قراءة نقدية: "القصيدة بين الوجداني والوجودي"
القصيدة: "على ضفة الانتظار"
الشاعر: طاهر مشي (تونس)
الناقدة :جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: "القصيدة بين الوجداني والوجودي"
1- عتبة العنوان:
اختار الشاعر عنوانا "على ضفة الانتظار" تداخل فيه المكان والزمان:
- الضفة تشي بالمكان.
- الانتظار يشي بالزمان والمكان معا لأن الانتظار يقتضي مكانا ننتظر فيه وزمانا مخصصا للانتظار.
والعنوان مشحون بلغة متوترة إذ كيف يتمّ الجمع بين المادي(ضفة) والمعنوي(الانتظار)؟
والضفة تقتضي ضفة مقابلة لها وبالتالي فهل ضفة الانتظار تقابلها ضفة نهاية الانتظار؟:
وما ستكون نهاية الانتظار؟
وما بين الضفتين ماذا كان الشاعر ينتظر؟
يرى بعض الدارسين أن" ضفة الانتظار هي تعبير شعري يستخدم للإشارة الى حال الترقب والأمل والإنكسار وغالبا ما يطلق على المغتربين والمنفيين الذين ينتظرون عودتهم الى وطنهم او لوضعهم الذي كانوا فيه.. كما يمكن أن يشير الى حالة نفسية أو اجتماعية يعيش فيها الفرد انتظارا لشيء ما سواء كان هذا الشيء فرصة أو حلا لمشكلة او عودة شخص غائب".
وعلى هذا الأساس فأي شيء ينتظره شاعرنا وهو على ضفة الانتظار؟؟؟
ولعل شاعرنا هنا يتقاطع مع الشاعر المغربي محمد محضار وهو يقول(1):
هناك شيء ما شيء يشبهه الوجع
يلوذ بصدري
يذكرني بأن ورقة سقطت
وبأن الخريف كان قاسيا
وبأن أشياء كثيرة ستصبح مجرد ذكرى
وحتما سماء المدينة لن تمطر إلا حُزنا
2- التحليل:
استهل الشاعر قصيدته بجملة فعلية دالة على استمرارية صمته مستخدما لغة متوترة تجعل صمته قد ينفد (حافة الصمت)وهذا يشي بطول صمته وصبره.
والصمت عادة ما يكون لغة المعاناة التي يكتمها صاحبها:
يرى بعض الدارسين أن عبارة "الصمت لغة المعاناة " تعبّر عن حقيقة أن الصمت يكون أبلغ تعبير عن الألم الداخلي والحزن والخذلان واليأس والصدمة.
وهو وسيلة تحمل بها النفوس أعباءها دون القدرة على البوْح أو العجز عن وصف ما تعانيه فالصمت هنا ليس ضعفا."
فأي معاناة يكتمها شاعرنا؟ يقول الشاعر:
لا زلت أجلس على حافة الصمت
أعدّ خيباتي كأنها خرز مسبحة انقطعت
أجمعها من أرض القلب..واحدا تلو الآخر
وأخفيها في جيب الذاكرة
كأني أخاف أن تضيع مرة أخرى
رغم أنها لم تعد أبدا
إن الشاعر يعيش معاناة بسبب الخيبات التي شبهها بخرز المسبحة كثرة وقداسة
إنها خيبات وجدانية (من أرض القلب).
ان هذه الخيبات بين الكثرة والقداسة تجعل الشاعر حريصا على تخزينها(أخفيها في جيب الذاكرة) لأنها لها معنى ودلالة في حياته ويصعب عليه نسيانها.
والشاعر للتعبير عن النفسية المتأزمة بامتياز استخدم لغة متوترة (حافة الصمت/ أعدّ خيباتي/ خرز مسبحة انقطعت/ أرض القلب/ جيب الذاكرة /أخاف أن تضيع.)
لعل هذه الخيبات المتعددة والمقدسة والنفسية المتأزمة قد جعلته ينتظر انفراجا.
وأي انفراج ينتظره زمانا ومكانا؟
يبدو أن الشاعر يعاني ممن رحلوا عنه وقد يكون الرحيل بالفقد والموت قاصم الظهر فيقول:
كل الذين مرّوا, رحلوا خفافا
تركوا ثقلا لا يحتمل
ونسوا أنني مازلت أطفئ أنفاسي
على شموع اللقاء الذي لم يأت.
استخدم الشاعر طباقا لفظيا(خفافا/ ثقلا- أطفئ/ شموع – ما زلت / لم يأت.)
يعكس مقابلة معنوية بين من رحلوا دون معاناة وبين حالته النفسية الخائبة.
وبالتالي هل ما كان ينتظره هو لقاء من رحلوا عنه؟:
- كأني بالشاعر من خلال المقطع الأول والثاني كان يمهّد للقارئ أيّ لقاء ينتظره وهو على ضفة الانتظار.
- كأني بالشاعر يستعطف المتلقي وهو يُسرّ له بخيباته المتعددة والمقدسة.
- كأني بالشاعر يسعى الى إقناع المتلقي بمدى تحمله و صبره على ما يعيشه من معاناة ..
ولعل القارئ هنا يتعاطف معه ويستحضر بيتا للمتنبي ليسكّن وجعه وليُنسّب ألمه وليقلص من حجمه .يقول المتنبي:
تمرّسْتُ بالآفات حتى تركتها تقول// أمات الموت أم ذعر الذعر؟
وبالتالي أي وجع يقضّ مضجع شاعرنا؟
يقول الشاعر:
أكتب اليك كل ليلة
رسائل بلا عنوان
وأدفنها تحت وسادتي
علها تصل اليك في المنام..
ان الشاعر بعد أن كان يتحدث عن الذين رحلوا بصيغة الغائب الجمع(مروا/ رحلوا) يفاجئ القارئ بمخاطبة المفرد.
انه يتحوّل من الغياب(هم) الى الخطاب (اليك) ومن الجمع الى المفرد ومن الماضي(رحلوا / مروا/ تركوا/ نسوا) الى الحاضر(أكتب/ أدفنها/ تصل..)
ان هذا التداخل بين الثنائيات الغياب والخطاب والجمع والمفرد والماضي والحاضر قد يكشف عن وعي الشاعر في تحليل معاناته وتبويبها .
ان الشاعر قد حصر معاناته في مخاطب عزيز عليه يكتب له رسائل باستمرار(كل ليلة) بيْد أن استمرارية هذه الرسائل كانت غير مضمونة الوصول لأنها بلا عنوان ولعله هنا يرتقي بمعاناته نحو ثنائية المطلق(بلا عنوان) والنسبي
(أدفنها تحت وسادتي)
والشاعر بين يأس وأمل فهو يائس من وصول رسائله الى فقيده (بلا عنوان/ أدفنها) لكنه يأمل أن تصله في المنام.
وثنائية اليأس والأمل تشي بصراع بين اليقظة والمنام:
- يقظة يستسلم فيها الشاعر ليأسه ممن فقده.
- منام يُوهم الشاعر بامكانية عودة فقيده الذي لم يبارح تفكيره(كل ليلة) فلا المكان اتسع له ولا الزمان أسعفه وهو على ضفة الانتظار.
وبين اليقظة والمنام حقيقة لا يُنكرها الشاعر.. انها حقيقة الموت.
هذه الحقيقة قد جعلها الشاعر طاهر مشي بين الوجداني والوجودي:
- الوجداني: لقد بث الشاعر للقارئ أن معاناته نابعة من القلب وان اتصاله بالفقيد أبيه مدفون تحت وسادته..
- الوجودي : لقد لاذ الشاعر بالمنام بما فيه من خيال طمعا في لقاء خيالي بفقيده.
انه يعيش صراعا بين وجدانه البائس اليائس الذي لا يسلّم بحقيقة الموت وبين وجوده الحالم بإمكانية اللقاء بأبيه الفقيد.
ان هذا الصراع يشي بمدى لوعة الانتظار في لقاء أبيه الفقيد الذي فارقه دون رجعة.
ان هذا الصراع بين الوجداني والوجودي أدى به الى الشعور بالغربة وهو على ضفة الانتظار فيقول:
وحده الليل يصغي
ووحدي أنا
أغرق في السؤال:
هل يشفى القلب من الغياب؟..
أم انه يتعلم فقط كيف يعيش مكسورا...دون أن يظهر الألم؟
انه الليل وحده شاهد على معاناته بما في الليل من وحشة تزيد من وجعه
ان هذه الوحدة ترتقي بالشاعر من الحزن الى التفكير فيرتقي من الوجداني بمشاعره الهشة والعاطفية الى الوجودي والحيرة الفكرية والتفكير العقلاني من خلال إغراقه في الأسئلة التي حصرها في فرضيّتين لا ثالثة لهما ومن هنا بدأ في حسم أمره:
أ- إمكانية شفاء القلب من غياب الفقد.
ب- إمكانية التكيف والتأقلم مع هذا الوجع وتحمّل الألم.
ولعل القارئ وهو يتابع معاناة الشاعر ومحْنته بسبب فقد عزيز على قلبه وهو فقد الأب يتعاطف معه للتوفيق بين الوجداني(شفاء قلبه من الغياب) والوجودي التأقلم مع الوجع لأن الموت قدرُ كل من في الوجود ولأن مأساة الانسان تتمثل في عجزه أمام الموت كما يرى ذلك الأديب المفكر محمود المسعدي.
ولعل فضل القارئ هنا يتمثل في استحضار ما قاله الشابي بعد أن عاش لوعة موت أبيه (2) يقول الشابي:
ما كنتُ أحسبُ أني بعدك يا أبي// ومشاعري عمياء بالأحزان
أني سأضمأ للحياة وأحْتسي من// نهرها المتوهج النشوان
وأعود للدنيا بقلب خافق للحبّ// والأفراح والألحان
ولعل القارئ باستحضار ما قاله الشابي قد يقنع شاعرنا طاهر مشي بدعم ما وضعه من الفرضيتيْن في أن قلبه قد يشفى من الغياب حين يتأقلم ويتكيف مع وجع وجودي فيتقاطع بذلك الوجداني مع الوجودي ايمانا بحقيقة الوجود بين حق الحياة وحق الموت.
سلم قلم الشاعر طاهر مشى الذي طرح هكذا قضية شعرا. هذا القلم الذي ارتقى به في قصيدته من مجرّد الشاعر الى الشاعر المفكر.
بتاريخ23/ 09/ 2025
المراجع:
(1) محمد محضار(الشاعر المغربي) - الديوان- قصيدة سرابيل أحلامي.
(2) ابو القاسم الشابي- قصيدة "يا موت"- ديوان أغاني الحياة.
القصيدة:على ضفّة الانتظار
ااااااااااااااااا ااااااااااااااااا
لا زلتُ أجلسُ على حافة الصمت،
أعدُّ خيباتي كأنها خرزُ مسبحةٍ انقطعت،
أجمعها من أرض القلب... واحدًا تلو الآخر،
وأُخفيها في جيب الذاكرة،
كأنني أخاف أن تضيع مرةً أخرى،
رغم أنها لم تعُد أبدًا.
كل الذين مرّوا، رحلوا خِفافًا،
تركوا ثقلاً لا يُحتمل،
ونسوا أنني ما زلتُ أُطفئ أنفاسي
على شموع اللقاء الذي لم يأتِ.
أكتبُ إليك كل ليلة،
رسائلَ بلا عنوان،
وأدفنها تحت وسادتي،
علّها تصل إليك في المنام...
وحده الليل يُصغي،
ووحدي أنا...
أغرقُ في السؤال:
هل يشفى القلب من الغياب؟
أم أنه يتعلّم فقط كيف يعيش مكسورًا... دون أن يُظهر الألم؟
ااااااااااااااااا
طاهر مشي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق