور والحاضر على طاولة تنتظر من يجلس إليها وإن كان الجلوس سيكون لشخص واحد باعتبار الكرسي واحدا في الرسمة.
وإن عدنا لنربط بين الشغور في الرسمة واللفظ الثاني من العنوان لوجدنا عبارة النسيان .. عندها يتجلّى ذلك الشغور في عملية النسيان باعتباره خواء وفقدانا... ومن ثم غياب لشخص أو مناسبة أو أمر مّا.. فلم يحضر غير النسيان .. لذلك لم يجلس على الكرسي احد.
فهل يكون الشغور له حضور ..؟ وهل يكون للنسيان تذكّر وتمثّل دائم باعتبار مفردة "النسيان" أو "الحضور" وردت مصدرا وهو أقوى صيغ الاشتقاق فمنه يخرج الفعل وإليه يعود حسب بعض المدارس اللغوية.
والعنوان مع صورة الغلاف يدفعان المطّلع إلى تصفّح الكتاب باحثا عن هذا الذي من المفروض ان يحضر عوض النسيان.. وهذا الذي من المفروض ان يخرج من سجن النسيان ليحل في واقع الجلوس والحضور الحقيقيين.
أما النقطة الثالثة هي ما يثيره حرف الجر في العنوان .. إذ جعل من المركب " حضرة النسيان" ظرفا. ولكن هل يعتبر ظرفا يفيد الزمان أو المكان، لأننا يمكن اعتباره ظرف زمان فيكون التأويل بأن نبحث عما يحدث عندما يحضر النسيان ويغيب التذكر . كما يمكن أن نعتبره ظرفا مكانيا ونبحث عما يوجد في مكان حضر فيه النسيان .. فالبعد الفلسفي لا يخلو منه المستوى السيميائي في قراءة عتبة العنوان ورسمة الغلاف خاصة أن المستوى البلاغي في توظيف الاستعارة ( حضور النسيان) أبرز في العنوان ثنائية الحضور والغياب / مقابل التذكر والنسيان ، وذلك من خلال التركيب اللفظي وفي الرسمة من خلال الألوان والعناصر البارزة فيها.
غلاف الكتاب الذي بين أيدينا من أكثر الاختيارات تعقيدا وتركيبا لعناصر مرجعية فتح بها الكاتب أبواب الخروج عن هذا المرجع والسباحة في ما هو تخييليّ رمزيّ.
فاطمة البوبكري.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق