الخميس، 18 سبتمبر 2025

قراءة نقدية:" القصيدة و تقنية الثنائيات " القصيدة: "لا تعودي" للشاعر: طاهر مشي (تونس) بقلم الناقدة: جليلة المازني (تونس)

 قراءة نقدية:" القصيدة و تقنية الثنائيات "

القصيدة: "لا تعودي"

الشاعر: طاهر مشي (تونس)

الناقدة: جليلة المازني (تونس)

القراءة النقدية :" القصيدة وتقنية الثنائيات"

أ- عتبة العنوان:

وفق أسلوب انزياحي تركيبي قائم على النهي (لا تعودي) ينهى الشاعر حبيبته عن العودة اليه.

والنهي بمعنى طلب الكفّ عن شيء ويقابله الأمر وقد عرّفه علماء أصول  الفقه بانه" اقتضاء كفّ على جهة الاستعلاء"(ويكيبيديا).

من أغراض النهي البلاغية: التمني,التحذير, الارشاد, التهديد , الدعاء, التعريض, الهجاء.

- هل الشاعر ينهاها عن العودة اليه تحذيرا لها أم تهديدا أم تعريضا بها أم هجاء؟

- لماذا الشاعر ينهاها عن العودة اليه؟

- لماذا هو غاضب عنها؟


ب- التحليل:


القصيدة محكومة بغرضين من أغراض الشعر وبثنائية الأسلوب من خلال ثنائية الماضي والحاضر:


1- ثنائية هجاء الحبيبة ورثاء نفسه:


ان الشاعر حين نهى الحبيبة عن العودة اليه لا يُخفي عن القارئ سُخطه وغضبه عنها فاستهل القصيدة بظرف زمان (الآن) الدال على الحاضر .


وكأني به يستغرب رحيلها عنه في الحاضر فيصفها بالشقاء والخيانة بعد أن كانت في الماضي سكنا له فيقول:


الآن ترحلين يا شقية خنتني// وغزوت أيامي, وسكنت وتيني

ترحلين كالغريب, كأنك ما كنتِ// وكأني ما كنتُ واليوم تبكيني


وكأني بالشاعر بين ماض غزت فيه أيامه وسكنت شريان قلبه المسؤول على الحياة(الوتين) وحاضر يلغي ماضيها (كأنك ما كنتِ) ويبكيه (واليوم يبكيني).

 ان الشاعر باستخدام أسلوب النهي بالعنوان  ينهاها عن العودة اليه تعريضا بأفعالها وهجاء لها لأنها برحيلها ستسبب له الشقاء فقد كانت حياته ماضيا وبرحيلها قد ينقطع حاضرا شريان حياته وهو الوتين الذي كانت تسكنه.


والوتين في القرآن الكريم يشير الى عرق أساسي متصل بالقلب يعتقد أنه اذا انقطع مات صاحبه بالرجوع الى الآية (46) من سورة الحاقة " ثمّ لقطعنا منه الوتين"

فالشاعر يُسِرُّ الوجع لأن رحيلها يُبْكيه وقد يميته.

ويواصل الشاعر في المقطع الثاني في هجائها ليعتبرها طيفا عابرا ووَهْما لا أساس له في الواقع.

وكأني بالشاعر يشي للقارئ مدى خداعها له.

واذا بالنهي عن عودتها اليه يتحوّل الى أمْر بالذهاب حين تأكد أن علاقتها به لم تكن سوى وهْم  في عقله ووجدانه وطيف لعين فيقول:


زرعت الوهم في فكري وفي قلبي// وغدوت نبضي, همس عشق دفين

تركت الفقد في صدري لهيبا// فاذهبي, فما أنت سوى طيف لعين


وفي هذا الاطار ليسكّن من لوعة الفراق لاذ برثاء حاله فرثى حاله ونفسه التي فقدت برحيلها سكون الليل وضوءه وضاع عمره وهو في أشد حاجته اليها.


ان حالته النفسية المتأزمة جعلت هجاءه للحبيبة موازيا لرثاء نفسه فهو بين ماض وحاضر وبين هجاء ورثاء فيقول:


سرقت من الليل السكون وضوءه// وأضعت عمري في سراب سنين

خنت الوعد في ساعة احتياجي// فكنت الكسر في جفني وعيني

تركت القلب مثل النار يغلي// وسهم الغدر مسكنه شجوني

فلا تعودي..ما يعيد الندم دمعا// ولا الدموع تخفف من أنيني


وبين الهجاء والرثاء استخدم الشاعر معجمية لغوية صريحة تعبر بامتياز عن هذه الثنائية التي عاشها فلا الهجاء أثلج صدره ولا الرثاء هدّأ من لوعة الفراق:

+ الهجاء: شقية/ خنتني/ غزوت أيامي/ ترحلين كالغريب/ كأنك ما كنتِ/ زرعتِ الوهم/ طيف لعين/ سرقتِ / أضعتِ عمري/ خُنتِ الوعد/كنتِ الكسر/ سهم الغدر/...)

+ الرثاء: غزوت أيامي/ سكنت وتيني/ كأني ما كنتُ/ اليوم تبكيني/ القلب مثل النار يغلي/ لا الدموع تخفف من أنيني..


ان الذات الشاعرة ترثي صدق مشاعر الحبيب وتهجو خيانة الحبيبة وغدرها به.

ان ثنائية الهجاء والرثاء استخدم لها ثنائئية أسلوبية تركيبية قائمة على النهي والأمر:

2- ثنائية النهي والأمر:

وفي هذا السياق وعبْر جملة افتراضية(اذا سألوك عني بعد حين) يحوّل الشاعر خطابه من النهي الذي أورده بالعنوان الى الأمر.

وكأني به بأسلوب  النهي والأمر يُوهم نفسه والقارئ بأنه الآمر الناهي ولعله بذلك يستردّ كرامته المنتهكة برحيلها عنه ونكرانها لحبه الصادق لها. يقول:


اذا سألوك عني بعد حين // فقولي: ضيعت دربا كان فيني

وقولي : كان يحب القلب صدقا// فأطفأت الضياء بسوء ظني

وقولي: كان كظلّ الحلم يمشي// فخنت النور وانهار يقيني

ولا تروي الحكاية مثل ندم// فما عاد الكلام يعيد ليني

وفي هذا الاطار فان الذات الشاعرة تجعل الحبيب يستعيد ثقته بنفسه ويسترد كبرياءه ليجعل الحبيبة ترثي جنتها الضائعة برحيلها عن حبيبها:

انها سترثي محاسن الحبيب برحيلها عنه حين أمرها ان تردّ عن سائليها(قولي): ضياع دربها/ الحب الصادق/ الحلم/ النور/اليقين..

ويعود لينهاها عن رواية الحكاية ندما لأنه لن يلين ..انه نهي تحذيرا لها من الندم عما بدر منها من غدر .


وبين الأمر والنهي فان الحبيب في مقام استعلاء فهو الناهي والحبيبة المنهية وهو الآمر وهي المأمورة وبالتالي فهو الفاعل وهي المفعول بها.


ان الشاعر باستخدام الأسلوب الانزياحي التركيبي القائم على النهي والأمر استطاع بامتياز أن ينتشل الحبيب من حالة نفسية متأزمة انتصارا لكرامته فجعله "الأعلى" وجعلها "السفلى".


ولعل الشاعر أيضا استطاع أن يخفف من وجع الحبيب هذا الوجع الذي عبر عنه الشاعر بامتياز برويّ هو حرف "النون" الذي يعكس الوجع والأنين.وكأن الحبيب بهذا الروي يتنفّس ويتنفس ويتنقس.


ويختم الشاعر بقفلة هي من جنس العنوان لينهى الحبيبة الخائنة عهده عن العودة اليه بسبب غدرها له.


وهو أسلوب انزياحي ايقاعي قائم على التكرار ليؤكد لها نهْيه لها بالعودة اليه وكأني به يقول لها "لا تعودي فأنا لن أعود اليك" ولعله في ذلك يتناص مع قصيدة  الشاعر أحمد فتحي "قصة الأمس"(الذي عاش تجربة مماثلة لشاعرنا)والتي تغنت بها الفنانة  الكبيرة أم كلثوم في قوله:


أنا لن أعود اليك مهما استرحمت دقات قلبي//

أنت التي ابتبدأ الملالة والصدود وخان حبّي//


ويقول شاعرنا طاهر مشي:


أنا من كان فيك العمر شوقا//  فصرت الغدر في ليل حزين


فلا تعودي...قد متّ في قلبي// ومات الحرف في صمت سجين 


وبالتالي فلئن كان الحبيب مغدورا به فانه كان هاجيًا لها وراثيا لنفسه بل أكثر من ذلك كان الناهي والآمر والمتحدّي لغدرها وخيانتها بأن  حسم أمره وجعلها ميّتة بوجدانه وبإ بداعه.


سلم جليل حرف الشاعر طاهر مشي هاجيا وراثيا, آمرا وناهيا ومتحدّيا.


بتاريخ18/ 09/ 2025


  القصيدة (المبدع طاهر مشي)

الآن ترحلين يا شقية خنتني// وغزوت أيامي, وسكنت وتيني

ترحلين كالغريب, كأنك ما كنتِ// وكأني ما كنتُ واليوم تبكيني

زرعت الوهم في فكري وفي قلبي// وغدوت نبضي, همس عشق دفين

تركت الفقد في صدري لهيبا// فاذهبي, فما انت سوى طيف لعين

سرقت من الليل السكون وضوءه// وأضعت عمري في سراب سنين

خنت الوعد في ساعة احتياجي// فكنت الكسر في جفني وعيني

تركت القلب مثل النار يغلي// وسهم الغدر مسكنه شجوني

فلا تعودي..ما يعيد الدم دمعا// ولا الدموع تخفف من أنيني

اذا سالوك عني بعد حين // فقولي: ضيعت دربا كان فيني

وقولي : كان يحب القلب صدقا// فأطفأت الضياء بسوء ظني

وقولي: كان كظلّ الحلم يمشي// فخنت النور وانهار يقيني

ولا تروي الحكاية مثل ندم// فما عاد الكلام يعيد ليني

 أنا من كان فيك العمر شوقا//  فصرت الغدر في ليل حزين

فلا تعودي...قد متّ في قلبي// ومات الحرف في صمت سجين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق