صمت الغسق ونشوة الضّد: قراءة عاشقة
في نص :بوح أنثى بين الضّد والصّمت للشاعرة:
عائشة ساكري
بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد
مراد اللحياني
في نصها "بوح أنثى بين الضّد والصّمت"، تقدم الشاعرة عائشة ساكري لوحة شعورية متكاملة، تتجاوز حدود اللغة التقليدية لتصبح تجربة وجدانية صافية، حيث تتماهى الذات الأنثوية مع صمتها ومع ضروب الحب والغياب، لتصنع رحلة شعرية ممتدة بين الواقع النفسي العاطفي والرمزية الفلسفية والصوفية. الصمت هنا ليس غيابًا، بل حضور مركب، لغة توازي الكلام في قدرتها على الكشف عن الروح، وإعلان عن استقلال الذات الأنثوية ووعيها بذاتها:
"فإني لستُ مَن يهجر، فلا تَعجَلْ، ولا تَرحلْ عن حُلمي."
هنا، ينكشف الصمت كحقل شعوري مقدس، وكطاقة روحية تفيض بالوعي، وتعلن رفض الهجر أو الانصياع للفراغ الذي يخلقه الغياب، وهو ما يذكّرنا بصمت الصوفيين الذين جعلوا من الانزواء والتأمل لغة للحب الإلهي والمعرفة الباطنية. هذه الذات الأنثوية لا تخضع للزمان أو للمكان، بل تصنع عالمها الخاص حيث الصمت لغة الحب والحضور، وطقس البوح يتشكل داخليًا قبل أن يتجلّى على الورق.
ويأتي الضّد في النص كحركة شعورية فلسفية، حيث يكشف التضاد عن جوهر الأشياء ويثبتها، ويحوّل التجربة العاطفية إلى تجربة وجودية. فالعيش بين الأضداد ليس مجرد تناقض سطحي، بل وسيلة لفهم الحقيقة الكاملة للذات وللعالم:
"فالضِّدُّ يُثبتُ في حقائقه الضِّدّا، وبالضِّدِّ تُدرَكُ الأشياءُ ظاهِرةً ومُعتدّا."
هذا الضّد يعكس توازنًا داخليًا، يشبه في فلسفته صراع الظاهر والباطن عند المتصوفة، حيث يُمكن للقارئ أن يلمس التوازي بين الحس والعقل، بين الحزن والفرح، بين الصمت والبوح، وبين الغياب والحضور، ليصبح النص حقلًا شعوريًا مزدوجًا، متشابكًا ومعقدًا، لكنه في الوقت ذاته سلس ومتناغم.
وتظهر تجربة الحب والغربة، حيث يكشف النص هشاشة المشاعر في مواجهة الفقدان، ويرسم صورة للحب كقوة تموج في الداخل وتبحث عن اللقاء، حتى وإن كانت الظروف ضده. هنا، تتحول الرغبة المكبوتة إلى صرخة داخلية، إلى لغة شعرية متدفقة، تعكس الطبيعة الشبقية والصوفية للحب:
"أما كانَ مَن بالعشقِ يُجادلُني سحرًا، يطوفُ بحُسنِ لفظهِ في الغسقِ سرّا؟"
الغياب يصبح غيابًا رمزيًا، تجربة للصمت الإبداعي، حيث تتحول الكتابة إلى فعل مقدس، والحروف إلى نار، والصمت إلى حضور:
"خطّي لا يُرى إلاّ كسَرابٍ في أفقي، وحروفي باتت نارًا تُرمِدُ الأرضَ."
هذا الطقس الكتابي يعكس العمق النفسي للشاعرة، فهو ليس مجرد فعل كتابة، بل ممارسة شعورية تحول الألم إلى طاقة إبداعية، وتزرع بذور الأمل في قلب التجربة الإنسانية، تمامًا كما يفعل شعراء الصوفية الذين جعلوا من الكتابة والذكر والطقوس لغة للحب والوجود.
ومع كل ألم وغياب، تبقى الذات صامدة، زهرة تنمو فوق أوجاعها، تصمد أمام خريف العمر الرمزي، وتكتب بالحب والعزم والأمل، لتصبح الكتابة فعل حياة، والبوح فعل خلود، حيث يتحول الصمود الإبداعي إلى رمز للقدرة على تجاوز الألم، وتصبح التجربة الشخصية تجربة إنسانية عامة:
"فلستُ أذبلُ مهما ضاقَ بي زمني، سأبقى زهرةً تنمو فوقَ أوجاعي."
النص يتدفق بسلاسة بين الرمزية والصور الحسية، بين الصمت والبوح، بين الغياب والحضور، ليخلق تجربة شعورية مكثفة، يحتفي فيها النص بالصمت كفعل عشق، وبالحروف كوسيلة لترك أثر خالد، وبالذات كحقل شعوري قادر على الصمود فوق الألم، ليزهر الأمل في قلب المعاناة. إنه نص يجمع بين التجربة الإنسانية الفردية والوعي الكوني، بين الحب الشخصي والحقيقة الوجودية، ليصبح قراءة عاشقة متدفقة، تنساب مع كل صورة ومع كل كلمة، بحيث يشعر القارئ وكأنه يشارك في الصمت والبوح معًا، ويغوص في رحلة شعورية ممتدة من أول سطر إلى آخره.
النص ينسج أيضاً شبكة من الصور المدهشة، حيث يتداخل الألم مع الحنين، والشوق مع الصمود، والفقد مع الأمل، ليصبح النص أشبه برحلة صوفية شبقية، رحلة تجعل القارئ يعيش النص داخليًا قبل أن يقرأه، حيث تتحول الحروف إلى جسور بين الذات والآخر، بين الغياب والحضور، بين الماضي والحاضر، بين الخوف والشغف، ليظهر النص كعمل شعري كامل، متكامل الأبعاد، غني بالرمزية والصور الحسية والإيقاع الداخلي المتناغم.
في النهاية، يقدم النص نموذجًا رائعًا للبوح الأنثوي العميق، للقدرة على الصمود وسط الألم، للحفاظ على الأمل في قلب المعاناة، ولتقديم تجربة شعورية مكثفة تنسجم بين الصمت والبوح، بين الغياب والحضور، بين الضّد والمساءلة الداخلية، بحيث يصبح النص لوحة شعرية مكتملة، تترك أثرًا خالدًا في النفس والوجدان، تجربة تتجاوز حدود اللغة العادية لتصبح ممارسة وجودية للشعور والحياة والحب.
النص :
**بوح أنثى بين الضّد والصّمتِ**
وإن طالَ صَمْتي، فلا تُلِمْني
فإني لستُ مَن يهجر، فلا تَعجَلْ
ولا تَرحلْ عن حُلمي.
أنا أنثى أُبوحُ الصّمتَ في عُمري،
أعيشُ النقيضَ بين حضيضِ أمري.
فالضِّدُّ يُثبتُ في حقائقه الضِّدّا،
وبالضِّدِّ تُدرَكُ الأشياءُ ظاهِرةً ومُعتدّا.
أُصبتُ بأرقِ الأحلامِ في فجري،
وقلبي انفطرَ مِن شوقهِ عبثًا بلا مدى.
أفألتقيه والعُمرُ خريفٌ في محافلِهِ؟
وماذا لو تلاقَينا؟ وهل يبقى لنا أثرُ؟
أما كانَ مَن بالعشقِ يُجادلُني سحرًا،
يطوفُ بحُسنِ لفظهِ في الغسقِ سرّا؟
فلمّا هانَ حالي، رحل عني دون وداع.
هدوئي صمتي، وصَرختي قاتلةٌ،
فيا ليتَ قدري يَصبُّ في قلبهِ عشقي،
كما أوجعني في خافقي وجرحي.
أعودُ كعاصفةٍ مِن الصمتِ تُرعدُني،
أمارِسُ طقوسيَ في حبرٍ على الورقِ.
خطّي لا يُرى إلاّ كسَرابٍ في أفقي،
وحروفي باتت نارًا تُرمِدُ الأرضَ.
تركَ بيني وبينهُ حاجزًا كالجَسَر،
تذيبُ شوقَ صخورِ قلبي المنتظر.
وجودُكَ، أيها الأنا، طياتُ أحرفي،
كسحابةٍ روت في قلمي بقعي.
وقمحُ كلماتي استوطنَ روحي وقلبي.
فللهِ دَرُّكَ يا طريفَ العُمرِ في خَرفي،
إني وإن هَرِمَتْ أوراقُ زهرتي، سأبقى
في ربيعٍ زهرهِ صامدةً بوعيي.
فلستُ أذبلُ مهما ضاقَ بي زمني،
سأبقى زهرةً تنمو فوقَ أوجاعي.
رغمَ الخريفِ، سأحيا في صُمودي،
وأكتبُ بيدِ العزمِ سِفرَ الرجاءِ.
"وفي عمقِ الألمِ، تُزهرُ أجملُ بذورِ الأملِ."
الشاعرة عائشة ساكري - تونس 17_10_2024

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق