&& (( وقفة عند تجربة الأديب والشاعر، مصطفى الحاج حسين ))..
دراسة - أمل حامد سالم -
@ تدور القصة حول طفل يُجبر على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها تحت ضغط أستاذه، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث المؤلمة التي تكشف عن جوانب متعددة من الظلم الاجتماعي والانتهاكات النفسية.
تبدأ القصة بمشهد تحقيق قاسٍ في المدرسة، مما يضع القارئ مباشرة في قلب الحدث. يُستخدم السرد بضمير المتكلم لتعميق الإحساس بالمعاناة الشخصية.
يتصاعد التوتر من خلال التحقيقات المتكررة، والضغوط النفسية، والاعتداءات الجسدية، مما يعكس تصاعد الأزمة الداخلية والخارجية للبطل.
تصل القصة إلى ذروتها عندما يُجبر البطل على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، مما يؤدي إلى انهيار نفسي وشعور عميق بالذنب والخيانة.
تنتهي القصة دون حل واضح، مما يترك القارئ في حالة من التساؤل والتأمل حول مصير البطل والعدالة في المجتمع.
البطل (الراوي)
يمثل البطل الضحية البريئة التي تُجبر على الاعتراف تحت الضغط، مما يسلط الضوء على هشاشة النفس البشرية أمام السلطة.
راغب
صديق البطل، الذي يُعاني من نفس الظلم، ويُظهر التفاعل الإنساني العميق بين الأصدقاء في مواجهة الأزمات.
الأستاذ والمدير
يمثلان السلطة القمعية التي تفتقر إلى الرحمة والعدالة، مما يعكس فساد النظام التعليمي والاجتماعي.
الأسلوب
يتميز النص بأسلوب سردي مباشر ومؤثر، يستخدم اللغة العامية والتعابير القوية لنقل مشاعر الألم والظلم.
الرمزية
تُستخدم المدرسة كمكان رمزي للسلطة القمعية، بينما يُمثل البطل البراءة المهدورة. كما يُستخدم التحقيق كرمز لفقدان العدالة والإنسانية.
مقارنة مع أعمال أدبية أخرى
أعمال عربية
تشبه القصة في موضوعها وأسلوبها رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، التي تتناول معاناة الفرد في مجتمع قمعي.
أعمال عالمية
يمكن مقارنتها برواية "1984" لجورج أورويل، التي تصور مجتمعًا تحت سيطرة سلطة قمعية تُجبر الأفراد على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها.
أهمية الكاتب وإبداعاته
يُظهر الكاتب براعة في تصوير المعاناة الإنسانية والظلم الاجتماعي من خلال سرد مؤثر وشخصيات معقدة. تُعد هذه القصة مثالًا على قدرته في استخدام الأدب كوسيلة للنقد الاجتماعي والتعبير عن القضايا الإنسانية العميقة.
التحليل النفسي (فرويد)
يُظهر النص تأثير الصدمات النفسية على الفرد، وكيفية تعامل العقل مع الضغوط الشديدة.
النقد الاجتماعي ماركسي
يعكس النص الصراع بين الطبقات الاجتماعية والسلطة القمعية، ويُبرز الظلم الناتج عن الفوارق الاجتماعية.
الوجودية (سارتر وكامو)
تُظهر القصة صراع الفرد مع العبثية والبحث عن معنى في عالم يفتقر إلى العدالة.
تُعد هذه القصة عملًا أدبيًا قويًا يُسلط الضوء على قضايا الظلم والسلطة والبراءة المهدورة. من خلال أسلوبه المؤثر وشخصياته المعقدة، يُقدم الكاتب نقدًا اجتماعيًا عميقًا يدعو القارئ للتأمل في القضايا الإنسانية الأساسية.
الفرق بين المعلم والمدير في القصة وبين رجال التحقيق أو المخابرات لا يكمن فقط في الوظيفة الظاهرة، بل في البنية الرمزية للسلطة، وطبيعة ممارسة القهر، وهنا التحليل:
من حيث الموقع والوظيفة:
- المعلم والمدير:
- يمثلان السلطة التربوية والتعليمية.
- يفترض أن دورهما *التربية والتوجيه والدعم.
- لكن في القصة، تنقلب هذه الوظيفة إلى *سُلطة قمعية بوليسية. ب - رجال التحقيق المخابرات
- يمثلون السلطة الأمنية رسميًا.
- وظيفتهم الأصلية ضبط الجرائم والتحقيق في السلوك الجنائي.
لكن في القصة، يتم تقليص الفارق بين الجهتين، ويحدث تماهٍ رمزي بين المعلم المحقق ورجل الأمن القامع.
من حيث أدوات القمع:
المعلم / المدير:
- القمع يتم عبر *الإذلال النفسي، الصراخ، الضرب، التحقير، والإجبار على الاعتراف.
- يمارس سلطة أبوية زائفة بدعوى التربية.
المخابرات / التحقيق:
- يستخدمون القوة القانونية، التعذيب الرمزي أو الجسدي، الإكراه، والإخضاع.
- يملكون تفويضًا رسميًا ولكنهم غالبًا ينحرفون عنه.
من حيث البنية الرمزية للسلطة:
- المعلم في القصة هو صورة مصغّرة لرجل المخابرات:
- يُحقق.
- يُصدر الأحكام.
- يُمارس التعذيب.
- لا يُحاسب.
- هذا يعني أن المؤسسة التعليمية، كما يرسمها النص، ليست بريئة، بل *مرآة للمؤسسة الأمنية.
- المدرسة هنا = مخبر أمني.
من حيث الشرعية الأخلاقية:
- المعلم فقد شرعيته التربوية حين مارس القمع والكذب.
- أما المحقق/الشرطة، فقد تعاملوا مع الطفل بنفس منطق الجريمة، دون اعتبار لحداثة سنّه أو ضعف حالته النفسية.
كلا الطرفين يعملان ضمن منظومة قمع أكبر، حيث تُختزل الحقيقة إلى "ما يُطلب منك قوله"، لا ما هو واقعي.
الدلالة الأعمق:
- الكاتب يُسقط عبر شخصيات المعلم والمدير صورة الدولة الشمولية.
- فالمعلم هنا ليس مجرد شخصية تعليمية، بل هو جهاز سلطوي.
- يقمع الطفل باسم الأخلاق، تمامًا كما تقمع السلطة الشعوب باسم الوطن لنغُص الآن في تحليل البلدة والبيئة الاجتماعية في القصة، من حيث التخلّف، التزمّت، والانعكاس على مصائر الأفراد:
- الكاتب يصوّر البلدة كـ"قرية ذهنية"، حتى لو كانت جغرافيًا بلدة.
- بيئة خانقة، تقليدية، تحكمها القيل والقال، والتهم الجاهزة.
- الارتكاز على "الشرف، العيب، السمعة" بدلًا من "العدالة، الحقيقة، العقل".
- المدرسة، وهي من المفترض أن تكون منارة وعي، تتحول إلى مركز قمع جاهل.
البيئة لا تسمح بالنمو النفسي أو الفكري، بل تولّد عقدًا وقهرًا.
التزمّت الديني والأخلاقي الشكلي
- الشخصيات جميعها تُدين الأطفال فورًا دون سؤال أو تعاطف، اعتمادًا على "الشبهة".
- التديّن هنا لا يُنتج رحمة، بل قسوة وانتقام وتكفير.
- القيم الأخلاقية تحوّلت إلى أدوات للفضيحة، وليست سُبلًا للإصلاح أو الفهم.
- مثلًا: صياح المدير أو الشرطة "لعنة الله عليكما.. فضحتما المدرسة" يُبرز أن العار هو ما يُخيفهم، لا الجريمة إن وُجدت.
غياب العقل، حضور الغوغاء
- لحظة إخراج الطفلين من المدرسة نحو الشرطة، "الأساتذة، الطلاب، الناس" يُشيرون إليهما بإشارات جنسية.
- هذا تجسيد لهوس المجتمع بالجنس، وتناقضه بين المكبوت والعلني.
- المجتمع هنا لا يملك وعيًا قانونيًا أو حقوقيًا، بل يعيش على الردح، التنميط، والانتقام الجماعي.
كيف تتكامل السلطة مع البيئة؟
- المعلم والمدير يجدون في البيئة المتخلفة حليفًا لهم:
- لا أحد يحاسبهم.
- الجميع يصدّقهم دون دليل.
- البيئة الشعبية المتخلفة تصبح الذراع الاجتماعية للقمع المؤسسي.
- هنا، لا يحتاج القمع إلى قانون: يكفي أن تشتم، وتتهم، وتكذب لتصنع مجرمًا من طفل.
ضياع الطفل في هذا الوسط
- الطفل هنا لا يواجه المعلم وحده، بل:
- الأسرة الغاضبة.
- المجتمع المتربّص.
- الشرطة التي لا ترحم.
- البيئة التي لا تفهم الطفولة، ولا تحتمل الخطأ.
الضحية ليست "شخصًا".. بل "جيلاً" كاملًا يُسحق في طاحونة التخلّف والتزمّت.
خلاصة رمزية:
البلدة في هذه القصة ليست مجرد مكان، بل هي:
- بنية سلطوية شعبية.
- جهاز إنتاج الخوف والعار.
- نموذج لمجتمع عربي مأزوم، مشغول بقضايا وهمية، بينما يغرق في الجهل والتعسّف.
في هذه القصة المؤلمة، ونفكك أدوارهم النفسية والاجتماعية والتربوية من منظور أدبي ونفسي وسوسيولوجي:
الأهل كامتداد للقمع لا كملاذ
بدل أن يكون الأهلُ مصدرَ أمانٍ، يتحولون إلى طرف في منظومة القمع:
- الأب، العم، والد راغب.. كلهم يدخلون المخفر غاضبين، متوعدين، بدون أن يسألوا أبناءهم عمّا جرى فعلًا.
- ردود فعلهم عنيفة، غريزية، بدائية:
- العم يركل.
- الأب يصرخ.
- لا أحد يصغي.
هذه الشخصيات تمثل الأبوّة السلطوية التي ترى في الابن "ملكًا خاصًا"، يحق لها تأديبه حتى الموت.
غياب الأم كرمز لغياب الحنان
- الأم والجدّة والعمة يُذكرن على لسان الطفل، لا كأصوات حاضرة.
- حضرن بوصفهن رموز حنان واحتواء، مغيّبات فعليًا عن دائرة القرار والعنف.
- هذا يعكس الهيمنة الذكورية على القرار، حتى في لحظات مصيرية لطفل، يُفترض أن يُحمى لا أن يُجلد.
لماذا يفعل الأهل ذلك؟
العار والخوف من الفضيحة:
- الأولوية عندهم ليست معرفة الحقيقة، بل "إنقاذ سمعتهم".
- الطفل يصبح عبئًا أخلاقيًا واجتماعيًا، لا شخصًا يستحق الدعم.
ثقافة الطاعة والتربية القسرية:
- هم نتاج بيئة ترى أن الطفل يجب أن "ينضرب" ليصبح رجلًا.
- لذلك لا غرابة أن العم يركل ابنه في المخفر أمام الشرطة!
الجهل وانعدام الثقة بالنفس والأبناء:
- لا يثقون أن أبناءهم قد يكونون ضحايا.
- يصدّقون المعلم أو الشرطة فورًا، لأنهم يرون السلطة دائمًا على حق.
الطفل بين خيانة المربّي وخيانة الأهل
- المفارقة المؤلمة: من المفترض أن الطفل يهرب من الأستاذ لأهله.
- هنا، لا يجد مأوى عند أحد.
- حتى حين بدأ يبكي ويعترف أنه كذب تحت الضغط، كان الوحيد الذي احتضنه هو الأب، ولكن فقط بعدما بدأت الحقيقة تتكشّف.
- احتضان متأخر، لا يمحو الإهانة النفسية.
رمزية الأهل في النص
- يمثلون السلطة الثانية بعد المدرسة.
- يشاركون في إنتاج الإذلال.
- وهم، كالمعلمين، ضحايا بدورهم: أبناء مجتمع قائم على العار، التسلط، التبعية.
خلاصة نقدية:
- الأهل في هذه القصة ليسوا "شخصيات داعمة"، بل "عناصر تفجّر الأزمة".
- موقفهم يكشف كيف تتواطأ البنية العائلية مع البنية التعليمية والاجتماعية في سحق الطفولة.
- الكاتب لا يدينهم بشكل مباشر، بل يُظهرهم كنتاج مؤلم لثقافة أعمتهم عن الفهم والرحمة.
لنقف الآن عند شخصية عبد الحميد، بوصفه "الشرير الصغير" في هذه القصة، ونفككها من حيث البنية النفسية والاجتماعية والتربوية، ومن ثم نسلّط الضوء على دور والده، وعلاقته بـ إنتاج العنف والفساد المبكر.
عبد الحميد – طفل مشوّه أم مجرم ناشئ؟
عبد الحميد ليس مجرد طفل كاذب، بل تجلٍّ مبكر لشخصية سيكوباتية:
- يفتري الكذب بدم بارد، دون أي شعور بالذنب.
- يتلذّذ بتدمير سمعة زملائه، ويختار أبشع تهمة: اللواطة.
- يظهر في النصّ بموقع المُبادر في الشر، الواثق من نفسه، كأنه يعلم أن كلامه سيُصدق، مهما كانت كذبه بشعة.
هنا تظهر عبقرية الكاتب: لا يصوّر الشر كشخصية خارقة، بل كطفل مألوف في المدرسة، يعرف كيف يحرّك السلطة ضِدَّ الأبرياء.
كيف تَشكَّل عبد الحميد؟
الجواب في إشارة ذكية وموجزة من الكاتب عن والده:
عبد الحميد يكذب.. كلّ أولاد المدرسة يعرفونه كاذب.. وحرامي.. وغشّاش، وغادر."
وهذا التراكم من الصفات، لا يُخلق عبثًا. خلف كل هذه العقد يقف أب (أو بيئة أسرية):
- لم يُربِّه على الصدق.
- لم يعلمه احترام الآخر.
- بل على الأرجح، ضربه، أذلّه، أو أعطاه نموذجًا للكذب والحقارة في البيت.
أي أن عبد الحميد هو "منتج خالص" لتربية سيئة.
عبد الحميد كرمز اجتماعي
عبد الحميد ليس حالة فردية فقط، بل هو:
- تجسيد مبكر للسلطة الكاذبة التي تنشأ في بيئة فاسدة.
- يشبه "المخبر الصغير"، الطفل الذي يتقن التزلف للكبار ويعرف ماذا يقول ليكسب رضاهم.
- يقف في مقابل "راغب" و"مصطفى"، الذين رغم البراءة، لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم.
عبد الحميد هنا هو السلطة الفاسدة القادمة، حين تتجذر وتكبر.
مقارنة مع أدب عالمي
يمكن مقارنة عبد الحميد بـ:
- "رودريك" في رواية "يوميات طفل جبان"، الذي يسيطر على أخيه بالكذب والدهاء.
- أو بـ "إيان" في رواية "البراءة" لترام آنثوني، الطفل الذي يفتعل اتهامات جنسية بدافع الحسد.
كل هؤلاء أطفال لكنهم يحملون بذور الشر الاجتماعي المبكر، الناتج عن تربية مضطربة أو مهملة أو عنيفة.
والد عبد الحميد – الحاضر الغائب رغم أن والده لم يظهر بشكل مباشر، إلا أن غيابه *هو الفعل الأكثر حضورًا*:
- ترك ابنه ينمو بالكذب.
- لم يردعه عن التعدي على الآخرين.
- على الأرجح ربّاه على القوة لا القيم، وعلى النفوذ لا الأخلاق.
هنا نفهم أن الشر في هذه القصة ليس شيطانيًا غيبيًا، بل تربوي اجتماعي، يبدأ من البيت، ويمتد عبر المدرسة، وينتهي عند الشرطة والمجتمع.
خلاصة نقدية:
- عبد الحميد ليس "طفلًا شريرًا" فحسب، بل *بُنية من الفساد الصغير، التي ستنمو حتمًا لتصبح شرًا كبيرًا، إذا لم يُكسر هذا النسق.
- الكاتب بذكاء، يرينا كيف يبدأ الطغيان في أبسط البيئات: كذبة من طفل، تصدقها سلطة جاهزة للإذلال.
- أما الأب، فهو شريك غير مرئي في الجريمة: غيابه هو الفعل الأشد تدميرًا.
لننتقل إلى واحدة من أكثر الثيمات خطورة وعمقًا في هذه القصة: الجهل، وغياب المعرفة، وانعدام الوعي التربوي والتعليمي في مكان من المفترض أن يكون منارة للعلم: المدرسة.
المدرسة التي تنتج الجهل لا المعرفة
ما يُفترض أن تكون عليه المدرسة:
- بيئة تعليمية، تربوية، آمنة.
- مساحة لتعزيز القيم، وتحفيز التفكير، وتشجيع التلاميذ على الصدق، والاستقلالية، والبحث.
لكنّ الكاتب يصدمنا بمفارقة عنيفة:
المدرسة نفسها هي مصدر القمع، والذل، والتجهيل.
الأساتذة ليسوا معلمين بل:
- محقّقون.
- قضاة جاهلون.
- جلادون نفسيّون وجسديّون.
المعرفة مغيّبة تمامًا، لصالح العنف والاتهام والجهل.
الجهل الأسود – بنية سلطوية
"الجهل" في هذا النص ليس غياب المعلومات، بل هو:
- نظام سلطوي مغلق، لا يسمع، لا يسأل، لا يشكّ.
- قمعيّ، عنيف، ومشوّه، ينتج الضحايا، ويخلق الكذب بالإكراه.
الأستاذ (التادفي) ليس رجل علم، بل مُحقّق بوليسي يصرّ على الاعتراف، حتى لو بالكذب.
يريد الصدق، لكنه لا يفهمه، ولا يؤمن به.
الصدق بالنسبة له = أن تعترف بما يريد سماعه، لا بما حصل فعلًا.
هذا هو الجهل المنظّم.
كيف تبدو المعرفة الحقيقية غائبة؟
- لا نقاش.
- لا محاولة للفهم أو التحري.
- لا استدعاء للمرشد التربوي أو النفسي.
- لا منهجية في التحري.
كأن المدرسة تحولت إلى فرع أمني، وليس مؤسسة تعليمية.
وهذا يظهر بوضوح في مشهد الاتهام باللواطة، حيث يُحاكم الطفل على أساس الشبهة، دون أي احترام لعمره، أو لحقوقه، أو للسياق.
أين تتجلى قيمة العلم الحقيقي؟
تتجلى فقط في مأساة غيابه.
- لو وُجدت المعرفة الحقيقية، لما وصل الطفل إلى الاعتراف القسري.
- لو وُجد التكوين التربوي، لعرف المعلم الفرق بين السلوك والانحراف.
- لو وُجد الحسّ النقدي، لأدركوا أن عبد الحميد كاذب، وأن الضحية لا تُدان بهذه الطريقة.
تشبه هذه الحالة ما نراه في روايات:
- "موسم الهجرة إلى الشمال" (الطيب صالح): صدام بين الجهل المدّعي والعقل الواعي.
- "اللص والكلاب" (نجيب محفوظ): حيث تهيمن الأوهام على الوعي الجماعي.
- أو رواية "القلعة" لكافكا: حيث تتجسد
البيروقراطية الجاهلة ككابوس يبتلع الأفراد.
المجتمع كله يعيد إنتاج الجهل
- المدير الأعور.
- المعلمون الصارخون.
- الشرطة التي تعامل طفلين كأنهم مجرمون.
- الأب الذي يركل ابنه قبل أن يعرف الحقيقة.
إنه جهل متراكم ومهيكل، يفضح بلدة تعيش في ظلام فكري.
هذه القصة تصرخ:
المعرفة غائبة، والجهل سيد الموقف.
وفي غياب العلم، يتحول الأبرياء إلى مجرمين، والمدرسة إلى فرع تحقيق، والتعليم إلى أداة إذلال.
وحده العلم الحقيقي، كان يمكن أن يحمي "مصطفى" و"راغب" من كل هذا الانهيار.
مصطفى = الكاتب؟ (تطابق الاسم والهوية)
عندما يختار الكاتب اسم "مصطفى" لبطل قصته، مرّة تلو الأخرى، فهو لا يفعل ذلك اعتباطًا.
هذا التكرار يلمّح إلى أن الكاتب:
- لا يفصل نفسه عن بطله.
- أو ربما: يروي سيرة ذاتية، متنكرة بثوب القص.
مصطفى هو الراوي، وهو الضحية، وهو الإنسان الباحث عن خلاص، وعن معنى، وعن عدالة.
الاسم كمرآة نفسية
اسم "مصطفى" يرمز إلى:
- الاصطفاء، أي المختار، المنتقى.
- لكن المفارقة: أن هذا "المصطفى" دائمًا مظلوم، مسحوق، مرفوض، متهم.
فيحدث تعارض بين دلالة الاسم ومصير الشخصية، مما يعمّق المأساة.
إسقاط جماعي - مصطفى كرمز لأبناء البيئة المسحوقة، ربما "مصطفى" ليس شخصًا واحدًا، بل هو:
- صورة لكل طفل مسحوق في بلدة متخلفة
- رمز لكل براءة تُغتصب بالقمع والتسلّط والجهل.
- تمثيل لجيل كامل كُسر قبل أن يبدأ.
"مصطفى" يصبح بذلك شخصية رمزية، أكبر من الاسم، وأوسع من الفرد.
توظيف أدبي مقصود
بعض الكتّاب الكبار استخدموا أسماءهم لأبطالهم مرارًا، مثل:
- *عبد الرحمن منيف: استخدم شخصيات تشبهه.
- كافكا: كثير من شخصياته تحمل ملامحه النفسية والوجودية.
- محمد شكري في "الخبز الحافي" صرّح أنه يكتب نفسه.
إذًا، التكرار هنا ليس ضعف خيال، بل اختيار فني/وجودي.
كأن الكاتب يقول: أنا لم أشفَ بعد.
تكرار الاسم يدل على:
- أن الجرح ما زال مفتوحًا.
- أن القصة لم تنتهِ.
- أن "مصطفى" ليس فقط الطفل، بل الراوي البالغ، الذي لم يغادر مشهد العذاب الأول.
"مصطفى" هو قناع الكاتب، وجرحه، وطفولته، وصرخته في وجه نظام تربوي واجتماعي ظالم.
كل مرة يظهر فيها الاسم، يُعيد تشكيل المأساة نفسها، وكأن الكاتب يقول لنا:
"ما زلت هناك... في ذلك الصف، في تلك القرية، أمام ذلك الجلّاد، أطلب منكم أن تروني."
يبدو أن الكاتب مصطفى الحاج حسين يكتب مشروعًا سرديًا طويل النفس، أقرب إلى رواية متسلسلة أو سيرة ذاتية روائية تمتد عبر:
مرحلة الطفولة:
حيث الألم الأول، والصدمة الأولى، والانكسار أمام السلطة:
- المدرسة كمعتقل.
- المعلم كجلاد.
- المجتمع كفخ أخلاقي.
- الأسرة كجهة تُدين بدل أن تحمي. فيها يُبنى جذر الشخصية المقهورة.
مرحلة المراهقة والشباب (إن كُتبت لاحقًا):
من الطبيعي أن تتناول:
- التمزقات النفسية الناتجة عن الطفولة المعذبة.
- علاقة البطل مع الجنس، السلطة، المعرفة، العدالة.
- صراعه مع القيم الدينية والتقاليد الجافة.
- محاولاته لفهم ذاته والعالم حوله.
مرحلة الرجولة والنضج:
غالبًا ما ستتناول (أو تناولها إن وُجدت نصوص لاحقة):
- محاولات المصالحة أو التمرد على الماضي.
- طرح أسئلة وجودية أعمق.
- مواجهة الذات في المرآة: هل نجا مصطفى؟ أم تحوّل إلى نسخة من جلّاديه؟
- وأخيرًا: مشروع الكتابة ذاته كأداة للنجاة.
هل هو مشروع سردي واعٍ؟.. نعم. هو لا يكتب قصصًا معزولة، بل يعيد حياكة ذاكرة مشروخة على مراحل.
وقد يكون مستلهمًا من رواد عالميين كتبوا سيرًا روائية متسلسلة، مثل:
- مارسيل بروست (بحثًا عن الزمن المفقود).
- إدوارد سعيد (خارج المكان).
- محمد شكري (الخبز الحافي، الشطار، وجوه).
لماذا هذا مهم؟
لأن القارئ حين يدرك أن "مصطفى" ليس شخصية عابرة بل بطل ملحمي يتطور عبر الزمن، فإنه:
- يقرأ النصوص بوصفها أجزاء من كلٍّ كبير.
- يترقّب التحولات النفسية والأخلاقية والسردية.
- يرى في النهاية إن كان "مصطفى" سيشفى، أم سيظل صوته يصرخ في الفراغ.*
أمل حامد سالم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق