السبت، 13 سبتمبر 2025

قراءة نقدية:" القصيدة والرثاء عبر الزمان والمكان" القصيدة: "ساكن فؤادي, وفيك الحب قد عرفا" للشاعر طاهر مشي (تونس) بقلم الناقدة جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية:" القصيدة والرثاء عبر الزمان والمكان"

القصيدة: "ساكن فؤادي, وفيك الحب قد عرفا"

الشاعر طاهر مشي (تونس)

الناقدة جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية: " القصيدة والرثاء عبر الزمان والمكان"

1- عتبة العنوان:


أسند الشاعر طاهر مشي عنوانا لقصيدته "ساكن فؤادي , وفيك الحب قد عرفا".هذا العنوان حدد به الشاعر علاقة بين المتكلم المفرد باستخدام ضمير المتكلم المفرد المتصل(فؤادي) وبين المخاطب باستخدام ضمير المخاطب المتصل (فيك).

وباستخدام صيغة اسم الفاعل(ساكن) المسندة الى المخاطب فان الشاعر قد جعل نفسه مسكونا :


- من هذا الفاعل الساكن فؤاد شاعرنا؟

- هل هذا الفاعل قد جعل من شاعرنا مفعولا به(مسكونا به)؟

- أي حب عُرِف به ساكن فؤاد شاعرنا؟


2- التحليل:


استهل الشاعر قصيدته باستخدام أسلوب انزياحي تركيبي و دلالي في نفس الوقت:

- تركيبي قائم على النداء فالمتكلم ينادي مخاطبه مستخدما أداة النداء للقريب(يا)

وكأني بالشاعر يوهم نفسه بأن المنادى قريب منه.

- دلالي قائم على الكناية فقد كنّى الشاعر عن المخاطب المنادى بتوأم الروح.


وحسب المختصين يشير مفهوم توأم الروح " الى "ارتباط عميق وشامل مع شخص يشعر معه المرء بتوافق فكري وروحي كبير مما يخلق شعورا بالألفة والثقة والراحة لا يختبره الشخص مع غيره .ينظر اليه على أنه علاقة ميثالية تتجاوز المألوف وتوفر دعما روحيا وعاطفيا وغالبا ما تشمل الحب والتواصل العميق والأهداف المتشابهة"


- هل أن توأم روح الشاعر يلامس مشاعره وكيانه؟

- هل ان توأم الروح ينير دربه وسط ازدحامات الحياة؟

- هل أنه المرآة التي تعكس حقيقته؟

- هل هو الشخص الذي يشاركه حياته في الزمان والمكان؟


وبالتالي من يكون توأم روح الشاعر الذي يناديه؟ يقول الشاعر:

يا توأم الروح سرّ الحسن فيك أبي

ساكن فؤاي وفيك الحب قد عرفا

وهنا يكشف لنا الشاعر عن توأم روحه وهو أبوه.


هذا الاب الذي جمع الحب والحسن وهو توأم روحه هل هو مدح وتغنّ بخصال الأب وعلى رأي المثل القائل "كل فتى بأبيه معجب"؟

بيد أن الشاعر باستخدام صيغة الماضي(كنت) يصرّح للقارئ أن أباه أصبح ذكرى من الماضي وبالتالي :

- هل أن الشاعر يرثي أباه الفقيد ليجعل القصيدة تندرج ضمن غرض الرثاء.

خصائص الرثاء؟:

و"الرثاء  حسب بعض النقاد "هو ثناء الشاعر ومدح الميّت وذكر خصاله الحميدة...والرثاء يحمل الكثير من المشاعر الصادقة والمؤثرة في النفس عند سماعها وعدم التصنع في الشعر حتى لا تخرج القصيدة عن مغزاها الأساسي وهو رثاء الميت".

 * تجليات الرثاء في القصيدة:

في هذا الاطار ماذا قال الشعراء في فقد الأب ؟:

- يقول الشاعر السوري حسين العبد الله:

لو أمطرت ذهبا من بعد ما ذهبا// لا شيء يعدل في هذا الوجود أبا

مهما كتبت به شعرا فان أبي// في القدر فوق الذي في الشعر قد كتبا

- يقول الشابي في رثاء أبيه:

يا موت قد مزقت صدري//  وقصمت بالأرزاء ظهري

وبلوتني فيمن أحب// ومن اليه أبث سرّي

وفي هذا السياق ماذا يقول شاعرنا طاهر مشي الموجوع بفقد أبيه؟

لقد توزع رثاء الشاعر لأبيه عبر الزمان والمكان:

أ- الزمان ورثاء الشاعر لابيه:

+ تداخُل الزمان في الرثاء(الماضي والحاضر):

يقول الشاعر طاهر مشي في ساكن فؤاده وتوأم روحه:

دربي ظلام فكنت الضوء يهدي بنا// كنت الحبيب وفيك العشق قد وصفا

في وصف ذكرى لماض حلو نذكره// كنت الامان وفيك العيش ما انحرفا

يقابل الشاعر وفق طباق لفظي (ظلام/ الضوء) بين دربه في حضور أبيه وفي غيابه .فلئن كان حضوره في الماضي نور العينين التي تجعله يبصر ففي غيابه  بالحاضر قد فقد نعمة البصر وبالتالي قد فقد طعم وجوده..

انه بين ماض سعيد وحاضر أليم. ويركز كثيرا على الحاضر المرير:

فيقول:


بعد الرحيل فما غابت مواجعنا// كنت الدواء اذا ما القلب قد أسفا

فانت ردائي اذا ما الحر أحرقني // وأنت مائي اذا ما الحلق قد نشفا

ان الشاعر وهو يصف وجع حاضره لا ينفك عن ذكر ماضيه الجميل مع أبيه

وكأني بالشاعر  يبكي ويرثي جنته الضائعة بفقدان أبيه بذكر حاضره التعيس:

فبقدر ما كان الحاضر موجعا بقدر ما كان الماضي دواء لهذا الوجع.

هل أن هذه المقارنة تعلل صبر الشاعر على هذا المصاب الجلل وتعزّيه؟

وباستخدام جمل اسمية (انت ردائي..)/ أنت مائي..) لعل الشاعر يقدم للقارئ حقيقة قيمة أبيه الفقيد بالنسبة اليه..فأبوه هو الوقاية والحماية (ردائي)والحياة (مائي).

ان شاعرنا هنا يتناص مع أحد الشعراء حين قال:

أبي وجودك نعمة وغيابك وجع// الأب لن يتكرر وإن رحل يظل حيّا فينا

ب- المكان في رثاء الشاعر لأبيه:

لم يشغل الزمان فحسب رثاء الشاعر لأبيه بل غمر رثاءه  للمكان الذي كان ينعم فيه بحضوره فيقول:

إني رأيتك في كل الجهات سنى// في كل ركن أراك النور منعطفا

ان أباه لم يكن نور عينيه في الزمان فحسب بل في المكان أيضا فهو قد فقد حلاوة الزمان ومتعة المكان.


والشاعرهنا يتناص مع الشاعر نزار قباني في قوله:


أمات ابوك؟

ضلال. أنا لا يموت أبي

ففي البيت منه

روائح رب..وذكرى نبي

هنا ركنه..تلك أشياؤه

أجول الزوايا عليه, فحيث

أمرّ..أمرّ على معشب

ان لوعة الفقد في الزمان والمكان جعلت الشاعر يعمد الى ستخدام رويّ (حرف الفاء) دالّ على نفسيتة المتوترة .

ويقال ان حرف الفاء له صوت انفجاري وقوي فيجعل الشاعر ينفجر وجعا ويبلغ هذا الوجع للمتلقي بقوّة  والفاء حرف مهموس ينحبس معه جريان النفَس مايدل ان الشاعر وهو يرثي أباه يشعر باختناق في النفَس.

وفي هذا الاطار بين نعمة الاب في الماضي ووجع غيابه في الحاضر وفقده في المكان قد يتبادر الى ذهن القارئ ان الشاعر قد سلم بحقيقة وهي حق الموت تماما كحق الحياة .

لقد كان الزمان يغمر رثاءه لأبيه بكل فتراته فلا الحنين الى ماض جميل مع أبيه سكّن من لوعة فراقه ولا الحاضر هدّأ من وجع الفقد ولعل المستقبل قدأقنعه بحق الموت كما حق الحياة.

وكأني بالشاعر يواسي نفسه التي لا يملك لها الا القناعة والايمان بحق الموت وبالتالي الدعاء بالرحمة لأبيه ليُسكنه الله الجنة فيقول:

جنات حضنك مازلنا نذاكرها// من عاش في كنف الآباء منك كفا.

فلا تزال أبي في القلب موطنكم// وطيف روحك في الاحلام مؤتلفا

رباه هذا أبي رحماك منزله// في جنة الخلد بالأزهار ملتحفا

ولعل القارئ هنا يتعاطف مع الشاعر طاهر مشي مواساة له فيذكره بما قاله :

- ابو فراس الحمداني:

مصابي جليل والعزاء جميل// وظني بأن الله سوف يديل.

- ابو العتاهية:

أيا هادم اللذات ما منك مهرب// تحاذر نفسي منك ما سيصيبها

رأيت المنايا قسمت بين أنفس// ونفسي سيأتي بعدهن نصيبها

وفي هذا الاطار من التناص مع بعض الشعراء في لوعة الفقد فان الشاعر طاهر مشي يرتقي بقصيدته نحو العالمية .


سلم قلم الشاعر طاهر مشي على صدق مشاعره التي جعلت من رثاء أبيه رثاء لنفسه ولعله في ذلك يتقاطع مع أحمد شوقي في رثاء أبيه في قوله:


أبي من مات ومن مات أنا // لقي الموت كلانا مرّتين

نحن كنا مهجة في بدن// ثم صرنا مهجة في بدنين

بتاريخ12/09/ 2025


القصيدة :                                                                                            ساكِنْ فؤادي، وفيكَ الحُبُّ قدْ عُرِفا....

ااااااااااااااااا ااااااااااا ااااااااااااااااا

يا تَوْأمَ الروحِ، سرُّ الحُسَنِ فيكَ أبي

ساكِنْ فؤادي، وفيكَ الحُبُّ قد عُرِفا

درْبي ظلامٌ، فَكُنتَ الضّوءَ يَهْدِي بِنا

كنتَ الحبيبَ وفيكَ العِشقُ قد وُصِفَا

في وَصْفِ ذِكرى، لِماضٍ حُلوِ نذكُرُهُ

كنتَ الأمانَ، وَفيكَ العيْشُ ما انحَرفَا

نمضي مع الأيام والذِّكرى، تُداعِبُنا

ناحتْ ليالي، دموعُ الفَقْد قَد ذُرِفا

إني رأيتُك في كلِّ الجهاتِ سنًى

في كلِّ رُكنٍ، أراكَ النّورَ مُنْعَطِفَا

لم يبقَ منّي سِوى نبضٍ يُمزِّقني

أرنو إليك، وفيكَ القلبُ قد شَرُفَا

جنّاتُ حِضنِكَ ما زِلْنا نُذاكِرُها

مَنْ عاشَ في كنَفِ الآباءِ منكَ كَفَا

فَأنتَ ردائي إذا ما الحرُّ أحْرَقَني

وأنتَ مائي إذا ما الحَلْقُ قد نَشفَا

بعد الرّحيلِ فما غابتْ مواجِعُنا

كنتَ الدواءَ إذا ما القلبُ قد أسِفا

فَلا تَزالُ أبي، في القلب مَوطِنُكُمْ

وطَيفُ روحكَ، في الأحلامِ مُؤتَلِفا!

ربّاهُ هٰذَا أبي رُحماكَ مَنزِلهُ

في جنّةِ الخُلدِ بالأزهارِ مُلْتَحِفا !

ااااااااااااااااا ااااااااااا ااااااااااااااااا

طاهر مشي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق