*"الأدب في زمن الفقد: (( دهاليز كشك الأدباء أنموذجًا ))*
** (( أمل حامد سالم ))..
- دراسة لقصة -
(( دهاليز كشك الأدباء ))
للأديب والشاعر السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
* هي قصة تنتمي إلى الأدب السردي المعاصر، تجمع بين السرد المُقتضب والنفسي، وبين التأمل في الذاتيّة
والعلاقة الاجتماعية، بين الطموح والخسارة، بين الصداقة والخيانة، وتكشف صراعًا أخلاقيًا، وجدانيًا، نفسيًا، يستند إلى واقع اقتصادي واجتماعي يعيش فيه الشخصيّة الرئيسة. القصة تُروَى بصوت أوّلي، الراوي هو الشخصية التي تحكي تجربتها، تعرّضها للخداع، الخيانة في الثقة، التفوّق الذي يعقبه سقوط، الانكشاف، الألم، الأسئلة الأخلاقية. بنيتها في تصاعد درامي واضح: من البداية التي تَعَرّض فيها الراوي لسرقة، إلى علاقة الصداقة والأمل، إلى النُصح، إلى الانشغال، إلى الخسارة، ثم الانهيار والصدمة، وانسحاب الأصدقاء، وانتهاءً بالوحدة والخيبة.
تصاعد الحدث والبناء الدرامي.. البداية، الصدمة والتحدي الأخلاقي.. تنهار العلاقة تدريجيا، ليس بانفجار، بل بصمت، بهجر الزيارات، بتغيّر أماكن الجلسات، بصمت الصديق
، بتجاهل، بغياب. هذا الانسحاب يُمثّل ذروة المأساة العاطفية بالنسبة للراوي.. والراوي هو شخصية ذاتية، تحمل في طياتها الانكشاف التام. نرى فيه الصراع بين الطموح والأخلاق، بين الرغبة في النجاح وبين الخوف من الفشل. الراوي مؤلم في صدقه مع نفسه، في ضعفه، في محاولاته الدفاعية. هو ليس شريرًا، بل إنسان يخطئ، يتعثر، يُعجب، يُخطط، يراقب الناس، يتألم، يحزن، يخشى السُمعة والاتهام.
(صلاح) صديق مركب، هو الذي وثق، الذي ساهم، الذي شارك، لكنه أيضًا شخص يتغيّر بمرور الزمن، تتبدّل أولوياته، وقد يُلقى عليه ضغوطٌ اجتماعية، أسرية، حتى نقاط ضعف يُظهرها. إنه رمز للآخر الذي يخسر شيء أيضًا.
الآخرون (طلال، زوجة صلاح، الجمهور، "أبو طاهر").. كل منهم يمثل وجهًا من وجوه البيئة الاجتماعية التي تُقوّض الطموح بالغيرة، النقد، السخرية، التملّق، المصلحة. الحوار بينهم صار وسيلة ليس فقط للكشف، بل للبناء السردي الذي يعمل على تأزيم وضع الراوي.
تبدأ القصةبحدث الصدمة
.. سرقة رأس مال الراوي، لكنه يدرك أن الاتهام المباشر مرفوض بسبب علاقته بأصدقائه. هذا الحدث هو الشرارة التي تُشعل صراع الهوية والمسؤولية، وتُفعّل فكرة الانعكاس على الذات ومساءلة الضمير.بعد ذلك، يُبرز الكاتب الصداقة مع صلاح، الثقة، الطموح – الأمل بأن يتحول الكشك إلى مشروع اقتصادي واجتماعي ناجح، بأن يُحقّق الاحترام والمجد وحتى الشهرة الأدبية. كما أن اشتراك الراوي في الجوائز الأدبية، مشاركته في الوسط الثقافي، الأمسيات، المسابقات – كلها طبقات تُكوّن سياق الطموح والهوية الأدبية, ورغبة في التقدير.
الشعور بالفشل، القلق من السمعة، الكذب الداخلي أو التبرير الذاتي.. النقد من الأصدقاء، الخيانة المتوقعة أو المفاجئة، صعود منافس أدبي (أبو طاهر)، الذي يُمثل رمزًا للزيف الأدبي حسب رؤية الراوي. في المقطوعات التي تحوي لقاءات مع طلال، مع زوجة صلاح، مع الانتقادات الموجهة، تتصاعد الدراما. صراع مصطفى فى ليس فقط مع الواقع، ولكن مع الذات ومع الآخر. يتخذ شكل المواجهة: "أنت المسؤول"
، "كنت تبطّل الصداقة"، "كنت تأجل الدفع"، "كنت تغالي في التصرفات"، وها هي الصداقة تنهار.
القصة تعكس واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا مأزومًا، معاملات اقتصادية ظالمة، قلة الثقة، الفقر الذي يدفع الإنسان للمجازفة، الخسارة التي لا تُحمّل فقط الفرد بل البيئة.
القصة تجمع بين الفرد والمجتمع، إذ أن تجربة الراوي هي خاصة جدًا، لكنّها تُمثّل تجربة الكثيرين الذين وثقوا، استثمروا، فرّطوا في سمعتهم، أو في صداقتهم، أو خسروا مشاريع بظروف خارجة عن إرادتهم.. الأخلاق في القصة.ِ. مفاهيم الحقّ والواجب والالتزام والعدل والمساءلة. كيف يكون الصدق الفني؟ كيف يكون الالتزام بالوعود؟ كيف تُفقد الثقة؟
القصة تنسج توترًا وجدانيًا بين الخوف من الفشل، الخجل، الذنب، والمسؤولية، الهلع، الشعور بالوحدة، الألم من الخيانة
، المرارة من التهم.
الكثير من المقاطع فيها حوار مباشر، مما يُعطي إحساسًا بالواقع والمواجهة، لا الانعكاسات طويلة فحسب. حوارات تكشف الشخصية، تفاعلها، خوفها، وجلّها. الأسلوب المحكي يُبقِي القارئ قريبًا من التجربة النفسية.. والأحداث تُروى بلا إطناب؛ وصف الدموع، الصراخ، الصمت، الأخبار، الاتهام، كلها مختزلة لكنها قوية، بلا تفصيلات غير ضرورية.. الصور الجسدية (الكتلة الحمراء، العيون الجاحظة)، التضاد بين الصداقة والمشاعر الأدبية بين الأمس واليوم، بين الطموح والخيبة. هذا التضاد يُعطي انفعالًا، حرارة، صدقًا. القصة تراوحت بين الحاضر (المواجهة، الصمت، الألم) والماضي (الذكريات، بداية العلاقة، الجوائز، الأمل). هذا التناوب يُسهم في بناء المعنى، في إظهار الفقدان، في إشعار القارئ بما كان، وما لم يعد.
الشخصيات الرمزية، "أبو طاهر" ليس فقط شاعر مزعوم في القصة، بل رمز لزيف الألقاب، للمظاهر، للتملّق الأدبي؛ “الكِتابة المشهورة” بدون عمق، الدعاية، العلاقات الاجتماعية التي تُنافس القيم الحقيقية.
يمكن مقارنتها بقصة مثل "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي من حيث الصراع الأخلاقي والذنب، أو مع قصص لبيرم التونسي أو أحمد أباذيب أو غيرهم ممن يعالجون الصداقة الممزقة والأخلاق تحت الضغوط الاجتماعية.. كذلك مثل روايات غابرييل غارسيا ماركيز أو إرنست همنغواي التي تستعمل الصمت، والغياب، والتفكك العاطفي، والصراع النفسي. أو مع قصص صمويل بيكيت حتى من حيث النبرة المريرة.. مقارنة مع كتاب جيله: إن الكاتب مصطفى الحاج حسين يُظهِر إلمامًا بالميل نحو النفسية والأدب الواقعي الاجتماعي، يُمكن مقارنته مع روائيين وقاصين معاصرين ينتمون إلى تيارات الواقعية الجديدة أو ما بعد الواقعية التي تدمج التأمل بالأنا والمناخات الاجتماعية.
القصة تُعبّر عن وعي ذاتي مُتأخر: ليس وعيًا فحسب بالمأزق، بل وعيًا بالذوق، بالأسلوب، بالادعاء، بالهوية الأدبية. هذا إدراك حداثي.. التجديد في الأسلوب: قوة التكثيف، الاقتصار على الضروري، الحوار المكثّف، الصورة الجسدية، الصمت كعنصر سردي، التناوب بين الزمن الحاضر والماضي،التجديد في الموضوع: ليست فقط "قصة فشل" بل "قصة خيبة الأمل من الثقافة"، "قصة فقدان الصداقة"، "قصة وعي بالذات تجاه الآخر".
الفعل المضارع يُستخدم في الحوارات والحالة النفسية: "أشعر"، "أخاف"، "أرفض"، ما يُعطي النص حركة وتوترًا و الداخليّة الفعلية. الكاتب لا يغش في التعبير: الألم واضح، الأخطاء معترف بها، والطموحات مرسومة، ولكنها تتحطّم – لا تصنع المثالية. هذا صدق أدبي لا يلتجئ إلى المثالية الاجتماعية أو الشخصية.
الحرارة في اللغة، ليس لغة خطاب مُمجّد، بل لغة خجلة، مُتهدّجة، مُتكسّرة أحيانًا، لكنها حقيقية، تجعل القارئ يُلمس وجع الراوي. البراعة في التوازن، بين السرد والحوار، بين الأسلوب الشخصي والنقد الاجتماعي، بين التفاصيل اليومية والمواقف الكبرى، بين الذات والآخر.
(دهاليز كشك الأدباء)، ليست مجرد قصة عن الصداقة أو الفشل المالي، بل هي تأمل في العلاقة بين الإنسان والطموح، بين الثقافة والمصلحة، بين الثقة والخسارة.
الهدف من القصة: إنذار، بأن المظهر لا يكفي، بأن الثقة تُبنى ولكنها هشة، وأن الكاتبين الحقيقيين يُكتشفون بصوتهم الحقيقي، لا بما يدفع الناس مقابل الجلوس إليهم.. تدعو القصة إلى مساءلة الضمير، إلى الالتزام بالعهد، إلى محاسبة الذات أمام الآخرين، إلى إدراك أن النجاح لابد أن يكون مؤسسًا على الصدق، لا على التضليل أو المظاهر.
تعكس هشاشة الظرف الاقتصادي، أهمية النزاهة، خطورة الاحتيال داخل المجتمعات الصغيرة، تأثير المصالح الشخصية على الروابط الإنسانية.
ربما يُنتقد النص لكونه أحادي الصوت غالبًا، لا توجد شخصية تُعالج قضية "أبو طاهر" من وجهة نظره، أو لا توجد مساحات انتقالية تُظهر أن الآخر كذلك قد يعاني أو أنه ليس كله سلبي.
قد نرى أن التجسيد مبالغ فيه في التفاصيل (وصف المظهر الجسدي، السخرية المفرطة)، وقد يرى أحدهم أنه يقارب التحقير بدلًا من النقد البنّاء.
(دهاليز كشك الأدباء) لِكَاتبها تُشكّل إضافة قوية لأدب الأنا الواقعي الاجتماعي في الأدب العربي المعاصر. إنها قصة تؤكد أن الفن ليس مجال ترف، بل مرآة مريرة تُعرّي الذوات، تؤرخ للخيبة، للكذب، للتملّق، للمجاملات، وللأسف البشري. الكاتب أظهر إبداعًا لا من حيث الموضوع فحسب، بل من حيث الصيغة، الأسلوب، البناء الدرامي النفسي، والتناوب بين الأنا والمحيط، بين الواقعة والمجاز، بين الصمت والصراخ، في سياق الأدب المعاصر، تلتقي هذه القصة مع أفضل محاولات الكتابة عن الذات، عن الهامش، عن الخسارة، لكنها تبقى متميزة بصدقها، بجرأتها في مواجهة الواقع، بجرعة الوجدان التي تشعر بها في كل كلمة، وبأسلوب يحافظ على الكثافة، على الإيقاع الداخلي للصراع، على "الآن-الآن" الشعور بالرغبة والشك والخوف والمرارة.. إشارة واضحة وموضوعية إلى بُعدٍ مهم في شخصية الراوي، نزاهته، وابتعاده عن الجشع والطمع، ورغبته الحقيقية في مساعدة صديقه (صلاح)، بما يخالف ظنّ بعض الشخوص في القصة، ويكشِف أحد المحاور الإنسانية العميقة في النص.
في قراءتنا النقدية السابقة، ركّزنا على التأزّم النفسي والانفعالي للراوي في مواجهة تداعيات الفشل والخيانة وسوء الظن. لكن من الضروري التوقّف عند المستوى الأخلاقي العميق لشخصيته، الذي يُقدَّم بطريقة غير استعراضية، بل متضمَّنة ضمن سردٍ تلقائي يبتعد عن التمجيد المباشر.
فالراوي، منذ بداية القصة، لا يُظهِر أي نَهم مادي، ولا رغبة في استغلال “البرّاكة” لمكاسب فردية أنانية. على العكس، هو من بادر بجعل المشروع مساحة تشاركية بينه وبين أصدقائه، خاصة (صلاح). ما يُضعِف أي قراءة تتّهمه بالجشع، أو اللهث وراء الربح. كان يمكنه أن يُقصي (صلاح) وغيره، لكنّه – بدافع من الصداقة وربما الشعور بالانتماء – فتح باب المشاركة والمساعدة، وهذا يكشف نزوعًا تضامنيًا حقيقيًا، وليس استثمارًا انتهازيًا.
بل إننا نلمس في حواراته ومواقفه ما يُشبه "الكرم الساذج" أحيانًا؛ كعندما يُنفق على الشلّة في المقهى، أو حين لا يُمانع بأن يستدين منه الآخرون
، أو عندما يصرّ على احترام طقوس الضيافة الشعبية (الشاي، القهوة، الكرم الريفي)، حتى على حسابه الخاص. وهذه الإشارات كلها تؤكّد أن الراوي لا يُفكّر بلغة الربح والخسارة، كما يظنّ صديقه، بل بلغة العلاقة والنية الطيبة.. والدليل الأكبر على ذلك، هو أن دافع استثماره في "البرّاكة" لم يكن مجرد ربح مادي، بل رغبة في النجاح الأدبي والمكانة المعنوية، أي أن الطموح كان ثقافيًا، رمزيًا، وجدانيًا، وليس ماديًا خالصًا. لذا، فإن خيبة الراوي حين خسر لم تكن فقط مالية، بل إنسانية، وشعورية.. كما أن مواجهته لصلاح، بعد اتهامه المبطن، لم تكن بردّ عنيف أو انتقامي، بل كانت مؤلمة، دفاعية، وذات نبرة مُحطّمة. وهذا ردّ الفعل يدل على أنه لم يكن ينتظر ردّ الجميل، ولا يعتبر نفسه صاحب فضل يجب الاعتراف به. هو فقط يشعر بالألم حين يُساء فهمه، حين تُفسَّر مساعدته على أنها استغلال.. وبذلك، نرى أن شخصية الراوي تتجلى كضحية مضاعفة، ضحية الاحتيال المالي (كغيره).. وضحية سوء الظن من أقرب الناس إليه، رغم نواياه الحسنة.. وهذا ما يجعل من الراوي شخصية "تراجيدية" بكل المعاني: يسعى لخير مشترك، فيُتهم بالسوء، يحاول أن يرفع صديقه، فينقلب عليه.
إن تضمين هذا البعد في قراءة القصة يُعيد توازن الحُكم الأخلاقي، ويؤكّد أن الراوي ليس نموذجًا للأنانية أو الطمع، بل على العكس، هو شاهد على كيف يُمكن للنوايا الطيبة أن تُساء قراءتها في مجتمع مأزوم، متوتّر، تعِبٌ من الخيبات.. وتلك مأساة الإنسان النبيل في زمن الشك.
دور (طلال) في القصة يستحق بالفعل قراءة خاصة، لأنه يُمثّل صوت التوازن والعقلانية، ويشكّل ثالثًا مُهمًّا، في المثلث الدرامي بين الراوي (مصطفى) وصلاح.. (طلال) صوت الحكمة، والمحبّة، والتوفيق..يظهر طلال في قصة دهاليز كشك الأدباء كشخصية ثالثة محورية، ليست فقط عنصرًا مكمّلًا في السرد، بل وسيطًا فاعلًا بين الطرفين المتخاصمين.. الراوي وصديقه (صلاح). طلال ليس شاهدًا صامتًا، بل شخصية ذات حضور أخلاقي وثقافي وإنساني.
(طلال) مُثقف واسع الأفق، مترجم، متذوّق، قارئ نهم، يملك حسًّا نقديًا حادًا، لكنه أيضًا لا يتحوّل إلى شخص نخبوي متعالٍ أو متفرّج. بالعكس، هو من القلّة الذين يُحاولون رأب الصدع، واحتواء الانفجار العاطفي والنفسي الذي يحصل بين صديقَيه، بل يُشاركهُما حوارات حميمية حول الثقافة، والكتابة، والمعيش، والفقر، والخيبة.. وحين يتأزّم الموقف بين مصطفى وصلاح بسبب تأخّر تسديد المال، لا يُنحاز طلال لطرف على حساب الآخر، بل يُحاول فهم الخلفيات العاطفية والاجتماعية لكليهما. نراه يُواسي مصطفى، ويشدّ على يد صلاح، ويعبّر عن موقفه دون تجريح أو تأليب.. فهو نموذج للصديق الذي يملك نضجًا عاطفيًا ومعرفيًا، يسمح له برؤية الأمور من زوايا متعدّدة.. منفتح ومحبّ لكلا الطرفين، لا يحكم عليهما إلا من منطلق معرفته العميقة بهما.
يحاول حماية الصداقة من الانهيار، وهو ما يُضفي عليه دورًا إنسانيًا كبيرًا، في وسط قصة متوترة بالأزمات الانهيارات. إن وجود (طلال) في القصة ليس تفصيلاً بسيطًا، بل هو عنصر اتّزان سردي وأخلاقي. هو العين الثالثة التي ترى الأمور كما هي، لا كما تُشوّهها الانفعالات والمصالح. ولعلّ غيابه في لحظات لاحقة من القصة يضاعف شعور القارئ بالخسارة: كأن ما فُقِد ليس فقط المال، بل جمال العلاقة الثلاثية التي كانت توازن بين الاندفاع والعقل، بين الحلم والواقعية.
سأتناول جانب الطيبة والبساطة المفرطة في شخصية الراوي (مصطفى)، والتي تشكّل أحد المحاور النفسية والدرامية العميقة في القصة، ويُبنى عليها الكثير من التأزمات والانهيارات لاحقًا.. طيبة الراوي: ما بين النقاء الإنساني والسذاجة الاجتماعية..منذ الصفحات الأولى لقصة (دهاليز كشك الأدباء)، يُقدّم لنا الراوي نفسه كشخصٍ محبّ، حالم، بسيط، يثق بسهولة، ويمنح دون حساب. هذه السمات الإنسانية النبيلة، التي تُضفي على شخصيته مسحة رومانسية أصيلة، هي في ذات الوقت مكمن ضعفه وانكساره.. ثقته المفرطة بعماله وزبائنه.. يُعامل الراوي عمّاله كأصدقاء وأهل، لا كأُجراء. لا يراقبهم بدقة، ولا يُدقق في الحسابات، يسمح لهم بالتصرف بحرية، يثق فيهم لدرجة أنه لا يشعر أن سرقة أو إهمالًا ممكن أن تصدر منهم. وحتى الزبائن، بمن فيهم الفقراء والطلاب، يسمح لهم بالتأخير في الدفع، أو التخفيض، أو حتى بالاستدانة، وأحيانًا بالسرقة دون ردّة فعل غاضبة.. هذا النوع من الطيبة، يتجاوز الرحمة ليتحوّل إلى ضعف إداري ومهني، ما يُفسّر خيباته المتكررة وتراكم ديونه، رغم رواجه المالي المفترض.. علاقته بصلاح
.. حتى حين يتأخر في تسديد ما اقترضه من صلاح، لا يكون ذلك نتيجة خيانة أو نية سيئة، بل لأنه حقًا يمرّ بأزمات مالية خانقة، ويُحاول تأجيل السداد بصراحة ووضوح. وحين يوقّع لصلاح على سند أمانة، يفعل ذلك ليطمئنه، لا مضطرًا، وكأن الصداقة بالنسبة له لا تحتاج لضمانات قانونية، بل تكفيها الثقة.. إنه لا يرى في المال سلطة، بل وسيلة للحياة والمشاركة والمحبّة. لكنه ينسى، أو يتناسى، أن الآخرين لا ينظرون للأمور بهذه الرومانسية.. هذه الطيبة تُصبح في لحظات كثيرة سذاجة قاتلة. فمصطفى لم يكن يجهل أن من حوله يمكن أن يخذله، لكنه تجاهل ذلك عمدًا، بدافع الحلم والنية الحسنة. لذلك، جاءت خيباته من صلاح، ومن عماله ، ومن الزبائن، موجعة مضاعفة.. لأنها لم تكن فقط مادية، بل وجدانية، تمسّ صورته عن العالم.
هذه السذاجة الممزوجة بالكرم، تكشف لنا عن شخصية غير مألوفة في أدب البساطة، فهي ليست فقط "ضحية"، بل واعية - دون اعتراف صريح - بأن العالم لا يُكافئ الطيّبين، لكنها تُصرّ على المضيّ في هذا النمط من العيش، كأنها تقاوم الخراب الداخلي والخارجي معًا.. في قصة (دهاليز كشك الأدباء)، لا يتعرّض الراوي مصطفى إلى الخسارة بسبب خطأ إداري أو سوء تخطيط فقط، بل بسبب استغلال متكرّر لطيبته وسذاجته من أطراف عدّة، تتنوّع بين القريب والغريب، الزبون والصديق، العامل والجار، حتى الشريك.
الراوي يذكر بوضوح سرقات الكتب، خاصة من الذين يُخفونها تحت الجرائد والمجلات. هؤلاء "لصوص مثقفون"، كما يصفهم، يعرفون ماذا يسرقون، ويستغلّون انشغاله أو انشغال إخوته. الغريب أن مصطفى لا يبدو غاضبًا منهم، بل يصفهم بدهشة وإعجاب ساخر، وكأنه يعتبر خسارته أمام ذكائهم "أمرًا مشروعًا"!.. هنا تتجلى الطيبة لحدّ التبرير الأخلاقي للسرقة.
يبدو أن بعض العاملين معه كانوا غير أمناء، أو على الأقل غير مسؤولين بما يكفي. كانوا يتركون المكان مفتوحًا أحيانًا، لا يراقبون البضائع، وربما كانوا يسرقون أو يسمحون بالسرقة، دون رادع، مستغلين ثقته الكاملة.. رغم أن صلاح ليس لصًّا بالمعنى التقليدي، فإن الرواية تُشير بوضوح إلى تغيّره بعد مشكلة المال. عندما خسر مدّخراته التي أودعها عند "الرواس"، حمّل الراوي مصطفى المسؤولية بشكل ضمني، أو على الأقل لم يدافع عنه حين اتهمته زوجته بذلك.. وهذا شكل من الخيانة العاطفية والمعنوية، أشد إيلامًا من السرقة المادية.
الراوي يتساءل بنفسه: "أين تذهب الألف الثانية التي أُوفّرها كل يوم؟
هذا السؤال يوحي بأن النهب كان جماعيًا، صامتًا، وممنهجًا. ربما هناك أكثر من يد امتدّت إلى أمواله دون علمه، أو بعض من سمح لهم بالتعامل المادي الحر، أو حتى الأصدقاء الذين يستفيدون من كرمه، دون أن يعترفوا بذلك.
الراوي ليس ضحية خداع واحد، بل ضحية شبكة من الاستغلال العاطفي والمادي، كان مركزها الدائم هو ثقة مفرطة، وطيبة بلا شروط، وسذاجة ترفض التعقّل.
لكن في الوقت نفسه، القصة لا تُدين الراوي، بل تمنحه قيمة إنسانية عليا.. إنسان يقاوم قبح العالم بكرمه، وإن خسر.
ظهور الدكتور الناقد الكبير في "دهاليز كشك الأدباء" يُمثّل لحظة فارقة وعميقة الدلالة في مسار الراوي (مصطفى)، وتشكّل نقطة توازن في القصة، تعيد الاعتبار لشخصيته، وتُبرز قيمته الإبداعية والإنسانية.
هذا الدكتور لا يظهر بوصفه شخصية هامشية، بل يُجسّد الضمير العادل في المشهد الثقافي. هو ناقد محترف، مثقف حقيقي، لا يقف عند الألقاب أو الشهادات، بل عند القيمة الأصيلة للنصوص والإبداع.
رغم أن مصطفى لا يحمل شهادة جامعية، بل يبيع الكتب في كشك متواضع، فإن الدكتور اكتشف فيه قلمًا صادقًا، وأدبًا حقيقيًا ينبض بالحياة. لقد رأى في مصطفى ما لم يره معظم "المنتفخين ثقافيًا".. لم يكتفِ الدكتور بالإشادة به، بل وثق به على المستوى العملي، وأعطاه ماله ليقوم مصطفى بتشغيله، في علاقة تقوم على، الثقة المتبادلة، الاعتراف المتبادل بالقيمةالاستفادة المشتركة،وهذا الموقف هو نقيض صارخ لموقف صلاح، الذي رغم صداقته الطويلة لم يمنح مصطفى هذا الاحتضان المعنوي، ومال مع الزمن إلى التخلّي.
يمثّل الدكتور هنا عدالة رمزية، تعوّض مصطفى عن خيباته المتراكمة من العمال، واللصوص، وحتى الأصدقاء. هو صوت ثقافي نقيّ، يُثبت أن الثقافة ليست حكرًا على حملة الشهادات، بل على من يحملون الهمّ الإنساني، والرؤية، والموهبة.. في زمنٍ امتلأ بالاستغلال والانتهازية، يُجسّد الدكتور قيمة الوفاء، والنُبل، والإيمان بغير النمط التقليدي. إنه يعرف أن مصطفى، رغم فوضويته وبساطته، أمين، مخلص، ومبدع بالفطرة.. شخصية الدكتور تمثّل بُعدًا أخلاقيًا وجماليًا عميقًا في القصة. إنه نقطة الضوء التي تنصف البطل، وتُعيد التوازن لرؤيتنا له. هو نموذج للمثقف الحقيقي، الذي لا يُقيّم الآخرين بمظاهرهم أو شهاداتهم، بل بصدقهم وعمقهم وإبداعهم.
النصّاب (الرواس) في قصة (دهاليز كشك الأدباء) لا يظهر كشخصية عابرة أو تفصيل جانبي، بل يُجسّد ظاهرة اجتماعية سياسية مركّبة، تعبّر عن الفساد الممنهج المدعوم من السلطة، والتواطؤ العلني بين المال الحرام والسطوة الرسمية، في ضرب صريح لقيم العدالة والثقة والأمان المجتمعي.
(الرواس) ليس محتالًا فرديًا فحسب، بل هو رمز لاقتصاد الظلّ، ولسُلطة رأس المال غير المشروع، ولـ"مكاتب الاستثمار" التي تستقطب الضعفاء والطامحين، وتُغرِقهم في أوهام الربح السريع، لتنهبهم لاحقًا بغطاء سياسي أو بيروقراطي.ِ. هو صورة للنظام المتواطئ، الذي يسمح لبعض الفاسدين أن يكبروا، ويحتالوا، ويهربوا، بينما تُغلق ملفاتهم بحصصٍ تُدفع في الخفاء، ويُترك الضحايا يئنّون في العراء.
الرواية تُلمّح بذكاء إلى أن (الرواس) مدعوم من مسؤولين كبار، وهذا ما تؤكّده الإشاعات التي "انتشرت" عن تورّط أسماء من داخل الدولة في تهريب المال، و"أخذ حصصهم من المال المسروق"، وهي إدانة رمزية قوية للفساد البنيوي.. وبذلك، يصبح الرواس تجسيدًا لــ: عهر السوق والسلطة معًا،
انهيار الثقة المؤسسات..
خيانة الطبقة الحاكمة للمجتمع.
الكارثة لم تكن مادية فقط، بل إنسانية، حيث تُصوّر القصة النساء "الأرامل، والعجائز، والمطلقات"، اللواتي سلّمن أموالهن سرًا (للرواس)، في مشهد موجع من الخذلان والفضيحة الصامتة، تنفجر بالبكاء، والانهيار، والدموع على الأرصفة.. حتى زوجة (صلاح)، التي وثقت (بالرأس) بناءً على تأجيل مصطفى للديون، تحمّل مصطفى المسؤولية جزئيًا، في انعكاس لغياب الوعي الاقتصادي، وغياب الحماية القانونية.
(الرواس) هو الآخر المدمر الخفيّ في النص. ليس كائنًا من خارج المجتمع، بل ابن هذا النظام، ونتاجه.. يمثل،
انهيار قيم الأمان الجماعي، تواطؤ الدولة،
موت الضمير القانوني
ظهور (الرواس) في النص ليس تفصيلًا بل صرخة أدبية ضد منظومة كاملة من الفساد السياسي والاقتصادي. وقد وُظّفت هذه الشخصية بنجاح داخل بنية القصة كأداة لكشف عطب المجتمع من الداخل، وتحديدًا على مستوى السلطة، والمواطن، والثقة، والانهيار الأخلاقي. هذا الجانب الإنساني والنفسي في قصة (دهاليز كشك الأدباء) يُمثّل إحدى طبقاتها العميقة. الراوي مصطفى لم يكن جشعًا أو محتالًا، بل صادق النية، طيب القلب، مشغول بظروفه، وقد عرض على صديقه (صلاح) أن يُشغّل له ماله، ليضمن له دخلاً شهريًا إلى حين تسريحه من الجيش. ولم يتهرّب من المسؤولية، بل وقّع له سند أمانة، وبقي ملتزمًا بدفع الأرباح لأكثر من سنتين.. لكنّ (صلاح وزوجته) ، بدلاً من الاكتفاء بهذا النموذج الناجح، طمعا بالمزيد من الربح السريع، فانخدعا بكذبة (الرواس) التي اجتذبت شرائح مختلفة من المجتمع.ِ. (مصطفى) عرض خدمة لصديق، لا مشروع استثماري طامع.
(صلاح) لم يُجبر على وضع أمواله لدى(الرواس)
، بل قرر ذلك بعد تأجيل مصطفى سداد أصل الدين، فاختار أن يُربّح هذا المال بدل الانتظار.
ورغم ذلك، حين خسر (صلاح) أمواله، لم يلوم النصّاب، بل وجّه اللوم إلى مصطفى، وهو شكل من الإسقاط النفسي والإنكار، حيث يُفضّل الإنسان لوم من يعرفه ويثق به، بدل الاعتراف بجهله أو طمعه.. و
(زوجته)، بدافع الغضب، حمّلت مصطفى السبب، متناسية أنه لم يُدلّهم على (الرواس) ، ولم يشجّعهم على وضع المال عنده، بل كان فقط سببًا غير مباشر في تأخير دفع الدين. في هذا التوتر، يظهر مصطفى في قمة النبل الإنساني والخذلان العاطفي.. رجلٌ حاول أن يُحسن، فاتهموه بسوء النية.. وهنا تتجلّى مهارة الكاتب.. يجعل من مصطفى شخصية مركبة ليس قديسًا، ولا تاجرًا فطنًا، بل إنسانًا عاديًا، يُخطئ ويصيب، يعطي ويُخذل، ويجعل من (صلاح) الضحية-الجلاد، ضحية نصب، وجلاد لصديقه الوفي. الطمع هنا لا يُدين صلاح فقط، بل يُدين هشاشة الوعي الجماعي، وغلبة النزعة الاستهلاكية، وقصر النظر في إدارة المال.
تنطوي قصة (دهاليز كشك الأدباء) على جانب ساخر وناقد لاذع للمشهد الثقافي الزائف، يظهر بوضوح في شخصية (أبو طاهر)، الذي يُمثّل نموذجًا لما يمكن تسميته بـ (الشاعرور الانتهازي)؛ شخصٌ يفتقر إلى الموهبة
،لكنه يتسلّق عبر العلاقات النفعية، والادّعاء، والتمسّح بذوي النفوذ.
الراوي مصطفى، الذي يُدرك جيدًا التمييز بين الأصالة والزيف، يعرّي هذا النموذج بلغةٍ سخريّة مريرة، ذكية، ومشبعة بالتهكّم، كما في قوله:
أنا لا أتصوّر أن في الدنيا شاعرًا اسمه (أبو طاهر)!
هو يكتب على أطراف الجرائد... يجمع جملتين خلال أسبوع، ويسمّيها قصيدة!.
هذا النقد ليس موجّهًا فقط لـ (أبو طاهر)، بل إلى ظاهرة واسعة في الحياة الثقافية، حيث يُقدَّم الرديء بوصفه عميقًا، ويُهلَّل له من قِبل من لديهم مصلحة مباشرة معه.. (صلاح)، الذي كان يومًا الصديق الأقرب لمصطفى، يصبح مع الوقت جزءًا من هذه البنية المُزيّفة، يبتعد عن مصطفى حين يصيبه الإحباط والفقر. ويتحوّل إلى جليس (أبو طاهر)، ويُثني على شعره، قائلاً: السيد (أبو طاهر) شعره ممتلئ بالفكر، والفلسفة، والحكمة، والتأمل، والبصيرة!. وهو موقف يَشي بنوعٍ من النكاية العاطفية المقصودة؛ إذ يبدو أن صلاح يقرّب (أبو طاهر) ليغيظ به مصطفى، الذي طالما كان يرفض الاعتراف بأي موهبة لهذا المدّعي.. والانفصام هنا ليس في صلاح فقط، بل في الوسط الثقافي.
مصطفى يمثل الشاعر الحقيقي، البسيط، المهمَّش، الصادق، الذي لا يحمل شهادة جامعية، لكنه يكتب بإحساس وحرارة وتجربة. وأبو طاهر يمثّل المثقف الورقي، الذي يصنع مجده بشراء القهوة للآخرين، وتقديم الهدايا، وسداد الفواتير، لا بالموهبة أو العطاء الأدبي. وهنا تأتي المفارقة.. السلطة الثقافية تذهب غالبًا إلى من يملك النفوذ، لا من يملك الموهبة. وكأنّ مصطفى يُطلق صرخة احتجاج: لقد خسرنا حتى المقهى، وصرنا غرباء في أماكننا.
في هذا التفصيل، تغدو سخرية مصطفى مقاومة ناعمة ضد التزييف، وصوتًا لألم الشاعر الحقيقي الذي فقد أصدقاءه، ومكانته، لصالح زيف يتغذّى على المصلحة.
الراوي في دهاليز كشك الأدباء، ومن خلال أسلوبٍ ساخرٍ تارة، ومُوجعٍ تارةً أخرى، يكشف القشرة البوليسية التي تغلّف المشهد العام في مدينة حلب، لا سيما حين يُسهب في وصف الأماكن المحيطة بـ"البرّاكَة"، ليرسم صورة خانقة عن تغلغل الأمن في كل زاوية من زوايا الحياة.ففي سردٍ واحد متواصل، يذكر عشرات المراكز والجهات الرسمية والأمنية «فروع الأمن: الأمن الجنائي، أمن الدولة، الأمن السياسي، الأمن العسكري، فرع حزب البعث، الشعب الحزبية...» هذا السرد الطويل ليس بريئًا، بل يحمل إيقاعًا مقصودًا من التكرار والتكثيف، يُشعر القارئ بالاختناق، وبأن المدينة بأكملها مراقَبة، خاضعة، مُحاصَرة بعين السلطة. والمفارقة أن هذه القائمة تأتي وسط حديث عن الأدب، والمقاهي، والثقافة،مما يُظهر التضاد الصارخ بين الحرية التي يفترضها الأدب، والرقابة التي تفرضها السلطة.
وبذلك، يوظّف الراوي الجغرافيا كشاهد سياسي وأمني، فيفضح القمع دون شعارات مباشرة، بل عبر وصف دقيق للمدينة التي لم تَعُد فضاءً ثقافيًا حرًّا، بل مسرحًا للمراقبة والمنع والتقارير.
يمكننا القول إن هذا المقطع يُجسّد بامتياز أدب ما بعد الرقابة، حيث تُصبح الجملة الوصفية، المكانية، أداة مقاومة وتعرية، تُوحي دون أن تُصرّح، وتدين دون أن تُسمي، وتتجرّأ دون أن تصرخ.
قصة دهاليز كشك الأدباء ليست سيرة ذاتية لأديب يعاني شظف العيش والتهميش، بل هي مرآة مركبة لحياة المثقف العربي في فضاء اجتماعي واقتصادي وسياسي خانق. تُقدَّم بواقعية صادمة، وسخرية مريرة، وصدق فنيّ نادر، وبلغة تنبض بحرارة التجربة ووجعها، وتعكس أزمة وجودية وإنسانية وأخلاقية عميقة.
الراوي، مصطفى، ليس بطلاً كلاسيكياً، بل هو إنسان هشّ، بسيط، طيّب، مسكون بالحب، والجَمال، والمثاقفة، ومتورّط في دهاليز الحياة اليومية التي لا ترحم. أراد أن يرفع رأسه بالأدب والثقافة، فإذا به يُطعن من أقرب الناس: الزبائن، الأصدقاء، العاملين، وحتى السلطة غير المرئية التي تحاصر أحلامه. في العمق، القصة هي صراعٌ بين القيم والمصالح، بين الأدب والمال، بين الصداقة والخيانة، بين النقاء والابتذال. وهي أيضاً وثيقة اجتماعية عن مدينة (حلب) ، كمركز ثقافي مسلوب، وميدان لصراع الطبقات، وهيمنة الأمن، وانحطاط الذوق العام، وابتذال الإبداع.
كما تطرح أسئلة كبرى عن
معنى الصداقة في زمن النفعية (علاقة صلاح بمصطفى وأبو طاهر)،
ومعنى المثقف الذي لا يحمل شهادة لكنّه يكتب بموهبة أصلية ويُهمَّش،
وأين يذهب المال في بلد تسرقه السلطة والنصابون تحت حمايتها، ولماذا يُحاسَب الطيّب وحده على نواياه الحسنة بينما ينجو الأشرار؟.
في هذه القصة، الدهاليز ليست مكانًا فقط، بل استعارة شاملة للحياة كلها، للحالة الثقافية، للضمير الجمعي، وللتيه الذي يعيشه من لا يساير القطيع. والكاتب مصطفى الحاج حسين، يثبت هنا أنه ليس مجرد راوي تجربة شخصية، بل هو صوت من لا صوت لهم، وضمير المرحلة، ومؤرّخُ وجعٍ لم يُكتَب بعد.إنها قصة عن الأدب حين يُكتب بالدم، لا بالحبر.
"دهاليز كشك الأدباء" عنوان ذكي وكثيف الدلالة، يحيل مباشرة إلى العتمة، والتشعّب، والغموض، والتيه—لا في المكان فحسب، بل في العلاقات، والضمائر، والمصائر. "دهاليز" توحي بممرات معقّدة، ملتوية، يضيع فيها الداخل، تمامًا كما تاه الراوي مصطفى بين الأدب والتجارة، بين الطيبة والاستغلال، بين الوفاء والخيانة، بين الإبداع والخذلان، وبين الحلم والانكسار.
"كشك الأدباء" يبدو بسيطًا ظاهريًا، لكنه يحتضن عالمًا متعدّد الطبقات: ملتقى مثقفين، واجهة ثقافية، وفي الوقت نفسه، فخّ للضياع الشخصي، والخذلان الإنساني، والتآكل الاقتصادي والأخلاقي.
العنوان يعمل كرمز وتشبيه ممتدّ للقصة كلها؛ فكل حدث في النصّ هو دهليز بحد ذاته، دهليز الصداقة المسمومة مع صلاح.. دهليز الفساد المالي والسياسي (الرواس وأمثاله)، دهليز الخيانة الثقافية (أبو طاهر وأشباهه).. دهليز الذات المتأرجحة بين الطموح والانهيار..دهليز البيئة الخانقة، والمجتمع المحبط، والسلطة المتوحشة.. وما دام الكاتب قد أخبرني أنه سيكتب دهاليز أخرى إذا ساعدته صحته، فإنّ هذا يوحي أن ما نقرأه الآن ليس سوى بداية سلسلة سردية فذّة، تتعمّق أكثر في الوجه الخفيّ للحياة الأدبية، والاجتماعية، والإنسانية في مدننا العربية، وخاصة في حلب.
نسأل الله الشفاء والصحة للأستاذ مصطفى الحاج حسين، فكل دهليز جديد ننتظره، هو ضوء إضافي نحتاجه في نفق أدبنا المعاصر.*
أمل حامد سالم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق